روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

سبحانه ألهمه صلاة وتسبيحا لائقين به مما لا يرتضيه كثير من الناس ، وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام في سورة الإسراء فتذكر.

وجوز بعضهم على تقدير حمل العلم على المعنى الحقيقي أن يكون عطف التسبيح على الصلاة من عطف التفسير ، وأنت تعلم أنه إذا قبل ذلك على ذلك التقدير فما المانع من قبوله على التقدير السابق من جعل الاستعارة تمثيلية ، نعم يفوت حينئذ الإدماج الذي أشير إليه فيما مر وهو ليس بمانع ، والحق أن احتمال التفسير بعيد ولا داعي إلى ارتكابه بل يفوت عليه ما يفوت كما لا يخفى ، وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي بالذي يفعلونه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، و (ما) إما عبارة عن الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا إلى ضمير العقلاء لما أشرنا إليه أول الكلام ، وأما عبارة عنها وعن التسبيح الخاص بالطير معا أو عن تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ضمير العقلاء لما مر ، والاعتراض حينئذ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل ، وإما عبارة عن الأعم من الصلاة والتسبيح وغيرهما من الأفعال الصادرة عمن في السموات والأرض والأحوال العارضة له والاعتراض حينئذ مقرر لمضمون (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ) أي الله تعالى صلاته وتسبيحه ، وأمر التعبير بالفعل والإسناد إلى ضمير العقلاء لا يخفى ، ولتعدد الأوجه فيما مر تعددت الاحتمالات هنا فتأمل ولا تغفل.

وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو «تفعلون» بتاء الخطاب ، وفيه كما قيل وعيد وتخويف ولعل الظاهر أن الخطاب فيه للكفرة ، وربما يجوز أن يكون ضمير الجمع على قراءة الجمهور لهم أيضا على أن المراد بالجملة تخويفهم لإعراضهم عن تسبيحه تعالى بعد أن أخبر سبحانه عمن أخبر بأنه قد علم صلاته وتسبيحه ، وهذا وإن كان بعيدا إلا أن في القراءة المذكورة نوع تأييد له (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا لغيره تعالى استقلالا أو اشتراكا لأنه سبحانه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادا وإعداما إبداء وإعادة ، وقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ) أي إليه عزوجل خاصة لا إلى غيره أصلا (الْمَصِيرُ) أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المنتهى إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبتدأ ، وقيل : إن الجملة لبيان أن ما يرى من ظهور بعض الآثار على أيدي المخلوقات لا ينافي الحصر السابق بإفادة أن الانتهاء إليه تعالى لا إلى غيره ويكفي ذلك في الحصر ولعل الأول أولى ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم ، وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) إلخ كالتأكيد لما قبله والتنوير والإزجاء له سوق الشيء برفق وسهولة ، وقيل : سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به ، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئا بعد شيء على قلة وضعف ، وقيل : أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها ، وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به ، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابه ، والمعنى كما في البحر يسوق سحابة إلى سحابة (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بأن يوصل سحابة بسحابة ، وقال غير واحد : السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله : بين الدخول فحومل ، واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جنس جمعي على ما سمعت.

وقرأ ورش عن نافع «يولف» غير مهموز (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر شديدا كان أو ضعيفا إثر تراكمه وتكاثفه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بجيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق

٣٨١

ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل ، وقيل : هو مفرد كحجاب وحجاز ، وأيد بقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن زيد والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من «خلله» والمراد حينئذ الجنس ، والجملة في موضع الحال من (الْوَدْقَ) لأن الرؤية بصرية ، وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى : فقلنا (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء ، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلا فيما ينزل بناء على المشهور في سبب تكون البرد ، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل (مِنْ جِبالٍ) أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا (١) جَعَلَهُ ناراً) [الكهف : ٩٦] والمراد بها قطع السحاب ، ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في الدرر والغرر الرضوية قول الأصبهاني : إن الجبال ما جبله الله تعالى أي خلقه من البرد (فِيها) أي في السماء ، والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال ، وقوله تعالى : (مِنْ بَرَدٍ) وهو معروف ، وسمي بردا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول (يُنَزِّلُ) على أن من تبعيضية ، وقيل : زائدة على رأي الأخفش والأوليان لابتداء الغاية ، والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو بردا.

وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر ، وقيل : من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول ، وقيل : زائدة على رأي الأخفش أيضا والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالا كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد ، عن الأخفش أن (مِنْ) الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالا لا بردا ومآله ينزل من السماء بردا.

وقال الفراء : هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيتهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ و (فِيها) خبره والضمير من (فِيها) للجبال أي ينزل من السماء جبالا في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره ، وإما على أنه فاعل (فِيها) لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضا. والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازا وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل :

إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى

لها شاعرا مني أطلب وأشعرا

وأكثر بيتا شاعر ضربت له

بطون جبال الشعر حتى تيسرا

ويقال : عنده جبل من ذهب وجبل من علم ، وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلة وبالجبال حقيقتها قالوا : إن الله تعالى خلق في السماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل ، والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التي سمي بخارا ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلا إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعدا عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف

٣٨٢

بالتصاعد شيئا فشيئا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردا أو نزلت ثلجا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض ، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارا وقد ينعقد المطر بردا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عند ما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفا فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع ، وليس بحيث يصير سحابا فيكون منه الظل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابا ويمطر بحاله ، والحق أن كل ذلك مستندا إلى إرادة الله عزوجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال : إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة ، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لا سيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بما ينزل من البرد (مَنْ يَشاءُ) أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أن يصرفه عنه فينجو من غائلته ، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر.

وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى (الْوَدْقَ) والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان ا ه وفيه بعد ومنع ظاهر.

(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما ، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما سمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء ، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر.

وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» ممدودا «برقه» بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة. واللقمة ، وعنه أيضا أنه قرأ «برقه» بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في (ظُلُماتٌ) والسناء ممدودا بمعنى العلو وارتفاع الشأن ، وهو هنا كناية عن قوة الضوء ، وقرئ «يكاد سنا» بإدغام الدال في السين (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أي يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها ؛ وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث إنه توليد للضد من الضد.

وقرأ أبو جعفر «يذهب» بضم الياء وكسر الهاء ، وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا : لأن الباء تعاقب الهمزة ، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية ، وقد أخطئا في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبيّ وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله :

فلثمت فاها قابضا بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار ، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية.

٣٨٣

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه ، وكأن الجملة على هذا استئناف لبيان الحكمة فيما مر ، وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عزوجل لا يتعاصاه ما تقدم من الإزجاء وما بعده ، وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف العطف لقصد التعداد وهو كما ترى (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما فصل آنفا ، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته (لَعِبْرَةً) لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي ، ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لكل من له بصيرة يراجعها ويعلمها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق. وقيل : هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه ، والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة.

وتعقب بأنه يلزم عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء ، واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشئ عند من دقق النظر من عدم الإتقان ، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعا آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا ، وأشار إليه البيضاوي وغيره (١) ولعل من اختار المتبادر راعى أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك ، وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن يدخلون في عموم الدابة ، ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقا ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت ، والتاء فيها للنقل إلى الاسمية لا للتأنيث ، وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن.

وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش «خالق» اسم فاعل «كل دابة» بالجر بالإضافة (مِنْ ماءٍ) هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي ، وعلى الثاني للإفراد الشخصي.

وجوز أن يكون عليهما لذلك ، وكلمة (كُلَ) على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة. وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضا بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار ، وادعى أيضا أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضا وهو آدم وعيسى عليهما‌السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه ، وجوز أن يعتبر العموم في «كل» ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث ، وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق ، وأيا ما كان فمن متعلقة بخلق ، وقال القفال واستحسنه الإمام : هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم (كُلَ) على ظاهره.

__________________

(١) كالثعالبي ا ه منه.

٣٨٤

والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيء حي (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيا مع كونها زحفا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وأنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى ، ويزيد ذلك حسنا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين ، ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] على رأي (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنس والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالنعم والوحش.

والظاهر أنه المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الاعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل. وزعم الفلاسفة أن اعتماد ما له أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك. وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنا ، وتذكير الضمير في (مِنْهُمْ) لتغليب العقلاء ، وبني على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضي ، وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في (كُلَّ دَابَّةٍ) وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه ، ويفهم من كلام بعض المحققين أن لا تغليب في (مِنْ) الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط ، وقد يقال : لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر. وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة ؛ ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازا كما توهم ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية ، والإظهار في قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضا مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها ، وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا) [النور : ٣٤] الآية ، ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر (إِلَيْكُمْ) هناك وعدم ذكره هنا.

(وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) شروع في بيان أحوال بعض من لم يشإ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم صنف من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم. أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروي عن الحسن نحوه ، وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة والسلام وقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ فقال : نعم فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، وقال جبريل عليه‌السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي لذلك الفاروق ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

٣٨٥

وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم الله تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة : بعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعليّ كرم الله تعالى وجهه : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي : قد اشتريتها ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ فنزلت ، وعلى هذا وما قبله جمع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم ، وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك (وَأَطَعْنا) أي وأطعنا الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمر والنهي (ثُمَّ يَتَوَلَّى) أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والطاعة لهما ، وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة (وَما أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين (آمَنَّا) إلخ وهم المنافقون جميعهم لا إلى الفريق المتولي منهم فقط ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه ، ونفي الإيمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم ، وجوز أن تكون للفريق على أن المراد بهم فريق منافقون ، وضمير (يَقُولُونَ) للمؤمنين مطلقا ، والحكم على أولئك الفريق بنفي الإيمان لظهور أمارة التكذيب الذي هو التولي منهم ، و (ثُمَ) على هذا حسبما قرره الطيبي للاستبعاد كأنه قيل كيف يدخلون في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين ويرغبون عن تلك المقالة وهذا بعيد عن العاقل المميز ، وعلى الأول حسبما قرره أيضا للتراخي في الرتبة إيذانا بارتفاع درجة كفر الفريق المتولي عنهم انحطاط درجة أولئك.

وفي الكشف أن الكلام على تقدير كون الإشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتولي وحده كالاستدراك وفيه دلالة على توغل المتولين في الكفر وأصل الكفر شامل للطائفتين ، وأما على تقدير اختصاص الإشارة بالمتولين ففائدة (ثُمَ) استبعاد التولي بعد تلك المقالة ، وفائدة الإخبار إظهار أنهم لم يثبتوا على قولهم كأنه قيل : يقولون هذا ثم يوجد فيهم ما يضاده فلا يكون في دليل خطابه أن غيرهم مؤمن انتهى ، وعليه فضمير (يَقُولُونَ) للمنافقين الشاملين للفريق المتولي لا للمؤمنين مطلقا على الوجهين فتأمل.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي وبين خصومهم ، وضمير (يحكم) للرسول عليه الصلاة والسلام ، وجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ما يفهم من الكلام أي المدعو إليه وهو شامل لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لكن المباشر للحكم هو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وذكر الله تعالى على الوجهين لتفخيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى وأن حكمه في الحقيقة حكم الله عزوجل فقد قالوا : إنه إذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم إنما هو لأحدهما كما في نحو قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٩] أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وإنهما بمنزلة شيء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله إلى الآخر ، وضمير (دُعُوا) يعود إلى ما يعود إليه ضمير (يَقُولُونَ) أي وإذا دعي المنافقون أو المؤمنون مطلقا (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام لكون الحق عليهم وعلمهم

٣٨٦

بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحكم إلا بالحق ، والجملة الشرطية شرح للتولي ومبالغة فيه حيث أفادت مفاجأتهم الإعراض عقب الدعوة دون الحكم عليهم مع ما في الجملة الاسمية الواقعة جزاء من الدلالة على الثبوت والاستمرار على ما هو المشهور ، والتعبير (بَيْنَهُمْ) دون عليهم لأن المتعارف قول أحد المتخاصمين للآخر : اذهب معي إلى فلان ليحكم بيننا لا عليك وهو الطريق المنصف ، وقيل : هذا الإعراض إذا اشتبه عليهم الأمر ، ولذا قال سبحانه : (بَيْنَهُمْ) لا عليهم وفي ذلك زيادة في المبالغة في ذمهم وفيه بحث.

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي لا عليهم كما يؤذن به تقديم الخبر (يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم (مُذْعِنِينَ) منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يحكم لهم ، والظاهر تعلق إلى بيأتوا ، وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة ، وتقديم المعمول للاختصاص أو للفاصلة أو لهما ، وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضا ذم لهم.

وقوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل : أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام مع ظهور حقيتها أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلّم.

وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول : هجر الحبيب مثلا فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضا أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جدا وهو كثير في المحاورات إلا أن الاستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية ، وقوله تعالى :

(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الاستفهام كأنه قيل : ليس شيء مما ذكر سببا لذلك الإعراض ، أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سببا له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة والسلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا ، وأما الثالث فلانتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الانقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله تعالى عليه وسلّم يقضي بالحق عليهم ، فمناط النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين وهو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما ، وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا ، وإذا خص الارتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله تعالى عليه وسلّم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة والسلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة ، و (أَمِ) عليه متصلة. وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاوي حيث جعلا ما تقدم تقسيما لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخير من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث إنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم إذا كان الحق لهم على الغير ، والثاني جعله إضرابا عن الأخيرين منها لتحقيق القسم الأول ، وقال : وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم ، والثاني إما أن يكون محققا أو متوقعا وفسر الارتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم

٣٨٧

ثم قال : وكلاهما باطلان فتعين الأول. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة والسلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف.

وقال العلامة الطيبي : الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل : دع التقسيم فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة. والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل ، ونقل عن الإمام ما يدل على أن أم منقطعة قال : أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف ، ووجه الإضراب أن كلّا مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة ، واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعي في هذه المادة خصوصا ، وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الاستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله :

 لست من القوم الذين تعاهدوا

على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

وقوله :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولا ، وتقديم (عَلَيْهِمْ) على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة والسلام هو حكم الله تعالى ، ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل.

وقوله سبحانه : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) جار على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي ، ونصب (قَوْلَ) على أنه خبر كان وأن مع ما في حيزها في تأويل مصدر اسمها ، ونص سيبويه في مثل ذلك على جواز العكس فيرفع (قَوْلَ) على الاسمية وينصب المصدر الحاصل من السبك على الخبرية.

وقد قرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق والحسن : برفع «قول» على ذلك قال الزمخشري : والنصب أقوى لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو المصدر الذي أول به أن يقولوا لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنه يحتمله كما إذا اختزلت عنه الإضافة ، وقيل في وجه أعرفيته إنه لا يوصف كالضمير ، ولا يخفى أنه لا دخل له في الأعرفية ، ثم أنت تعلم أن المصدر الحاصل من سبك أن والفعل لا يجب كونه مضافا في كل موضع ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى : (ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] إنه بمعنى ما كان هذا القرآن افتراء.

وذكر أن جواز تنكيره مذهب الفارسي وهو ومتعين في نحو أن يقوم رجل إذ هو مؤول قطعا بقيام رجل وهو نكرة بلا ريب. وفي إرشاد العقل السليم أن النصب أقوى صناعة لكن الرفع أقعد معنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذن هو أحق بالخبرية ، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين إذا دعوا إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحكم بينهم وبين خصومهم أن يقولوا

٣٨٨

سمعنا إلخ أي خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا ، وأما النصب فالمعنى عليه إنما كان قولا للمؤمنين خصوصية قولهم (سَمِعْنا) إلخ ففيه من جعل أخص النسبتين وأبعدهما وقوعا وحضورا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغا عنها عنوانا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى انتهى ، وبحث فيه بعضهم بأن مساق الآية يقتضي أن يكون قول المؤمنين سمعنا وأطعنا في مقابلة إعراض المنافقين فحيث ذم ذلك على أتم وجه ناسب أن يمدح هذا ، ولا شك أن الأنسب في مدحه الإخبار عنه لا الإخبار به فينبغي أن يجعل (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) اسم كان و (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) خبرها وفي ذلك مدح لقولهم سمعنا وأطعنا إذ معنى كونه قول المؤمنين أنه قول لائق بهم ومن شأنهم على أن الأهم بالإفادة كون ذلك القول الخاص هو قولهم (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي قولهم المقيد بما ذكر ليظهر أتم ظهور مخالفة حال قولهم سمعنا وأطعنا وحال قول المنافقين آمنا بالله وبالرسول وأطعنا فتدبر فإنه لا يخلو عن دغدغة ، والظاهر أن المراد من (أَطَعْنا) هنا غير المراد منه فيما سبق فكأنهم أرادوا سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم بالذهاب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحكم بينكم وبيننا ، وقيل المعنى قبلنا قولكم وانقدنا له وأجبنا إلى حكم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن ابن عباس ومقاتل أن المعنى سمعنا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطعنا أمره ، وقيل المراد من الطاعة الثبوت أو الإخلاص لتغاير ما مر وهو كما ترى.

وقرأ الجحدري وخالد بن الياس «ليحكم» بالبناء للمفعول مجاوبا لدعوا ، وكذلك قرأ أبو جعفر هنا وفيما مر ونائب الفاعل ضمير المصدر أي ليحكم هو أي الحكم ، والمعنى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) [سبأ : ٥٤].

(وَأُولئِكَ) إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي وأولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجليل (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي هم الفائزون بكل مطلوب والناجون عن كل محذور.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) استئناف جيء به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الانتظام في سلكهم أي ومن يطع الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كائنا من كان فيما أمر به من الأحكام اللازمة والمتعدية ، وعن ابن عباس أنه قال : ومن يطع الله ورسوله في الفرائض والسنن وهو يحتمل اللف والنشر وعلى ذلك جرى في البحر (وَيَخْشَ اللهَ) على ما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما يستقبل (فَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والاتقاء (هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم لا من عدهم.

وقرأ أبو جعفر وقالون عن نافع ويعقوب «ويتقه» بكسر القاف وكسر الهاء من غير إشباع. وقرأ أبو عمرو وحمزة في رواية العجلي وخلاد وأبو بكر في رواية حماد ويحيى بكسر القاف وسكون الهاء. وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء غير مشبعة والباقون بكسر القاف وكسر الهاء مشبعة بحيث يتولد ياء ، ووجه ذلك أبو علي بأن الأصل في هاء الضمير إذا كان ما قبلها متحركا أن تشبع حركتها كما في يؤته ويؤده ووجه عدم الإشباع أن ما قبل الضمير ساكن تقديرا ولا إشباع بحركته فيما إذا سكن ما قبله كفيه ومنه ، ووجه إسكان الهاء أنها هاء السكت وهي تسكن في كلامهم ، وقيل : هي هاء الضمير لكن أجريت مجرى هاء السكت فسكنت وكثيرا ما يجري الوصل مجرى الوقف ، وقد حكي عن سيبويه أنه سمع من يقول : هذه أمة الله في الوصل والوقف ، ووجه قراءة حفص أنه أعطى «يتقه» حكم

٣٨٩

كتف لكونه على وزنه فخفف بسكون وسطه لجعله ككلمة واحدة كما خفف يلدا في قوله : «وذي ولد لم يلده أبوان» وعن ابن الأنباري أنه لغة لبعض العرب في كل معتل حذف آخره فيقولون لم أر زيدا يسقطون الحرف للجزم ثم يسكنون ما قبل ، وعلى ذلك قوله :

ومن يتق فإن الله معه

ورزق الله مؤتاب وغاد

وقوله :

قالت سليمى اشتر لنا سويقا

وهات خبز البر أو دقيقا

والهاء إما للسكت وحركت لالتقاء الساكنين أو ضمير ، وكان القياس ضمها حينئذ كما في منه لكن السكون لعروضه لم يعتد به ولئلا ينتقل من كسر لضم تقديرا ، وضعف الأول لتحريك هاء السكت وإثباتها في الوصل كذا قيل فلا تغفل (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) حكاية لبعض آخر من أكاذيب الكفرة المنافقين مؤكدا بالأيمان الفاجرة فهو عود على بدء ، والقسم الحلف وأصله من القسامة وهي أيمان تقسم على متهمين بقتل حسبما بين في كتب الفقه ثم صار اسما لكل حلف ، وقوله سبحانه : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف ، وجملة ذلك الفعل مع فاعله في موضع الحال أو هو نصب على الحال أي حلفوا به تعالى يجهدون أيمانهم جهدا أو جاهدين أيمانهم ، ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم : جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها ، والمراد أقسموا بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة ، وجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأقسموا أي أقسموا أقسام اجتهاد في اليمين ، قال مقاتل : من حلف بالله تعالى فقد اجتهد في اليمين.

والظاهر هنا أنهم غلظوا الأيمان وشددوها ولم يكتفوا بقول والله (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) أي بالخروج كما يدل عليه قوله تعالى : (لَيَخْرُجُنَ) والمراد بهذا الخروج الخروج للجهاد كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يدل على أن المراد الخروج من الأموال.

وأيا ما كان فالجملة جواب لأقسموا وجواب الشرط محذوف لدلالة هذه الجملة عليه وهي حكاية بالمعنى والأصل لنخرجن بصيغة المتكلم مع الغير ، وقيل الأصل لخرجنا إلا أنه أريد حكاية الحال الماضية فعبر بذلك. وتعقب بأن المعتبر زمان الحكم هو مستقبل (قُلْ) أي ردا عليهم وزجرا لهم عن التفوه بتلك الأيمان وإظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين فيها (لا تُقْسِمُوا) على ما ينبئ عنه كلامكم من الطاعة (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أي طاعتكم طاعة ، والجملة تعليل للنهي كأنه قيل لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة معروفة بأنها واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب لا يجهلها أحد من الناس ، وقيل التقدير المطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها كطاعة الخلص من المؤمنين ، وقيل (طاعَةٌ) مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأولى بكم من قسمكم. واختاره الزجاج ، وقيل : مرفوع بفعل مقدر أي لتكن طاعة معروفة منكم ، وضعف الكل بأنه مما لا يساعده المقام والأخير بأن فيه حذف الفعل في غير موضع الحذف.

وقال البقاعي : لا تقدير في الكلام و (طاعَةٌ) مبتدأ خبره (مَعْرُوفَةٌ) وسوغ الابتداء بالنكرة أنها أريد بها الحقيقة فتعم والعموم من المسوغات ، ولم تعرف لئلا يتوهم أن تعريفها للعهد ، والجملة تعليل للنهي أي لا تقسموا فإن الطاعة معروفة منكم ومن غيركم لا تخفى فقد جرت سنة الله تعالى على أن العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة لا بد وأن يظهر سبحانه مخايلها على شمائله ، وكذا المعصية فلا فائدة في إظهار ما يخالف الواقع ، وفي الأحاديث ما يشهد لما ذكر ، فقد روى الطبراني عن جندب «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها» وروى الحاكم وقال صحيح

٣٩٠

الإسناد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله لإنسان كائنا من كان» وهذا المعنى على ما قيل حسن لكنه خلاف الظاهر.

وقرأ زيد بن علي واليزيدي «طاعة معروفة» بالنصب على تقدير تطيعون طاعة معروفة نفاقية ، وقيل أطيعوا طاعة معروفة حقيقية وطاعة بمعنى إطاعة كما في قوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧](إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد والمراد الوعيد بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم ، وفي الإرشاد أن الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بالمجازاة.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كرر الأمر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما حيث إن المقول الأول نهي بطريق الرد والتبكيت ، وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع ، وفي تكرر فعل الإطاعة والعدول عن اطيعوني إلى أطيعوا الرسول ما لا يخفى من الحث على الطاعة وإطلاقها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما تقدم للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء.

وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) خطاب للمنافقين الذين أمر عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم ما سمعت وارد من قبله عزوجل غير داخل في حيز (قُلْ) على ما اختاره صاحب التقريب وغيره وفيه تأكيد للأمر السابق والمبالغة في إيجاب الامتثال به والحمل عليه بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة بالذات كما هنا ، والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه عليه الصلاة والسلام للمأمور به إليهم ، وعدم التصريح للإيذان بغاية مسارعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمركم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على الرسول عليه الصلاة والسلام (ما حُمِّلَ) أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي ما أمرتم به من الطاعة ، ولعل التعبير بالتحميل أولا للإشعار بثقل الوحي في نفسه ، وثانيا للإشعار بثقل الأمر عليهم ، وقيل : لعل التعبير بذلك في جانبهم للإشعار بثقله وكون مؤنه باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل : وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل ، والتعبير به في جانبه عليه الصلاة والسلام للمشاكلة والفاء واقعة في جواب الشرط وما بعدها قائم مقام الجواب أو جواب على حد ما في قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] كأنه قيل فإن تتولوا فاعلموا أنما عليه إلخ. هذا واختار بعضهم دخول الجملة الشرطية في حيز القول. قال الطيبي : الظاهر أنه تعالى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا يخاف مضرتهم فكان أصل الكلام قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا بمعنى فما يضرونك شيئا وإنما يضرون أنفسهم على الماضي والغيبة في (تَوَلَّوْا) فصرف الكلام إلى المضارع ، والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين بمعنى فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم ، وجعل ذلك جاريا مجرى الالتفات وجعله غيره التفاتا حقيقيا من حيث إنهم جعلوا أولا غيبا حيث أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بخطابهم بقل لهم. ثم خوطبوا بأن تتولوا استقلالا من الله تعالى لا من رسوله صلى الله تعالى عليه وسلّم ، ولا يخفى أن حمل الآية على الخطاب الاستقلالي الغير الداخل تحت القول أدخل في التبكيت.

٣٩١

وفي الأحكام أنه استدل بهذه الآية على أن الأمر للوجوب لأنه تعالى أمر بالإطاعة ثم هدد بقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) إلخ والتهديد على المخالفة دليل الوجوب. وتعقب بأنه لا نسلم أن ذلك للتهديد بل للإخبار وإن سلمنا أنه للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به وليس مهددا على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد عليه وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصيا وبه يدفع أكثر ما ذكره القائلون بالوجوب في معرض الاستدلال على دعواهم فتدبر.

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ) فيما أمركم به عليه الصلاة والسلام من الطاعة (تَهْتَدُوا) إلى الحق الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير المنجي عن كل شر ، ولعل في تقديم الشق الأول وتأخير هذا إشارة إلى أن الترهيب أولى بهم وأنهم ملابسون لما يقتضيه ، وفي الإرشاد تأخير بيان حكم الإطاعة عن بيان حكم التولي لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم ، وقوله تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان على المخاطبين ، وأل إما للجنس المنتظم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس الرسول كائنا من كان أو ما على رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح في نفسه على أن المبين من أبان المتعدي بمعنى بان اللازم ، وقد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام قد فعله بما لا مزيد عليه وإنما بقي ما عليكم ، وقوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن آمن معه ففي الآية تنويع الخطاب حيث خاطب سبحانه المقسمين على تقدير التولي ثم صرفه تعالى عنهم إلى المؤمنين الثابتين وهو كالاعتراض بناء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كون (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) عطفا على قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ) وفائدته أنه لما أفاد الكلام السابق أنه ينبغي أن يأمرهم بالطاعة كفاحا ولا يخاف مضرتهم أكد بأنه عليه الصلاة والسلام هو الغالب ومن معه فأنى للخوف مجال ، وإن شئت فاجعله استئنافا جيء به لتأكيد ما يفيده الكلام من نفي المضرة على أبلغ وجه من غير اعتبار كونه اعتراضا فإن في العطف المذكور ما ستسمعه إن شاء الله تعالى ؛ ومن بيانية ، ووسط الجار والمجرور بين جملة (آمَنُوا) والجملة المعطوفة عليها الداخلة معها في حيز الصلة أعني قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مع التأخير في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح : ٢٩] قيل للدلالة على أن الأصل في ثبوت الاستخلاف الإيمان ، ولهذا كان الأصح عدم الانعزال بالفسق الطارئ ودل عليه صحاح الأحاديث ومدخلية الصلاح في ابتداء البيعة وأما في المغفرة والأجر العظيم فكلاهما أصل فكان المناسب التأخير. وقد يقال : إن ذلك لتعجيل مسرة المخاطبين حيث إن الآية سيقت لذلك ، وقيل : الخطاب للمقسمين والكلام تتميم لقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ببيان ما لهم في العاجل من الاستخلاف وما يترتب عليه وفي الآجل ما لا يقادر قدره على ما أدمج في قوله سبحانه : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) والجار للتبعيض وأمر التوسيط على حاله ، ولم يرتضه بعض الأجلة لأن (آمَنُوا) إن كان ماضيا على حقيقته لم يستقم إذ لم يكن فيهم من كان آمن حال الخطاب وإن جعل بمعنى المضارع على المألوف من أخبار الله تعالى فمع نبوه عن هذا المقام لم يكن دليلا على صحة أمر الخلفاء ولم يطابق الواقع أيضا لأن هؤلاء الأجلاء لم يكن من بعض من آمن من أولئك المخاطبين ولا كان في المقسمين من نال الخلافة انتهى ، وفيه شيء. ولعله لا يضر بالغرض وارتضى أبو السعود تعلق الكلام بذلك وادعى أنه استئناف مقرر لما في قوله تعالى : (وَإِنْ

٣٩٢

تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إلخ من الوعد الكريم معرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التي هي من آثار الاهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الاهتداء وأن المراد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أي طائفة كان وفي أي وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم وأن الخطاب ليس للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين المخلصين أو من يعمهم وغيرهم من الأمة ولا للمنافقين خاصة بل هو لعامة الكفرة وأن من للتبعيض ، وقال في نكتة التوسيط : إنه لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام والإيذان بكونه ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم ، وأما التأخير في آية سورة الفتح فلان من هناك بيانية والضمير للذين معه عليه الصلاة والسلام من خلص المؤمنين ولا ريب في أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليها فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها انتهى.

وأنت تعلم أن كون الخطاب لعامة الكفرة خلاف الظاهر ، وحمل الفعل الماضي على ما يعم الماضي والمستقبل كذلك وفيما ذكره أيضا بعد عن سبب النزول ، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى فنزلت (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الآية ولا يتأتى معه الاستدلال بالآية على صحة أمر الخلفاء أصلا ، ولعله لا يقول به ويستغني عنه بما هو أوضح دلالة ، وعن ابن عباس ومجاهد عامة في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطلقا الأمة وهي تطلق على أمة الإجابة وعلى أمة الدعوة لكن الأغلب في الاستعمال الإطلاق الأول فلا تغفل ، وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم ، والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب ، وقيل مأواه عليه الصلاة والسلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم ليستخلفنهم ، ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق إنجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) منزل منزلة المفعول فلا حذف.

وما في قوله تعالى : (كَمَا اسْتَخْلَفَ) مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفهم استخلافا كائنا كاستخلافه (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم بنو إسرائيل استخلفهم الله عزوجل في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها وهم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين.

وقرئ «كما استخلف» بالبناء فيكون التقدير ليستخلفهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافا أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) عطف على (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) والكلام فيه كالكلام فيه ، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور.

وقيل : لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل ، والتمكين في

٣٩٣

الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلى سبحانه شأنه ويقوي بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجل والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين.

وقيل : المعنى ليجعله مقررا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون ، وأصل التمكين جعل الشيء مكانا لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى ، وفيه بحث. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى : (الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى ، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه (لَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتشديد ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال ؛ وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطف على (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) و (لَيُمَكِّنَنَ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) بمقتضى البشرية في الدنيا من أعدائهم في الدين (أَمْناً) لا يقادر قدره ، وقيل : الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول.

وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل.

(يَعْبُدُونَنِي) جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من (الَّذِينَ) الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) أو في (لَيُبَدِّلَنَّهُمْ) وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد ، وقوله تعالى : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من الواو في (يَعْبُدُونَنِي) أو من (الَّذِينَ) أو بدل من الحال أو استئناف. ونصب (شَيْئاً) على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك. ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر.

وأخرج عبد بن حميد بن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) لا يخافون أحدا غيري ، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه. ولعلهما أرادا بذلك تفسير (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) وكأنهما عدا خوف غير الله نوعا من الإشراك ، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل : يعبدونني غير خائفين أحدا غيري ، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ) إلخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة (يَعْبُدُونَنِي) إلخ استئناف لبيان ما يصلون إليه في الأمن كأنه قيل : يأمنون إليّ حيث لا يخافون أحدا غير الله تعالى ولا يخفى ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي) دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة.

(وَمَنْ كَفَرَ) أي ومن ارتد من المؤمنين (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد حصول الموعود به (فَأُولئِكَ) المرتدون البعداء عن الحق (هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ

٣٩٤

ولا كجناح بعوضة ، وقيل : كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكمالهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها ، وقيل : إشارة إلى الوعد السابق نفسه ، وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق ، وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى. والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر ، وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث إنه لا يبقى بعد حصوله عذرا لمن يرتد ، وقوة مناسبته للمقام لا تخفى. وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال : كنت جالسا مع حذيفة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذيفة : ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال : بم تقول؟ قال : بهذه الآية (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلى آخر الآية وكأن ضحك ابن مسعود كان استغرابا لذلك وسكوته بعد الاستدلال ظاهر في ارتضائه لما فهمه معدن سر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآية. (وَمَنْ) تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية وجملة (مَنْ كَفَرَ) إلخ قيل معطوفة على جملة (وَعَدَ اللهُ) إلخ أو على جملة محذوفة كأنه قيل : من آمن فهم الفائزون ومن كفر إلخ ، إن هذه الجملة وكذا جملة (يَعْبُدُونَنِي) استئناف بياني أما ذلك في الأولى فالسؤال ناشئ من قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ) إلخ فكأنه قيل : فما ينبغي للمؤمنين بعد هذا الوعد الكريم أو بعد حصوله؟ فقيل : يعبدونني لا يشركون بي شيئا. وأما في الثانية فالسؤال ناشئ من الجواب المذكور فإنه قيل فإن لم يفعلوا فما ذا؟ فقيل : ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وجزاؤهم معلوم وهو كما ترى.

هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم لأن الله تعالى وعد فيها من في حضرة الرسالة من المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء ولا بدّ من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى ولم يقع ذلك المجموع إلا في عهدهم فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف الله تعالى إياه حسبما وعد جلّ وعلا ولا يلزم عموم الاستخلاف لجميع الحاضرين المخاطبين بل وقوعه فيهم كبنو فلان قتلوا فلانا فلا ينافي ذلك عموم الخطاب الجميع ، وكون من بيانية ، وكذا لا ينافيه ما وقع في خلافة عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما من الفتن لأن المراد من الأمن الأمن من أعداء الدين وهم الكفار كما تقدم.

وأقامها بعض أهل السنة دليلا على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة ، ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه لأنها مسلمة عند الشيعة والأدلة كثيرة عند الطائفتين على من ينكرها من النواصب عليهم من الله تعالى ما يستحقون فقال : إن الله تعالى وعد فيها جمعا من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الاستخلاف وما معه ووعده سبحانه الحق ولم يقع ذلك إلا في عهد الثلاثة ، والإمام المهدي لم يكن موجودا حين النزول قطعا بالإجماع فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك ، والأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان موجودا إذ ذاك لكن لم يكن يرج الدين المرضي كما هو حقه في زمانه رضي الله تعالى عنه بزعم الشيعة بل صار أسوأ حالا بزعمهم مما كان في عهد الكفار كما صرح بذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية ولم يكن الأمن الكامل حاصلا أصلا في زمانه رضي الله تعالى عنه فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه وهم كفرة بزعم الشيعة وأغلب عسكر الأمير يخافونهم ويحذرون غاية الحذر منهم ، ومع هذا الأمير فرد يمكن إرادته من

٣٩٥

الذين آمنوا ليكون هو رضي الله تعالى عنه مصداق الآية كما يزعمون فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفراد ، وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد فلا احتمال لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها ولم يحصل لهم التسلط في الأرض ولم يقع رواج دينهم المرتضى لهم وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين منهم كما أجمع عليه الشيعة فلزم أن الخلفاء الثلاثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة وهو المطلوب.

وزعم الطبرسي أن الخطاب للنبي وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم الموعودون بالاستخلاف وما معه ويكفي في ذلك تحقق الموعود في زمن المهدي رضي الله تعالى عنه ، ولا ينافي ذلك عدم وجوده عند نزول الآية لأن الخطاب الشفاهي لا يخص الموجودين ، وكذا لا ينافي عدم حصوله للكل لأن الكلام نظير بنو فلان قتلوا فلانا ، واستدل على ذلك بما روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الآية فقال : هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا».

وزعم أنه روي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وهذا على ما فيه مما يأباه السياق والأخبار الصحيحة الواردة في سبب النزول وأخبار الشيعة لا يخفى حالها لا سيما على من وقف على التحفة الاثني عشرية. نعم ورد من طريقنا ما يستأنس به لهم في هذا المقام لكنه لا يعول عليه أيضا مثل أخبارهم وهو ما أخرجه عبد بن حميد عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام قرأ الآية فقال : أهل البيت هاهنا وأشار بيده إلى القبلة. وزعم بعضهم نحو ما سمعت عن الطبرسي إلا أنه قال : هي في حق جميع أهل البيت علي كرم الله تعالى وجهه وسائر الأئمة الأنثى عشر وتحقق ذلك فيهم زمن الرجعة حين يقوم القائم رضي الله تعالى عنه. وزعم أنها أحد أدلة الرجعة ، وهذا قد زاد في الطنبور نغمة. وقال الملأ عبد الله المشهدي في كتابه إظهار الحق لإبطال الاستدلال على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة : يحتمل أن يكون الاستخلاف بالمعنى اللغوي وهو الإتيان بواحد خلف آخر أي بعده كما في قوله تعالى في حق بني إسرائيل : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٢٩] فقصارى ما يثبت أنهم خلفاء بالمعنى اللغوي وليس النزاع فيه بل هو دفي المعنى الاصطلاحي وهو معنى مستحدث بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا ه.

وأجيب بأنه لو تم هذا لا يتم لهم الاستدلال على خلافة الأمير كرم الله وجهه بالمعنى المصطلح بحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» المعتضد بما حكاه سبحانه عن موسى عليه‌السلام من قوله لهارون (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) [الأعراف : ١٤٣] وبما يروونه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا علي أنت خليفتي من بعدي» وكذا لا يتم لهم الاستدلال على إمامة الأمير كرم الله وجهه بما تضمن لفظ الإمام لأنه لم يستعمل في الكتاب المجيد بالمعنى المصطلح أصلا وإنما استعمل بمعنى النبي والمرشد والهادي والمقتدى به في أمر خيرا كان أو شرا ومتى ادعى فهم المعنى المصطلح من ذلك بطريق اللزوم فليدع فهم المعنى المصطلح من الخليفة كذلك وربما يدعي أن فهمه منه أقوى لأنه مقرون من حيث وقع في الكتاب العزيز بلفظ في الأرض الدال على التصرف العام الذي هو شأن الخليفة بذلك المعنى على أن مبنى الاستدلال على خلافة الثلاثة بهذه الآية ليس مجرد لفظ الاستخلاف حتى يتم غرض المناقش فيه بل ذلك مع ملاحظة إسناده إلى الله تعالى ، وإذا أسند الاستخلاف اللغوي إلى الله عزوجل فقد صار استخلافا شرعيا وقد يستفتى

٣٩٦

في هذه المسألة من علماء الشيعة فيقال : إن إتيان بني إسرائيل بمكان آل فرعون والعمالقة وجعلهم متصرفين في أرض مصر والشام هل كان حقا أو لا ولا أظنهم يقولون إلا أنه حق وحينئذ يلزمهم أن يقولوا به في الآية لعدم الفرق وبذلك يتم الغرض هذا حاصل ما قيل في هذا المقام.

والذي أميل إليه أن الآية ظاهرة في نزاهة الخلفاء الثلاثة رضي الله تعالى عنهم عما رماهم للشيعة به من الظلم والجور والتصرف في الأرض بغير الحق لظهور تمكين الدين والأمن التام من أعدائه في زمانهم ولا يكاد يحسن الامتنان بتصرف باطل عقباه العذاب الشديد. وكذا لا يكاد يحسن الامتنان بما تضمنته الآية على أهل عصرهم مع كونهم الرؤساء الذين بيدهم الحل والعقد لو كانوا وحاشاهم كما يزعم الشيعة فيهم ، ومتى ثبت بلك نزاهتهم عما يقولون اكتفينا به وهذا لا يتوقف إلا على اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح حال نزول الآية وإنكار الشيعة له إنكار للضروريات ، وكون المراد بالآية عليا كرم الله وجهه أو المهدي رضي الله تعالى عنه وأهل البيت مطلقا مما لا يقوله منصف.

وفي كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه ما يقتضي بسوقه خلاف ما عليه الشيعة ففي نهج البلاغة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما استشار الأمير كرم الله وجهه لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال له : إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله تعالى الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عزّ اسمه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) والله تعالى منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطعمهم فيك فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما نقاتل بالنصر والمعونة ا ه فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) جوز أن يكون عطفا على (أَطِيعُوا اللهَ) داخلا معه في حيز القول والفاصل وليس بأجنبي منكل وجه فإنه وعد المأمور به وبعضه من تتمته. وفي الكشاف ليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه والفاصل يؤكد المغايرة ويرشحها لأن المجاورة مظنة الاتصال والاتحاد فيكون تكرير الأمر بإطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام للتأكيد وأكد دون الأمر بطاعة الله تعالى لما أن في النفوس لا سيما نفوس العرب من صعوبة الانقياد للبشر ما ليس فيها من صعوبة الانقياد لله تعالى ولتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه وهي الجمل الواقعة في حيز القول بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كما علق الاهتداء بالإطاعة في قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) والإنصاف أن هذا العطف بعيد بل قال بعضهم : إنه مما لا يليق بجزالة النظم الكريم.

وجوز أن يكون عطفا على (يَعْبُدُونَنِي) وفيه تخصيص بعد التعميم ، وكان الظاهر أن يقال يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الرسول لعلهم يرحمون ، لكن عدل عن ذلك إلى ما ذكر التفاتا إلى الخطاب لمزيد الاعتناء وحسنه هنا الخطاب في (مِنْكُمْ). وتعقب بأنه مما لا وجه له لأنه بعد تسليم

٣٩٧

الالتفات وجواز عطف الإنشاء على الاخبار لا يناسب ذلك ؛ وكون الجملة السابقة حالا أو استئنافا بيانيا ، والذي اختاره كونه عطفا على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإنه سبحانه لما ذكر (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فهم النهي عن الكفر فكأنه قيل : فلا تكفروا وأقيموا الصلاة إلخ.

وجوز أن يكون انفهام المقدر من مجموع ما تقدم من قوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) إلخ ، حيث إنه يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح فكأنه قيل فآمنوا واعملوا الصالحات وأقيموا إلخ ، وجوز في (أَطِيعُوا) أن يكون أمرا بإطاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية وأن يكون أمرا بالإطاعة فيما عدا الأمرين السابقين فيكون ذكره لتكميلهما كأنه قيل : وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به ، وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ) إلخ متعلق بالأوامر الثلاثة وجعل على الأول متعلقا بالأخير ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين ، وفي ذلك أيضا رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبان نظير ما في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [لسجدة : ١٢].

وجوز أن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله : «إياك عني فاسمعي يا جارة» أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح والمحذورية إلى حيث ينهى من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤ ، يونس : ١٠٥ ، القصص : ٨٧] فقول أبي حيان : إن جعل الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة والسلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر ؛ ومحمل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى : (مُعْجِزِينَ) ثانيهما وقوله تعالى (فِي الْأَرْضِ) ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب. وقرأ حمزة وابن عامر «يحسبن» بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسبن حاسب الكافرين معجزين له عزوجل في الأرض وضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم ذكره عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وإليه ذهب أبو علي.

وزعم أبي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين ، ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض ، وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذلك الثالث ، وتعقبه في البحر بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل (لا يحسبهم الذين) إلخ كما لا يجوز ظنه زيد قائما ، وقال الكوفيون (مُعْجِزِينَ) المفعول الأول و (فِي الْأَرْضِ) المفعول الثاني ، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك ، قال الزمخشري : وهذا معنى قوي جيد ، وتعقب بأنه بمعزل عن المطابقة لمقتضى للمقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض. ورد بأنه وإن كان مصب الفائدة جعل مفروغا منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والانصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر ، والظاهر إنما هو تعلق (فِي الْأَرْضِ) بمعجزين وأيا ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفا ، ومن ذلك يعلم ما في

٣٩٨

قول النحاس ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة ، فمنهم من يقول : هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن ، ومنهم من قال هذا أبو حاتم انتهى من قلة الوقوف ومزيد الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن ، ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك الإمام ، وقوله تعالى : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهي عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل الذين كفروا معجزين ومأواهم النار.

وجوز أن يكون عطفا على مقدر لأن الأول وعيد الدنيا كأنه قيل مقهورون في الدنيا بالاستئصال ومخزون في الآخرة بعذاب النار ، وعن صاحب النظم تقديره بل هم مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار.

قال في الكشف : وجعله حالا على معنى لا ينبغي الحسبان لمن مأواه النار كأنه قيل أنى للكافر هذا الحسبان وقد أعد له النار ، والعدول إلى (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) للمبالغة في التحقق وأن ذلك معلوم لهم لا ريب وجه حسن خال عن كلف لكلفة ألم به بعض الأئمة انتهى ، ولا يخفى أن في ظاهره ميلا إلى بعض تخريجات قراءة «يحسبن» بياء الغيبة.

وتعقب في البحر تأويل جملة النهي لتصحيح العطف عليها بقوله : الصحيح أنه يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه ، والمأوى اسم مكان ، وجوز فيه المصدرية والأول أظهر ، وقوله تعالى : (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وبالله (لَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هي أي النار ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيرا لهم أثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة ما لا غاية وراءه فلله تعالى در شأن التنزيل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً

٣٩٩

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ رجوع عند الأكثرين إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، وفي التحقيق ويحتمل أن يقال : إنه مما يطاع الله تعالى ورسوله لله فيه ، وتخصيصه بالذكر لأن دخوله في الطاعة باعتبار أنه من الآداب أبعد من غيره ، والخطاب إما للرجال خاصة والنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين تغليبا ، واعترض الأول بأن الآية نزلت بسبب النساء ، فقد روي أن أسماء بنت أبي مرثد (١) دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت ، وقد ذكر الإتقان أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي.

وأجيب بأنه ما المانع من أن يعلم الحكم في السبب بطريق الدلالة والقياس الجلي ويكون ذلك في حكم الدخول ، ونقل عن السبكي أنه ظني فيجوز إخراجه ؛ وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول ، ثم ما ذكر في سبب النزول ليس مجمعا عليه ، فقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله تعالى عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج وكان رضي الله تعالى عنه نائما فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا ، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله تعالى عنه للوحي ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات فيغتسلوا ثم يخرجون إلى الصلاة فى مرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ويعلم منه أن الأمر في قوله سبحانه (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وإن كان في الظاهر للمملوكين والصبيان لكنه في الحقيقة للمخاطبين فكأنهم أمروا أن يأمروا المذكورين بالاستئذان وبهذا ينحل ما قيل : كيف يأمر الله عزوجل من لم يبلغ الحلم بالاستئذان وهو تكليف ولا تكليف قبل البلوغ ، وحاصله أن الله تعالى لم يأمره حقيقة وإنما أمر سبحانه الكبير أن يأمره بذلك كما أمره أن يأمره بالصلاة ، فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مروا أولادكم بالصلاة وهم

__________________

(١) وقيل أبي مرشد بالشين المعجمة واختاره جمع ا ه منه.

٤٠٠