روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل.

(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب ، وما تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر ، وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائنا مما تصفونه عزوجل به ، وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد ، وأبعد كل البعد من قال : إنه خطاب لأهل القرى على طريق الالتفات من الغيبة في قوله تعالى (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) إليه.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمة بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل ، وقيل هو عديل لقوله تعالى : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك ما استقلالا واستتباعا ، وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجيء بالسماوات جمعا على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السماوات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جيء بصيغة الإفراد دون الجمع.

وفي الإتقان حيث يراد العدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة (وَمَنْ عِنْدَهُ) وهم الملائكة مطلقا عليهم‌السلام على ما روي عن قتادة وغيره ، والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة.

وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلا لهم لكرامتهم عليه عزوجل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل ، والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبراء (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ويقال أيضا أحسرته بالهمز.

والظاهر أن الاستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى ، والمراد من الاتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الاتحاد في أصل المعنى ، والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] على أحد الأوجه المشهورة فيه.

وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفا على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم‌السلام على حاله ، وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [القدر : ٤] في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله ، وقيل : إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه ، وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم‌السلام متعال عن التبوّؤ والاستقرار في السماء والأرض ، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم‌السلام ، وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات. والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقا لا بتجرد بعض دون بعض.

ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) على هذا الوجه أن يكون حالا من الأولى والثانية على

٢١

قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في (عِنْدَهُ) ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجيء الحال من المبتدأ ولا يخفى.

وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبرا لمن عنده ، وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى ، وقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) استئناف وقع جوابا عما نشأ قبله كأنه قيل ما ذا يصنعون في عبادتهم أو كيف يعبدون فقيل (يُسَبِّحُونَ) إلخ.

وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير (لا يَسْتَحْسِرُونَ) وقوله سبحانه : (لا يَفْتُرُونَ) في موضع الحال من ضمير (يُسَبِّحُونَ) على تقديري الاستئناف والحالية ، وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالا من ضمير (لا يَسْتَحْسِرُونَ) أيضا ولا يجوز على تقدير الاستئناف كونه حالا منه للفصل وجوز أن يكون استئنافا والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو شغل آخر ، واستشكل كون الملائكة مطلقا كذلك مع أن منهم رسلا يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية آخري. وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعبا عن ذلك كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر. وتعقب بأن فيه بعدا ، وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلا ببعض أخر ، وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى.

وقال الخفاجي : الظاهر أنه إن لم يحمل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك انتهى. ولا يخفى حسنه ، ويجوز أن يقال : إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة ، ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف ، وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) حكاية الجناية أخرى من جنايات أولئك الكفرة هي أعظم من جناية طعنهم في النبوة ، وأم هي المنقطعة وتقدر ببل الإضرابية والهمزة الإنكارية هي لإنكار الوقوع لا إنكار الواقع ، وقوله تعالى : (مِنَ الْأَرْضِ) متعلق باتخذوا ومن ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية.

وقال أبو البقاء وغيره : يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض ، وأيا ما كان فالمراد التحقير لا التخصيص ، ومن جوزه التزم تخصيص الإنكار بالشديد وهو غير سديد. وقوله تعالى : (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الاتخاذ فإنه واقع لا محالة أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوه آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكنهم حيث ادعوا لها الالهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتما ومعنى التخصيص في تقديم الضمير وما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما أن تقديم الجار والمجرور في قوله (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم: ١٠] للتنبيه على كمال لمباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ، ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل فإن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء ، والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لهم الاستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار قاله المولى أبو السعود ، وقال بعضهم : تقديم الضمير للتقوى ، وما ذهب إليه من إفادته معنى التخصيص

٢٢

تبع فيه الزمخشري ، وفي الكشف الداعي إلى ترجيحه على التقوى أنه ترشيح لما أبداه أولا من أن الإلهية لا تصح دون القدرة على الإنشار ولا وجه لتجويز كونه فصلا انتهى ، وجوز أن تكون جملة (هُمْ يُنْشِرُونَ) مستأنفة مقدرا معها استفهام إنكاري لبيان علة إنكار الاتخاذ ، ولعل مجوز ذلك لا يسلم لزوم كون معنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الوقوع ويجوز كونه إنكار الواقع ، وتفسير (يُنْشِرُونَ) يبعثون هو المشهور وعليه الجمهور ، وقال قطرب : هو بمعنى يخلقون.

وقرأ الحسن ، ومجاهد «ينشرون» بفتح الياء على أنه من نشر وهو وأنشر بمعنى وقد يجيء نشر لازما يقال أنشر الله تعالى الموتى فنشروا ، وقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) إبطال لتعدد الإله وضمير (فِيهِما) للسماء والأرض والمراد بهما العالم كله علوية وسفلية والمراد بالكون فيهما التمكن للبالغ من التصرف والتدبير لا التمكن والاستقرار فيهما كما توهمه الفاضل الكلنبوي ، والظرف على هذا متعلق بمكان ، وقال الطيبي : إنه ظرف لآلهة على حد قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ. إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] وقوله سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣] وجعل تعلق الظرف بما ذكر هاهنا باعتبار تضمنه معنى الخالقية والمؤثرية.

وأنت تعلم أن الظاهر ما ذكر أولا ، و «إلا» المغايرة ما بعدها لما قبلها فهي بمنزلة غير ، وفي المعنى أنها تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه ومثل للأول بهذه الآية ، وقد صرح غير واحد من المفسرين أن المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله وجعل ذلك الخفاجي إشارة إلى أن (إِلَّا) هنا اسم بمعنى صفة لما قبلها وظهر إعرابها فيما بعدها لكونها على صورة الحرف كما في ال الموصولة في اسم الفاعل مثلا.

وأنكر الفاضل الشمني كونها بمنزلة غير في الاسمية لما في حواشي العلامة الثاني عند قوله تعالى : (لا فارِضٌ) [البقرة : ٦٨] من أنه ذاتا أو صفة ، ففي شرح الكافية للرضي أصل غير أن تكون صفة مفيدة لمغايرة ومجرورها لموصوفها إما بالذات نحو مررت برجل غير زيد وإما بالصفة نحو دخلت بوجه غير الذي خرجت به ، وأصل إلا التي هي أم أدوات الاستثناء مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيا أو إثباتا فلما اجتمع ما بعد إلا وما بعد غير في معنى المغايرة حملت الأعلى غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة من غير اعتبار مغايرته له نفيا أو إثباتا وحملت غير على إلا في الاستثناء فصار ما بعدها مغايرا لما قبلها نفيا أو إثباتا من غير مغايرته له ذاتا أو صفة إلا أن حمل غير على إلا أكثر من حمل إلا على غير لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فلذلك تقع غير في جميع مواقع إلا انتهى.

وأنت تعلم أن المتبادر كون إلا حين إفادتها معنى غير اسما وفي وبقائها على الحرفية مع كونها وحدها أو مع بعدها بجعلهما كالشيء الواحد صفة لما قبلها نظر ظاهر وهو في كونها وحدها كذلك أظهر ، ولعل الخفاجي لم يقل ما قال إلا وهو مطلع على قائل باسميتها ، ويحتمل أنه اضطره إلى القول بذلك ما يرد على القول ببقائها على الحرفية ، ولعمري إنه أصاب المحزوان قال العلامة ما قال ، كلام الرضي ليس نصا في أحد الأمرين كما لا يخفى على المنصف. ولا يصح أن تكون للاستثناء من جهة العربية عند الجمهور لأن (آلِهَةٌ) جمع منكر في الإثبات ومذهب الأكثرين كما صرح به في التلويح أنه لا استغراق له فلا يدخل فيه ما بعدها حتى يحتاج لإخراجه بها وهم يوجبون دخول المستثنى في المستثنى منه في الاستثناء المتصل ولا يكتفون بجواز الدخول كما ذهب إليه المبرد وبعض الأصوليين فلا يجوز عندهم قام رجال إلا زيدا على كون الاستثناء متصلا وكذا على كونه منقطعا بناء على أنه لا بد فيه من الجزم بعدم الدخول وهو مفقود جزما ، ومن أجاز الاستثناء في مثل هذا التركيب كالمبرد جعل الرفع في الاسم

٢٣

الجليل على البدلية ، واعترض بعدم تقدم النفي ، وأجيب بأن لو للشرط وهو كالنفي ، وعنه أنه أجاب بأنها تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وأن نحو لو كان معنا إلا زيد لكان أجود كلام وخالف في ذلك سيبويه فإنه قال لو قلت لو كان معنا المثال لكنت قد أحلت.

ورد بأنهم لا يقولون لو جاءني ديار أكرمته ولا لو جاءني من أحد أكرمته ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد ، وتعقبه الدماميني بأن للمبرد أن يقول : قد أجمعنا على إجراء أبي مجرى النفي الصريح وأجزنا التفريغ فيه قال الله تعالى (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الإسراء : ٨٩] ، وقال سبحانه : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] مع أنه لا يجوز أبي ديار المجيء وأبي من أحد الذهاب فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا.

وقال الرضي : أجاز المبرد الرفع في الآية على البدل لأن في لو معنى النفي وهذا كما أجاز الزجاج البدل في (قَوْمَ يُونُسَ) في قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) [يونس : ٩٨] الآية إجراء للتخصيص مجرى النفي والأولى عدم إجراء ذينك في جواز الإبدال والتفريغ معهما مجراه إذا لم يثبت انتهى.

وذكر المالكي في شرح التسهيل أن كلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه وأن التفريغ والبدل بعد لو غير جائز ، وكذا لا يصح الاستثناء من جهة المعنى ففي الكشف أن البدل والاستثناء في الآية ممتنعان معنى لأنه إذ ذاك لا يفيد ما سيق له الكلام من انتفاء التعدد ويؤدي إلى كون الآلهة بحيث لا يدخل في عدادهم الإله الحق مفض إلى الفساد فنفي الفساد يدل على دخوله فيهم وهو من الفساد بمكان ثم إن الصفة على ما ذهب إليه ابن هشام مؤكدة صالحة للإسقاط مثلها في قوله تعالى : (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] فلو قيل لو كان فيهما آلهة لفسدتا لصح وتأتى المراد. وقال الشلوبين. وابن الصائغ : لا يصح المعنى حتى تكون إلا بمعنى غير التي يراد بها البدل والعوض ، ورد بأنه يصير المعنى حينئذ لو كان فيهما عدد من الآلهة بدل وعوض منه تعالى شأنه لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما اثنان هو عزوجل أحدهما لم تفسدا وذلك باطل.

وأجيب بأن معنى الآية حينئذ لا يقتضي هذا المفهوم لأن معناها لو كان فيهما عدد من الآلهة دونه أو به سبحانه بدلا منه وحده عزوجل لفسدتا وذلك مما لا غبار عليه فاعرف ، والذي عليه الجمهور إرادة المغايرة ، والمراد بالفساد البطلان والاضمحلال أو عدم التكون ، والآية كما قال غير واحد مشيرة إلى دليل عقلي على نفي تعدد الإله وهو قياس استثنائي استثني فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم فكأنه قيل لو تعدد الإله في العالم لفسد لكنه لم يفسد ينتج أنه لم يتعدد الإله. وفي هذا استعمال للو غير الاستعمال المشهور.

قال السيد السند : إن لو قد تستعمل في مقام الاستدلال فيفهم منها ارتباط وجود الحالي بوجود المقدم مع انتفاء التالي فيعلم منه انتفاء المقدم وهو على قلته موجود في اللغة يقال : لو كان زيد في البلد لجاءنا ليعلم منه أنه ليس فيه ، ومنه قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) : وقال العلامة الثاني : إن أرباب المعقول قد جعلوا لو أداة للتلازم دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفائهما ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم فهم يستعملونها للدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لأنهم يستعملونها في القياسات لاكتساب العلوم والتصديقات ولا شك أن العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل الأمر بالعكس وإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على قاعدة اللغة أكثر لكن قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما) إلخ لظهور أن الغرض منه التصديق

٢٤

بانتفاء تعدد الآلهة لا بيان سبب انتفاء الفساد ا ه. وفيه بحث يدفع بالعناية ، ولا يخفى عليك أن لبعض النحويين نحو هذا القول فقد قال الشلوبين ، وابن عصفور : إن لو لمجرد التعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأول والثاني كما أن إن لمجرد التعليق في الاستقبال والظاهر أن خصوصية المضي هاهنا غير معتبرة.

وزعم بعضهم : إن لو هنا الانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما هو المشهور فيها ويتم الاستدلال ولا يخفى ما فيه على من دقق النظر ، ثم إن العلامة قال في شرح العقائد : إن الحجة إقناعية والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات فإن العادة جارية بوقوع التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم وإلا فإن أريد الفساد بالفعل أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه لجواز الاتفاق على هذا النظام وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه بل النصوص شاهدة بطيّ السماوات ورفع هذا النظام فيكون ممكنا لا محالة.

وكذا لو أريد بفسادهما عدم تكونهما بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال فلم يكن أحدهما صانعا فلم يوجد مصنوع لا تكون الملازمة قطعية لأن إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان انتهى. فنفى أن تكون الآية برهانا سواء حمل الفساد على الخروج عن النظام أو على عدم التكون ، وفيه قدح لما أشار إليه في شرح المقاصد من كون كونها برهانا على الثاني فإنه بعد ما قرر برهان التمانع قال : وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ) فإن أريد عدم التكون فتقريره أن يقال : لو تعدد الآلهة لم تتكون السماء والأرض لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة وأما الأخيران فلما مر من التوارد والرجحان من غير مرجح ، وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أن يقال : إنه لو تعددت الآلهة لكان بينهما التنازع والتغالب وتمييز صنيع كل منهما عن الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد ويختل أمر النظام الذي فيه بقاء الأنواع وترتب الآثار انتهى ، وذلك القدح بأن يقال : تعدد الإله لا يستلزم التمانع بالفعل بطريق إرادة كل منهما وجود العالم بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر بل إمكان ذلك التمانع والإمكان لا يستلزم الوقوع فيجوز أن لا يقع بل يتفقان على الإيجاد بالاشتراك أو يفوض أحدهما إلى الآخر ، وبحث فيه المولى الخيالي بغير ذلك أيضا ثم قال : التحقيق في هذا المقام أنه إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقا فهي حجة إقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض إذ ليس المراد من الكون فيهما التمكن فيهما بل التصرف والتأثر فالحق أن الملازمة قطعية إذ التوارد باطل فتأثيرهما إما على سبيل الاجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعا لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي لا يوجد هذا المحسوس كلا أو بعضا ، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق وهو أن يقال : لو تعدد الإله لم يكن العالم ممكنا فضلا عن الوجود وإلا لأمكن التمانع بينهما المستلزم للمحال لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال انتهى.

وأورد الفاضل الكلنبوي على الأول خمسة أبحاث فيها الغث والسمين ثم قال : فالحق أن توجيهه الثاني لقطعية الملازمة صحيح دون الأول ، وللعلامة الدواني كلام في هذا المقام قد ذكر الفاضل المذكور ما له وما عليه من النقض والإبرام ، ثم ذكر أن للتمانع عندهم معنيين ، أحدهما إرادة أحد القادرين وجود المقدور والآخر عدمه وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع ، وثانيهما إرادة كل منهما إيجاده بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر

٢٥

فيه وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين ، وقولهم : لو تعدد الإله لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادر وإما الترجيح بلا مرجح مبني على هذا ، وحاصل البرهان عليه أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال لأمكن بينهما تمانع واللازم باطل إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم إما أن لا يقع مصنوع أصلا أو يقع بقدرة كل منهما أو بأحدهما والكل باطل ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما لتخلف مراد كل منهما عن إرادته فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال وفد فرضا كذلك ؛ ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين إما إمكان التوارد وإما إمكان الرجحان من غير مرجح والكل محال ، وبهذا الاعتبار مع حمل الفساد على عدم الكون قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه ودليل قطعي من وجه آخر والأول أنسب إلى العوام والثاني بالنسبة إلى الخواص ، وقال مصلح الدين اللاري بعد كلام طويل وقال وقيل أقول أقرر الحجة المستفادة من الآية الكريمة على وجه أوجه مما عداه وهو أن الإله المستحق للعبادة لا بد أن يكون واجب الوجود ، وواجب الوجود وجوده عين ذاته عند أرباب التحقيق إذ لو غايره لكان ممكنا لاحتياجه في موجوديته إلى غيره الذي هو الوجود فلو تعدد لزم أن لا يكون وجودا فلا تكون الأشياء موجودة لأن موجودية الأشياء بارتباطها بالوجود فظهر فساد السماء والأرض بالمعنى الظاهر لا بمعنى عدم التكون لأنه تكلف ظاهر انتهى.

وأنت تعلم أن إرادة عدم التكون أظهر على هذا الاستدلال ، ثم إن هذا النحو من الاستدلال مما ذهب إليه الحكماء بل أكثر براهينهم الدالة على التوحيد الذي هو أجلّ المطالب الإلهية بل جميعها يتوقف على أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت القائم بذاته المعبر عنه بالوجوب الذاتي والوجود المتأكد وأن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد نفسه ممكن ووجوده كوجوبه يستفاد من الغير فلا يكون واجبا ومن أشهرها أنه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود ومتغايرين بأمر من الأمور وإلا لم يكونا اثنين ، وما به الامتياز إما أن يكون تمام الحقيقة أو جزءها لا سبيل إلى الأول لأن الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجا عن حقيقة كل منهما أو عن حقيقة أحدهما وهو محال لما تقرر من أن وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود لذاته ، ولا سبيل إلى الثاني لأن كل واحد منهما يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز وكل مركب محتاج فلا يكون واجبا لإمكانه فيكون كل من الواجبين أو أحدهما ممكنا هذا خلف ، واعترض بأن معنى قولهم وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود أنه يظهر من نفس تلك الحقيقة إثر صفة وجوب الوجود لا أن تلك الحقيقة عين هذه الصفة فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلا أن يظهر من نفس كل منهما إثر صفة الوجوب فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود وتمايزهما بتمام الحقيقة ، وأجيب بأن المراد العينية ، ومعنى قولهم إن وجوب الوجود عين حقيقة الواجب هو أن ذاته بنفس ذاته مصداق هذا الحكم ومنشأ انتزاعه من دون انضمام أمر آخر ومن غير ملاحظة حيثية أخرى غير ذاته تعالى أية حيثية كانت حقيقية أو إضافية أو سلبية ، وكذلك قياس سائر صفاته سبحانه عند القائلين بعينيتها من أهل التحقيق ، وتوضيح لك على مشربهم أنك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو المتصل كالمادة فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقه في الأول حقيقة الموضوع وذاته فقط ، وفي الثاني هي مع حيثية أخرى هي صفة قائمة بالموضوع حقيقية أو انتزاعية وكل واجب الوجود لم يكن نفس واجب الوجود بل يكون له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجبة الوجود ففي اتصافها تحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها بحيث ينتزع منها هذا الأمر فهي في حد

٢٦

ذاتها ممكنة الوجود وبه صارت واجبة الوجود فلا تكون واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته وليقس على ذلك سائر صفاته تعالى الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة وغيرهما. واعترض أيضا بأنه لم يجوز أن يكون ما به الامتياز أمرا عارضا لا مقوما حتى يلزم التركيب. وأجيب بأن ذلك يوجب أن يكون التعين عارضا وهو خلاف ما ثبت بالبرهان ، ولابن كمونة في هذا المقام شبهة شاع أنها عويصة الدفع عسيرة الحل حتى أن بعضهم سماه لابدائها بافتخار الشياطين وهي أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية يكون كل منهما واجبا بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما مقولا عليها قولا عرضيا ، وقد رأيت في ملخص الإمام عليه الرحمة نحوها ، ولعلك إذا أحطت خبرا بحقيقة ما ذكرنا يسهل عليك حلها وإن أردت التوضيح فاستمع لما قيل في ذلك إن مفهوم واجب الوجود لا يخلو إما أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كل منهما من دون اعتبار حيثية خارجة أية حيثية كانت أو مع اعتبار تلك الحيثية وكلا الشقين محال ، أما الثاني فلما تقرر أن كل ما لم يكن ذاته مجرد حيثية انتزاع الوجوب فهو ممكن من ذاته ، وأما الأول فلأن مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا ، ولعل كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة ولو في أمر سلبي بل نقول لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق الوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد إذ كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود فرضا مباينة أصلا ولا تغاير فلا يكون اثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد كما لوح إليه صاحب التلويحات بقوله : صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء فوجوب وجوده تعالى الذي هو ذاته سبحانه تدل على وحدته جل وعلا انتهى فتأمل.

ولا يخفى عليك أن أكثر البراهين على هذا المطلب الجليل الشأن يمكن تخريج الآية الكريمة عليه ويحمل حينئذ الفساد على عدم التكون فعليك بالتخريج وإن أحوجك إلى بعض تكلف وإياك أن تقنع بجعلها حجة إقناعية كما ذهب إليه كثير فإن هذا المطلب الجليل أجل من أن يكتفى فيه بالإقناعات المبنية على الشهرة والعادة ، ولصاحب الكشف طاب ثراه كلام يلوح عليه مخايل التحقيق في هذا المقام سنذكره إن شاء الله تعالى كما اختاره في تفسير قوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] ثم لا تتوهمن أنه لا يلزم من الآية نفي الاثنين والواحد لأن نفي آلهة تغاير الواحد المعين شخصا يستلزم بالضرورة أن كل واحد واحد منهم يغايره شخصا وهو أبلغ من نفي واحد يغاير المعين في الشخص على أنه طوبق به قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) وقيام الملازمة كاف في نفي الواحد والاثنين أيضا واستشكل سياق الآية الكريمة بأن الظاهر أنها إنما سيقت لإبطال عبادة الأصنام المشار إليه بقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) لذكرها بعده ، وهي لا تبطل إلا تعدد الإله الخالق القادر المدبر التام الألوهية وهو غير متعدد عند المشركين ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] وهم يقولون في آلهتهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فما قالوا به لا تبطله الآية ؛ وما تبطله الآية لم يقولوا به ومن هنا قيل معنى الآية لو كان في السماء والأرض آلهة كما يقول عبدة الأوثان : لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم ، وأجيب بأن قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) إلخ مسوق للزجر عن عبادة الأصنام وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك وبعد الزجر عن ذلك أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا

٢٧

واحدا على أن شرح اسم الإله هو الواجب الوجود لذاته الحي العالم المريد القادر الخالق المدبر فمتى أطلقوه على شيء لزمهم وصفه بذلك شاءوا أو أبوا فالآية لإبطال ما يلزم قولهم على أتم وجه (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي نزهوه أكمل تنزيه عن أن يكون من دونه تعالى آلهة كما يزعمون فالفاء لترتيب ما بعده على ما قبلها من ثبوت الوحدانية ، وإبراز الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات الكمال التي من جملتها تنزهه تعالى عن الشركة لتربية المهابة وإدخال الروعة ، والوصف برب العرش لتأكد التنزه مع ما في ذلك من تربية المهابة ، والظاهر أن المراد حقيقة الأمر بالتنزيه ، وقيل : المراد بالتعجيب ممن عبد تلك المعبودات الخسيسة وعدها شريكا مع وجود المعبود العظيم الخالق لأعظم الأشياء ، والكلام عليه أيضا كالنتيجة لما قبله من الدليل ، وقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) يمكن أن يكون جواب سؤال مقدر ناشئ من إثبات توحده سبحانه في الألوهية المتضمن توحده تعالى في الخلق والتصرف ووصف الكفرة إياه سبحانه بما لا يليق كأنه قيل إذا كان الله تعالى هو الإله الخالق المتصرف فلم خلق أولئك الكفرة ولم يصرفهم عما يقولون فأجيب بقوله سبحانه : (لا يُسْئَلُ) إلخ وحاصله أنه تعالى لا ينبغي لأحد أن يعترض عليه في شيء من أفعاله إذ هو حكيم مطلق لا يفعل ما يرد عليه الاعتراض (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) عما يفعلون ويعترض عليهم ، وهذا الحكم في حقه تعالى عام لجميع أفعاله سبحانه ويندرج فيه خلق الكفرة وإيجادهم على ما هم عليه ، ووجه حل السؤال الناشئ مما تقدم بناء على ما يشير إليه هذا الجواب الإجمالي أنه تعالى خلق الكفرة بل جميع المكلفين على حسب ما علمهم مما هم عليه في أنفسهم لأن الخلق مسبوق بالإرادة والإرادة مسبوقة بالعلم والعلم تابع للمعلوم فيتعلق به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي ، وقد يشير إلى بعض ذلك قول الشافعي عليه الرحمة من أبيات :

خلقت العباد على ما علمت

ففي العلم يجري الفتى والمسن

ثم بعد أن خلقهم على حسب ذلك كلفهم لاستخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا يكون للناس على الله تعالى حجة فلا يتوجه على الله تعالى اعتراض بخلق الكافر وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر بكفره حيث إنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المجعول ، وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل : ١١٨] وقوله عليه الصلاة والسلام «فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاه كثير من المحققين والأجلة العارفين ، وقال البعض : إن ذلك استئناف بيان أنه تعالى لقوة عظمته الباهرة وعزة سلطنته القاهرة بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله أثر بيان أن ليس له شريك في الألوهية ، وضمير «هم» للعباد أي والعباد يسألون عما يفعلون نقيرا وقطميرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون ، وفي هذا وعيد للكفرة ، والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان أي لا يسأل سبحانه في وقت من الأوقات عما يفعل ، وخص ذلك الزجاج بيوم القيامة والأول أولى وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر واستدل بالآية على أن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات فلا يقال فعل كذا لكذا إذ لو كانت معللة لكان للعبد أن يسأل فيقول لم فعل؟ وإلى ذلك ذهب الأشاعرة ولهم عليه أدلة عقلية أيضا وأولو ما ظاهره التعليل بالحمل على المجاز أو جعل الأداة فيه للعاقبة ، ومذهب الماتريدية كما في شرح المقاصد والمعتزلة أنها تعلل بذلك وإليه ذهب الحنابلة كما قال الوفي وغيره.

وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل : إن الله

٢٨

سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل ، وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها وساق اثنين وعشرين نوعا في بضعة عشرة ورقة ثم قال : لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ثم قال : وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جملة؟ وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل. وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ ثم قال : والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة ، وقد أودع العالم من القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر هذا قول جمهور أهل الإسلام. وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة ا ه.

والظاهر أن ابن القيم وأضرابه من أهل السنة القائلين بتعليل أفعاله تعالى لا يجعلون كالأشاعرة المخصص لأحد الضدين بالوقوع محض تعلق الإرادة بالمعنى المشهور ومحققو المعتزلة كأبي الحسن والنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي ، وغيرهم يقولون : إن العلم بترتب النفع على إيجاد النافع هو المخصص للنافع بالوقوع ويسمون ذلك العلم بالداعي وهو الإرادة عندهم. وأورد عليهم أن الواجب تعالى موجب في تعلق علمه سبحانه بجميع المعلومات فلو كان المخصص الموجب للوقوع هو العلم بالنفع كان ذلك المخصص لازما لذاته تعالى فيكون فعله سبحانه واجبا لأمر خارج ضروري للفاعل وهو ينافي الاختيار بالمعنى الأخص قطعا فلا يكون الواجب مختارا بهذا المعنى بل يؤول إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من الاختيار المجامع للإيجاب ، ولا يرد ذلك على القائلين بأن المخصص هو تعلق الإرادة الأزلية لأن ذلك التعلق غير لازم لذات الواجب تعالى وإن كان أزليا دائما لإمكان تعلقها بالضد الآخر بدل الضد الواقع ، نعم يرد عليهم ما يصعب التقصي عنه مما هو مذكور في الكتب الكلامية ، وأورد نظير ما ذكر على الحنفية فإنهم ذهبوا إلى التعليل وجعلوا العلم بترتب المصالح علة لتعلق العلم بالوقوع فلا يتسنى لهم القول بكون الواجب تعالى مختارا بالمعنى الأخص لأن الذات يوجب العلم والعلم يوجب تعلق الإرادة وتعلق الإرادة يوجب الفعل ولا مخلص إلا بأن يقال : إن إيجاب العلم بالنفع والمصلحة لتعلق الإرادة ممنوع عندهم بل هو مرجح ترجيحا غير بالغ إلى حد الوجوب وما قيل إذا لم يبلغ الترجيح إلى حد الوجوب جاز وقوع الراجح وفي وقت وعدم وقوعه في وقت آخر مع ذلك المرجح فإن كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع بانضمام شيء آخر إلى ذلك المرجح لم يكن المرجح مرجحا وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح بل يلزم ترجيح المرجوح عدمه في الوقت الآخر لأن الوقوع كان راجحا بذلك المرجح فمدفوع بوجهين إلا أنه إنما يجري في العلة التامة بالنسبة إلى معلولها لا في الفاعل المختار بالنسبة إلى فعله فإنه إن أريد لزوم الرجحان من غير مرجح كما هو اللازم في العلة التامة فعدم اللزوم ظاهر وإن أريد الترجيح من غير مرجح فبطلان اللازم في الفاعل المختار ممنوع وإلا فما الفرق بين الفاعل الموجب والمختار ، الثاني أن المرجح بالنسبة إلى وقت ربما لا يكون مرجحا بالنسبة إلى وقت آخر بل منافيا للمصلحة فلا يلزم ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح في وقت آخر بل يلزم ترجيح الراجح في كل وقت وهو تعالى عالم بجميع المصالح اللائقة بالأوقات فتتعلق إرادته سبحانه بوقوع كل ممكن في وقت لترتب المصالح اللائقة بذلك الوقت على عدمه فلا إشكال ، وهذا هو المعول عليه إذ لقائل أن يقول على الأول أن ترجيح المرجوح مستحيل في حق الواجب الحكيم وإن جاز في حق غيره من أفراد الفاعل بالاختبار.

٢٩

هذا ووقع في كلام الفلاسفة أن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والغايات ومرادهم على ما قاله بعضهم ففي التعليل عن فعله سبحانه بما هو غير ذاته لأنه جل شأنه تام الفاعلية لا يتوقف فيها على غيره ولا يلزم من ذلك نفي الغاية والغرض عن فعله تعالى مطلقا ولذا صح أن يقولوا علمه تعالى بنظام الخير الذي هو عين ذاته تعالى علة غائية وغرض في الإيجاد ومرادهم بالاقتضاء في قولهم في تعريف العلة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل مطلق عدم الانفكاك لكنهم تسامحوا في ذلك اعتمادا على فهم المتدرب في العلوم وصرحوا بأنه تعالى ليس له غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها لأن كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته فهو فقير إلى ذلك الغرض مستكمل به والمكمل يجب أن يكون أشرف فغرض الفاعل يجب أن يكون ما هو فوقه وإن كان بحسب الظن وليس له غرض فيما دونه وحصول وجود الممكنات منه تعالى على غاية من الإتقان ونهاية من الأحكام ليس إلا لأن ذاته تعالى ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يمكن من المصالح فالواجب سبحانه عندهم يلزم من تعقله لذاته الذي هو مبدأ كل خير وكمال حصول الممكنات على الوجه الأتم والنظام الأقوم واللوازم غايات عرضية إن أريد بالغاية ما يقتضي فاعلية الفاعل وذاتية إن أريد بها ما يترتب على الفعل ترتبا ذاتيا لا عرضيا كوجود مبادئ الشر وغيرها في الطبائع الهيولانية ثم كما أنه تعالى غاية بالمعنى الذي أشير إليه فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء طالبة له متشوقة إليه طبعا وإرادة لأنه الخير المحض والمعشوق الحقيقي جل جلاله وعم نواله.

والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولو لا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر ، وتمام الكلام في هذا المقام على مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله. وقرأ الحسن «لا يسل» و «يسلون» بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة حقيقية بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القطعي على استحالة تعدد الإله مطلقا وتفرده سبحانه بالألوهية إلى بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله تعالى شأنه وتبكيتهم بإلجائهم إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك. وجوز أن يكون هذا انتقالا لإظهار بطلان الآلهة مطلقا بعد إظهار بطلان الآلهة الأرضية ، والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ؛ ومن متعلقة باتخذوا ، والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شئونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور أنها عارية عن خواص الألوهية بالكلية.

(قُلْ) لهم بطريق التبكيت وإلقام الحجر (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ما تدعونه من جهة العقل الصريح أو النقل الصحيح فإنه لا يصح القول بمثل ذلك من غير دليل عليه ، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا ضرب من التهكم بهم ، وقوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وعظتهم وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم ، وأعيد لفظ (ذِكْرُ) ولم يكتف بعطف الموصول على الموصول المستدعي للانسحاب لأن كون المشخص ذكر من معه وكونه ذكر من قبله باعتبار اتحاده بالحقيقة مع الوحي المتضمن ذلك.

وقيل : المراد بالذكر الكتاب أي هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم‌السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيت لهم

٣٠

متضمن لنقيض مدعاهم وقرئ بتنوين ذكر الأول والثاني وجعل ما بعده منصوب المحل على المفعولية له لأنه مصدر وأعماله هو الأصل نحو (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤].

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ)(٣٦)

وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بالتنوين وكسر ميم «من» فهي على هذا حرف جر ومع مجروره بها وهي اسم يدل على الصحبة والاجتماع جعلت هنا ظرفا كقبل وبعد فجاز إدخال من عليها كما جاز إدخالها عليهما لكن دخولها عليها نادر ، ونص أبو حيان أنها حينئذ بمعنى عند. وقيل : من داخلة على موصوفها أي عظة من كتاب معي وعظة من كتاب من قبلي ، وأبو حاتم ضعف هذه القراءة لما فيها من دخول من على مع ولم ير له وجها وعن طلحة أنه قرأ «هذا ذكر معي وذكر قبلي» بتنوين «ذكر» وإسقاط «من» وقرأت فرقة «هذا ذكر من» بالإضافة «وذكر من قبلي» بالتنوين وكسر الميم ، وقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالعة البرهان إلى بيان أن الاحتجاج عليهم لا ينفع لفقدهم التمييز بين الحق والباطل (فَهُمْ) لأجل ذلك (مُعْرِضُونَ) مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحج أو فهم معرضون عما ألقي عليهم من البراهين العقلية والنقلية.

وقرأ الحسن وحميد وابن محيض «الحقّ» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، والجملة معترضة بين السبب والمسبب تأكيدا للربط بينهما ، وجوز الزمخشري أن يكون المنصوب أيضا على معنى التأكيد كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل ، والظاهر أنه منصوب على أنه مفعول به ليعلمون والعلم بمعنى المعرفة.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) استئناف مقرر لما سبق من آي التوحيد وقد يقال إن فيه تعميما بعد تخصيص إذا أريد من (ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) الكتب الثلاثة ، ولما كان (مِنْ رَسُولٍ) عاما معنى فكان هناك لفظ ومعنى أفرد على اللفظ في نوحي إليه ثم جمع على المعنى في (فَاعْبُدُونِ) ولم يأت التركيب فاعبدني وهذا بناء على أن (فَاعْبُدُونِ) داخل في الموحي وجوز عدم الدخول على الأمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣١

ولأمته ، وقرأ أكثر السبعة «يوحي» على صيغة الغائب مبنيا للمفعول ، وأيا ما كان فصيغة المصارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحي (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) حكاية لجناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها وبيان تنزهه سبحانه عن ذلك إثر بيان تنزهه جلا وعلا عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة قالوا الملائكة بنات الله سبحانه. ونقل الواحدي أن قريشا وبعض العرب جهينة وبني سلامة وخزاعة وبني مليح قالوا ذلك.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال قالت اليهود إن الله عزوجل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة فنزلت والمشهور الأول. والآية مشنعة على كل من نسب إليه ذلك كالنصارى القائلين عيسى ابن الله واليهود القائلين عزيز ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن جميع ما سواه تعالى مربوبا له تعالى لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة (سُبْحانَهُ) أي تنزهه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر سبح أي بعد أن أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحة. وقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ) إضراب وإبطال لما قالوا كأنه قيل : ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون له تعالى فهم ملكه سبحانه والولد لا يصح تملكه ، وفي قوله تعالى : (مُكْرَمُونَ) أي مقربون عنده تعالى تعالى تنبيه على منشأ غلطهم وقرأ عكرمة مكرمون بالتشديد (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو دين العبيد المؤدبين ففيه تنبيه على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره عزوجل وتأدبهم معه تعالى ، والأصل لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبا إليه تعالى تنزيلا لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إياه عزوجل لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون ما لم يقله تعالى ، وجعل القول محل السبق وآلته التي يسبق بها وأنيبت اللام عن الإضافة إلى الضمير على ما ذهب إليه الكوفيون للاختصاص والتجافي عن التكرار. وقرئ «لا يسبقونه» بضم الباء الموحدة على أنه من باب المغالبة يقال سابقني فسبقته وأسبقه ويلزم فيه ضم عين المضارع ما لم تكن عينه أو لامه ياء ، وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بأن من سبق قوله قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق وزيادة تنزيه عما نفي عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فأنى يتوهم صدوره عنهم (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له سبحانه في الأقوال كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره تعالى أصلا بأن يعملوا من تلقاء أنفسهم ، فالحصر المستفاد من تقديم الجار بالنسبة إلى غير أمره تعالى لا إلى أمر غيره سبحانه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) استئناف وقع تعليلا لما قبله وتمهيدا لما بعده كأنه قيل إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه سبحانه لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الله تعالى أن يشفع له.

وهو كما أخرج ابن جرير والمنذر والبيهقي في البعث. وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قال لا إله إلا الله وشفاعتهم الاستغفار ، وهي كما في الصحيح تكون في الدنيا والآخرة ولا متمسك للمعتزلة في الآية على أن الشفاعة لا تكون لأصحاب الكبائر فإنها لا تدل على أكثر من أن لا يشفعوا لمن لا ترتضى الشفاعة له مع أن عدم شفاعة الملائكة لا تدل على عدم شفاعة غيرهم (وَهُمْ) مع ذلك (مِنْ خَشْيَتِهِ) أي بسبب خوف عذابه عزوجل (مُشْفِقُونَ) متوقعون من إمارة ضعيفة كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله تعالى ، فمن تعليلية والكلام على حذف مضاف ، وقد يراد من خشيته تعالى ذلك فلا حاجة إليه.

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى أنهم يخشون الله تعالى ومع ذلك يحذرون من وقوع تقصير خشيتهم وعلى هذا تكون (مِنْ) صلة لمشفقون ، وفرق بين الخشية والإشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به

٣٢

العلماء في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] والثاني خوف مع اعتناء ويعدى بمن كما يعدى الخوف وقد يعدى بعلى بملاحظة الحنو والعطف ، وزعم بعضهم أن الخشية هاهنا مجاز عن سببها وأن المراد من الإشفاق شدة الخوف أي وهم من مهابته تعالى شديد والخوف ، والحق أنه لا ضرورة لارتكاب المجاز ، وجوز أن يكون المعنى وهم خائفون من خوف عذابه تعالى على أن من صلة لما بعدها وإضافة خشية إلى المضاف المحذوف من إضافة الصفة إلى الموصوف أي خائفون من العذاب المخوف ، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه ، ثم إن هذا الإشفاق صفة لهم دنيا وأخرى كما يشعر به الجملة الاسمية ، وقد كثرت الأخبار الدالة على شدة خوفهم ، ومن ذلك ما أخرج ابن أبي حاتم عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري بي ومررت بجبريل عليه‌السلام وهو بالملإ الأعلى ملقى كالحلس البالي من خشية الله تعالى (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) أي من الملائكة عليهم‌السلام ، وقيل من الخلائق ، والأول هو الذي يقتضيه السياق إذ الكلام في الملائكة عليهم‌السلام وفي كونهم بمعزل عما قالوه في حقهم ، والمراد من يقل منهم على سبيل الفرض (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي متجاوزا إياه تعالى (فَذلِكَ) أي الذي فرض قوله ما ذكر فرض محال (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) كسائر المجرمين ولا يغني عنه ما سبق من الصفات السنية والأفعال المرضية وعن الضحاك وقتادة عدم اعتبار الفرض وقالا : إن الآية خاصة بإبليس عليه اللعنة فإنه دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر ، والمعول عليه ما ذكرنا ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما يتوهم أولئك الكفرة ما لا يخفى.

وقرأ أبو عبد الرحمن المقري «نجزيه» بضم النون أراد نجزئه بالهمز من أجزأني كذا كفاني ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذي يضعون الأشياء في غير مواضعها ويتعدون أطوارهم ، والقصر المستفاد من التقديم يعتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لأجزاء أنقص منه (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تجهيل لهم بتقصيرهم عن التدبر في الآيات التكوينية الدالة على عظيم قدرته وتصرفه وكون جميع ما سواه مقهورا تحت ملكوته على وجه ينتفعون به ويعلمون أن من كان كذلك لا ينبغي أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه مما لا يضر ولا ينفع ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر. وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن بغير واو ، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا) الضمير للسماوات والأرض ، والمراد من السموات طائفتها ولذا ثني الضمير ولم يجمع ، ومثل ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] وكذا قول الأسود بن يعفر :

إن المنية والحتوف كلاهما

دون المحارم يرقبان سوادي

وأفرد الخبر أعني قوله تعالى : (رَتْقاً) ولم يثن لأنه مصدر ، والحمل إما بتأويله بمشتق أو لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أي ذاتي رتق ، وهو في الأصل الضم والالتحام خلقة كأن أم صنعة ، ومنه الرتقاء الملتحمة محل الجماع وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رتقا» بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنقض والنقض فكان قياسه أن يثنّى هنا ليطابق الاسم فقال الزمخشري : هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئا رتقا وشيء اسم جنس شامل للقليل والكثير فيصح الإخبار به عن المثنى كالجمع ويحسنه أنه في حال الرتقية لا تعدد فيه.

وقال أبو الفضل الرازي : الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسما بمعنى المفعول والساكن مصدرا وقد يكونان مصدرين ، والأولى هنا كونهما كذلك وحينئذ لا حاجة إلى ما قاله الزمخشري في توجيه الأخبار ، وقد أريد بالرتق على ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني حالة العدم إذ ليس فيه ذوات متميزة فكان السموات والأرض أمر واحد

٣٣

متصل متشابه وأريد بالفتق وأصله الفصل في قوله تعالى : (فَفَتَقْناهُما) الإيجاد الحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض به فيكون كقوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤ ، يوسف : ١٠١ ، إبراهيم : ١٠ ، فاطر : ١ ، الزمر : ٤٦ ، الشورى : ١١] بناء على أن الفطر الشق وظاهره نفي تمايز المعدومات ، والذي حققه مولانا الكوراني في جلاء الفهوم وذب عنه حسب جهده أن المعدوم الممكن متميز في نفس الأمر لأنه متصور ولا يمكن تصور الشيء إلا بتميزه عن غيره وإلا لم يكن بكونه متصورا أولى من غيره ولأن بعض المعدومات قد يكون مرادا دون بعض ولو لا التمييز بينها لما عقل ذلك إذ القصد إلى إيجاد غير المتعين ممتنع لأن ما ليس بمتعين في نفسه لم يتميز القصد إليه عن القصد إلى غيره ، وقد يقال على هذا : يكفي في تلك الإرادة عدم تمايز السموات والأرض في حالة العدم نظرا إلى الخارج المشاهد ، وأيا ما كان فمعنى الآية لم يعلموا أن السموات والأرض كانتا معدومتين فأوجدناهما ، ومعنى علمهم بذلك تمكنهم من العلم به بأدنى نظر لأنهما ممكنان ، والممكن باعتبار ذاته وحدها يكون معدوما واتصافه بالوجود لا يكون إلا من واجب الوجود.

قال ابن سينا في المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء : سائر الأشياء غير واجب الوجود لا تستحق الوجود بل هي في أنفسها ومع قطع إضافتها إلى الواجب تستحق العدم ولا يعقل أن يكون وجود السموات والأرض مع إمكانهما الضروري عن غير علة ، وأما ما ذهب إليه ديمقرطيس من أن وجود العالم إنما كان بالاتفاق وذلك لأن مباديه أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها وهي مبثوثة في خلاء غير متناه وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الأشكال دائمة الحركة فاتفق أن تضامت جملة منه واجتمعت على هيئة مخصوصة فتكون منها هذا العالم فضرب من الهذيان ، ووافقه عليه على ما قيل أنباذقلس لكن الأول زعم أن تكون الحيوان والنبات ليس بالاتفاق وهذا زعم أن تكون الأجرام الأسطقسية بالاتفاق أيضا إلا أن ما اتفق إن كان ذا هيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي وما اتفق إن لم يكن كذلك لم يبق ، وهذا الهذيان بعيد من هذا الرجل فإنهم ذكروا أنه من رؤساء يونان كان في زمن داود عليه‌السلام وتلقى العلم منه واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ، ثم إن وجودهما عن العلة حادث بل العالم المحسوس منه وغيره حادث حدوثا زمانيا بإجماع المسلمين وما يتوهم من بعض عبارات بعض الصوفية من أنه حادث بالذات قديم بالزمان مصروف عن ظاهره إذ هم أجل من أن يقولوا به لما أنه كفر. والفلاسفة في هذه المسألة على ثلاثة آراء فجماعة من الأوائل الذين هم أساطين من الملطية وساميا صاروا إلى القول بحدوث موجودات العالم مباديها وبسائطها ومركباتها وطائفة من الأتينينية وأصحاب الرواق صاروا إلى قدم مباديها من العقل والنفس والمفارقات والبسائط دون المتوسطات والمركبات فإن المبادي عندهم فوق الدهر والزمان فلا يتحقق فيها حدوث زماني بخلاف المركبات التي هي تحت الدهر والزمان ومنعوا كون الحركات سرمدية ، ومذهب أرسطو ومن تابعه من تلامذته أن العالم قديم وأن الحركات الدورية سرمدية ، وهذا بناء على المشهور عنه وإلا فقد ذكر في الأسفار أن أساطين الحكمة المعتبرين عند الطائفة ثمانية ثلاثة من الملطيين ثالس وانكسيمائس واغاثاذيمون ، وخمسة من اليونانيين أنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكلهم قائلون بما قال به الأنبياء عليهم‌السلام وأتباعهم من حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وأفلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته ، ونقل عن كل كلمات تؤيد ذلك ، وكذا نقل عن غير أولئك من الفلاسفة وأطال الكلام في هذا المقام ، ولو لا مخافة السآمة لنقلت ذلك ولعلي أنقل شيئا منه في محله الأليق به إن شاء الله تعالى ، وجاء عن ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وابن جبير أن السموات والأرض كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. وقال كعب : خلق الله تعالى السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا فتوسطهما ففتقهما. وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان

٣٤

ملتصق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) فجعل سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين ، والمراد من العلم على هذه الأقوال التمكن منه أيضا إلا أن ذلك ليس بطريق النظر بل بالاستفسار من علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم ؛ وقيل بذلك أو بمطالعة الكتب السماوية ويدخل فيها القرآن وإن لم يقبلوه لكونه معجزة في نفسه وفي ذلك دغدغة لا تخفى.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمران رجلا أتاه فسأله عن الآية فقال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني وكان ابن عباس فذهب إليه فسأله فقال : نعم كانت السموات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما خلق الله تعالى للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر : الآن علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما صدق ابن عباس هكذا كانت ، وروي عنه ما هو بمعنى ذلك جماعة منهم الحاكم وصححه وإليه ذهب أكثر المفسرين.

وقال ابن عطية : هو قول حسن يجمع العبرة والحجة وتعديد النعمة ويناسب ما يذكر بعد والرتق والفتق مجازيان عليه كما هما كذلك على الوجه الأول ، والمراد بالسماوات جهة العلو أو سماء الدنيا ، والجمع باعتبار الآفاق أو من باب ثوب أخلاق ، وقيل هو على ظاهره ولكل من السموات مدخل في المطر ، والمراد بالرؤية العلم أيضا وعلم الكفرة بذلك ظاهر.

وجوز أن تكون الرؤية بصرية وجعلها علمية أولى ، ومن البعيد ما نقل عن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة وتمييز الفصول بل لا يكاد يصح على الأصول الإسلامية التي أصلها السلف الصالح كما لا يخفى.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) عطف على (أَنَّ السَّماواتِ) إلخ ولا حاجة إلى تكلف عطفه على فتقنا ، والجعل بمعنى الخلق المتعدي لمفعول واحد ، ومن ابتدائية والماء هو المعروف أي خلقنا من الماء كل حيوان أي متصف بالحياة الحقيقية. ونقل ذلك عن الكلبي. وجماعة ويؤيده قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النور : ٤٥] ووجه كون الماء مبدأ ومادة للحيوان وتخصيصه بذلك أنه أعظم مواده وفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ولا بد من تخصيص العام لأن الملائكة عليهم‌السلام وكذا الجن أحياء وليسوا مخلوقين من الماء ولا محتاجين إليه على الصحيح.

وقال قتادة : المعنى خلقنا كل نام من الماء فيدخل النبات ويراد بالحياة النمو أو نحوه ، ولعل من زعم أن في النبات حسا وشعورا أبقى الحياة على ظاهرها ، وقال قطرب ، وجماعة : المراد بالماء النطفة ولا بد من التخصيص بما سوى الملائكة عليهم‌السلام والجن أيضا بل بما سوى ذلك والحيوانات المخلوقة من غير نطفة كأكثر الحشرات الأرضية. ويجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين وهما هنا (كُلَ) و (مِنَ الْماءِ) وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به ومن اتصالية كما قيل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنا من دد ولا الدد مني» والمعنى صيرنا كل شيء حي متصلا بالماء أي مخالطا له غير منفك عنه ، والمراد أنه لا يحيا دونه ، وجوّز أبو البقاء على الوجه الأول أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من (كُلَ) وجعل الطيبي من على هذا بيانية تجريدية فيكون قد جرد من الماء الحي مبالغة كأنه هو ، وقرأ حميد «حيا» بالنصب على أنه صفة (كُلَ) أو مفعول ثان لجعل ، والظرف متعلق بما عنده لا يحيا ، والشيء مخصوص بالحيوان لأنه الموصوف بالحياة ، وجوّز تعميمه للنبات.

٣٥

وأنت تعلم أن من الناس من يقول : إن كل شيء من العلويات والسفليات حي حياة لائقة به وهم الذين ذهبوا إلى أن تسبيح الأشياء المفاد بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] قالي لا حالي ، وإذا قيل بذلك فلا بد من تخصيص الشيء أيضا إذا لم يجعل من الماء كل شيء حيا ؛ ولم أقف على مخالف في ذلك منا ، نعم نقل عن ثالس الملطي وهو أول من تفلسف بملطية أن أصل الموجودات الماء حيث قال : الماء قابل كل صورة ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض انتهى.

ويمكن تخريجه على مشرب صوفي بأن يقال إنه أراد بالماء الوجود الانبساطي المعبر عنه في اصطلاح الصوفية بالنفس الرحماني ، وحينئذ لو جعلت الإشارة في الآية إلى ذلك عندهم لم يبعد (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكار أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ ، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مما لا ريب في صحته (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أو لئلا تميد فحذف اللام ولا لعدم الإلباس ، وهذا مذهب الكوفيين والأول أولى ، وفي الانتصاف أولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط على ما قال سيبويه من أن معناه أن أدعم الحائط بها إذا مال ، وقدم ذكر الميد عناية بأمره ولأنه السبب في الادعام والادعام سبب إعداد الخشبة فعومل سبب السبب معاملة السبب فكذا فيما نحن فيه يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي أن نثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثال سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم فنثبتها ثم حذف فنثبتها لأمن الإلباس إيجازا ، وهذا أقرب إلى الواقع مما ذكر أولا فإن مقتضاه أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله تعالى كره ذلك ومحال أن يقع ما يكرهه سبحانه والمشاهدة بخلافه فكم من زلزلة أمادت الأرض حتى كادت تنقلب وعلى ما ذكرنا يكون المراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت ، وهذا لا يأبى وقوع الميد لكنه ميد يستعقبه التثبيت ، وكذلك الواقع من الزلزال إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى انتهى.

وفي الكشف أن قولهم كراهة أن تميد بيان للمعنى لا أن هناك إضمار البتة ولهذا كان مذهب الكوفيين خليقا بالرد ، وما في الانتصاف من أن الأولى أن يكون من باب أعددت الخشبة أن يميل الحائط على ما قرر راجع إلى ما ذكرناه ولا مخالف له ، أما ما ذكره من الرد بمخالفة الواقع المشاهد فليس بالوجه لأن ميدودة الأرض غير كائنة البتة وليست هذه الزلازل منها في شيء انتهى ، وهو كلام رصين كما لا يخفى ، وقد طعن بعض الكفرة المعاصرين فيما دلت عليه الآية الكريمة بأن الأرض لطلبها المركز طبعا ساكنة لا يتصور فيها الميد ولو لم يكن فيها الجبال. وأجيب أولا بعد الإغماض عما في دعوى طلبها المركز طبعا وسكونها عنده من القيل والقال يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق الأرض يوم خلقها عرية عن الجبال مختلفة الأجزاء ثقلا وخفة اختلافا تاما أو عرض لها الاختلاف المذكور ومع هذا لم يجعل سبحانه لمجموعها من الثقل ما لا يظهر بالنسبة إليه ثقل ما علم جل وعلا أنه يتحرك عليها من الأجسام الثقيلة فيكون لها مركزان متغايران مركز حجم ومركز ثقل وهي إنما تطلب بطبعها عندهم أن ينطبق مركز ثقلها على مركز العالم وذلك وإن اقتضى سكونها إلا أنه يلزم أن تتحرك بتحرك هاتيك الأجسام فخلق جل جلاله الجبال فيها ليحصل لها من الثقل ما لا يظهر معه ثقل المتحرك فلا تتحرك بتحركه أصلا ، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطرها كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع إنما ينفع في أمر الكرية الحسية وأما أنه يلزم منه أن لا يكون لمجموع الجبال ثقل معتد به بالنسبة إلى ثقل الأرض فلا.

٣٦

ثم ليس خلق الجبال لهذه الحكمة فقط بل لحكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى فلا يقال إنه يغني عن الجبال خلقها بحيث لا يظهر للأجسام الثقيلة المتحركة عليها أثر بالنسبة إلى ثقلها ، وثانيا أنها بحسب طبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء بحيث تكون الخطوط الخارجة من مركزها المنطبق على مركز العالم إلى محدب الماء متساوية من جميع الجوانب فبروز هذا المقدار المعمور منها قسري ، ويجوز أن يكون للجبال مدخل في القسر باحتباس الأبخرة فيها وصيرورة الأرض بسبب ذلك كزق في الماء نفخ نفخا ظهر به شيء منه على وجه الماء ولو لا ذلك لم يكن القسر قويا بحيث لا يعارضه ما يكون فوق الأرض من الحيوانات وغيرها وذلك يوجب الميد الذي قد يفضي بها إلى الانغمار فتأمل ، وقد مر لك ما يتعلق بهذا المطلب فتذكر (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض ، وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين مع ما فيه من الإشارة إلى كمال الامتنان أو في الرواسي على ما أخرجه ابن جرير والمنذر عن ابن عباس ويؤيده أنها المحتاجة لأن يجعل سبحانه فيها (فِجاجاً) جمع فج قال الراغب : هو شقة يكتنفها جبلان ، وقال الزجاج : كل مخترق بين جبلين فهو فج ، وقال بعضهم : هو مطلق الواسع سواء كان طريقا بين جبلين أم لا ولذا يقال جرح فج ، والظاهر أن «فجاجا» نصب على المفعولية لجعل ، وقوله سبحانه : (سُبُلاً) بدل منه فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقا وقال في الكشاف : هو حال من (سُبُلاً) ولو تأخر لكان صفة كما في قوله تعالى في سورة [نوح : ٢٠](لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) وإنما لم يؤت به كذلك بل قدم فصار حالا ليدل على أنه في حال جعلها سبلا كانت واسعة ولو أتى به صفة لم يدل على ذلك. وأوجب بعضهم كونه مفعولا وكون (سُبُلاً) بدلا منه وكذا أوجب في قوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا) إلخ كون (سُبُلاً) مفعولا وكون (فِجاجاً) بدلا قائلا : إن الفج اسم لا صفة لدلالته على ذات معينة وهو الطريق الواسع والاسم يوصف ولا يوصف به ولذا وقع موصوفا في قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج : ٢٧] والحمل على تجريده عن دلالته على ذات معينة لا قرينة عليه.

وتعقب بأنا لا نسلم أن معناه ذلك بل معناه مطلق الواسع وتخصيصه بالطريق عارض وهو لا يمنع الوصفية ولو سلم فمراد من قال إنه وصف أنه في معنى الوصف بالنسبة إلى السبيل لأن السبيل الطريق وهو الطريق الواسع فإذا قدم عليه يكون ذكره بعد لغوا لو لم يكن حالا ، وظاهر كلام الفاضل اليمني في المطلع أن (سُبُلاً) عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال : هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة فقد يكون الفج غير نافذ وقدم هنا وأخر في آية سورة نوح لأن تلك الآية واردة للامتنان على سبيل الإجمال وهذه للاعتبار والحث على إمعان النظر وذلك يقتضي التفصيل ، ومن ثم ذكرت عقب قوله تعالى كانتا (رَتْقاً) إلخ انتهى ، وأنت تعلم أن الأظهر نصب (فِجاجاً) هنا على المفعولية لجعل ووجه التغاير بين الآيتين لا يخفى فتأمل (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الاستدلال على التوحيد وكمال القدرة والحكمة ، وقيل : إلى مصالحهم ومهماتهم. ورد على ما تقدم بأنه يغني عن ذلك قوله تعالى فيما بعد (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) وبأن خلق السبل لا تظهر دلالته على ما ذكر انتهى ، وفيه ما فيه ، وجوّز أن يكون المراد ما هو أعم من الاهتداء إلى الاستدلال والاهتداء إلى المصالح :

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) من البلى والتغير على طول الدهر كما روي عن قتادة ، والمراد أنها جعلت محفوظة عن ذلك الدهر الطويل ، ولا ينافيه أنها تطوى يوم القيامة طي السجل للكتب وإلى تغيرها ودثورها ذهب جميع المسلمين ومعظم أجلة الفلاسفة كما برهن عليه صدر الدين الشيرازي في أسفاره وسنذكره إن شاء الله تعالى في محله.

٣٧

وقيل : من الوقوع ، وقال الفراء : من استراق السمع بالرجوم ، وقيل عليه : إنه يكون ذكر السقف لغوا لا يناسب البلاغة فضلا عن الإعجاز ، وذكر في وجهه أن المراد أن حفظها ليس كحفظ دور الأرض فإن السرّاق ربما تسلقت من سقوفها بخلاف هذه ، وقيل : إنه للدلالة على حفظها عمن تحتها ويدل على حفظها عنهم على أتم وجه ، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى السماء فقال : «إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف تجري كما يجري السهم محفوظة من الشياطين» وهو إذا صح لا يكون نصا في معنى الآية كما زعم أبو حيان ، وقيل : من الشرك والمعاصي ، ويرد عليه ما أورد على سابقه كما لا يخفى.

(وَهُمْ عَنْ آياتِها) الدالة على وحدانيتنا وعلمنا وحكمتنا وقدرتنا وإرادتنا التي بعضها ظاهر كالشمس وبعضها معلوم بالبحث عنه (مُعْرِضُونَ) ذاهلون عنها لا يجيلون قداح الفكر فيها ، وقرأ مجاهد. وحميد «عن آيتها» بالإفراد ووجه بأنه لما كان كل واحد مما فيها كافيا في الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وحدت الآية لذلك ، وجعل الإعراض على هذه القراءة بمعنى إنكار كونها آية بينة دالة على الخالق كما يشير إليه قوله في الكشاف أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع وهم عن كونها آية بينة على الخالق معرضون وليس بلازم.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) اللذين هما آيتاهما ولذا لم يعد الفعل بيانا لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون بطريق الالتفات الموجب لتأكيد الاعتناء بفحوى الكلام ، ولما كان إيجاد الليل والنهار ليس على نمط إيجاد الحيوانات وإيجاد الرواسي لم يتحد اللفظ الدال على ذلك بل جيء بالجعل هناك وبالخلق هنا وكذا قيل وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (كُلٌ) مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، واعتبره صاحب الكشاف مفردا نكرة أي كل واحد من الشمس والقمر. واعترض بأنه قد صرح ابن هشام في المغني بأن المقدر إذا كان مفردا نكرة يجب الإفراد في الضمير العائد على كل كما لو صرح به وهنا قد جمع فيجب على اعتباره جمعا معرفا أي كلهم ومتى اعتبر كذلك وجب عند ابن هشام جمع العائد وإن كان لو ذكر لم يجب ، ووجوب الإفراد في المسألة الأولى والجمع في الثانية للتنبيه على حال المحذوف.

وأبو حيان يجوز الإفراد والجمع مطلقا فيجوز هنا اعتبار المضاف إليه مفردا نكرة مع جمع الضمير بعد كما فعل الزمخشري وهو من تعلم علو شأنه في العربية ، وقوله سبحانه : (فِي فَلَكٍ) خبره ، ووجه إفراده ظاهر لأن النكرة المقدرة للعموم البدلي لا الشمولي ، ومن قدر جمعا معرفا قال : المراد به الجنس الكلي المؤول بالجمع نحو كساهم حلة بناء على أن المجموع ليس في فلك واحد. وقوله عزوجل : (يَسْبَحُونَ) حال ؛ ويجوز أن يكون الخبر و (فِي فَلَكٍ) حالا أو متعلقا به وجملة (كُلٌ) إلخ حال من الشمس والقمر والرابط الضمير دون واو بناء على جواز ذلك من غير قبح ، ومن استقبحه جعلها مستأنفة وكان ضميرهما جمعا اعتبارا للتكثير يتكاثر المطالع فيكون لهما نظرا إلى مفهومهما الوضعي أفراد خارجية بهذا الاعتبار لا حقيقة ، ولهذا السبب يقال شموس وأقمار وإن لم يكن في الخارج إلا شمس واحدة وقمر واحد والذي حسن ذلك هنا توافق الفواصل ، وزعم بعضهم أنه غلب القمران لشرفهما على سائر الكواكب فجمع الضمير لذلك. وقيل : الضمير للنجوم وإن لم تذكر لدلالة ما ذكر عليها.

وقيل الضمير للشمس والقمر والليل والنهار ، وفيه أن الليل والنهار لا يحسن وصفهما بالسباحة وإن كانت مجازا عن السير ، واختيار ضمير العقلاء إما لأنهما عقلاء حقيقة كما ذهب إليه بعض المسلمين كالفلاسفة ، وإما لأنهما عقلاء ادعاء وتنزيلا حيث نسب إليهما السباحة وهي من صنائع العقلاء ، والفلك في الأصل كل شيء دائر ومنه فلكة المغزل والمراد به هنا على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم السماء.

٣٨

وقال أكثر المفسرين : هو موج مكفوف تحت السماء يجري فيه الشمس والقمر. وقال الضحاك : هو ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم ، والمشهور ما روي عن ابن عباس والسدي وفيه القول باستدارة السماء وفي «كل في فلك» رمز خفي إليه فإنه لا يستحيل بالانقلاب وعليه أدلة جمة. وكونها سقفا لا يأبى ذلك ، وقد وقع في كلام الفلاسفة إطلاق الفلك على السماء ووصفوه بأنه حي عالم متحرك بالإرادة حركة مستديرة لا غير ولا يقبل الكون والفساد والنمو والذبول والخرق والالتئام ونوعه منحصر في شخصه وأنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس ولا خفيف ولا ثقيل ، وأكثر هذه الأوصاف متفرع على أنه ليس في طباعه ميل مستقيم ، وقد رد ذلك في الكتب الكلامية وبنوا على امتناع الخرق والالتئام أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة الفلك ولما رأوا حركات مختلفة قالوا بتعدد الأفلاك ، والمشهور أن الأفلاك الكلية تسعة سبعة للسبع السيارة وواحد للثوابت وآخر لتحريك الجميع الحركة اليومية ، والحق أنه لا قاطع على نفي ما عدا ذلك ألا ترى أن الشيخ الرئيس لم يظهر له أن الثوابت في كرة واحدة أو في كرات منطو بعضها على بعض ، وقولهم إن حركات الثوابت متشابهة ومتى كانت كذلك كانت مركوزة في فلك واحد غير يقيني أما صغراه فلأن حركاتها وإن كانت في الحس متشابهة لكن لعلها لا تكون في الحقيقة كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحدة منها تتم الدورة في ست وثلاثين ألف سنة والأخرى تتممها في هذا الزمان لكن بنقصان عاشرة أو أقل فالذي يخص الدرجة الواحدة من هذا القدر من التفاوت يقل جدا بحيث لا تفي أعمارنا بضبطه وإذا احتمل ذلك سقط القطع بالتشابه ، ومما يزيد ذلك سقوطا والاحتمال قوة وجدان المتأخرين من أهل الأرصاد كوكبا أسرع حركة من الثوابت وأبطأ من السيارة سموه بهرشل ولم يظفر به أحد من المتقدمين في الدهور الماضية ، وأما كبراه فلاحتمال اشتراك الأشياء المختلفة في كثير من اللوازم فيجوز أن لكل فلكا على حدة وتكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وبطنا ، ثم إن الاحتمال غير مختص بفلك الثوابت بل حاصل في كل الأفلاك فيجوز أن يكون بين أفلاك السيارة أفلاك أخر ، وما يقال في إبطاله من أن أقرب قرب كل كوكب يساوي أبعد بعد كل الكواكب التي فرضت تحته ليس بشيء لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر ، وقد ذكر المحققون من أصحاب الهيئة أن الفلك التدوير لكل من العلوية ثلاث أكر محيط بعضها ببعض وجرم الكوكب مركوز في الكرة الداخلة فيكون مقدار ثخن أربع كرات من تلك التداوير من كل واحد من السافل والعالي ثخن كرتين حائلا بين أقرب قرب العالي وأبعد بعد السافل ، وأثبتوا للسفلية خمسة تداوير فيكون بين أقرب قرب الزهرة وأبعد بعد عطارد ثخن ثمان كرات على أنهم إنما اعتقدوا أن أقرب قرب العالي مساو لأبعد بعد السافل لاعتقادهم أولا أنه ليس بين هذه الأفلاك ما يتخللها فليس يمكنهم بناء ذلك عليه وإلا لزم الدور بل لا بد فيه من دليل آخر ، وقولهم لا فضل في الفلكيات مع أنه كما ترى يبطله ما قالوا في عظم ثخن المحدد ؛ ويجوز أيضا أن يكون فوق التاسع من الأفلاك ما لا يعلمه إلا الله تعالى بل يحتمل أن يكون هذا الفلك التاسع بما فيه من الكرات مركوزا في ثخن كرة أخرى عظيمة ويكون في ثخن تلك الكرة ألف ألف كرة مثل الكرات وليس ذلك مستبعدا فإن تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس فإذا عقل ذلك فأي بأس بأن يفرض مثله مما هو أعظم منه. ويجوز أيضا كما قيل أن تكون الأفلاك الكلية ثمانية لا مكان كون جميع الثوابت مركوزة في محدث ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أن يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة بل قيل من الجائز أن تكون سبعة بأن تفرض الثوابت ودوائر البروج على محدب ممثل زحل ونفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين السريعة والبطيئة والأخرى بالفلك السابع وتحركه الأخرى فلا قاطع أيضا على نفي أن تكون الأفلاك أقل من تسعة.

٣٩

ثم الظاهر من الآية أن كلا من الشمس والقمر يجري في ثخن فلكه ولا مانع منه عقلا ودليل امتناع الخرق والالتئام وهو أنه لو كان الفلك قابلا لذلك لكان قابلا للحركة المستقيمة وهي محال عليه غير تام وعلى فرض تمامه إنما يتم في المحدد على أنه يجوز أن يحصل الخرق في الفلك من جهة بعض أجزائه على الاستدارة فلا مانع من أن يقال : الكواكب مطلقا متحركة في أفلاكها حركة الحيتان في الماء ولا يبطل به علم الهيئة لأن حركاتها يلزم أن تكون متشابهة حول مراكز أفلاكها أي لا تسرع ولا تبطئ ولا تقف ولا ترجع ولا تنعطف ، وقول السهروردي في المطارحات : لو كانت الأفلاك قابلة للخرق وقد برهن على كونها ذات حياة فعند حصول الخرق فيها وتبدد الأجزاء فإن لم تحس فليس جزؤها المنخرق له نسبة إلى الآخر بجامع إدراكي ولا خبر لها عن أجزائها وما سرى لنفسها قوة في بدنها جامعة لتلك الأجزاء فلا علاقة لنفسها مع بدنها ، وقد قيل إنها ذات حياة وإن كانت تحس فلا بد من التألم بتبديد الأجزاء فإنه شعور بالمنافي وكل شعور بالمنافي إما ألم أو موجب لألم وإذا كان كذا وكانت الكواكب تخرقها بجريها كانت في عذاب دائم ، وسنبرهن على أن الأمور الدائمة غير الممكنة الإشراف لا يتصور عليها لا يخفى أنه من الخطابيات بل مما هو أدون منها.

وزعم بعضهم أنه من البراهين القوية مما لا برهان عليه من البراهين الضعيفة ، وادّعى الإمام أنها كما تدل على جري الكوكب تدل على سكون الفلك ، والحق أنها مجملة بالنسبة إلى السكون غير ظاهرة فيه ، وإلى حركته وسكون الفلك بأسره ذهب بعض المسلمين ويحكى عن الشيخ الأكبر قدس‌سره ، ويجوز أن يكون الفلك متحركا والكوكب يتحرك فيه إما مخالفا لجهة حركته أو موافقا لها إما بحركة مساوية في السرعة والبطء لحركة الفلك أو مخالفة ، ويجوز أيضا أن يكون الكوكب مغروزا في الفلك ساكنا فيه كما هو عند أكثر الفلاسفة أو متحركا على نفسه كما هو عند محققيهم والفلك بأسره متحركا وهو الذي أوجبه الفلاسفة لما لا يسلم لهم ولا يتم عليه برهان منهم.

ويجوز أيضا أن يكون الكوكب في جسم منفصل عن ثخن الفلك شبيه بحلقة قطرة مساو لقطر الكوكب وهو الذي يتحرك به ويكون الفلك ساكنا ويجوز أيضا أن يكون في ثخن الفلك خلاء يدور الكوكب فيه مع سكون الفلك أو حركته وليس في هذا قول بالخرق والالتئام بل فيه القول بالخلاء وهو عندنا وعند أكثر الفلاسفة جائز خلافا لأرسطاطاليس وأتباعه ، ودليل الجواز أقوى من صخرة ملساء ، والقول بأن الفلك بسيط فبساطته مانعة من أن يكون في ثخنه ذلك ليس بشيء فما ذكروه من الدليل على البساطة على ضعفه لا يتأتى إلا في المحدد دون سائر الأفلاك ، وأيضا متى جاز أن يكون الفلك مجوفا مع بساطته فليجز ما ذكر معها ولا يكاد يتم لهم التقصي عن ذلك ، وجاء في بعض الآثار أن الكواكب جميعها معلقة بسلاسل من نور تحت سماء الدنيا بأيدي ملائكة يجرونها حيث شاء الله تعالى ، ولا يكاد يصح وإن كان الله عزوجل على كل شيء قديرا ، والذي عليه معظم الفلاسفة والهيئيين أن الحركة الخاصة بالكوكب الثابتة لفلكه أولا وبالذات آخذه من المغرب إلى المشرق وهي الحركة على توالي البروج وتسمى الحركة الثانية والحركة البطيئة وهي ظاهرة في السيارات وفي القمر منها في غاية الظهور وفي الثوابت خفية ولهذا لم يثبتها المتقدمون منهم ، وغير الخاصة به الثابتة لفلكه ثانيا وبالعرض آخذة من المشرق إلى المغرب وتسمى الحركة الأولى والحركة السريعة وهي بواسطة حركة المحدد وبها يكون الليل والنهار في سائر المعمورة ، وأما في عرض تسعين ونحوه ففي الحركة الثانية فعندهم للكوكب حركتان مختلفتان جهة وبطأ ومثلوهما بحركة رحى إلى جهة سريعا وحركة نملة عليها إلى خلاف تلك الجهة بطيئا.

وذهب بعض الأوائل إلى أنه لا حركة في الأجرام العلوية من المغرب إلى المشرق بل حركاتها كلها من

٤٠