روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة ، ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة الذين إلخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل (الَّذِينَ) حرفا مصدريا لا اسما موصولا وضمير (تابُوا) عائدا على (أُولئِكَ) وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغا متصلا لا منقطعا انتهى فتأمل.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) [النور : ٦. ٢٠] بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة وهو ناسخ لعموم المحصنات وكانوا قبل نزول هذه الآية يفهمون من آية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) إلخ أن حكم [النور : ٤] من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء فقد أخرج أبو داود وجماعة عن ابن عباس قال : لما نزلت و (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤] الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته فقال : سعد والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من عند الله تعالى ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال : فما لبثوا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فغدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول إني جئت أهلي (١) عشاء فوجدت عندها رجلا (٢) فرأيت بعيني

__________________

(١) اسمها خولة بنت عاصم ا ه منه.

(٢) هو شريك بن سحماء كما في صحيح البخاري ا ه منه.

٣٠١

وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله عليه الصلاة والسلام هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله تعالى لي منها مخرجا فقال : يا رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله تعالى يعلم إني لصادق فو الله إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوحي وكان إذا نزل عليه عليه الصلاة والسلام الوحي عرفوا ذلك في تربد جلده فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الآية فسري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبشر يا هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي ، وقال عليه الصلاة والسلام أرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال : هلال والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لاعنوا بينهما» الحديث ، ومنه وكذا من رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه والترمذي : وابن ماجة يعلم أن قصة هلال سبب نزول الآية ، وقيل : نزلت في عاصم بن عدي ، وقيل : في عويمر بن نصر العجلاني ؛ وفي صحيح البخاري ما يشهد له بل قال السهيلي إن هذا هو الصحيح ونسب غيره للخطإ ، والمشهور كما في البحر أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر ، وأخرج أبو يعلى. وابن مردويه عن أنس أنه قال : لأول لعان كان في الإسلام ما وقع بين هلال بن أمية وزوجته ، ونقل الخفاجي هنا عن السبكي إشكالا وأنه قال : إنه إشكال صعب وارد على آية اللعان والسرقة والزنا وهو أن ما تضمن الشرط نص في العلية مع الفاء ومحتمل لها بدونها ولتنزيله منزلة الشرط يكون ما تضمنه من الحدث مستقبلا لا ماضيا فلا ينسحب حكمه على ما قبله ولا يشمل ما قبله من سبب النزول ، وتعقبه بأنه لا صعوبة فيه بل هو أسهل من شرب الماء البارد في حر الصيف لأن هذا وأمثاله معناه إن أردتم معرفة هذا الحكم فهو كذا فالمستقبل معرفة حكمه وتنفيذه وهو مستقبل في سبب النزول وغيره ، والقرينة على أن المراد هذا أنها نزلت في أمر ماض أريد بين حكمه ولذا قالوا : دخول سبب النزول قطعي.

ولا حاجة إلى القول بأن الشرط قد يدخل على الماضي ولا أن ما تضمن الشرط لا يلزمه مساواته لصريحه من كل وجه ولا أن دخول ما ذكر بدلالة النص لفساده هنا انتهى ، ثم إن المراد هنا نظير ما مر والذين يرمون بالزنا أزواجهم المدخول بهن وغير المدخول بهن وكذا المعتدات في طلاق رجعي (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) أربعة يشهدون بما رموهن به من الزنا. وقرئ «تكن» بالتاء الفوقية وقراءة الجمهور أفصح (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بدل من (شُهَداءُ) لأن الكلام غير موجب والمختار فيه الإبدال أو إلا بمعنى غير صفة لشهداء ظهر إعرابها على ما بعدها لكونها على صورة الحرف كما قالوا في أل الموصولة الداخلة على أسماء الفاعلين مثلا ، وفي جعلهم من جملة الشهداء إيذان كما قيل من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله سبحانه : (أَرْبَعُ شَهاداتٍ) خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات (بِاللهِ) متعلق بشهادات ، وجوز بعضهم تعلقه بشهادة.

وتعقب بأنه يلزم حينئذ الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو الخبر ، وأنت تعلم أن في كون الخبر أجنبيا كلاما وأن بعض النحويين أجاز الفصل مطلقا وبعضهم أجازه فيما إذا كان المعمول ظرفا كما هنا.

وقرأ الأكثر «أربع» بالنصب على المصدرية والعامل فيه «شهادة» وهي خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أو مبتدأ خبره محذوف أي فعليهم شهادة أو فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله واجبة أو كافية ، ولا خلاف في جواز تعلق الجار على هذه القراءة بكل من الشهادة والشهادات وإنما الخلاف في الأولى (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما

٣٠٢

رماها به من الزنا ، والأصل على أنه إلخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها باللام للتأكيد ، ولا يختص التعليق بأفعال القلوب بل يكون فيما يجري مجراها ومنه الشهادة لإفادتها العلم ، وجوز أن تكون الجملة جوابا للقسم بناء على أن الشهادة هنا بمعنى القسم حتى قال الراغب. إنه يفهم منها ذلك وإن لم يذكر (بِاللهِ) وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك (وَالْخامِسَةُ) أي والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمسا بانضمامها إليهن ، وإفرادها مع كونها شهادة أيضا لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصده بالشهادة من تحقيق الخبر وإظهار الصدق ، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنا (وَيَدْرَؤُا) أي يدفع (عَنْهَا الْعَذابَ) أي العذاب الدنيوي وهو الحبس عندنا والحد عند الشافعي ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام فيه (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ) أي الزوج (لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنا (وَالْخامِسَةَ) بالنصب عطفا على (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) وقوله تعالى : (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) أي الزوج (مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزنا بتقدير حرف الجر أي بأن غضب إلخ ، وجوز أن تكون (أَنَ) وما بعدها بدلا من (الْخامِسَةَ) وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه جل جلاله.

وقرأ طلحة والحسن والأعمش وخالد بن إياس بنصب (الْخامِسَةُ) في الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني ، وأما وجه النصب في الأول فهو عطف (الْخامِسَةَ) على (أَرْبَعَ شَهاداتٍ) على قراءة من نصب (أَرْبَعَ) وجعلها مفعولا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على قراءة من رفع (أَرْبَعَ) أي ويشهد الخامسة ، والكلام في (أَنَّ لَعْنَتَ) إلخ كما سمعت في (أَنَّ غَضَبَ) إلخ. وقرأ نافع أن لعنة بتخفيف أن ورفع لعنة وأن غضب بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة ، وأن في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ؛ ولم يؤت بأحد الفواصل بين قد والسين ولا بينها وبين الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك نظير قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [النمل : ٨] فلا غرابة في هذه القراءة خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.

وقرأ الحسن وأبو رجاء ، وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما «أن لعنة» كقراءة نافع و «أن غضب» بتخفيف «أن» و «غضب» مصدر مرفوع ، هذا ظاهر قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) العموم والمذكور في كتب الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو محدودا في قذف ، ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا وتهمته بأن لم توطأ حراما لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد ولم يكن لها ولد بلا أب معروف في بلد القذف ، واشتراط هذا لأن اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا ألا ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع وزوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن بل لا بد أن يلاعن كلا منهن ، ولو قذف أربع أجنبيات كذلك حد حدا واحدا بهن ، فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد ليقام اللعان مقامه ، وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا خلافا للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد فيقع ممن كان أهلا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه فهو أهل اللعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو عبدا.

٣٠٣

واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله سبحانه : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) وذلك أن قوله تعالى : (بِاللهِ) محكم في اليمين والشهادة محتملة لليمين ألا يرى أنه لو قال : أشهد ينوي به اليمين كان يمينا فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه ، وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن تكرره معهود في القسامة ، ولأن الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من الموجبين.

واستدل أصحابنا على أنه شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضا لأن الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أثبت أنهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازا عن الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود له أصلا فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه وتكرر الأداء لا عهد بهما قلنا : وكل من الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز أيضا شرعية ذلك ابتداء بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال الله عزوجل : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة حد على الآخر وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر ، وإنما قيل عندهما ولم يقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما ، وأما قوله : واليمين للنفي إلخ فمحله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة ، والحق أنها على ما وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر.

وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا : إن اللعان يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك. ودفع بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين نفسه وزوجته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها ، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني الأهلية فقال : ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء بشهادته ، ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله : لو قضى بشهادة المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه ، ويشترط كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بالقذف باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية وتعريضا والقذف بصريحه نحو أن يقال : أنت زانية أو يا زانية أو رأيتك تزنين ، والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد

٣٠٤

والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول الليث وعثمان ويحيى بن سعيد ، وضعف بأن الكل رمي بالزنا وهو السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق ، وبمنزلة القذف بالصريح نفي نسب ولدها منه أو من غيره.

وفي المحيط والمبتغى إذا نفى الولد فقال : ليس هذا بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر ، ويشترط في وجوب اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك قالت الأئمة الثلاثة أيضا ، وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط طلب القاذف لأنه حقه أيضا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو منه ، فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت آية الملاعنة : «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله تعالى في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عزوجل عنه يوم القيامة وفضحه على رءوس الأولين والآخرين» وإن احتمل أن يكون الولد منه فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الاحتمال وضعفه ، وقد يضعف الاحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه فعن أبي هريرة «أن رجلا قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال : هل لك من إبل؟ قال : نعم قال ما ألوانها؟ قال : حمر قال : فهل فيها أورق؟ قال : نعم قال : فكيف ذلك؟ قال : نزعه عرق قال : فلعل هذا نزعه عرق» وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة النفي وعدمها ، وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما روي من «أن رجلا قال : يا رسول الله إن امرأتي لا ترديد لامس قال طلقها قال : إني أحبها قال فأمسكها» وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث مع عدم التحقق لا يباح ذلك ، والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود ، وما في النهر والدر المنتقى من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرا وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له أو أقام البينة على ذلك ثم عمي الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذ لا يقضى باللعان فإن امتنع حد حد القذف وكذا إذا لاعن فامتنعت تحد عنده حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب لعانهما وهو التكاذب على ما قيل ، والأوجه كون السبب القذف والتكاذب شرطه : وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق المذكور ليس بإقرار قصدا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في كافي الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد ولا لعان أيضا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي الوقاية والنقاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه عليه في شرح الدرر والغرر.

ووجه قول الشافعي بالحد عند الامتناع أن الواجب بالقذف مطلقا الحد لعموم قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة باللعان تخفيفا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن بعد ما أوجب الزوج عليها اللعان بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ووجه قولنا إن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) إلى قوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ)

٣٠٥

إلخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون ناسخا أو مخصصا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخا لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون متراخي النزول وعلى التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الامتناع عن إيفائه بل يحبس لإيفائه كما في كل حق امتنع من هو عليه عن إيفائه ولم يتعين كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه.

قيل : والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبدا فاسقا ، وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة ، فإن قال : إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا : هو أيضا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارا فيه شبهة والحد مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة ، ثم إن هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتا وأكثرها شروطا انتهى ، وليراجع في ذلك كتب الشافعية. وفي النهر نقلا عن الأسبيجابي أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد الثبوت ، ثم قال : وينبغي حمله على ما ذا لم تعف المرأة كما في البحر ، وعندي في حبسها بعد امتناعه نوع إشكال لأن اللعان لا يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعا لحق وجب عليها انتهى.

وأجاب الطحاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الامتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو فقط فلا تحبس انتهى.

وقيل : ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل.

والمتبادر من الشهادة ما كان قولا حقيقة ، ولذا قالوا : لا لعان لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد ، وعلل أيضا بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقا والحد يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرس في هذا الفصل كإشارته لا يعول عليها ، وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق ولا حد ، ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد وبه قال مالك.

وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادتها تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له ، ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من المالكية ، والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد الرمي ، وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع ، وهذا نظير ما قرره بعض أجلّة الأصحاب في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] الآية في بيان أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية ، وظاهر الآية أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن تأتي بضمير المخاطب ، ففي الهداية صفة للعان أن يبتدئ به القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد

٣٠٦

بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة : غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا والأصل فيه الآية ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يأتي بلفظة المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا أي وتأتي هي بذلك أيضا وتقول : إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وهو احتمال إضمار مرجع للضمير الغائب غير المراد ، ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال ، وعن الليث أنه يكتفى في اللعان بالكيفية المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب بضمير المتكلم في شهادته مطلقا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها الخامسة فتدخل على (علي) ياء الضمير ، والمراد من الاكتفاء بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في شهادتها ، وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت به في النظم الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل ، وليس في الآية التفات أصلا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر ، وأما ما أشير من عدم الاحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض الروايات ، وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي الولد بعد قوله : لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد وأنها تزيد بعد لمن الكاذبين قولها : فيما رميتني به من نفي الولد : ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمران ، ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول : أشهد بالله إني رأيتها تزني والملاعنة تقول أشهد بالله ما رآني أزني وعن الشافعي أن الزوج يقول : أشهد بالله إني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذ يقول الخامسة ويأتي بياء الضمير مع (على) وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا أو اثنين في كل شهادة ، وإن نفى ولدها زاد وإن هذا الولد ولد زنا ما هو مني ، والتخويف بالله عزوجل مشروع في حق المتلاعنين ، فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له : اتق الله تعالى واحذر عقابه فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب ، وقيل : نحو ذلك لامرأته عند الخامسة أيضا.

وفي ظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة عند لعانها ، والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع التلاعن تثبت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة ، ولو فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح ، ويشترط كون التفريق بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله ، ولو زالت أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلّا لا ، وقال زفر : تقع الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدا وتثبت بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الأئمة الثلاثة ، وأدلة هذه الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة ، واستدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن قوله : (لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه عن التعيين ، نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقا فلو كان كاذبا فلا يحل له ، واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلا من اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة وهو لا يكون

٣٠٧

إلا لكافر والغضب أعظم منه ، وفيه أنه لا يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة الملعون ، وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من اللعن والله تعالى أعلم.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) التفات إلى خطاب الرامين والمرميات بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه ، وجواب (لَوْ لا) محذوف لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه ، وهذا الحذف شائع في كلامهم.

قال جرير :

كذب العواذل لو رأين مناخنا

بحزيز رامة والمطي سوام

ومن أمثالهم لو ذات سوار لطمتني فكأنه قيل : لو لا تفضله تعالى عليكم ورحمته سبحانه وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان مما لا يحيط به نطاق البيان ، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة ، وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر إليها ، ولو جعل شهاداته موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له ، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة ، فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية ، وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على الصادق فظاهر ؛ وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبئ عنه التعرض لعنوان توابيته تعالى فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته قال شيخ الإسلام ، وعن ابن سلام تفسير الفضل بالإسلام ولا يخفى أنه مما لا يقتضيه المقام ، وعن أبي مسلم أنه أدخل في الفضل النهي عن الزنا ويحسن ذلك لو جعلت الجملة تذييلا لجميع ما تقدم من الآيات وفيه من البعد ما فيه (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وكثيرا ما يفسر بالكذب مطلقا ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك ، وجوز فيه فتح الهمزة والفاء وأصله من الأفك بفتح فسكون وهو القلب والصرف لأن الكذب مصروف عن الوجه الذي يحق ، والمراد به ما افك به الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على أن اللام فيه للعهد ، وجوز حمله على الجنس قيل فيفيد القصر كأنه لا إفك إلا ذلك الإفك ، وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل ، وتفصيل القصة ما أخرجه البخاري وغيره عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه. قالت عائشة. فأقرع بيننا في غزوة (١) غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما

__________________

(١) هي غزوة بني المصطلق وكانت في سنة ست ا ه منه.

٣٠٨

نأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيّ من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلم ثم يقول : كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت : قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت : فأذن لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي (١) : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية هوني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت : فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال : يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا وأما عليّ بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان

__________________

(١) هي أم رومان زينب بنت دهمان ا ه منه.

٣٠٩

من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت : فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت : فأصبح أبواي عندي قد وبكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظناني أن البكاء فالق كبدي قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلم ثم جلس قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت : فتشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه قالت : فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي : أجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قال قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي : أجيبي رسول الله قالت : ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم : إني برية والله يعلم أني برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه برية لتصدقني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٨] فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني برية وأن الله يبرئني ببراءتي ولكن ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فو الله ما رام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه قالت : فلما سري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها : يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله وأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) العشر الآيات كلها ، والظاهر أن قوله تعالى :

(عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) خبر إن وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء ، وقال ابن عطية : هو بدل من ضمير «جاءوا» والخبر جملة قوله تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) والتقدير إن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون (عُصْبَةٌ) الخبر انتهى ، ولا يخفى أنه تكلف ، والفائدة في الاخبار على الأول قيل : التسلية بأن الجائين بذلك الإفك فرقة متعصبة متعاونة وذلك من أمارات كونه إفكا لا أصل له ، وقيل : الأولى أن تكون التسلية بأن ذلك مما لم يجمع عليه بل جاء به شرذمة منكم ، وزعم أبو البقاء أنه بوصف العصبة بكونها منهم أفاد الخبر ، وفيه نظر.

والخطاب في (مِنْكُمْ) على ما أميل إليه لمن ساءه ذلك من المؤمنين ويدخل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وأم رومان وعائشة وصفوان دخولا أوليا ، وأصل العصبة الفرقة المتعصبة قلت أو كثرت وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين وعليه اقتصر في الصحاح ، وتطلق على أقل من ذلك ففي مصحف حفصة عصبة أربعة. وقد صح أن عائشة رضي الله تعالى عنها عدت المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله تعالى عنها وزوجة طلحة بن عبيد الله ومسطح بن أثاثة. وحسان بن ثابت ، ومن الناس من برأ حسان وهو خلاف ما في صحيح البخاري وغيره.

نعم الظاهر أنه رضي الله تعالى عنه لم يتكلم به عن صميم قلب وإنما نقله عن ابن أبيّ لعنه الله تعالى ، وقد جاء أنه رضي الله تعالى عنه اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها فقال :

٣١٠

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصبا

نبي الهدى ذي المكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب

كرام المساعي مجدهم غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها

وطهرها من كل سوء وباطل

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا

فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس كلهم

تقاصر عنه سورة المتطاول

فإن الذي قد قيل ليس بلائط

ولكنه قول امرئ بي (١) ماحل

وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تكرمه بعد ذلك وتذكره بخير وإن صح أنها قالت له حين أنشدها أول هذه الأبيات : لكنك لست كذلك ، فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تأذن لحسان وتدعو له بالوسادة وتقول : لا تؤذوا حسانا فإنه كان ينصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسانه.

وأخرج ابن جرير من طريق الشعبي عنها أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

هجوت محمدا وأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

فإن أبي ووالدتي وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدره الدلاء

وعد بعضهم مع الأربعة المذكورين زيد بن رفاعة ولم نر فيه نقلا صحيحا ، وقيل إنه خطأ ، ومعنى «منكم» من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام سواء كان كذلك في نفس الأمر أم لا فيشمل ابن أبيّ لأنه ممن ينتمي إلى الإسلام ظاهرا وإن كان كافرا في نفس الأمر : وقيل إن قوله تعالى : (مِنْكُمْ) خارج مخرج الأغلب وأغلب أولئك العصبة مؤمنون مخلصون ، وكذا الخطاب في (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) وقيل : الخطاب في الأول للمسلمين وفي هذا لسيد المخاطبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والكلام مسوق لتسليتهم.

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير أن الخطاب في الثاني لعائشة وصفوان ، وأبعد عن الحق من زعم أنه للذين جاءوا بالإفك وتكلف للخيرية ما تكلف ، ولعل نسبته إلى الحسن لا تصح ، والظاهر أن ضمير الغائب في (لا تَحْسَبُوهُ) عائد على الإفك.

وجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من (جاؤُ) وعلى ما نال المسلمين من الغم والكل كما ترى ، وعلى ما ذهب إليه ابن عطية يعود على المحذوف المضاف إلى اسم إن الذي هو الاسم في الحقيقة ؛ ونهوا عن حسبان ذلك شرا لهم إراحة لبالهم بإزاحة ما يوجب استمرار بلبالهم ، وأردف سبحانه النهي عن ذلك بالإضراب بقوله عزوجل : (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) اعتناء بأمر التسلية ، والمراد بل هو خير عظيم لكم لنيلكم بالصبر عليه الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله عزوجل بإنزال ما فيه تعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم بما أحزنكم ، والآيات

__________________

(١) يقال محل به إذا سعى إلى السلطان فهو ماحل ا ه منه

٣١١

المنزلة في ذلك على ما سمعت آنفا عن عائشة رضي الله تعالى عنها عشر.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال : نزلت ثماني عشرة آية متواليات بتكذيب من قذف عائشة وبراءتها. وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال : إنه سبحانه أنزل فيها خمس عشرة آية من سورة النور ثم قرأ حتى بلغ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور : ٢٦] وكأن الخلاف مبني على الخلاف في رءوس الآي ، وفي كتاب العدد للداني ما يوافق المروي عن ابن جبير.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من الذين جاءوا بالإفك (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض فيه فإن بعضهم تكلم وبعضهم ضحك كالمعجب الراضي بما سمع وبعضهم أكثر وبعضهم أقل.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) بكسر الكاف. وقرأ الحسن والزهري وأبو رجاء ومجاهد والأعمش وأبو البرهسم وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وعمرة بنت عبد الرحمن وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو «كبره» بضم الكاف وهو ومكسورها مصدران لكبر الشيء عظم ومعناهما واحد ، وقيل : الكبر بالضم المعظم وبالكسر البداءة بالشيء ، وقيل : الإثم ، والجمهور على الأول أي والذي تحمل معظمه (مِنْهُمْ) أي من الجائين به (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط ، وفي التعبير بالموصول وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى ، والمراد بالذي تولى كبره كما في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عبد الله بن أبي عليه اللعنة وعلى ذلك أكثر المحدثين.

وكان لعنه الله تعالى يجمع الناس عنده ويذكر لهم ما يذكر من الإفك وهو أول من اختلقه وأشاعه لإمعانه في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعذابه في الآخرة بعد جعله في الدرك الأسفل من النار لا يقدر قدره إلا الله عزوجل ، وأما في الدنيا فوسمه بميسم الذل وإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد وحده حدين على ما أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن نزلت الآيات خرج إلى المسجد فدعا أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله تعالى من البراءة لعائشة وبعث إلى عبد الله بن أبيّ فجيء به فضربه عليه الصلاة والسلام حدين وبعث إلى حسان ومسطح وحمنة فضربوا ضربا وجيعا ووجئوا في رقابهم ، وقيل : حد حدا واحدا ، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه فسر العذاب في الدنيا بجلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه ثمانين جلدة وعذابه في الآخرة بمصيره إلى النار ، وقيل : إنه لم يحد أصلا لأنه لم يقر ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة كما أنه لم يلتزم إقامة البينة على نفاقه وصدور ما يوجب قتله لذلك وفيه نظر.

وزعم بعضهم أنه لم يحد مسطح ، وآخرون أنه لم يحد أحدا ممن جاء بالإفك إذ لم يكن إقرار ولم يلتزم إقامة بينة. وفي البحر أن المشهور حد حسان ومسطح وحمنة ، وقد أخرجه البزار وابن مردويه بسند حسن عن أبي هريرة ، وقد جاء ذلك في أبيات ذكرها ابن هشام في ملخص السيرة لابن إسحاق وهي :

لقد ذاق حسان الذي كان أهله

وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب أمر نبيهم

وسخطة ذي العرش الكريم فأنزحوا

وآذوا رسول الله فيها فجللوا

مخازي بغي يمحوها وفضحوا

وصب عليهم محصدات كأنها

شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

وقيل : الذي تولى كبره حسان واستدل بما في صحيح البخاري أيضا عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فشبب وقال : حصان «البيت» قالت : لكنك لست كذلك قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله

٣١٢

تعالى (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وجاء في بعض الأخبار أنها قيل لها : أليس الله تعالى يقول : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) الآية؟ فقالت : أليس أصابه عذاب عظيم أليس قد ذهب بصره وكسع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربها إياه صفوان حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فإنه يروى أنه ضربه بالسيف على رأسه لذلك والأبيات (١) عرض فيها به وبمن أسلم من العرب من مضر وأنشد :

تلقّ ذباب السيف مني فإنني

غلام إذا هوجيت لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وأتقي

من الباهت الرأي البريء الظواهر

وكاد يقتله بتلك الضربة. فقد روى ابن إسحاق أنه لما ضربه وثب عليه ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال : ما هذا؟ قال : أما أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله فقال له عبد الله : هل علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وبما صنعت؟ قال : لا والله قال : لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه فأتوا رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان : يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا حسان أتشوهت على قومي بعد أن هداهم الله تعالى للإسلام ثم قال : أحسن يا حسان في الذي أصابك فقال : هي لك يا رسول الله فعوضه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها بيرحاء وكان أبو طلحة بن سهل أعطاها إياه عليه الصلاة والسلام ووهبه أيضا سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان.

وفي رواية في صحيح البخاري عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها أنها قالت في (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) هو أي المنافق ابن أبيّ وحمنة ، وقيل : هو وحسان ومسطح ، وعذاب المنافق الطرد وظهور نفاقه وعذاب الأخيرين بذهاب البصر ، ولا يأبى إرادة المتعدد إفراد الموصول لما في الكشف من أن (الَّذِي) يكون جمعا وإفراد ضميره جائز باعتبار إرادة الجمع أو الفوج أو الفريق أو نظرا إلى أن صورته صورة المفرد ، وقد جاء إفراده في قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣] وجمعه في قوله سبحانه : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] والمشهور جواز استعمال «الذي» جمعا مطلقا. واشترط ابن مالك في التسهيل أن يراد به الجنس لا جمع مخصوص فإن أريد الخصوص قصر على الضرورة هذا ولا يخفى أن إرادة الجمع هنا لا تخلو عن بعد ، والذي اختاره إرادة الواحد وأن ذلك الواحد هو عدو الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ابن أبيّ ، وقد روى ذلك الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبد الله بن عتبة وكلهم سمع عائشة تقول : (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) عبد الله بن أبي ، وقد تظافرت روايات كثيرة على ذلك ، والذاهبون إليه من المفسرين أكثر من الذاهبين منهم إلى غيره. ومن الإفك الناشئ من النصب قول هشام بن عبد الملك عليه من الله تعالى ما يستحق حين سئل الزهري عن (الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) فقال له : هو ابن أبيّ كذبت هو علي. يعني به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. وقد روى ذلك عن هشام البخاري والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، ولا بدع من أمويّ الافتراء على أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه. وأنت تعلم أن قصارى ما روي عن الأمير رضي الله تعالى عنه أنه قال لأخيه وابن عمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استشاره يا رسول الله لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.

__________________

(١) ذكر ابن هشام في السيرة ا ه منه.

٣١٣

وفي رواية أنه قال : يا رسول الله قد قال الناس وقد حل لك طلاقها ، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه ضرب بريرة وقال : اصدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس في ذلك شيء مما يصلح مستندا لذلك الأموي الناصبي ، وجل غرض الأمير مما ذكر أن يسري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو فيه من الغم غاية ما في الباب أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسامة وهو أمر غير متعين ، ومن دقق النظر عرف مغزى الأمير كرم الله تعالى وجهه وأنه بعيد عما يزعمه النواصب بعد ما بين المشرق والمغرب فليتدبر (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) التفات إلى خطاب الخائضين ما عدا من تولى كبره منهم ، واستظهر أبو حيان كون الخطاب للمؤمنين دونه ، واختير الخطاب لتشديد ما في لو لا التحضيضية من التوبيخ ، ولتأكيد التوبيخ عدل إلى الغيبة في قوله تعالى : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) لكن لا بطريق الإعراض عن المخاطبين وحكاية جناياتهم لغيرهم بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا وهو الإيمان وكونه مما يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن إساءته بأنفسهم أي بأبناء جنسهم وأهل ملتهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] وقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر وإن قيل بجوازه مما لا ريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى توبيخ الخائضات والمشهور منهن حمنة ؛ ثم إن كان المراد بالإيمان الإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمتصفين به ، وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث إنهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل ، والنكتة في توسيط معمول الفعل المحضض عليه بينه وبين أداة التخصيص وإن جاز ذلك مطلقا أي سواء كان المعمول الوسط ظرفا أو غيره تخصيص التحضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير الإتيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد أن عدم الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان الواجب على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا أول ما سمعوا ذلك الإفك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بأهل ملتهم من آحاد المؤمنين والمؤمنات خيرا (وَقالُوا) في ذلك الآن (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بأم المؤمنين حليلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنت المهاجرين رضي الله تعالى عنهما.

ويجوز أن يكون المعنى هلا ظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوا ذلك خيرا بأهل ملتهم عائشة وصفوان وقالوا إلخ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) إما من تمام القول المحضض عليه مسوق لتوبيخ السامعين على ترك الزام الخائضين أي هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) الأربعة ، وكان الظاهر فإذا لم يأتوا بهم إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل لزيادة التقرير (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الخائضين ، وما فيها من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد أي فأولئك المفسدون (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه وشريعته (هُمُ الْكاذِبُونَ) أي المحكوم عليهم بالكذب شرعا أي بأن خبرهم لم يطابق في الشرع الواقع ، وقيل : المعنى فأولئك في علم الله تعالى هم الكاذبون الذين لم يطابق خبرهم الواقع في نفس الأمر لأن الآية في خصوص عائشة رضي الله تعالى عنها وخبر أهل الإفك فيها غير مطابق للواقع في نفس الأمر في علمه عزوجل.

وتعقب بأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم مع أن ظاهر التقييد بالظرف يأبى ذلك ، وجعله من قبيل قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] خلاف الظاهر ، وأيا ما كان فالحصر للمبالغة ، وإما كلام مبتدأ مسوق من جهته سبحانه وتعالى تقريرا لكون ذلك إفكا (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) أي تفضله سبحانه

٣١٤

(عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) إياكم (فِي الدُّنْيا) بفنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة (وَ) في (الْآخِرَةِ) بضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة ، وفي الكلام نشر على ترتيب اللف ، وجوز أن يتعلق (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بكل من فضل الله تعالى ورحمته ، والمعنى لو لا الفضل العام والرحمة العامة في كلا الدارين (لَمَسَّكُمْ) عاجلا (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك.

والإبهام لتهويل أمره واستهجان ذكره يقال أفاض في الحديث وخاض وهضب واندفع بمعنى ، والإفاضة في ذلك مستعارة من إفاضة الماء في الإناء ، و (لَوْ لا) امتناعية وجوابها (لَمَسَّكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه التوبيخ والجلد ، والخطاب لغير ابن أبي من الخائضين ، وجوز أن يكون لهم جميعا.

وتعقب بأن ابن أبي رأس المنافقين لا حظ له من رحمة الله تعالى في الآخرة لأنه مخلد في الدرك الأسفل من النار (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) بحذف إحدى التاءين و (إِذْ) ظرف للمس ، وجوز أن يكون ظرفا لأفضتم وليس بذاك ، والضمير المنصوب لما أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه ، والتلقي والتلقف والتلقن متقاربة المعاني إلا أن في التلقي معنى الاستقبال وفي التلقف معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي التلقن معنى الحذق والمهارة. وقرأ أبيّ رضي الله تعالى عنه : «تتلقونه» على الأصل ، وشد التاء البزي ، وأدغم الذال في التاء النحويان وحمزة.

وقرأ ابن السميفع «تلقونه» بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى ، وعنه «تلقونه» بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي ، وقرأت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الكلام كذبه حكاه السرقسطي ، وفيه رد على من زعم أن ولق إذا كان بمعنى كذب لا يكون متعديا وهو ظاهر كلام ابن سيده وارتضاءه أبو حيان ولذا جعل ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تلقون فيه ، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقرأ ذلك وتقول : الولق الكذب ، وقال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها.

وقال ابن الأنباري : من ولق الحديث أنشأه واخترعه ، وقيل : من ولق الكلام دبره ، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد وكلام في أثر كلام ويقال : ناقة ولقى سريعة ، ومنه الأولق للمجنون لأن العقل باب من السكون والتماسك والجنون باب من السرعة والتهافت.

وعن ابن جني أنه فسر ما في الآية بما ذكر يكون ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تسرعون فيه أو إليه ، قرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام ساكنة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني «تيلقونه» بتاء فوقانية مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجل ، وعن سفيان بن عيينة سمعت أمي تقرأ «إذ تثقفونه» من ثقفت الشيء إذا طلبته فأدركته جاء مثقلا ومخففا أي تتصيدون الكلام في الإفك من هاهنا ومن هاهنا.

وقرئ «تقفونه» من قفاه إذا تبعه أي تتبعونه.

(وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم فهذا كقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧].

٣١٥

وقال ابن المنير : يجوز أن يكون قوله سبحانه : (تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) توبيخا كقولك : أتقول ذلك بملء فيك فإن القائل ربما رمز وعرض وربما تشدق جازما كالعالم ، وقد قيل هذا في قوله سبحانه : (بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١١٨] وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال فائدة ذكر (بِأَفْواهِكُمْ) أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب لأن القول يطلق على غير الصادر من الأفواه كما في قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقول الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

فهو تأكيد لدفع المجاز. وأنت تعلم أن السياق يقتضي الأول وإليه ذهب الزمخشري ، وكان الظاهر وتقولونه بأفواهكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لما لا يخفى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) سهلا لا تبعة له : (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) أي والحال أنه عند الله عزوجل أمر عظيم لا يقادر قدره في الوزر واستجرار العذاب ، والجملتان الفعليتان معطوفتان على جملة (تَلَقَّوْنَهُ) داخلتان معها في حيز (إِذْ) فيكون قد علق مس العذاب العظيم بتلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير روية وفكر وحسبانهم ذلك مما لا يعبأ به وهو عند الله عزوجل عظيم.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) ممن اخترعه أو المتابع له (قُلْتُمْ) تكذيبا له وتهويلا لما ارتكبه (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ) أي ما يمكننا وما يصدر عنا بوجه من الوجوه التكلم (بِهذا) إشارة إلى القول الذي سمعوه باعتبار شخصه.

وجوز أن يكون إشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس المتصفين بالإحصان محرم شرعا ، وجاء عن حذيفة مرفوعا أنه يهدم عمل مائة سنة فضلا عن تعرض الصديقة حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكلام في توسيط الظرف على نحو ما مر (سُبْحانَكَ) تعجب ممن تفوه به ، وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى شأنه تنزيها له سبحانه من أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه واستعماله فيما ذكر مجاز متفرع على الكناية ، ومثله في استعماله للتعجب لا إله إلا الله ، والعوام يستعملون الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك المقام أيضا ولم يسمع في لسان الشرع بل قد صرح بعض الفقهاء بالمنع منه.

وجوز أن يكون (سُبْحانَكَ) هنا مستعملا في حقيقته والمراد تنزيه الله تعالى شأنه من أن يصم نبيه عليه الصلاة والسلام ويشينه فإن فجور الزوجة وصمة في الزوج تنفر عنه القلوب وتمنع عن اتباعه النفوس ولذا صان الله تعالى أزواج الأنبياء عليهم‌السلام عن ذلك ، وهذا بخلاف الكفر فإن كفر الزوجة ليس وصمة في الزوج ، وقد ثبت كفر زوجتي نوح ولوط عليهما‌السلام كذا قيل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق به ، وعلى هذا يكون (سُبْحانَكَ) تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله سبحانه : (هذا بُهْتانٌ) أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته (عَظِيمٌ) لا يقدر قدره لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها كثيرا ما يكونان باعتبار متعلقاتها ، والظاهر أن التوبيخ للسامعين الخائضين لا للسامعين مطلقا ، فقد روي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها قال : سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن سعيد بن المسيب أنه قال : كان رجلان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا ما ذكر أسامة بن زيد بن حارثة وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : إن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له : يا أبا أيوب ألا تسمع ما يتحدث به الناس؟ فقال : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ، ومنشأ هذا الجزم على ما قاله الإمام الرازي العلم بأن زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون فاجرة ، وعلل بأن ذلك ينفر عن الاتباع فيخل بحكمة البعثة كدناءة الآباء وعهر الأمهات ، وقد نص العلامة الثاني على أن من شروط النبوة السلامة عن ذلك بل عن كل ما ينفر عن الاتباع. واستشكل ذلك بأنه إذا كان ما ذكر شرطا فكيف علمه من سمعت حتى قالوا ما قالوا وخفي الأمر على رسول

٣١٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال كما في صحيح البخاري وغيره : «يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه».

وجاء في بعض الروايات «يا عائشة إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى أستغفر الله تعالى لك» وكذا خفي على صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، فقد أخرج البزار بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه رأسها فقالت : ألا عذرتني فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم؟.

وأجيب بأن ذلك ليس من الشروط العقلية للنبوة كالأمانة والصدق بل هو من الشروط الشرعية والعادية ، كما قال اللقاني فيجوز أن يقال : إنه لم يكن معلوما قبل وإنما علم بعد نزول آيات براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ، وعدم العلم بمثل ذلك لا يقدح في منصب النبوة ، وأما دعوى علم من ذكر به فلا دليل عليها ، وقولهم ذلك يجوز أن يكون ناشئا عن حسن الظن لا عن علم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة ، ويشهد لهذا نظرا إلى بعض القائلين والظاهر تساويهم ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله تعالى عنها؟ قال : بلى وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة يا أم أيوب؟ قالت : لا والله فقال : فعائشة رضي الله تعالى عنها والله خير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل ، وروى قريبا منه الحاكم وابن عساكر أيضا عن أفلح مولى أبي أيوب ، ولعله المعني ببعض الأنصار في الخبر السابق ، ولم يقل صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ذلك لحسن الظن لشدة غيرته عليه الصلاة والسلام والغيور لا يكاد يعول في مثل ذلك على حسن الظن ، ويمكن أن يكون قولهم ذلك ناشئا عن العلم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة بأن يكونوا قد تفطنوا لكون حكمة البعثة تقتضي تلك السلامة وقد يتفطن العالم لما لا يتفطن له من هو أعلم منه.

وجوز أن يدعى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عالما بعدم جواز فجور نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما فيه من النفرة المخلة بحكمة البعثة لكن أراد عليه الصلاة والسلام أن يظهر أمر براءة الصديقة رضي الله تعالى عنها ظهور الشمس في رابعة النهار بحيث لا يبقى فيه خفاء عند أحد من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ، وما عراه من الهم إنما هو أمر طبيعي حصل بسبب خوض المنافقين ومن تبعهم وشيوع ما لا أصل له من الباطل بين الناس ، ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عالما بأن السلامة من المنفر من شروط النبوة لكن خشي من الله عزوجل الذي لا يجب عليه شيء أن لا يجعل ما خاض المنافقون وأتباعهم فيه من المنفر بأن لا يرتب سبحانه خلق النفرة في القلوب عليه ليمنع من الاتباع فتختل حكمة البعثة فداخله عليه الصلاة والسلام من الهم ما داخله وجعل يتتبع الأمر على أتم وجه وما ذلك إلا من مزيد العلم ونهاية الحزم ، ونظيره من وجه خوفه عليه الصلاة والسلام من قيام الساعة عند اشتداد الريح بحيث لا يستطيع أن ينام ما دام الأمر كذلك حتى تمطر السماء.

وقيل يجوز أن لا يعد فجور الزوجة منفرا إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلم لا يجوز أن يقع فيجب طلاقها وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة ، هذا ولا يخفى عليك ما في بعض الاحتمالات من البحث بل بعضها في غاية البعد عن ساحة القبول ، ولعل الحق أنه عليه الصلاة والسلام قد أخفي عليه أمر الشرطية إلى أن اتضح أمر البراءة ونزلت الآيات فيها لحكمة الابتلاء وغيره مما الله تعالى أعلم به. وإن قول أولئك الأصحاب رضي الله تعالى عنهم : سبحانك هذا بهتان عظيم لم يكن ناشئا إلا عن حسن الظن ، ولم يتمسك به صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا يحسم القال والقيل ولا يرد

٣١٧

به شيء من الأباطيل ، ولا ينبغي لمن يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخالج قلبه بعد الوقوف على الآيات والأخبار شك في طهارة نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الفجور في حياة أزواجهن وبعد وفاتهم عنهن ، ونسب للشيعة قذف عائشة رضي الله تعالى عنها بما برأها الله تعالى منه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار وليس في كتبهم المعول عليها عندهم عين منه ولا أثر أصلا ، وكذلك ينكرون ما نسب إليهم من القول بوقوع ذلك منها بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس له أيضا في كتبهم عين ولا أثر.

والظاهر أنه ليس في الفرق الإسلامية من يختلج في قلبه ذلك فضلا عن الإفك الذي برأها الله عزوجل منه.

(يَعِظُكُمُ اللهُ) أي ينصحكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي كراهة أن تعودوا أو لئلا تعودوا أو يعظمكم في العود أي في شأنه وما فيه من الإثم والمضار كما يقال وعظته في الخمر وما فيها من المعار أو يزجركم عن العود على تضمين الوعظ معنى الزجر ، ويقال عاده وعاد إليه وعاد له وعاد فيه بمعنى ، والمراد بأبدا مدة الحياة.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) من باب إن كنت أبا لك فلم لا تحسن إليّ يتضمن تذكيرهم بالإيمان الذي هو العلة في الترك والتهييج لإبرازه في معرض الشك وفيه طرف من التوبيخ.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها ، والمراد بها الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن آداب معاملة المسلمين ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن البيان.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال جميع مخلوقاته جلها ودقها (حَكِيمٌ) في جميع أفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرم من اصطفاه لرسالته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا ، وإظهار الاسم الجليل هاهنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي والإشعار بعلية الألوهية للعلم والحكمة (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) أي يريدون ويقصدون (أَنْ تَشِيعَ) أن تنتشر (الْفاحِشَةُ) أي الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمي بالزنا أو نفس الزنا كما روي عن قتادة ، والمراد بشيوعها شيوع خبرها (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) متعلق بتشيع أي تشيع فيما بين الناس.

وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة أي كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم والمراد بهم المحصنون والمحصنات كما روي عن ابن عباس (لَهُمْ) بسبب ذلك (عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى (وَ) في (الْآخِرَةِ) من عذاب النار ونحوه ، وترتب ذلك على المحبة ظاهر على ما نقل عن الكرماني من أن أعمال القلب السيئة كالحقد والحسد ومحبة شيوع الفاحشة يؤاخذ العبد إذا وطن نفسه عليها ، ويعلم من الآية على أتم وجه سوء حال من نزلت الآية فيهم كابن أبيّ ومن وافقه قلبا وقالبا. وأن لهم الحظ الأوفر من العذابين حيث أحبوا الشيوع وأشاعوا.

وقال بعضهم : المراد من محبة الشيوع الإشاعة بقرينة ترتب العذاب عليها فإنه لا يترتب إلا على الإشاعة دون المحبة التي لا اختيار فيها ، وإن سلم أن المراد بها محبة تدخل تحت الاختيار وهي مما يترتب عليها العذاب قلنا : إن ذلك هو العذاب الأخروي دون العذاب الدنيوي مثل الحد ، وقد فسر ابن عباس وابن جبير العذاب الأليم في الدنيا هنا بالحد وهو لا يترتب على المحبة مطلقا بالاتفاق ، ومن هنا قيل أيضا : إن ذكر المحبة من قبيل الاكتفاء عن ذكر الشيء وهو الإشاعة بذكر مقتضيه تنبيها على قوة المقتضى ، وقيل : إن الكلام على التضمين أي يشيعون الفاحشة محبين شيوعها لأن كلا معنى المحبة والإشاعة مقصودان.

٣١٨

واستشكل تفسير العذاب الأليم في الدنيا بالحد بأنه لا يضم إليه العذاب الأليم في الآخرة لأن الحدود مكفرة. وأجيب بأن حكم الآية مخصوص بمن أشاع ذلك في حق أم المؤمنين ، وقيل : الحد لمن نقل الإفك من المسلمين والعذاب الأخروي لأبي عذرته ابن أبيّ والموصول عام لهما ، على أن في كون الحدود مطلقا مكفرة خلافا فبعضهم قال به فيما عدا الردة وبعضهم أنكره وبعضهم توقف فيه لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا» ولعل الأنسب بمساق النظم الكريم من تقبيح الخائضين في الإفك المشيعين له هو ما ذكرناه أولا ، والمراد بالموصول إما هم على أن يكون للعهد الخارجي كما روي عن مجاهد وابن زيد ؛ والتعبير بالمضارع في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة ، وإما ما يعمهم وغيرهم من كل من يتصف بمضمون الصلة على إرادة الجنس ويدخل أولئك المشيعون دخولا أوليا كما قيل : (وَاللهُ يَعْلَمُ) جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وكذا وجه الحكمة في تغليظ الوعيد (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما يعلمه سبحانه وتعالى.

والجملة اعتراض تذييلي جيء به تقريرا لثبوت العذاب لهم وتعليلا له ، قيل : المعنى والله يعلم ما في ضمائرهم فيعاقبهم عليه في الآخرة وأنتم لا تعلمون ذلك بل تعلمون ما يظهر لكم من أقوالهم فعاقبوا عليه في الدنيا.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) الخطاب على ما أخرج الطبراني عن ابن عباس لمسطح وحسان وحمنة أو لمن عدا ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الخائضين ، وهذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة وقوله سبحانه وتعالى : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف على (فَضْلُ اللهِ) وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة ، وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أنه المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين الصفتين الجليلتين على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلقهما بهم كما أن المراد بالمعطوف عليه وجواب (لَوْ لا) محذوف كما مر

وهذه نظير الآية المارة في آخر حديث اللعان إلا أن في التعقيب بالرءوف الرحيم بدل التواب الحكيم هنالك ما يؤذن بأن الذنب في هذا أعظم وكأنه لا يرتفع إلا بمحض رأفته تعالى وهو أعظم من أن يرتفع بالتوبة كما روي عن ابن عباس من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته والغرض التغليظ فلا تغفل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا

٣١٩

وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٢٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [النور : ٢١. ٢٨] أي لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وما تذرون والكلام كناية عن اتباع الشيطان وامتثال وساوسه فكأنه قيل : لا تتبعوا الشيطان في شيء من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها.

وقرأ نافع والبزي في رواية ابن ربيعة عنه وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة «خطوات» بسكون الطاء وقرئ بفتحها وهو في جميع ذلك جمع خطوة بضم الخاء وسكون الطاء اسم لما بين القدمين ، وأما الخطوة بفتح الخاء فهو مصدر خطا ، والأصل في الاسم إذا جمع أن تحرك عينه فرقا بينه وبين الصفة فيضم اتباعا للفاء أو بفتح تخفيفا وقد يسكن (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وضع الظاهران موضع ضميري الخطوات والشيطان حيث لم يقل ومن يتبعها أو من يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) هو ما أفرط قبحه كالفاحشة (وَالْمُنْكَرِ) هو ما ينكره الشرع ، وضمير إنه للشيطان ؛ وقيل للشأن وجواب الشرط مقدر سد ما بعد الفاء مسده وهو في الأصل تعليل للجملة الشرطية وبيان لعلة النهي كأنه قيل : من يتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنه لا يأمر إلا بهما ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته ، وقد قرر ذلك النسفي وابن هشام في الباب الخامس من المغني. وتعقب بأنه يأباه ما نص عليه النحاة من أن الجواب لا يحذف إلا إذا كان الشرط ماضيا حتى عدوا من الضرورة قوله :

لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم

ليعلم ربي أن بيتي أوسع

وأجيب بأن الآية ليست من قبيل ما ذكروه في البيت فإنه مما حذف فيه الجواب رأسا وهذا مما أقيم مقامه ما يصح جعله جوابا بحسب الظاهر ، وقال أبو حيان : الضمير عائد على من الشرطية ولم يعتبر في الكلام حذفا أصلا ، والمعنى على ذلك من يتبع الشيطان فإنه يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا بالفحشاء والمنكر وهو مبني على اشتراط ضمير في جواب الشرط الاسمي يعود إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بما من جملته إنزال هاتيك الآيات البينات والتوفيق للتوبة الممحصة من الذنوب وكذا شرع الحدود المكفر لما عدا الردة منها على ما ذهب إليه جمع وأجابوا عن حديث أبي هريرة السابق آنفا بأنه كان قبل أن يوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك (ما زَكى) أي ما طهر من دنس الذنوب.

وقرأ روح والأعمش «ما زكى» بالتشديد والإمالة ، وكتب «زكي» المخفف بالياء مع أنه من ذوات الواو وحقها أن تكتب بالألف ، قال أبو حيان : لأنه قد يمال أو حملا على المشدد ، ومن في قوله تعالى : (مِنْكُمْ) بيانية ، وفي قوله سبحانه : (مِنْ أَحَدٍ) سيف خطيب و (أَحَدٍ) في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية والفاعل عليها ضميره تعالى أي ما زكى الله تعالى منكم أحدا (أَبَداً) لا إلى غاية (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) يطهر (مَنْ يَشاءُ) من عباده بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة وقبولها منه كما فعل سبحانه بمن سلم عن داء النفاق ممن وقع في شرك الإفك منكم.

(وَاللهُ سَمِيعٌ) مبالغ في سمعه الأقوال التي من جملتها ما أظهروه من التوبة (عَلِيمٌ) بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم ، وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة ، وإظهار الاسم الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد الاستقلال التذييلي (وَلا يَأْتَلِ) أي لا يحلف افتعال من الألية.

٣٢٠