روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

إن أراد بالغريزة العلم لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة.

وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل : والحق أنه نور روحاني بي تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية ، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، ثم إن في محلية القلب للعلم خلافا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور.

وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا. وفي أبكار الأفكار بعد نقل قول الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم ، وكون ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] وقوله سبحانه : (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) وقوله عزوجل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] انتهى ، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء ، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلا تاما في الإدراك ، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضا ، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلا دون الآخر وجها ، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) الضمير لقريش كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم مجيئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنكر عليهم ذلك ، فالجملة خبر لفظا واستفهام وإنشاء معنى ، وقوله تعالى : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل : كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده ، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه أو اعتراضية لما ذكر أيضا. وقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وإظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددا طوالا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] ولذا يرون مجيئه بعيدا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترءون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعا وإخبار عما عنده من المقدار. وقراءة الأخوين. وابن كثير «يعدّون» على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى ، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضا بطريق الالتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين ، وقيل : المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) [العنكبوت : ٥٣] فتكون الجملة الأولى مطلقا مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود ، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه ، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لإنكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال ، ويكتفى في رد

١٦١

ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم ، وأيا ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق. وقيل : المراد بالعذاب العذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل :

تمتع بأيام السرور فإنها

قصار وأيام الهموم طوال

وعلى ذلك جاء قوله :

ليلي وليلى ففي نومي اختلافهما

بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا

يجود بالطول ليلي كلما بخلت

بالطول ليلى وإن جادت به بخلا

فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل : كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلا بد من مجيئه حتما وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون ، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالا أو أنها تستطال لشدة عذابها.

واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق ، وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا ، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى.

واستدل المعتزلة بقوله تعالى : (لَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى.

وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو إخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه وهي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترهيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض إخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلا كمواعيد المؤمنين ، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات ، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقا متى وعد به ، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد ، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به. وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والإمهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدى به خبر محض لا شرط فيه ؛ وقيل : المراد به وعده تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث إن فيه خيرا له عليه الصلاة والسلام ، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرا وشرا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل :

مصائب قوم عند قوم فوائد

وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا

١٦٢

مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(٥٧)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي كم من سكنة قرية (أَمْلَيْتُ لَها) كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزا لرسلهم عليهم‌السلام كما فعل هؤلاء ، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو ، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل : لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها ، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية ، وقيل : جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجأ بها هنا لعدم الترتب ، وقوله تعالى : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إلى حكمي مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أجد غيري لا استقلالا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضا ما ذكر من الأخذ الوبيل.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل : قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذارا بينا بما أوحي إليّ من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الاقتصار على الإنذار ظاهر ، وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فالزيادة هي إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار ، ويجوز أن يقال : إن قوله سبحانه : (فَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجع فيه ذلك كأنه قيل : أنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن دوام على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا ، واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلا في المقول بخلاف الوجه الأول.

وقال بعض المحققين : الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة ، وإنما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذيرا مبينا لأن بعثه عليه الصلاة والسلام من أشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله : (أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثابت في الصحيحين «أنا النذير العريان» وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها ا ه.

١٦٣

ولا مانع منه لو لا ظاهر السياق ، وكون المؤمنين لا ينذرون لا سيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له ، ومن منع من العموم لذلك قال : التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني ؛ ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات ، وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه ، والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرآن على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي ، ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحرا وتارة شعرا وتارة أساطير الأولين.

وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الإصلاح والإفساد يقال : سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه (مُعاجِزِينَ) أي مسابقين للمؤمنين ؛ والمراد بمسابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله ، وأصله من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني «معجزين» بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان. وقال أبو علي الفارسي : ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول : فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) وقرأ ابن الزبير «معجزين» بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك ، قال صاحب اللوامح : والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون ، وفسر (مُعاجِزِينَ) في قراءة الجمهور بمثل ذلك ، والوصف على جميع القراءات حال من ضمير (سَعَوْا) وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للمتأمل (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي ملازمو النار الشديدة التأجج ، وقيل هو اسم دركة من دركات النار.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مِنْ) الأولى ابتدائية والثانية مزيدة لاستغراق الجنس ، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان ، وقيل : في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] والظاهر أن (إِذا) شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا : إن (إِلَّا) في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا) [الحجر : ١١] إلخ أو (١) يكون الماضي مصحوبا بقد نحو ما زيد إلا قد قام ، ويشكل عليه هذه الآية إذا لم يلها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل ، وأول ذلك في البحر بأن (إِذا) جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو (أَلْقَى) وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط ، وعطف «نبي» على (رَسُولٍ) يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع ، ويدل على المغايرة أيضا ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا ، وقد أخرج ذلك. كما قال السيوطي. أحمد. وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة ، وأخرجه ابن حيان في صحيحه. والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر.

وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك ، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة ؛ وجاء في رواية الرسل

__________________

(١) أو المنع الخلو ا ه منه.

١٦٤

ثلاثمائة وخمسة عشر ، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم‌السلام ، وقيل : الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدا في نفسه كإسماعيل عليه‌السلام إذ بعث لجرهم أولا النبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك ، وقيل : الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانا وتفصيلا لشرع سابق والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول ، وقيل : الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له ، وقيل : الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ ، وقيل الرسول (١) من يأته الملك عليه‌السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير : وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه‌السلام لم يوح إليه إلا مناما وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي.

وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورا بالتبليغ فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما ، والتمني. على ما قال أبو مسلم. نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى ، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني ، وقال غير واحد : التمني القراءة وكذا الأمنية ، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما :

تمنى كتاب الله أول ليلة

تمني داود الزبور على رسل

وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئا فشيئا ، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة ، والآية مسوقة لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود ، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) [الأنعام : ١٢١] وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [البقرة : ١٧٣ ، النحل : ١١٥] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى ، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم‌السلام عبدوا من دون الله تعالى (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرده أو بإنزال ما يرده (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه ، و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلى رتبة من النسخ ، وصيغة المضارع في

__________________

(١) قائله الإمام الرازي.

١٦٥

الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي ، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة. ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار (الشَّيْطانُ وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه (حَكِيمٌ) في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها ، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي الذي يلقيه. وقيل : إلقاءه (فِتْنَةً) أي عذابا. وفي البحر ابتلاء واختبار (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار المجاهرين ، وقيل : المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة ، وحمل الأولين على الكفار مطلقا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي عداوة شديدة ومخالفة تامة ، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، ولام (لِيَجْعَلَ) للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بيحكم وعند ابن عطية بينسخ وعند غيرهما بألقي لكن التعليل لما ينبئ عنه إلقاء الشيطان من تمكينه تعالى إياه من ذلك في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لعطف قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وكون ضمير (أَنَّهُ) للقرآن ، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير (أَنَّهُ) لتمكين الشيطان من الإلقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الإنس من لدن آدم عليه‌السلام ، وضميرا (بِهِ) و (لَهُ) في قوله تعالى : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانا (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم ، وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له.

ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابا للمنافقين والكافرين أي سببا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبارا لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو ، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ) إلخ متعلقا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل إلخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل (لِيَجْعَلَ) علة النسخ (وَلِيَعْلَمَ) علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل (لِيَجْعَلَ) علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد ، ويجوز أيضا أن ترجع الضمائر في (أَنَّهُ). و (بِهِ) و (لَهُ) للموحي الذي يقرؤه كل من الرسل والأنبياء عليهم‌السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص ، وأيا ما كان فقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) اعتراض مقرر لما قبله ، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقا على تقدير التعميم ، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عزوجل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «لهاد» بالتنوين.

١٦٦

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْهُ) أي من القرآن ؛ وقيل : من الرسول ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحي على ما سمعت و «من» على جميع ذلك ابتدائية ، وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان واختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم‌السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحي من الشبه والتخيلات فتأمل (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى : (بَغْتَةً) أي فجأة فإنها الموصوفة بالإتيان كذلك ، وقيل : أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز. وقيل: الموت على أن التعريف في (السَّاعَةُ) للعهد (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي منفرد عن سائر الأيام لا مثيل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيما ؛ والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف. و «أو» في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية ، وقيل : المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم ، وقيل المراد به يوم حرب يقتلون فيه ، ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم ، وفيه على الأول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقما ، وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هي الحرب على سبيل الاستعارة بالكناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازا في الإسناد ، ومن ثم قيل : إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان ، وقيل : هو الذي لا خير فيه يقال : ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا ، وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم ، وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم ، ويصح أيضا أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم‌السلام فيه ، وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة ، هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر ابن الحرث كان يلقي الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام ، وقيل : ضمير (أُمْنِيَّتِهِ) للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و «في» للسببية مثلها في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن امرأة دخلت النار في هرة» أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات». وقيل : «تمنى» قرأ و «أمنيته» قراءته والضمير للنبي أو الرسول و (فِي) على ظاهرها ، والمراد بما يلقي الشيطان ما يقع للقارئ من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهوا ، وقيل : المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الاحتمالات التي ليست مرادا لله تعالى ، وقيل : تمنى هيأ وقدر في نفسه ما يهواه و (أُمْنِيَّتِهِ) قراءته ، والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبها فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها ، وقيل : (تَمَنَّى) قدر في نفسه ما يهواه و (أُمْنِيَّتِهِ) تشبيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا ، وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الاشتغال بأمور الدنيا ، ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يريده.

وقيل : (تَمَنَّى) قرأ و (أُمْنِيَّتِهِ) قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي ، وقد روي أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة والسلام (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) فألقي الشيطان في سكتته محاكيا نغمته عليه الصلاة والسلام بحيث يسمعه من حوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فظن المشركون أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة ، وقيل : المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم به ، وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي تكلم بذلك عامدا لكن مستفهما على سبيل الإنكار والاحتجاج على المشركين ، وجعل من إلقاء الشيطان

١٦٧

لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم ، ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزا إذ ذاك ، وقيل : بل كان ساهيا ، فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٨٩ ، ٢٠] قال : إن شفاعتهن ترتجى وسها رسول الله عليه الصلاة والسلام ففرح المشركون بذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا) ـ حتى بلغ ـ (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) ، قال الجلال السيوطي : وهو خبر مرسل صحيح الإسناد ، وقيل : تكلم بذلك ناعسا. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : بينا نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان (١) على لسانه كلمة فتكلم بها فقال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قرأها فزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا) الآية ، وقيل : (تَمَنَّى) قدر في نفسه ما يهواه و (أُمْنِيَّتِهِ) قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي ، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عندها كلمات فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي نرتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا ، إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا) الآيات ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا أنها وحي حتى نبهه جبريل عليه‌السلام ، ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة النجم فلما بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال : أعرض على ما جئتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى قال له جبريل عليهما‌السلام : لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا) الآية.

وأخرج البزار والطبري وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك لكن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضا مغايرة يسيرة غير ذلك ، وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزار وابن مردويه أيضا من طريق أمية بن خالد عن شعبة لكن قال في إسناده : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله ، وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه‌السلام قال له عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه ذلك : معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه (وَما أَرْسَلْنا) الآية قيل : والمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لكن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الأخبار فلا بدّ من تأويل ما

__________________

(١) قيل يقال لذلك الشيطان الأبيض ا ه منه.

١٦٨

لذلك ، وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال القاضي عياض في الشفاء : يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.

وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال : هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتابا. وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله : تلك الغرانيق العلى من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور. منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد ، وقد قال سبحانه (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢ ، الإسراء : ٦٥] وقال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل : ٩٩] إلى غير ذلك ، ومنها زيادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة ، ومنها اعتقاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الالتئام متناقضا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك معتقدا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما أن يكون معتقدا معنى آخر مخالفا لما اعتقدوه ومباينا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرا لهم على الباطل وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقر على ذلك. ومنها كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه ، ويقتضي أيضا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة.

وقال ابن العربي : تصور الشيطان في صورة الملك ملبسا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسا على الخلق وتسليط الله تعالى على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك. ومنها التقول على الله تعالى إما عمدا أو خطأ أو سهوا. وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام ، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الإخبار بخلاف الواقع لا قصدا ولا سهوا ، ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير ، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ، لأنه أيضا يحتمل إلى غير ذلك. وذهب إلى صحتها الحافظ بن حجر في شرح البخاري وساق طرقا عن ابن عباس وغيره ثم قال : وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا مع أن لها طريقا متصلا بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين ، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب ، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية ، ثم أخذ في الرد على أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في إنكارهما الصحة.

وذهب إلى صحة القصة أيضا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني ، وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن

١٦٩

عبد الرحمن وأبو العالية ، وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول : قال الحاكم في علوم الحديث : إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح وغيره ثم قال : ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك ، فعلى هذا يكون الخبر في هذه القصة مسندا من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلا مرفوعا من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله ، وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام تمنى هدي الكل ولم يكن ذلك مراد الله تعالى والأكمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة والسلام الإلقاء حالة تمنى هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه ، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه ؛ وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة والسلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا ليس كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبا أن يعود لمثل تلك الحالة ، وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذ لا يكون بعيد الالتئام ولا متناقضا ولا ممتزج المدح بالذم ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة ، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه : (لِيَجْعَلَ) إلخ ، وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناء على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول ، وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة والسلام معتقدا لمعنى مخالف لما اعتقدوه ؛ ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطانا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦].

وأما عن الخامس فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة ، وأما قول القاضي عياض : لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة والسلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسا قادحا فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقا ولو كان غير مخل فلا دليل عليه ، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية. وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين ، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسا على النبي بما لا يكون منافيا

١٧٠

للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبا ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة.

وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا ما يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادا ناشئا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلا ؛ ما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة والسلام في الإلقاء في حالة التمني تأديبا كإيقاع السهو عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعا والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك تلبيسا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقدا أنه مطابق للواقع بناء على اعتقاد التمام سهوا ، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه‌السلام ثم النسخ والأحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح ، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به ، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ بن حجر متعقب.

وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظا ومعنى إذا قيل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته ، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به ، فقول البيضاوي : إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ) إلخ لأنه أيضا يحتمله ليس بشيء ، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ) إلخ على انتقاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام ، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا ، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عزوجل.

هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فيكف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور ، واشتباه جبريل عليه‌السلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال : والذي نفسي بيده ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرّتي هذه وما عرفته حتى ولى إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه‌السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني ، وقد كان يأتيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير جبريل عليه‌السلام من الملائكة الكرام ، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضا لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلا إن قلنا بحياتهما.

وأيضا قال المحققون : إن الأنبياء عليهم‌السلام ليس لهم خاطر شيطاني ، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد

١٧١

إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) دون ألقى الشيطان على لسانه ، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا ، وأيضا حفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهما‌السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط ، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا : إن الشيطان ألقى على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] وقلنا : إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلو قلبه واشتغال لسانه على أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه‌السلام ، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إرادة مولاه عزوجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى : إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه ، وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات ، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

ويرد على قوله : إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن : ٢٧] قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك ، وقد ذكروا أن ـ كان ـ في ذلك للاستمرار.

وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : ما جاء جبريل عليه‌السلام بالقرآن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة ، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي ، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه ؛ والقول بأن جبريل عليه‌السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله : فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقي في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر ، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا. ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر ، وقد يقال : إن إعجاز القرآن معلوم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي : إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه ، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز ، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان

١٧٢

بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا ، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد أن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى الوارد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب.

وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي : هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى ترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما حرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك ، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذ سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه‌السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه ، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله : لأن النفس مختلف ، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى أيضا لا سيما على قول جماعة : إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) والقول بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه ، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب.

وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلّاء عارفون بالغث والسمين من الأخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه ، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول ، ولعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد ، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] والمراد بالباطل كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به تأويله بأحد التأويلين ، والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الاستمرار.

وقال عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] فجيء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه.

١٧٣

وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك ، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زمانا يسيرا لا يخلو عن نظر ، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يقتضيه ذلك الاعتناء ، ثم إن قيل : بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنا في اعتقاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين زمانا طويلا والقول بذلك من الشناعة بمكان ، وقال جل وعلا : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٤] والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالدين ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال : كان جبريل عليه‌السلام ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن.

والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة والسلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى ، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضا ، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم ، ويبعد القول بثبوته أيضا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سجد آخر النجم ، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخا (١) من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا. وروى البخاري أيضا. والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس إلى غير ذلك ، وليس لأحد أن يقول : إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول : يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٠ ـ ٤٥] إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم ، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه ، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحا به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الإتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] أمسك على فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال : كيف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل. وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.

ويمكن أن يقال على بعد : إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] بناء على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ٢١] وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثا والحب للشيء يعمي ويصم ، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلى

__________________

(١) جاء في رواية أنه أمية بن خلف ا ه منه.

١٧٤

وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين.

واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخرا بعد سماع قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] فكان ينبغي التنبيه بعد السجود ، ولعلهم أرجعوا ضمير (هِيَ) للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري ، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به ، وحينئذ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلى ، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع.

واعترض على قوله في الجواب الخامس : إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة والسلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة والسلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد.

وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام ، الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد علمه بالمبلغ بأية قاطعة والمراد كما قال ابن ملك : العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل ، والثاني ما وضح له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها» الحديث وهذا يسمى خاطر الملك ، والثالث ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره ، وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال ، وهو ظاهر في أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر ، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة والسلام قرآنا ووحيا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علم ذلك علما ضروريا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلا ، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة.

ويجوز أن يقال : إنه أراد أنه إذا وقع الاشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة والسلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأنه احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوقب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] الآية ، وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الأحزاب : ٣٧] ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن

١٧٥

وقوعه مما لم يقم عليه دليل ، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء المشروط بالتمني أو في وقته بناء على الخلاف في أن «إذا» للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت.

ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل وحي متوقفا غير جازم بأنه وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه.

واعترض على قوله في الجواب أيضا : إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق إلخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول : خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي» والظاهر أنه لا يتمثل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم. من. ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناما فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولي ، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل.

وقالت الصوفية في ذلك : إن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحمق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يظهر بها شيطان ا ه ، ولا شك أن نسبة جبريل عليه‌السلام إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم‌السلام نسبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناما لأحد من أمته مخلصا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه‌السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر.

وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاده ما ليس قرآنا للتلبيس الناشئ عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به ، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه.

وأورد على قوله في الجواب السابع : إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع. وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة : ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتقاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضا ذلك الاحتمال ، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب.

ولا يجدي نفعا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق.

١٧٦

وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نطق بما نطق عمدا معتقدا للتلبيس أنه حاملا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها. وفي شرح الجوهرة الأوسط أن حديث تلك الغرانيق إلخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تأويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة والسلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] وكان منه عليه الصلاة والسلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكيا صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظن أنه من قوله عليه الصلاة والسلام وليس به انتهى ، والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبرا وأخذت العناية بيديه ، وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها ، ويجب على قائل ذلك التوبة كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم‌السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بما نسخت ، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعني قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا) إلخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة ، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه ، وقيل : هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك ، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم ، هذا وأخرج عبد ابن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث» فنسخ «ولا محدث» والمحدثون صاحب يس ولقمان ، ومؤمن من آل فرعون وصاحب موسى عليه‌السلام. (الْمُلْكُ) أي السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تأتيهم الساعة أو عذابها ؛ وقيل أي يوم إذ تزول مريتهم وليس بذلك ، ومثله ما قيل أي يوم إذ يؤمنون (لِلَّهِ) وحده بلا شريك أصلا بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجاز أو لا صورة ولا معنى كما في الدنيا فإن للبعض فيها تصرفا صوريا في الجملة والتنوين في إذ عوض عن المضاف إليه ، وإضافة يوم إليه من إضافة العام إلى الخاص وهو متعلق بالاستقرار الواقع خبرا ، وقوله سبحانه : (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال نشأ من الأخبار بكون الملك يومئذ لله ، وضمير الجمع للفريقين المؤمنين والكافرين لذكرهما أولا واشتمال التفصيل عليهما آخرا ، نعم ذكر الكافرين قبيله ربما يوهم تخصيصه بهم كأنه قيل : فما ذا يصنع سبحانه بالفريقين حينئذ؟ فقيل : يحكم بينهم بالمجازاة ، وجوز أن تكون حالا من الاسم الجليل (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم الذين لا مرية لهم فيما أشير إليه سباقا كيفما كان متعلق الإيمان (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي مستقرون في جنات مشتملة على النعم الكثيرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم الذين لا يزالون في مرية من ذلك ، وفي متعلق الكفر احتمالات كاحتمالات متعلق الإيمان وزيادة وهي احتمال أن يكون متعلقة الآيات ، والظاهر أن المراد بها الآيات التنزيلية ، وجوز أن يراد بها الأدلة وأن يراد بها الأعم ويتحصل مما ذكر خمسة عشر احتمالا في الآية ، ولعل أولاها ما قرب به العطف إلى التأسيس فتأمل ، والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ) مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الشر والفساد. وقوله سبحانه : (لَهُمْ عَذابٌ) جملة اسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبرا للمبتدإ الثاني أو (لَهُمْ) خبر له و (عَذابٌ) مرتفع على الفاعلية بالاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدإ الأول ، وتصديره بالفاء قيل للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب قبائحهم ولذا جيء بأولئك.

١٧٧

وقيل لهم عذاب بلام الاستحقاق وكان الظاهر في عذاب كما قيل : (فِي جَنَّاتِ) وجعل تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بأن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لإيجاب محاسنهم إياها ، ولا ينافي ذلك قوله تعالى :

(فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] ونحوه لأنها بمقتضى وعده تعالى على الإثابة عليها قد تجعل سببا ، وقيل جيء بالفاء لأن الكلام لخروجه مخرج التفصيل بتقدير أما فكأنه قيل : فأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك إلخ وليس بشيء لأن ذلك يقتضي تقدير أما في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ولا يتسنى فيه لعدم الفاء في الخبر وقوله تعالى : (مُهِينٌ) صفة لعذاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة ، ولم يتعرض لوصف هؤلاء الكفرة بعمل السيئات كما تعرض لوصف المؤمنين بعمل الصالحات قيل لظهور عدم اتصافهم بغيره أعني العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى علس لسان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كفرهم وتكذيبهم بالآيات ، وقيل مبالغة في تهويل أمر الكفر حيث أخبر سبحانه أن للمتصف به دون عمل السيئات عذابا مهينا ولو تعرض لذلك لأفاد أن ذلك العذاب للمتصف بالمجموع فيضعف التهويل ، والقول بأن المراد من التكذيب بالآيات عمل السيئات أو في الكلام صنعة الاحتباك والأصل فالذين آمنوا وصدقوا بآياتنا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وعملوا السيئات فأولئك لهم عذاب مهين خلاف الظاهر كما لا يخفى.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ)(٦٧)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى : (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) أي في تضاعيف المهاجرة ، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد ، ومحل الموصول الرفع على الابتداء ، وقوله تعالى : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبرا ، ومن منع أضمر قولا هو الخبر والجملة محكية به ، وقوله سبحانه : (رِزْقاً حَسَناً) إما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقا حسنا أو مصدر مبين للنوع ، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق ويؤيده ما أخرجه ابن

١٧٨

أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من مات مرابطا أجري عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرءوا إن شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) ـ إلى قوله تعالى ـ (حَلِيمٌ)» وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون : المراد به ما لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة ، ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم.

وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير (رِزْقاً) يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين ، وقيل : المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلق الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر.

وقال الكلبي : هو الغنيمة ، وقال الأصم : هو العلم والفهم كقول شعيب عليه‌السلام (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) [هود : ٨٨] ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو موتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا ، ولعل قائل ذلك يقول : إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضا.

وظاهر الآية على ما قيل : استواء من قتل ومن مات مهاجرا في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم ، وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) الآية.

ويؤيد ذلك بما روي عن أنس قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية ، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجرا في سبيل الله تعالى شهيدا كالقتيل وبه صرح بعضهم ، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطي ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر ، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى ، وما تقدم في سبب النزول غير مجمع عليه ، فقد روي أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت ، واستدل بعضهم بهذا أيضا على التسوية ، وقال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم ، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد ، وأيا ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل ، ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولا أولياء في الذين آمنوا وعملوا الصالحات تفخيما لشأنهم وهو كما ترى ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه.

واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى ، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد.

وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلانا من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما

١٧٩

لا بأس به ، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله.

وقوله تعالى : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه «ليرزقنهم الله» أو بدل منه مقصود منه تأكيده و (مُدْخَلاً) إما اسم. مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل ، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع ، أو مصدر ميمي ، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق ، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقيل على الثاني : إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام.

وقرأ أهل المدينة «مدخلا» بالفتح والباقون بالضم (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم (حَلِيمٌ) فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة ، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضا مناسبة لما بعد (ذلِكَ) قد حقق أمره (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي من جازى الجاني مثل ما جني به عليه ، وتسمية ما وقع ابتداء عقابا مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سببا للجزاء أطلق عليه مجازا مرسلا بعلاقة السببية ، وقال بعض المحققين : يجوز أن يقال : لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية ، و (مَنْ) موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها ، والجملة مستأنفة ، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للإله وإليه ذهب أبو البقاء ، وقال الخفاجي : باء (بِمِثْلِ) آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى : (بِهِ) والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للإله وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل

(ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) بالمعاودة إلى العقاب (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠]. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧]. (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعي الشريطة وهي عدم العدوان ، وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية.

وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع ، وثانيها أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.

قال في الكشف : فهو أي (إِنَّ اللهَ) إلخ على هذا أيضا تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه ، وفيه إدماج أيضا للحث على العفو وهذا وجه وجيه ا ه ، وثالثها أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولا إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى : (مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) والخبر الآخر قوله تعالى : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إحلاله ثانيا بذلك.

وجعل ذلك بعضهم من التقدم والتأخير ولا ضرورة إليه ، وقيل : إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى

١٨٠