روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك ، ونقل الطيبي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر المسلمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية ، ثم قال : فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم ، وذلك أن لفظه (ذلِكَ) فصل للخطاب وقوله تعالى : (وَمَنْ عاقَبَ) شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآيتين ا ه.

وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغيا ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر ، وأما الموافقة لتأليف النظم فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم والميتين منهم قيل الأمر ذلك فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصا وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة ، وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب ا ه ، وهو كلام رصين ، ولا يعكر عليه قولهم : إنه أتى بذلك للاقتضاب فتأمل ، وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات.

واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص ، وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في الخبر والمراد به السلاح وخبر «من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه» لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة ، وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا : إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حد هو والقائل الأول فليحفظ (ذلِكَ) إشارة إلى النصرة المدلول عليه بقوله تعالى : (لَيَنْصُرَنَّهُ) وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته ، وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحا ، ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه : (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) والباء فيه سببية ، والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك.

وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بين كل نهارين ليلا وبين كل ليلين نهارا كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجرى فيهما على ايدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار كما قيل ، وعلى الأول قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب (بَصِيرٌ) بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لا بد منه إذ لا بد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك ، وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى ، وقيل : لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار إلى أن يجيء الوقت الذي قدره الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته ، وفيه أنه لا محصل له ما لم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك ، وقيل : يجوز أن تكون الإشارة إلى الاتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الاتصاف بسبب أنه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمدا فتتعطل المصالح ، وفيه أنه مع كونه لا يناسب السياق غير ظاهر لا سيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) على مدخول الباء فيما قبل ، نعم الإشارة إلى الاتصاف في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ

١٨١

هُوَ الْحَقُ) فالمعنى ذلك الاتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلخ وكمال العلم الدال عليه (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعات ولا بد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه ، وقيل : إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الاتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الإلهية وحده ولا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها (هُوَ الْباطِلُ) أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية ، والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مرادا على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض. وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) دون نظيره في تلك السورة ، ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا قاله النيسابوري ، ويجوز أن يكون زيادة (هُوَ) في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد منه في ذلك الموضع فتأمل (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) على جميع الأشياء (الْكَبِيرُ) عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه تعالى شأنا وأكبر سلطانا.

وقرأ الحسن «وإن ما» بكسر الهمزة ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر «تدعون» بالتاء على خطاب المشركين وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري «يدعون» بالياء التحتية مبنيا للمفعول على أن الواو ولما فإنه عبارة عن الآلهة ، وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي من جهة العلو (ماءً) أي ألم تعلم ذلك ، وجوز كون الرؤية بصرية نظرا للماء المنزل ، والاستفهام للتقرير ، وقوله تعالى : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي فتصير ، وقيل تصبح على حقيقتها والحكم بالنظر إلى بعض الأماكن تمطر السماء فيها ليلا فتصبح الأرض مخضرة ، والأول أولى عطف على (أَنْزَلَ) والفاء مغنية عن الرابط فلا حاجة إلى تقدير بإنزاله ، والتعقيب عرفي أو حقيقي وهو إما باعتبار الاستعداد التام للاخضرار أو باعتباره نفسه وهو كما ترى ، وجوز أن تكون الفاء لمحض السبب فلا تعقيب فيها ، والعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع أو لاستحضار الصورة البديعة ولم ينصب الفعل في جواب الاستفهام هنا في شيء من القراءات فيما نعلم وصرح غير واحد بامتناعه ، ففي البحر أنه يمتنع النصب هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام وهو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب فإذا قلت : تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى ما تأتينا محدثا إنما تأتينا ولا تحدث ، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتينا فكيف تحدثنا فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته همزة الاستفهام وينفي الجواب فيلزم من ذلك هنا إثبات الرؤية وانتقاء الاخضرار وهو خلاف المراد ، وأيضا جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام شرط وجزاء ولا يصح أن يقال هنا إن تر إنزال الماء تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال ا ه.

وإلى انعكاس المعنى على تقدير النصب ذهب الزمخشري حيث قال : لو نصب الفعل جوابا للاستفهام لأعطى

١٨٢

ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار لكن تعقبه صاحب الفرائد حيث قال : لا وجه لما ذكره صاحب الكشاف ولا يلزم المعنى الذي ذكر بل يلزم من نصبه أن يكون مشاركا لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) تابعا له ولم يكن تابعا الإنزال ويكون مع ناصبه مصدرا معطوفا على المصدر التي تضمنه (أَلَمْ تَرَ) والتقدير ألم تكن لك رؤية إنزال الماء من السماء وإصباح الأرض مخضرة وهذا غير مراد من الآية بل المراد أن يكون إصباح الأرض مخضرة بإنزال الماء فيكون حصول اخضرار الأرض تابعا للإنزال معطوفا عليه ا ه وفيه بحث.

وقال صاحب التقريب في ذلك : إن النصب بتقدير إن وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقبا والرفع جزم بأخباره وتلخيصه أن الرفع جزم بإثباته والنصب ليس جزما بإثباته لا أنه جزم بنفيه ، ولا يخفى أنه إن صح في نفسه لا يطابق مغزى الزمخشري ، وعلل أبو البقاء امتناع النصب بأمرين ، أحدهما انتفاء سببية المستفهم عنه لما بعد الفاء كما تقدم عن البحر ، والثاني أن الاستفهام المذكور بمعنى الخبر فلا يكون له جواب وإلى هذا ذهب الفراء فقال : (أَلَمْ تَرَ) خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله تعالى يفعل كذا فيكون كذا ، وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت : أتسمع؟ وفي النسخة الشرقية من الكتاب انتبه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.

وقال بعض المتأخرين : يجوز أن يعتبر تسبب الفعل عن النفي ثم يعتبر دخول الاستفهام التقريري فيكون المعنى حصل منك رؤية إنزال الله تعالى الماء فإصباح الأرض مخضرة لأن الاستفهام المذكور الداخل على النفي يكون في معنى نفي النفي وهو إثبات ، فإن قلت : الرؤية لا تكون سببا لا نفيا ولا إثباتا للاخضرار ، قلت : الرؤية مقحمة والمقصود هو الإنزال أو هي كناية عنه لأنها تلزمه مع أنه يكفي التشبيه بالسبب كما نص عليه الرضي في ما تأتينا فتحدثنا في أحد اعتباريه ، واختار هذا في الاستدلال على عدم جواز النصب أن النصب مخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية على ما قرر في علم النحو ولا يمكن ذلك في الآية الكريمة كما ترى وبالجملة إن الذي عليه المحققون أن من جوز النصب هنا لم يصب ، وأن المعنى المراد عليه ينقلب وقرئ «مخضرة» بفتح الميم وتخفيف الضاد مثل مبقلة ومجزرة أي ذات خضرة (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي متفضل على العباد بإيصال منافعهم إليهم برفق ومن ذلك إنزال الماء من السماء واخضرار الأرض بسببه (خَبِيرٌ) أي عليم بدقائق الأمور ومنها مقادير مصالح عباده.

وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط ، وقال مقاتل : لطيف باستخراج النبات خبير بكيفية خلقه ، وقال الكلبي : لطيف بأفعاله بأعمال عباده ، وقال ابن عطية : اللطيف هو المحكم للأمور برفق ، ونقل الآمدي أنه العالم بالخفيات ، وأنت تعلم أنه المعنى المشهور للخبير ، وفسره بعضهم بالمخبر ولا يناسب المقام كتفسير اللطيف بما لا تدركه الحاسة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرفا فاللام للاختصاص التام (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) الذي لا يفتقر إلى شيء أصلا (الْحَمِيدُ) الذي حمده بصفاته وأفعاله جميع خلقه قالا أو حالا.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة ومن الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر (وَالْفُلْكَ) بالنصب وإسكان اللام ، وقرأ ابن مقسم والكسائي عن الحسن بضمها وهو معطوف على (ما) عطف الخاص على العام تنبيها على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها.

١٨٣

وجوز أن يكون عطفا على الاسم الجليل ، وقوله تعالى : (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) على الأول حال منه وعلى الثاني خبر لأن وتكون الواو قد عطفت الاسم على الاسم والخبر على الخبر وهو خلاف الظاهر وفي البحر هو إعراب بعيد عن الفصاحة ، وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني «والفلك» بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والجملة مستأنفة.

وجوز أن تكون حالية ، وقيل : يجوز أن يكون الرفع بالعطف على محل أن مع اسمها وهو على طرز العطف على الاسم (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي عن أن تقع عليها فالكلام على حذف حرف الجر وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب أو مجرور على القولين المشهورين في ذلك ، وجعل بعضهم ذلك في موضع المفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقع عند البصريين ، والكوفيون يقدرون لئلا تقع.

وقال أبو حيان : الظاهر أن (تَقَعَ) في موضع نصب بدل اشتمال من السماء أي ويمنع وقوع السماء على الأرض ، ورد بأن الإمساك بمعنى اللزوم يتعدى بالباء وبمعنى الكف بعن وكذا بمعنى الحفظ والبخل كما في تاج المصادر وأما بمعنى المنع فهو غير مشهور ، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مشهور مصرح به في كتب اللغة ، قال الراغب : يقال أمسكت عنه كذا أي منعته قال تعالى : (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر : ٣٨] وكنى عن البخل بالإمساك ا ه ، وصرح به الزمخشري والبيضاوي في تفسير قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] نعم الأظهر هو الإعراب الأول ، والمراد بإمساكها عن الوقوع على الأرض حفظ تماسكها بقدرته تعالى بعد أن خلقها متماسكة آنا فآنا. وعدم تعلق إرادته سبحانه بوقوعها قطعا قطعا ، وقيل إمساكه تعالى إياها عن ذلك بجعلها محيطة لا ثقيلة ولا خفيفة ، وهذا مبني على اتحاد السماء والفلك وعلى قول الفلاسفة المشهور بأن الفلك لا ثقيل ولا خفيف : وبنوا ذلك على زعمهم استحالة قبوله الحركة المستقيمة وفرعوا عليه أنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس ، واستدلوا على استحالة قبول الحركة المستقيمة بما أبطله المتكلمون في كتبهم.

والمعروف من مذهب سلف المسلمين أن السماء غير الفلك وأن لها أطيطا لقوله عليه الصلاة والسلام «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضوع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد» وأنها ثقيلة محفوظة عن الوقوع بمحض إرادته سبحانه وقدرته التي لا يتعاصاها شيء لا لاستمساكها بذاتها.

وذكر بعض المتكلمين لنفي ذلك أنها مشاركة في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها وللبحث فيه على زعم الفلاسفة مجال ، والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار التجددي أي يمسكها آنا فآنا من الوقوع (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي بمشيئته ، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب ، وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون (يُمْسِكُ) فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها ، وقيل : استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها متلبسة بمشيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر ، وفي البحر أن الجار والمجرور متعلق بتقع ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى ، ولعمري إن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى ، ثم إنه لا دلالة في الآية على وقوع الإذن بالوقوع ، وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض ، وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والانشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلا عن أن يكون صريحا فيه ، والظاهر أن المراد بالسماء

١٨٤

جنسها الشامل للسماوات السبع ، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : إذا أتيت سلطانا مهيبا تخاف أن يسطو بك فقل : الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعا الله أكبر مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا وهو الممسك السماوات السبع أن يقمن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس إلهي كن لي جارا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك لا إله غيرك ثلاث مرات.

والظاهر أيضا أن مساق الآية للامتنان لا للوعيد كما جوزه بعضهم ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث سخر لهم ما سخر ومن عليهم بالأمن مما يحول بينهم وبين الانتفاع به من وقوع السماء على الأرض ، وقيل حيث هيأ لهم أسباب معايشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية ، وجعل الجملة تعليلية لما في ضمن (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ) إلخ أظهر فيما قلنا ، والرأفة قيل ما تقتضي درء المضار والرحمة قيل : ما تقتضي جلب المصالح ولكون درء المضرة أهم من جلب المصلحة قدم رءوف على رحيم ، وفي كل ما امتن به سبحانه درء وجلب ، نعم قيل إمساك السماء عن الوقوع أظهر في الدرء ولتأخيره وجه لا يخفى ، وقال بعضهم : الرأفة أبلغ من الرحمة وتقديم (رؤف) للفاصلة وذهب جمع إلى أن الرحمة أعم ولعله الظاهر ، وتقديم (بِالنَّاسِ) للاهتمام وقيل للفاصلة والفصل بين الموضعين مما لا يستحسن (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا حسبما فصل في مطلع السورة الكريمة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند مجيء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عند البعث (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي جحود بالنعم مع ظهورها وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده ، وقيل المراد بالإنسان الكافر وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد ، وعن ابن عباس أيضا أنه قال : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبي بن خلف ولعل ذلك على طريق التمثيل (لِكُلِّ أُمَّةٍ) كلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه عليه الصلاة والسلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته عليه الصلاة والسلام بيان حال ما تمسكوا به من الشرائع وإظهار خطئهم في النظر أي لكل أمة معينة من الأمم الخالية والباقية (جَعَلْنا) وضعنا وعينا (مَنْسَكاً) أي شريعة خاصة ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر لا لأمة أخرى منهم ، والكلام نظير قولك لكل من فاطمة وزينب وهند وحفصة أعطيت ثوبا خاصا إذا كنت أعطيت فاطمة ثوبا أحمر وزينب ثوبا أصفر وهندا ثوبا أسود وحفصة ثوبا أبيض فإنه بمعنى لفاطمة أعطيت ثوبا أحمر لا لأخرى من أخواتها ولزينب أعطيت ثوبا أصفر لا لأخرى منهن وهكذا ، وحاصل المعنى هنا عينا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة ما إلى شريعة أخرى لا استقلالا ولا اشتراكا ، وقوله تعالى : (هُمْ ناسِكُوهُ) صفة لمنسكا مؤكدة للقصر ، والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها أي تلك الأمة المعينة ناسكون به وعاملون لا أمة أخرى ؛ فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما‌السلام منسكهم ما في التوراة هم عاملون به لا غيرهم والتي من مبعث عيسى عليه‌السلام إلى مبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم منسكهم ما في الإنجيل هم عاملون به لا غيرهم ، وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم ما في القرآن ليس إلا ، والفاء في قوله سبحانه : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي أمر الدين لترتيب النهي على ما قبلها فإن تعيينه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جملتها أمته عليه الصلاة والسلام شريعة مستقلة بحيث لا تتخطى أمة منهم ما عين لها موجب لطاعة هؤلاء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم منازعتهم إياه في أمر الدين زعما منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم مما في التوراة والإنجيل فإن ذلك شريعة لمن مضى قبل انتساخه وهؤلاء أمة مستقلة شريعتهم ما في القرآن فحسب ، والظاهر أن المراد نهيهم حقيقة عن النزاع في ذلك.

واختار بعضهم كونه كناية عن نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم المبني على زعمهم المذكور لأنه أنسب

١٨٥

بقوله تعالى الآتي : (وَادْعُ) إلخ ، وأمر إلا نسبية عليه ظاهر إلا أنه في نفسه خلاف الظاهر ، وقال الزجاج : هو نهي له عليه الصلاة والسلام عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربنك زيد أي لا تضاربنه وذلك بطريق الكناية ، وهذا إنما يجوز على ما قيل وبحث فيه من باب المفاعلة للتلازم فلا يجوز في مثل لا يضربنك زيد أن تريد لا تضربنه.

وتعقب بأنه لا يساعده المقام ، وقرئ «فلا ينازعنك» بالنون الخفيفة ، وقرأ أبو مجلز ، ولاحق بن حميد «فلا ينزعنك» بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في البحر ، والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره.

وفي الكشاف أن المعنى أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه ، والمراد زيادة التثبيت له عليه الصلاة والسلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن.

وقال الزجاج : هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته ، فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة ، لكن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بضم العين ولا تكسر إلا شذوذا ، وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذا عند الجمهور.

وقال سيبويه : كما في المفصل وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول (١) : نازعني فنزعته استغني عنه بغلبته ، ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها ، وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن فعل غيره ، هذا وما ذكرتا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال ، وقال الإمام : هو الأقرب ، وقيل : هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة ، قال ابن عطية : يعطي ذلك (هُمْ ناسِكُوهُ) وقيل : هو اسم زمان ، وقيل : اسم مكان ، وكان الظاهر ناسكون فيه إلا أنه اتسع في ذلك ، وقال مجاهد : هو الذبح.

وأخرج ذلك الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما ؛ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعبد بن حميد عن عكرمة ، وجعل ضمير (يُنازِعُنَّكَ) للمشركين ، والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء. وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس للمؤمنين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى ، ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور. وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل ، وأجيب بأن المعنى عليه لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناك بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها ، وقيل : المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحا هم ذابحوه.

وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا لا شك في صحته ، ومن قال بصحة الآثار وعض عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه في بيان حاصل الآية على ما تقتضيه ، ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلا لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولا في

__________________

(١) قيل إن ذلك في الأشهر فليحفظ ا ه منه.

١٨٦

تفسير الآية ، وأيا ما كان فالظاهر أنه إنما لم تعطف هذه الجملة كما عطف قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا) [الحج : ٣٤] إلخ لضعف الجامع بنيها وبين ما تقدمها من الآيات بخلاف ذلك. وفي الكشف بيانا لكلام الكشاف في توجيه العطف هناك وتركه هنا أن الجامع هناك قوي مقتض للعطف فإن قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها) أي في الشعائر منافع دينية ودنيوية كوجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق كالإعادة لما في قوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الحج : ٢٨] إلا أن فيه تخصيصا بالمخاطبين فعطف عليه (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) للذكر لتتم الإعادة والغرض من هذا الأسلوب أن يبين أنه شرع قديم وأنه لم يزل متضمنا لمنافع جليلة في الدارين ، وأما فيما نحن فيه فأين حديث النسائك من حديث تعداد الآيات والنعم الدالة على كمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة ، ولعمري إن شرعية النسائك لكل أمة وإن كانت من الرحمة والنعمة لكن النظر إلى المجانسة بين النعم وما سيق له الكلام فالحالة مقتضية للقطع ، وذكره هاهنا لهذه المناسبة على نحو خفي ضيق ا ه ، وهو حسن وظاهره تفسير النسك بالذبح.

وذكر الطيبي أن ما تقدم عطف على قوله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) [الحج : ٣٢] إلخ وهو من تتمة الكلام مع المؤمنين أي الأمر ذلك والمطلوب تعظيم شعائر الله تعالى وليس هذا مما يختص بكم إذ كل أمة مخصوصة بنسك وعبادة.

وهذه الآية مقدمة نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يوجب نزاع القوم تسلية له وتعظيم لأمره حيث جعل أمره منسكا ودينا يعني شأنك وشأن أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام ترك المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع وملازمة الدعوة إلى التوحيد أو لكل أمة من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقا وديناهم ناسكوه فلا ينازعنك هؤلاء المجادلة. سمي دأبهم نسكا لا يجابههم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه تهكما بهم ومسلاة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان يلقى منهم ، وأما اتصاله بما سبق من الآيات فإن تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) [الحج : ٥٥] يوجب القلع عن إنذار القوم وإلا يأس منهم ومتاركتهم والآيات المتخللة كالتأكيد لمعنى التسلية فجيء بقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ) تحريضا له عليه الصلاة والسلام على التأسي بالأنبياء السالفة في متاركة القوم والإمساك عن مجادلتهم بعد الإياس من إيمانهم وينصره قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فالربط على طريقة الاستئناف وهو أقوى من الربط اللفظي ، والذي يدور عليه قطب هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعانديهم والنعي عليهم بشدة شكيمتهم ألا ترى كيف افتتحها بقوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) [الحج : ٣] وكررها وجعلها أصلا للمعنى المهتم به وكلما شرع في أمر كر إليه تثبيتا لقلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسلاة لصدره الشريف عليه الصلاة والسلام فلا يقال : إن هذه الآية واقعة مع أباعد عن معناها انتهى ، ولعمري إنه أبعد عن ربوع التحقيق وفسر الآية الكريمة بما لا يليق. وقد تعقب الكشف اتصاله بما ذكر بأنه لا وجه له فقد تخلل ما لا يصلح لتأكيد معنى التسلية المذكورة أعني قوله تعالى : (وَمَنْ عاقَبَ) الآيات لا سيما على ما آثره من جعلها في المقاتلين في الشهر الحرام ولو سلم فلا مدخل للاستئناف وهو تمهيد لما بعده أعني قوله تعالى : (فَلا يُنازِعُنَّكَ) إلخ ، وأما قوله والذي يدور عليه إلخ فهو مسلم وهو عليه لإله فتأمل والله تعالى الموفق للصواب.

(وَادْعُ) أي وادع هؤلاء المنازعين أو الناس كافة على أنهم داخلون فيهم دخولا أوليا (إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته حسبما بين في منسكهم وشريعتهم (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً) أي طريق موصل إلى الحق ففيه استعارة

١٨٧

مكنية وتخييليتها على ، وقوله تعالى : (مُسْتَقِيمٍ) أي سوي أو أحدهما تخييل والآخر ترشيح ، ثم المراد بهذا الطريق إما الدين والشريعة أو أدلتها ، والجملة استئناف في موضوع التعليل.

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٧٨)

(وَإِنْ جادَلُوكَ) في أمر الدين وقد ظهر الحق ولزمت الحجة (فَقُلِ) لهم على سبيل الوعيد (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فمجازيكم عليها ، وهذا إن أريد به الموادعة كما جزم به أبو حيان فهو منسوخ بآية القتال (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والخطاب عام للفريقين المؤمنين والكافرين وليس مخصوصا بالكافرين كالذي قبله ولا داخلا في حيز القول ، وجوز أن يكون داخلا فيه على التغليب أي الله يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بثبوت حجج المحق دون المبطل (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي من أمر الدين ، وقيل الجدال والاختلاف في أمر الذبائح ، ومعنى الاختلاف ذهاب كل إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.

(أَلَمْ تَعْلَمْ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، والاستفهام للتقرير أي قد علمت (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها أقول الكفرة وأعمالهم (إِنَّ ذلِكَ) أي ما في السماء والأرض (فِي كِتابٍ) هو كما روي عن ابن عباس اللوح المحفوظ ، وذكر رضي الله تعالى عنه أن طوله

١٨٨

مسيرة مائة عام وأنه كتب فيه ما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة ، وأنكر ذلك أبو مسلم وقال : المراد من الكتاب الحفظ والضبط أي إن ذلك محفوظ عنده تعالى ، والجمهور على خلافه ، والمراد من الآية أيضا تسليته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل إن الله يعلم إلخ فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له (إِنَّ ذلِكَ) أي ما ذكر من العلم والإحاطة بما في السماء والأرض وكتبه في اللوح والحكم بينكم ، وقيل : (ذلِكَ) إشارة إلى الحكم فقط ، وقيل إلى العلم فقط ، وقيل إلى كتب ذلك في اللوح ، ولعل كونه إشارة إلى الثلاثة بتأويل ما ذكر أولى (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) فإن علمه وقدرته جل جلاله مقتضى ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور ، وتقديم الجار والمجرور لمناسبة رءوس الآي أو للقصر أي يسير عليه جل وعلا لا على غيره (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) حكاية لبعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم وهي بناء أمرهم على غير مبنى دليل سمعي أو عقلي وإعراضهم عما ألقي إليهم من سلطان بين هو أساس الدين أي يعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى (ما لَمْ يُنَزِّلْ) أي بجواز عبادته (سُلْطاناً) أي حجة ، والتنكير للتقليل ، وهذا إشارة إلى الدليل السمعي الحاصل من جهة الوعي.

وقوله سبحانه : (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) إشارة إلى الدليل العقلي أي ما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل أو استدلاله ، والحاصل يعبدون من دون الله ما لا دليل من جهة السمع ولا من جهة العقل على جواز عبادته ، وتقديم الدليل السمعي لأن الاستناد في أكثر العبادات إليه مع أن التمسك به في هذا المقام أرجئ في الخلاص إن حصل لوم من التمسك بالدليل العقلي ، وإن شككت فارجع إلى نفسك فيما إذ لامك شخص على فعل فإنك تجدها مائلة إلى الجواب بأني فعلت كذا لأنك أخبرتني برضاك بأن أفعله أكثر من ميلها إلى الجواب بأن فعلته لقيام الدليل العقلي وهو كذا على رضاك به وإنكار ذلك مكابرة ، وقد يقال : إنما قدم هنا ما يشير إلى الدليل السمعي لأنه إشارة إلى دليل سمعي يدل على جواز تلك العبادة منزل من جهته تعالى غير مقيد بقيد بخلاف ما يشير إلى الدليل العقلي فإن فيه إشارة إلى دليل عقلي خاص بهم ، وحاصله أن التقديم والتأخير للإطلاق والتقييد وإن لم يكونا لشيء واحد فافهم ، وقال العلامة الطيبي : في اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل ومقابله بالعلم دليل واضح على أن الدليل السمعي هو الحجة القاطعة وله القهر والغلبة وعند ظهوره تضمحل الآراء وتتلاشى الأقيسة ومن عكس ضل الطريق وحرم التوفيق وبقي متزلزلا في ورطات الشبه ؛ وإن شئت فانظر إلى التنكير في (سُلْطاناً) و (عِلْمٌ) وقسهما على قول الشاعر :

له حاجب في كل أمر يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب

لتعلم الفرق إلى آخر ما قال ، ومنه يعلم وجه للتقديم واحتمال آخر في تنوين (سُلْطاناً) غير ما قدمنا ، وظاهره أن الدليل السمعي يفيد اليقين مطلقا وأنه مقدم على الدليل العقلي ، ومذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة أنه لا يفيد اليقين مطلقا لتوقف ذلك على أمور كلها ظنية فتكون دلالته أيضا ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة ، والحق أنه قد يفيد اليقين في الشرعيات دون العقليات بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات.

وذكر الفاضل الرومي في حواشيه على شرح المواقف بعد بحث أن الحق أنه قد يفيد اليقين في العقليات أيضا وأما أنه مقدم على الدليل العقلي فالذي عليه علماؤنا خلافه ، وأنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي إلى ما لا يعارضه الدليل العقلي إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما ، وتقدم السمع على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضا لنفسه وكان باطلا لكن ظاهر

١٨٩

كلام محيي الدين بن العربي قدس‌سره في مواضع من فتوحاته القول بأنه مقدم ، ومن ذلك قوله في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من أبيات :

كل علم يشهد الشرع له

هو علم فبه فلتعتصم

وإذا خالفه العقل فقل

طورك الزم ما لكم فيه قدم

وقوله في الباب الأربعمائة والاثنين والسبعين :

على السمع عولنا فكنا أولي النهى

ولا علم فيما لا يكون عن السمع

إلى غير ذلك وهو كأكثر كلامه من وراء طور العقل (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي وما لهم إلا أنه عدل إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم مع تعليل الحكم به ، وجوز أن لا يكون هناك عدول ، والمراد ما يعمهم وغيرهم ودخولهم أولى ، و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِنْ نَصِيرٍ) سيف خطيب ، والمراد نفي أن يكون لهم بسبب ظلمهم من يساعدهم في الدنيا بنصرة مذهبهم وتقرير رأيهم ودفع ما يخالفه وفي الآخرة بدفع العذاب عنهم.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) عطف على (يَعْبُدُونَ) وما بينهما اعتراض ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي ، وقوله تعالى : (بَيِّناتٍ) حال من الآيات أي واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة أو على بطلان ما هم عليه من عبادة غير الله تعالى (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي في وجوههم ، والعدول على نحو ما تقدم ، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن يصح أن يعرف كائنا من كان (الْمُنْكَرَ) أي الإنكار على أنه مصدر ميمي ، والمراد علامة الإنكار أو الأمر المستقبح من التجهم والبسور والهيئات الدالة على ما يقصدونه وهو الأنسب بقوله تعالى : (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليدا ، ولا يخفى ما في ذلك من الجهالة العظيمة ، وكان المراد أنهم طول دهرهم يقاربون ذلك وإلا فقد سطوا في بعض الأوقات ببعض الصحابة التالين كما في البحر ، والجملة في موقع الحال من المضاف إليه ، وجوز أن يكون من الوجوه على أن المراد بها أصحابها وليس بالوجه.

وقرأ عيسى بن عمر «يعرف» بالبناء للمفعول «المنكر» بالرفع (قُلْ) على وجه الوعيد والتقريع (أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخاطبكم أو أتسمعون فأخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) الذي فيكم من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلي عليكم (النَّارُ) أي هو أو هي النار على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما هو؟ وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى : (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو على الوجه الأول جملة مستأنفة ، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر.

وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (النَّارُ) بالنصب على الاختصاص ، وجملة (وَعَدَهَا) إلخ مستأنفة أو حال من (النَّارُ) بتقدير قد أو بدونه على الخلاف ، ولم يجوزوا في قراءة الرفع الحالية على الإعراب الأول إذ ليس في الجملة ما يصح عمله في الحال.

وجوز في النصب أن يكون من باب الاشتغال وتكون الجملة حينئذ مفسرة. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة «النار» بالجر على الإبدال من شر ، وفي الجملة احتمالا الاستئناف والحالية ، والظاهر معنى أن يكون الضمير في «وعدها» هو المفعول الثاني والأول الموصول أي وعد الذين كفروا إياها ، والظاهر معنى لفظا أن يكون

١٩٠

المفعول الأول والثاني الموصول كأن النار وعدت بالكفار لتأكلهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مثلا وتسير في الأمصار والأعصار ، وعبر عن بيان ذلك بلفظ الماضي لتحقق الوقوع ، ومعنى المثل في الأصل المثل ثم خص بما شبه بمورده من الكلام فصار حقيقة ثم استعير لما ذكر ، وقيل المثل على حقيقته و (ضُرِبَ) بمعنى جعل أي جعل لله سبحانه شبه في استحقاق العبادة وحكي ذلك عن الأخفش ، والكلام متصل بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى آخره بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم معبوداتهم الباطلة مثلا لله تعالى شأنه في استحقاق العبادة على الثاني ، ومنهم من جعله على ما ذكرنا وعلى ما حكي عن الأخفش تفسيرا أما على الأول فللمثل نفسه بمعناه المجازي وأما على الثاني فلحال المثل بمعناه الحقيقي ، فإن المعنى جعل الكفار لله مثلا فاستمعوا لحاله وما يقال فيه ، والحق الذي لا ينكره إلا مكابر أن تفسير الآية بما حكي فيه عدول عن المتبادر.

والظاهر أن الخطاب في (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لجميع المكلفين لكن الخطاب في (تَدْعُونَ) للكفار. واستظهر بعضهم كون الخطاب في الموضعين للكفار والدليل على خصوص الأول الثاني ، وقيل هو في الأول للمؤمنين ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين ؛ وقيل هو في الموضعين عام وأنه في الثاني كما في قولك : أنتم يا بني تميم قتلتم فلانا وفيه بحث.

وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو «يدعون» بالياء التحتية مبنيا للفاعل كما في قراءة الجمهور قرأ اليماني وموسى الأسواري «يدعون» بالياء من تحت أيضا مبنيا للمفعول ، والراجع للموصول على القراءتين السابقتين محذوف (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي لا يقدرون على خلقه مع صغره وحقارته ، ويدل على أن المراد نفي القدرة السباق مع قوله تعالى : (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لخلقه فإن العرف قاض بأنه لا يقال : لن يحمل الزيدون كذا ولو اجتمعوا لحمله إلا إذا أريد نفي القدرة على الحمل ، وقيل جاء ذلك من النفي بلن فإنها مفيدة لنفي مؤكد فتدل على منافاة بين المنفي وهو الخلق والمنفي عنه وهو المعبودات الباطلة فتفيد عدم قدرتها عليه ، والظاهر أن لا يستغنى عن معونة المقام أيضا ، وأنت تعلم أن في إفادة لن النفي المؤكد خلافا ؛ فذهب الزمخشري إلى إفادتها ذلك وأن تأكيد النفي هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل وقال في أنموذجه بإفادتها التأبيد.

وذهب الجمهور وقال أبو حيان : هو الصحيح إلى عدم إفادتها ذلك وهي عندهم أخت لا لنفي المستقبل عند الإطلاق بدون دلالة على تأكيد أو تأييد وأنه إذا فهم فهو من خارج وبواسطة القرائن وقد يفهم كذلك مع كون النفي بلا فلو قيل هنا لا يخلقون ذبابا ولو اجتمعوا له لفهم ذلك ، ويقولون في كل ما يستدل به الزمخشري لمدعاه : إن الإفادة فيه من خارج ولا يسلمون أنها منها ولن يستطيع إثباته أبدا ، والانتصار له بأن سيفعل في قوة مطلقة عامة ولن يفعل نقيضه فيكون في قوة الدائمة المطلقة ولا يتأتى ذلك إلا بإفادة لن التأييد ليس بشيء أصلا كما لا يخفى ، وكأن الذي أوقع الزمخشري في الغفلة فقال ما قال اعتمادا على ما لا ينتهض دليلا شدة التعصب لمذهبه الباطل واعتقاده العاطل نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الخذلان ، والذباب اسم جنس ويجمع على أذبة وذبان بكسر الذال فيهما وحكي في البحر ضمها في ذبان أيضا ، وهو مأخوذ من الذب أي الطرد والدفع أو من الذب بمعنى الاختلاف أي الذهاب والعود وهو أنسب بحال الذباب لما فيه من الاختلاف حتى قيل : إنه منحوت من ذب آب أي طرد فرجع ، وجواب (لَوِ)

١٩١

محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا له ويتعاونوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له وتعاونوا عليه لن يخلقوا وهما في موضع الحال كأنه قيل : لن يخلقوا ذبابا على كل حال.

وقال بعضهم : الواو للحال (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) بجوابه حال ، وقال آخرون : إن (لَوِ) هنا لا تحتاج إلى جواب لأنها انسلخت عن معنى الشرطية وتمحضت للدلالة على الفرض والتقدير ، والمعنى لن يخلقوا ذبابا مفروضا اجتماعهم (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) بيان لعجزه عن أمر آخر دون الخلق أي وإن يأخذ الذباب منها شيئا (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لا يقدروا على استنقاذه منه مع غاية ضعفه.

والظاهر أن استنقذ بمعنى نقذ ، وفي الآية من تجهيلهم في إشراكهم بالله تعالى القادر على جميع الممكنات المتفرد بإيجاد كافة الموجودات عجز لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ولا على استنقاذ ما يختطفه منهم ما لا يخفى ، والآية وإن كانت نازلة في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران ورءوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله ، وقيل : كانوا يضمخونها بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات الباطلة.

(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) تذييل لما قبل أخبار أو تعجب والطالب عابد غير الله تعالى والمطلوب الآلهة كما روي عن السدي والضحاك وكون عابد ذلك طالبا لدعائه إياه واعتقاده نفعه ، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته ، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه ، وقيل الطالب الذباب يطلب ما يسلبه عن الآلهة والمطلوب الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب.

وروى ابن مردويه وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الزمخشري أن الطالب الأصنام والمطلوب الذباب ، وفي هذا التذييل حينئذ إيهام التسوية وتحقيق أن الطالب أضعف لأنه قدم عليه أن هذا الخلق الأقل هو السالب وذلك طالب خاب عن طلبته ولما جعل السلب المسلوب لهم وأجراهم مجرى العقلاء أثبت لهم طلبا ولما بين أنهم أضعف من أذل الحيوانات نبه به على مكان التهكم بذلك ، ومن الناس من اختار الأول لأنه أنسب بالسياق إذ هو لتجهيلهم وتحقير آلهتهم فناسب إرادتهم وآلهتهم من هذا التذييل.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قال الحسن والفراء : أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه فإن تعظيمه تعالى حق تعظيمه أن يوصف بما وصف به نفسه ويعبد كما أمر أن يعبد وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فإنهم عبدوا من دونه من لا يصلح للعبادة أصلا وفي ذلك وصفه سبحانه بما نزه عنه سبحانه من ثبوت شريك له عزوجل.

وقال الأخفش : أي ما عرفوه حق معرفته فإن معرفته تعالى حق معرفته التصديق به سبحانه موصوفا بما وصف به نفسه وهؤلاء لم يصدقوا به كذلك لشركهم به وعبادتهم من دونه من سمعت حاله ، وقيل : حق المعرفة أن يعرف سبحانه بكنهه وهذا هو المراد في قوله عليه الصلاة والسلام «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك».

وأنت تعلم أن الظاهر أن قوله تعالى : (ما قَدَرُوا) إلخ أخبار عن المشركين وذم لهم ومتى كان المراد منه نفي المعرفة بالكنه كان الأمر مشتركا بينهم وبين الموحدين فإن المعرفة بالكنه لم تقع لأحد من الموحدين أيضا عند

١٩٢

المحققين ويشير إلى ذلك الخبر المذكور لدلالته على عدم حصولها لأكمل الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام وإذا لم تحصل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعدم حصولها لغيره بالطريق الأولى ، واحتمال حمل المعرفة المنفية فيه على اكتناه الصفات لا يخفى حاله ، وكذا احتمال حصول المعرفة بالكنه له عليه الصلاة والسلام بعد الأخبار المذكور ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا قدره».

والظاهر عموم الحكم دون اختصاصه بالمخاطبين إذ ذاك ، وقول الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقول علي كرم الله تعالى وجهه متما له بيتا : والبحث عن سر ذات الله إشراك. بل قال حجة الإسلام الغزالي وشيخه إمام الحرمين والصوفية والفلاسفة بامتناع معرفته سبحانه بالكنه ، ونقل عن أرسطو أنه قال في ذلك : كما تعتري العين عند التحديق في جرم الشمس ظلمة وكدورة تمنعها عن تمام الإبصار كذلك تعتري العقل عند إرادة اكتناه ذاته تعالى حيرة ودهشة تمنعه عن اكتناهه سبحانه.

ولا يخفى أنه لا يصلح برهانا للامتناع وغاية ما يقال : إنه خطابي لا يحصل به إلا الظن الغير الكافي في مثل هذا المطلب ، ومثله الاستدلال بأن جميع النفوس المجردة البشرية وغيرها مهذبة كانت أو لا أنقص تجردا تنزها من الواجب تعالى والأنقص يمتنع له اكتناه من هو أشد تجردا وتنزها منه كامتناع اكتناه الماديات للمجردات ، وكذا الاستدلال بكونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد فيمتنع إدراكه كما يمتنع إدراك البصر ما اتصل به ، وأحسن من ذلك كله ما قيل : إن معرفة كنهه ليست بديهية بالضرورة بالنسبة إلى شخص وإلى وقت فلا تحصل لأحد في وقت بالضرورة فتكون كسبية والكسب إما تحد تام أو ناقص وهو محال مستلزم لتركب الواجب لوجوب تركب الحد من الجنس القريب أو البعيد ومن الفصل مع أن الحد الناقص لا يفيد الكنه ، وأما الحد البسيط بمفرد فمحال بداهة فإن ذلك المفرد إن كان عين ذاته يلزم توقف معرفة الشيء على معرفة نفسه من غير مغايرة بينهما ولو بالإجمال والتفصيل كما في الحد المركب مع حده التام ، وإن كان غيره فلا يكون حدا بل هو رسم أو مفهوم آخر غير محمول عليه وإما برسم تام أو ناقص ولا شيء منهما مما يفيد الكنه بالضرورة.

واعترض بأن عدم إمكان البداهة بالنسبة إلى جميع الأشخاص وإلى جميع الأوقات يحتاج إلى دليل فربما تحصل بعد تهذيب النفس بالشرائع الحقة وتجريدها عن الكدورات البشرية والعوائق الجسمانية ، ولو سلمنا عدم إمكان البداهة كذلك فلنا أن نختار كون المعرفة مما تكتسب بالحد التام المركب من الجنس والفصل وغاية ما يلزم منه التركيب العقلي وليس بمحال إلا إن قلنا بأنه يستلزم التركيب الخارجي المستلزم للاحتياج إلى الأجزاء المنافي لوجوب الوجود ، ونحن لا نقول بذلك لأن المختار عند جمع أن أجزاء الماهية مأخوذة من أمر واحد بسيط وهي متحدة ماهية ووجودا فتكون أمورا انتزاعية لا حقيقته فلا استلزام ، نعم يكون ذلك إن قلنا : إن الأجزاء مأخوذة من أمور متغايرة بحسب الخارج لكن لا نقول به لأنه إن قيل حينئذ بتغاير الأجزاء أنفسها ماهية ووجودا كما ذهب إليه طائفة يرد لزوم عدم صحة الحمل بينها ضرورة أن الموجودين بوجودين متغايرين لا يحمل أحدهما على الآخر كزيد وعمرو ، وإن قيل بتغايرها ماهية لا وجودا ليصح الحمل كما ذهب إليه طائفة أخرى يرد لزوم قيام الوجود الواحد بالشخص بموجودات متعددة متغايرة بالماهية ، ولو سلمنا الاستلزام بين التركيب العقلي والتركب الخارجي فلنا أن نقول : لا نسلم أنه لا شيء من الرسم مما يفيد الكنه بالضرورة كيف وهو مفيد فيما إذ كان الكنه لازما للرسم لزوما بينا بالمعنى الأخص بل يمكن إفادة كل رسم إياه على قاعدة الأشعري من استناد جميع الممكنات إليه تعالى بلا شرط وإن لم تقع تلك الإفادة أصلا إذ الكلام في امتناع حصول الكنه بالكسب كذا قالوا (*) :

١٩٣

واستدل الملا صدرا على نفي الأجزاء العقلية له تعالى بأن حقيقته سبحانه آنية محضة ووجود بحت فلو كان له عزوجل جنس وفصل لكان جنسه مفتقرا إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فحينئذ يقال : ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجودا محضا أو ماهية غير الوجود ، فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضنا فصلا ليس بفصل إذ الفصل ما به يوجد الجنس وهذا إنما يتصور إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود ، وعلى الثاني يلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد حقق أن نفس الوجود حقيقته بلا شمول ، وأيضا لو كان له تعالى جنس لكان مندرجا تحت مقولة الجوهر وكان أحد الأنواع الجوهرية فيكون مشاركا لسائرها في الجنس ؛ وقد برهن على إمكانها وحقق أن إمكان النوع يستلزم إمكان الجنس المستلزم لإمكان كل واحد من أفراد ذلك الجنس من حيث كونه مصداقا له إذ لو امتنع الوجود على الجنس من حيث هو جنس أي مطلقا لكان ممتنعا على كل فرد فإذا يلزم من ذلك إمكان الواجب تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ومبنى هذا أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت وهو مما ذهب الحكماء وأجلة من المحققين ، وليس المراد من هذا الوجود المعنى المصدري الذي لا يجهله أحد فإنه مما لا شك في استحالة كونه حقيقة الواجب سبحانه بل هو بمعنى مبدأ الآثار على ما حققه الجلال الدواني وأطال الكلام فيه في حواشيه على شرح التجريد وفي شرحه للهياكل النورية وفي غيرهما من رسائله ، وللملا صدرا (١) في هذا المقام والبحث في كلام الجلال كلام طويل عريض وقد حقق الكلام بطرز آخر يطلب من كتابه الأسفار بيد أنا نذكر هنا من كلامه سؤالا وجوابا يتعلقان فيما نحن فيه فنقول :

قال فإن قلت : كيف يكون ذات الباري سبحانه عين حقيقة الوجود والوجود بديهي التصور وذات الباري مجهول الكنه؟ قلت : قد مر أن شدة الظهور وتأكد الوجود هناك مع ضعف قوة الإدراك وضعف الوجود هاهنا صار منشأين لاحتجابه تعالى عنا وإلا فذاته تعالى في غاية الإشراق والإنارة ، فإن رجعت وقلت : إن كان ذات الباري نفس الوجود فلا يخلو إما أن يكون الوجود حقيقة الذات كما هو المتبادر أو يكون صادقا عليها صدقا عرضيا كما يصدق عليه تعالى مفهوم الشيء ، وعلى الأول إما أن يكون المراد به هذا المعنى العام البديهي التصور المنتزع من الموجودات أو معنى آخر والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي أن يكون حقيقته تعالى غير ما يفهم من لفظ الوجود كسائر الماهيات غير أنك سميت تلك الحقيقة بالوجود كما إذا سمي إنسان بالوجود ومن البين أنه لا أثر لهذه التسمية في الأحكام وأن هذا القسم راجع إلى الواجب ليس الوجود الذي الكلام فيه ويلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد برهن أن كل ذي ماهية معلول ، وعن الثاني وهو أن يصدق عليه تعالى صدقا عرضيا فلا يخفى أن ذلك لا يغنيه عن السبب بل يستدعي أن يكون موجودا ولذلك ذهب جمهور المتأخرين من الحكماء إلى أن الوجود معدوم فأقول : منشأ هذا الإشكال حسبان أن معنى كون هذا العام المشترك عرضيا أن للمعروض من موجودية وللعارض موجودية أخرى كالماشي بالنسبة إلى الحيوان والضاحك بالقياس إلى الإنسان وليس كذلك بل هذا المفهوم عنوان وحكاية للوجودات العينية ونسبته إليها نسبة الإنسانية إلى الإنسان والحيوانية إلى الحيوان فكما أن مفهوم الإنسانية صح أن يقال : إنها عين الإنسان لأنها مرآة لملاحظته وحكاية عن جهته صح أن يقال : إنها غيره لأنها أمر نسبي والإنسان ماهية جوهرية ، وبالجملة الوجود ليس كالإمكان حتى لا يكون بإزائه شيء يكون المعنى المصدري حكاية عنه بل كالسواد الذي قد يراد به نفس المعنى النسبي أعني الأسودية وقد يراد به ما يكون الشيء أسود أعني الكيفية المخصوصة فكما أن السواد

__________________

(١) ويسمى صدر الدين الشيرازي وهو غير صدر الدين الشيرازي معاصر الملا جلال ا ه منه. تم والحمد لله الجزء السابع عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن عشر وأوله «سورة المؤمنين».

١٩٤

إذا فرض قيامه بذاته صح أن يقال ذاته عين الأسودية وإذا فرض جسم متصف به لم يجز أن يقال إن ذاته عين الأسودية مع أن هذا الأمر لكونه اعتبارا ذهنيا زائدا على الجميع ، إذا تقرر هذا قلنا في الجواب في الترديد الأول : نختار الشق الأول وهو أن الوجود حقيقة الذات قولك في الترديد الثاني إما أن يكون ذلك الوجود ما يفهم من لفظ الوجود إلخ نختار منه ما بإزاء ما يفهم من هذا اللفظ أعني حقيقة الوجود الخارجي الذي هذا المفهوم حكاية عنه فإن للوجود عندنا حقيقة في كل موجود كما أن للسواد حقيقة في كل أسود لكن في بعض الموجودات مخلوط بالنقائص والإعدام وفي بعضها ليس كذلك وكما أن السوادات متفاوتة في السوادية بعضها أقوى وأشد وبعضها أضعف وأنقص كذلك الموجودات بل الموجودات متفاوتة في الموجودية كمالا ونقصانا ، ولنا أيضا أن نختار الشق الثاني من شقي الترديد الأول إلا أن هذا المفهوم الكلي وإن كان عرضيا بمعنى أنه ليس له بحسب كونه مفهوما عنوانيا وجود في الخارج حتى يكون عينا لشيء لكنه حكاية عن نفس حقيقة الوجود القائم بذاته وصادق عليه بحيث يكون منشأ صدقه ومصداق حمله عليها نفس تلك الحقيقة لا شيئا آخر يقوم به كسائر العرضيات في صدقها على الأشياء فصدق هذا المفهوم على الوجود الخاص يشبه صدق الذاتيات من هذه الجهة ، فعلى هذا لا يرد علينا قولك : صدق الوجود عليه لا يغنيه عن السبب لأنه لم يكن يغنيه عن السبب لو كان موجوديته بسبب عروض هذا المعنى أو قيام حصة من الوجود وليس كذلك بل ذلك الوجود الخاص بذاته موجود كما أنه بذاته وجود سواء حمل عليه مفهوم الوجود أو لم يحمل ، والذي ذهب الحكماء إلى أنه معدوم ليس هو الوجودات الخاصة بل هذا الأمر العام الذهني الذي يصدق على الأينات والخصوصيات الوجودية انتهى ، وما أشار إليه من تعدد الوجودات قال به المشاءون وهي عند الأكثرين حقائق متخالفة متكثرة بأنفسها لا بمجرد عارض الإضافة إلى الماهيات لتكون متماثلة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها ، وقال بعضهم بالاختلاف بالحقيقة حيث يكون بينها من الاختلاف ما بالتشكيك كوجود الواجب ووجود الممكن وكذا وجود المجردات ووجود الأجسام ؛ وقالت طائفة من الحكماء المتأهلين إنه ليس في الخارج إلا وجود واحد شخصي مجهول الكنه وهو ذات الواجب تعالى شأنه وأما الممكنات المشاهدة فليس لها وجود بل ارتباط بالوجود الحقيقي الذي هو الواجب بالذات ونسبة إليه ، نعم يطلق عليها إنها موجودة بمعنى أن لها نسبة إلى الواجب تعالى فمفهوم الموجود أعم من الموجود القائم بذاته ومن الأمور المنتسبة إليه نحوا من الانتساب وصدق المشتق لا ينافي قيام مبدأ الاشتقاق بذاته الذي مرجعه إلى عدم قيامه بالغير ولا كون ما صدق عليه أمرا منتسبا إلى المبدأ لا معروضا له بوجه من الوجوه كما في الحداد والمشمس على أن أمر اطلاق أهل اللغة وأرباب اللسان لا عبرة به في تصحيح الحقائق ، وقالوا : كون المشتق من المعقولات الثانية والبديهيات الأولية لا يصادم كون المبدأ حقيقة متأصلة متشخصة مجهولة الكنه وثانوية المعقول وتأصله قد يختلف بالقياس إلى الأمور ولا يخفى ما فيه من الأنظار ، ومثله ما دار على ألسنة طائفة من المتصوفة من أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق تمسكا بأنه لا يجوز أن يكون عدما أو معدوما وهو ظاهر ولا ماهية موجودة بالوجود أو مع الوجود تعليلا أو تقييدا لما في ذلك من الاحتياج والتركيب فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق ، ومتمسكهم هذا أوهن من بيت العنكبوت ، والذي حققته من كتب الشيخ الأكبر قدس‌سره وكتب أصحابه أن الله سبحانه ليس عبارة عن الوجود المطلق بمعنى الكلي الطبيعي الموجود في الخارج في ضمن أفراده ولا بمعنى أنه معقول في النفس مطابق لكل واحد من جزئياته في الخارج على معنى أن ما في النفس لوجود في أي شخص من الأشخاص الخارجية لكان ذلك الشخص بعينه من غير تفاوت أصلا بل بمعنى عدم التقيد بغيره مع كونه موجودا بذاته ، ففي الباب الثاني من الفتوحات أن الحق تعالى موجود بذاته لذاته مطلق الوجود غير مقيد بغيره ولا

١٩٥

معلول من شيء ولا علة لشيء بل هو خالق المعلولات والعلل ، والملك القدوس الذي لم يزل ، وفي النصوص للصدر القونوي تصور اطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل بمعنى أنه وصف سلبي لا بمعنى أنه إطلاق ضده القيد بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد وفي الجمع بين كل ذلك والتنزيه عنه فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع.

وذكر بعض الأجلة أن الله تعالى عند السادة الصوفية هو الوجود الخاص الواجب الوجود لذاته القائم بذاته المتعين بذاته الجامع لكل كمال المنزه عن كل نقص المتجلي فيما يشاء من المظاهر مع بقاء التنزيه ثم قال : وهذا ما يقتضيه أيضا قول الأشعري بأن الوجود عين الذات مع قوله الأخير في كتابه الإبانة بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع التنزيه بليس كمثله شيء.

وتحقيق ذلك أنه قد ثبت بالبرهان أن الواجب الوجود لذاته موجود فهو إما الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته أو الوجود المقترن بالماهية المتعين بحسبها أو الماهية المعروضة للوجود المتعين بحسبها أو المجموع المركب من الماهية والوجود المتعين بحسبها لا سبيل إلى الرابع لأن التركيب من لوازمه الاحتياج ولا إلى الثالث لاحتياج الماهية في تحققها الخارجي إلى الوجود ولا إلى الثاني لاحتياج الوجود إلى الماهية في تشخصه بحسبها والاحتياج في الجميع ينافي الوجوب الذاتي فتعين الأول فالواجب سبحانه الموجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته ، ثم هو إما أن يكون مطلقا بالإطلاق الحقيقي وهو الذي لا يقابله تقييد القابل لكل إطلاق وتقييد وإما أن يكون مقيدا بقيد مخصوص لا سبيل إلى الثاني لأن المركب من القيد ومعروضه من لوازمه لاحتياج المنافي للوجوب الذاتي فتعين الأول فواجب الوجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق بالإطلاق الحقيقي ، وأهل هذا القول ذهبوا إلى أنه ليس في الخارج إلا وجود واحد وهو الوجود الحقيقي وأنه لا موجود سواه وماهيات الممكنات أمور معدومة متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا وهي ثابتة في العلم لم تشم رائحة الوجود ولا تشمه أبدا لكن تظهر أحكامها في الوجود المفروض وهو النور المضاف ويسمي العلماء والحق المخلوق به وهؤلاء هم المشهورون بأهل الوحدة ، ولعل القول الذي نقلناه عن بعض الحكماء المتأهلين يرجع إلى قولهم هو طور ما وراء طور العقل وقد ضل بسببه أقوام وخرجوا من ربقة الإسلام ، وبالجملة إن القول بأن حقيقة الواجب تعالى غير معلومة وحد علما اكتناهيا إحاطيا عقليا أو حسيا مما لا شبهة عندي في صحته وإليه ذهب المحققون حتى أهل الوحدة ، والقول بخلاف ذلك المحكي عن بعض المتكلمين لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا ، ولا أدري هل تمكن معرفة الحقيقة أو لا تمكن ولعل القول بعدم إمكانها أوفق بعظمته تعالى شأنه وجل عن إحاطة العقول سلطانه ، وأما شهود الواجب بالبصر ففي وقوعه في هذه النشأة خلاف بين أهل السنة وأما في النشأة الآخرة فلا خلاف فيه سوى أن بعض الصوفية قالوا : إنه لا يقع إلا باعتبار مظهر ما وأما باعتبار الإطلاق الحقيقي فلا ، وأما شهوده سبحانه بالقلب فقد قيل بوقوعه في هذه النشأة لكن على معنى شهود نوره القدسي ويختلف ذلك باختلاف الاستعداد لا على معنى شهود نفس الذات والحقيقة ومن ادعى ذلك فقد اشتبه عليه الأمر فادعى ما ادعى.

هذا ومن الناس من قال : لا مانع من أن يراد من (حَقَّ قَدْرِهِ) حق معرفته ويراد من حق معرفته المعرفة بالكنه وكونها غير حاصلة لأحد مؤمنا كان أو غيره لا يضر فيما نحن فيه لأن المراد إثبات عظمته تعالى المنافية لما عليه المشركون وكون سبحانه لا يعرف أحد كنه حقيقته يستدعي العظمة على أتم وجه فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق للصواب.

١٩٦

(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على جميع الممكنات (عَزِيزٌ) غالب على جميع الأشياء وقد علمت حال آلهتهم المقهورة لأذل العجزة ، والجملة في موضع التعليل لما قبلها (اللهُ يَصْطَفِي) أي يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم‌السلام بالوحي (وَمِنَ النَّاسِ) أي ويصطفي من الناس رسلا يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وتقديم رسل الملائكة عليهم‌السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس ، وعطف (مِنَ النَّاسِ) على (مِنَ الْمَلائِكَةِ) وهو مقدم تقدير على (رُسُلاً) فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه ، وقيل : إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضا وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك وردم دعائم التوحيد.

وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل (بَصِيرٌ) بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم ، وقيل : إن السمع والبصر كناية عن علمه تعالى بالأشياء كلها بقرينة قوله سبحانه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لأنه كالتفسير لذلك ، ولعل الأول أولى ، وهذا تعميم بعد تخصيص ، وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل : أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها ، وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها ، وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده يعلم ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكا ولا استقلالا لأنه المالك لها بالذات فلا يسأل جل وعلا عما يفعل من الاصطفاء وغيره كذا قيل ، ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي) إلخ وكذا وجه الارتباط ، ويجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه : (يَعْلَمُ) إلخ على معنى وإليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال هو مرتبط بما ذكر لكن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعا بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالما بها.

ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي وصلّوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها والمراد أن مجموعها كذلك هو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان ، وقيل : المعنى أخضعوا لله تعالى وخروا له سجدا ، وقيل : المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعا فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه ، وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بسائر ما تعبدكم سبحانه كما يؤذن به ترك المتعلق وقيل : المراد أمرهم بأداء الفرائض.

وقوله تعالى : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى

١٩٧

عنهما أنه أمر بصلة الأرحام ومكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي افعلوا كل ذلك وأنتم راجون به الفلاح غير متيقنين به واثقين بأعمالكم ، والآية آية سجدة عند الشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحاق رضي الله تعالى عنهم لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولما تقدم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ، وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه ، وعمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس في إحدى الروايتين عنه رضي الله تعالى عنهم ، وذهب أبو حنيفة ومالك والحسن وابن المسيب وابن جبير وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنهم إلى أنها ليست آية سجدة ، قال ابن الهمام : لأنها مقرونة بالأمر بالركوع والمعهود في مثله من القرآن كونه أمرا بما هو ركن للصلاة بالاستقراء نحو (اسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣] وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال ، وما روي من حديث عقبة قال الترمذي : إسناده ليس بالقوي وكذا قال أبو داود وغيره انتهى.

وانتصر الطيبي لإمامه الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال : الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها وأما السجود فلما لم يختص حمل على الحقيقة لعموم الفائدة ولأن العدول إلى المجاز من غير صارف أو نكتة غير جائز والمقارنة لا توجب ذلك ، وتعقبه صاحب الكشف بأن للقائل أن يقول : المقارنة تحسن ، وتوافق الأمرين في الفرضية أو الإيجاب على المذهبين من المقتضيات أيضا ، ثم رجع إلى الانتصار فقال : الحق إن السجود حيث ثبت ليس من مقتضى خصوص تلك الآية لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة ، بل إنما ذلك بفعل الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قوله فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة ومع ذلك تشرع السجدة عند تلاوتها لما ثبت من الرواية الصحيحة ، وفيه أنه إن أراد أن ما ثبت دليل مستقل على مشروعيتها من غير مدخل للآية فذلك على ما فيه مما لم لا يقله الشافعي ولا غيره ، وإن أراد أن الآية تدل على ذلك كما تدل على فرضية سجود الصلاة وما ثبت كاشف عن تلك الدلالة فذلك قول بخفاء تلك الدلالة والتزام أن الأمر بالسجود لمطلق الطلب الشامل لما كان على سبيل الإيجاب كما في طلب سجود الصلاة ولما كان على سبيل الندب كما في طلب سجود التلاوة فإنه سنة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ولعله يتعين عنده ذلك ولا محذور فيه بل لا معدل عنه إن صح الحديث لكن قد سمعت آنفا ما قيل فيه ، ولك أن تقول : إنه قد قوي بما أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل.

وفي سورة الحج سجدتان وبعمل كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الظاهر في كونه عن سماع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو رؤية لفعله ذلك (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي لله تعالى أو في سبيله سبحانه ، والجهاد كما قال الراغب استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب. مجاهدة العدو الظاهر كالكفار ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس وهي أكبر من مجاهدة العدو الظاهرة كما يشعر به ما أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم غزاة فقال : «قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال مجاهدة العبد هواه» وفي إسناده ضعف مغتفر في مثله.

والمراد هنا عند الضحاك جهاد الكفار حتى يدخلوا في الإسلام ، ويقتضي ذلك أن تكون الآية مدنية لأن الجهاد إنما أمر به بعد الهجرة وعند عبد الله بن المبارك جهاد الهوى والنفس ، والأولى أن يكون المراد به ضروبه الثلاثة وليس ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء ، وإلى هذا يشير ما روي جماعة عن الحسن أنه قرأ الآية وقال : إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف ، ويشمل ذلك جهاد المبتدعة والفسقة فإنهم أعداء أيضا ويكون

١٩٨

بزجرهم عن الابتداع والفسق (حَقَّ جِهادِهِ) أي جهادا فيه حقا فقدم حقا وأضيف على حد جرد قطيفة وحذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى ضميره تعالى على حد قوله. ويوم شهدناه سليما وعامرا.

وفي الكشاف الإضافة تكون لأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصا بالله تعالى من حيث إنه مفعول لوجهه سبحانه ومن أجله صحت إضافته إليه ، وأيا ما كان فنصب (حَقَ) على المصدرية ، وقال أبو البقاء : إنه نعت لمصدر محذوف أي جهادا حق جهاده ، وفيه أنه معرفة فكيف يوصف به النكرة ولا أظن أن أحدا يزعم أن الإضافة إذا كانت على الاتساع لا تفيد تعريفا فلا يتعرف بها المضاف ولا المضاف إليه ، والآية تدل على الأمر بالجهاد على أتم وجه بأن يكون خالصا لله تعالى لا يخشى فيه لومة لائم وهي محكمة.

ومن قال كمجاهد والكلبي : إنها منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] فقد أراد بها أن يطاع سبحانه فلا يعصي أصلا وفيه بحث لا يخفى ، وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال : قال لي عمر رضي الله تعالى عنه «ألسنا كنا نقرأ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله»؟ قلت : بل فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء ، وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره ، ولا يخفى عليك حكم هذه القراءة ، وقال النيسابوري : قال العلماء لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليست من نفس القرآن إلا لتواترت وهو كما ترى (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي هو جل شأنه اختاركم لا غيره سبحانه ، والجملة مستأنفة لبيان علة الأمر بالجهاد فإن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته ومن قربه العظيم يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه بترك ما لا يرضاه ففيها تنبيه على المقتضى للجهاد ، وفي قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ) أي في جميع أموره ويدخل فيه الجهاد دخولا أوليا (مِنْ حَرَجٍ) أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ، والحاصل أنه تعالى أمرهم بالجهاد وبين أنه لا عذر لهم في تركه حيث وجد المقتضى وارتفع المانع.

ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء ، وقيل : عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد ، ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روي ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وفي الحواشي الشهابية أن الظاهر حق جهاده تعالى لما كان متعسرا ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه.

وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها.

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الاختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري وقال الحوفي. وأبو البقاء : نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه ، وقال الفراء : نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم ، والمراد بالملة أما ما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل ، و (إِبْراهِيمَ) منصوب بمقدر أيضا أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان ، وجعله عليه‌السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه

١٩٩

السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ) أي الله تعالى كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وسفيان ، ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه (اللهِ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل (وَفِي هذا) أي في القرآن ، والجملة مستأنفة ، وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ) ولذا لم تعطف ، وعن ابن زيد والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه‌السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم في الذرية فجعل مسميا لهم فيه مجازا ، ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور ، وقال أبو البقاء : المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته ، وقال ابن عطية : يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين ، ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف.

واستدل بالآية من قال : إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) يوم القيامة (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) إنه قد بلغكم ، ويدل على هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة والسلام لنفسه اعتمادا على عصمته ولعل هذا من خواصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئا لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه ، وأيضا لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم فينكرون كما ذكر ذلك كثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال لأنبيائهم : هل بلغتم أممكم؟ فيقولون : نعم بلغناهم فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنهم قد بلغوا فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم؟ فيقولون : عرفنا ذلك بأخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق أو شهيدا عليكم بإطاعة من أطاع وعصيان من عصى ، ولعل علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك بتعريف الله تعالى بعلامات تظهر له في ذلك الوقت تسوغ له عليه الصلاة والسلام الشهادة ، وكون أعمال أمته تعرض عليه عليه الصلاة والسلام وهو في البرزخ كل أسبوع أو أكثر أو أقل إذا صح لا يفيد العلم بأعيان ذوي الأعمال المشهود عليهم وإلا أشكل ما رواه أحمد في مسنده والشيخان عن أنس ، وحذيفة قالا : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول : يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وربما أشكل هذا على تقدير صحة حديث العرض سواء أفاد العلم بالأعيان أم لا ، وإذا التزم صحة ذلك الحديث وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يستحضر أعمال أولئك الأقوام حين عرفهم فقال ما قال وأن المراد من ـ إنك لا تدري ـ إلخ مجرد تعظيم أمر ما أحدثوه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا نفي العلم به يبقى من مات من أمته طائعا أو عاصيا في زمان حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن علم بحاله أصلا كمن آمن ومات ولم يسمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم به فإن عرض الأعمال في حقه لم يجىء في خبر أصلا ، والقول بعدم وجود شخص كذلك بعيد ، ومن زعم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أعمال أمته ويعرفهم واحدا حيا وميتا ولذا ساغت شهادته عليهم بالطاعة والمعصية يوم القيامة لم يأت بدليل ، والآية لا تصلح دليلا له إلا بهذا التفسير وهو خل البحث ، على أن في حديث الإفك ما يدل على خلافه.

وزعم بعضهم أن معرفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للطائع والعاصي من أمته لما أنه يحضر سؤالهم في القبر عنه عليه الصلاة والسلام كما يؤذن بذلك ما ورد أنه يقال للمقبور : ما تقول في هذا الذي بعث إليكم؟ واسم الإشارة يستدعي مشارا إليه محسوسا مشاهدا وهو كما ترى ، واختار بعض أن الشهادة بذلك على بعض الأمة وهم الذين كانوا موجودين في وقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلم حالهم من طاعة وعصيان ، والخطاب في (عَلَيْكُمْ) إما خاص بهم أو عام على سبيل التغليب وفيه ما فيه

٢٠٠