روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

المشرق إلى المغرب لأنها أولى بهذه الأجرام لكونها أقل مخالفة ولأن غاية الحركة للجرم الأقصى وغاية السكون للأرض فيجب أن يكون ما هو أقرب إلى الأقصى أسرع مما هو أبعد ولأنه لو كان بعضها من المشرق وبعضها من المغرب يلزم أن يتحرك الكوكب بحركتين مختلفتين جهة وذلك محال لأن الحركة إلى جهة تقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحركتان طبيعيتين أو قسريتين أو إحداهما طبيعية والأخرى قسرية.

ولا يدفع هذا بما يشاهد من حركة النملة على الرحى إلى جهة حال حركة الرحى إلى خلافها لأنه مثال والمثال لا يقدح في البرهان ولأن القطع على مثل هذه الحركات جائز أما على الحركات الفلكية فمحال ، وما استدل به على أن غير الحركة السريعة من المغرب إلى المشرق لا يدل عليه لجواز أن تكون من المشرق ويظن أنها من المغرب وبيانه أن المتحركين إلى جهة واحدة حركة دورية متى كان أحدهما أسرع من حركة الآخر فإنهما إذا تحركا إلى تلك الجهة رؤي الإبطاء منهما متخلفا فيظن أنه متحرك إلى خلاف تلك الجهة لأنهما إذا اقترنا ثم تحركا في الجهة بما لهما من الحركة فسار السريع دورة تامة وسار البطيء دورة الأقوى صار البطيء متخلفا عن السريع في الجهة المخالفة لجهة حركتهما بتلك القوس ، وقالوا : يجب المصير إلى ذلك لما أن البرهان يقتضيه ولا يبطله شيء من الأعمال النجومية.

وقد أورد الإمام في الملخص ما ذكر في الاستدلال على محالية الحركتين المختلفتي الجهة للجسم الواحد إشكالا على القائلين بهما ثم قال : ولقوة هذا الكلام أثبت بعضهم الحركة اليومية لكرة الأرض لا لكرة السماء وإن كان ذلك باطلا وأورده في التفسير وسماه برهانا قاطعا وذهب فيه إلى ما ذهب إليه هذا البعض من أن الحركات كلها من المشرق إلى المغرب لكنها مختلفة سرعة وبطأ وفيما ذكروه نظر لأن الشبهتين الأوليين اقناعيتان والثالثة وإن كانت برهانية لكن فسادها أظهر من أن يخفى ، وأما أن شيئا من الأعمال النجومية لا يبطله فباطل لأن هذه الحركة الخاصة للكوكب أعني حركة القمر من المشرق إلى المغرب مثلا دورة إلا قوسا لا يجوز أن تكون على قطبي البروج لأنها توجد موازية لمعدل النهار ولا على قطبي المعدل وإلا لما زالت عن موازنة ولما انتظمت من القسي التي تتأخر فيها كل يوم دائرة عظيمة مقاطعة للمعدل كدائرة البروج من القسي التي تأخرت الشمس فيها بل انتظمت صغيرة موازية له اللهم إلا إذا كان الكوكب على المعدل مقدار ما يتمم بحركته دورة فإن المنتظمة حينئذ تكون نفس المعدل لكن هذا غير موجود في الكواكب التي نعرفها ولا على قطبين غير قطبيهما وإلا لكان يرى مسيره فوق الأرض على دائرة مقاطعة للدوائر المتوازية ولم تكن دائرة نصف النهار تفصل الزمان الذي من حين يطلع إلى حين يغرب بنصفين لأن قطبي فلكه المائل لا يكون دائما على دائرة نصف النهار فلا تنفصل قسيّ مداراته الظاهرة بنصفين ، ولأنه لو كان الأمر كما توهموا لكانت الشمس تصل إلى أوجها وحضيضها وبعديها الأوسطين بل إلى الشمال والجنوب فيجب أن تحصل جميع الأظلال اللائقة بكون الشمس في هذه المواضع في اليوم الواحد والوجود بخلافه.

وقول من قال يجوز أن يكون حركة الشمس في دائرة البروج إلى المغرب ظاهر الفساد لأنه لو كان كذلك لكان اليوم الواحد بليلته ينقص عن دور معدل النهار بقدر القوس التي قطعتها الشمس بالتقريب بخلاف ما هو الواقع لأنه يزيد على دور المعدل بذلك القدر ولكان يرى قطعها البروج على خلاف التوالي وليس كذلك لتأخرها عن الجزء الذي يتوسط معها من المعدل في كل يوم نحو المشرق ، فإذا حركات الأفلاك الشاملة للأرض ثنتان حركة إلى التوالي وأخرى إلى خلافه ، وأما حركات التداوير فخارجة عن القسمين لأن حركات أعاليها مخالفة لحركات أسافلها لا محالة

٤١

لكونها غير شاملة للأرض ، فإن كانت حركة الأعلى من المغرب إلى المشرق فحركة الأسفل بالعكس كما في المتحيرة ، وإن كانت حركة الأعلى من المشرق إلى المغرب كانت حركة الأسفل بالعكس كما في القمر. هذا وقصارى ما نقول في هذا المقام : إن ما ذكره الفلاسفة في أمر الأفلاك الكلية والجزئية وكيفية حركاتها وأوضاعها أمر ممكن في نفسه ولا دليل على أنه هو الواقع لا غير ، وقد ذهب إلى خلافة أهل لندن وغيرهم من أصحاب الأرصاد اليوم ، وكذا أصحاب القلبية والمعارج المعنوية كالشيخ الأكبر قدس‌سره وقد أطال الكلام في ذلك في الفتوحات المكية. وأما السالف الصالح فلم يصح عنهم تفصيل الكلام في ذلك لما أنه قليل الجدوى ووقفوا حيث صح الخبر وقالوا : إن اختلاف الحركات ونحوه بتقدير العزيز العليم وتشبثوا فيما صح وخفي سببه بأذيال التسليم ، والذي أميل إليه أن السموات على طبق ما صحت به الأخبار النبوية في أمر الثخن وما بين كل سماء وسماء ولا أخرج عن دائرة هذا الميل ، وأقول يجوز أن يكون ثخن كل سماء فلك لكل واحدة من السيارات على نحو الفلك الذي أثبته الفلاسفة لها وحركته الذاتية على نحو حركته عندهم وحركته العرضية بواسطة حركة سمائه إلى المغرب الحركة اليومية فتكون حركات السموات متساوية ، وإن أبيت تحرك السماء بجميع ما فيها لإباء بعض الأخبار عنه مع عدم دليل قطعي يوجبه قلت : يجوز أن يكون هناك محرك في ثخن السماء أيضا ويبقى ما يبقى منها ساكنا بقدرة الله تعالى على سطحه الأعلى ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وللفلاسفة في تحقيق أن المحيط كيف يحرك المحاط به كلام تعقبه الإمام ثم قال : الصحيح أن المحرك للكل هو الله تعالى باختياره وإن ثبت على قانون قولهم كون الحاوي محركا للمحوي فإنه يكون محركا بقوة نفسه لا بالمماسة ، وأما الثوابت فيحتمل أن تكون في فلك فوق السموات السبع ويحتمل أن يكون في ثخن السماء السابعة فوق فلك زحل بل إذا قيل بأن جميع الكواكب الثوابت والسيارات في ثخن السماء الدنيا تتحرك على أفلاك مماثلة للأفلاك التي أثبتها لها الفلاسفة ويكون لها حركتان على نحو ما يقولون لم يبعد ، وفيه حفظ الظاهر قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] وما ذكروه في علم الأجرام والأبعاد على اضطرابه لا يلزمنا تسليمه فلا يراد أنهم قالوا بعد الثوابت عن مركز الأرض خمسة وعشرون ألف ألف وأربعمائة واثنا عشر ألفا وثمانمائة وتسع وتسعون فرسخا ، وما ورد في الخبر من أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وسمك السماء كذلك يقتضي أن يكون بين وجه الأرض والثوابت على هذا التقدير ألف عام وفراسخ مسيرة ذلك مع فراسخ نصف قطر الأرض وهي ألف ومائتان وثلاثة وسبعون تقريبا على ما قيل دون ما ذكر بكثير.

ولا حاجة إلى أن يقال : العدد لا مفهوم له واختيار خمسمائة لما أن الخمسة عدد دائر فيكون في ذلك رمز خفي إلى الاستدارة كما قيل في كل فلك ، ويشير إلى صحة احتمال أن يكون الفلك في ثخن السماء ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر ، والأخبار المرفوعة والموقوفة في أمر الكواكب والسموات والأرض كثيرة.

وقد ذكر الجلال السيوطي منها ما ذكر في رسالة ألفها في بيان الهيئة السنية ، وإذا رصدتها رأيت أكثرها مائلا عن دائرة بروج القبول ، وفيها ما يشعر بأن للكوكب حركة قسرية نحو ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة ما طلعت الشمس حتى يوتر لها كما توتر القوس ، ثم الظاهر أن يراد بالسباحة الحركة الذاتية ويجوز أن يراد بها الحركة العرضية بل قيل هذا أولى لأن تلك غير مشاهدة مشاهدة هذه بل عوام الناس لا يعرفونها ، وقيل يجوز أن يراد بها ما يعم الحركتين ، واستنبط بعضهم من نسبة السباحة إلى الكوكب أن ليس هناك حامل له يتحرك بحركته مطلقا بل هو

٤٢

متحرك بنفسه في الفلك تحرك السمكة في الماء إذ لا يقال للجالس في صندوق أو جذع يجري في الماء إنه يسبح ، واختار أنه يجري في مجرى قابل للخرق والالتئام كالماء ودون إثبات استحالة ذلك العروج إلى السماء السابعة ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وهو سبحانه ولي التوفيق وعلى محور هدايته تدور كرة التحقيق ، وهذه نبذة مما رأينا إيراده مناسبا لهذا المقام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى نبذة أخرى مما يتعلق بذلك من الكلام (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ) كائنا من كان (مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي الخلود والبقاء في الدنيا لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية ، وقيل الخلد المكث الطويل ومنه قولهم للأثافي خوالد ، واستدل بذلك على عدم حياة الخضر عليه‌السلام ، وفيه نظر (أَفَإِنْ مِتَ) بمقتضى حكمتنا (فَهُمُ الْخالِدُونَ) نزلت حين قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] والفاء الأولى لتعليق الجملة الشرطية بما قبلها والهمزة لإنكار مضمونها وهي في الحقيقة لإنكار جزائها أعني ما بعد الفاء الثانية. وزعم يونس أن تلك الجملة مصب الإنكار والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف تدل عليه الجملة وليس بذاك ، ويتضمن إنكار ما ذكر إنكار ما هو مدار له وجودا وعدما من شماتتهم بموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل أفإن مت فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك ، وفي معنى ذلك قول الإمام الشافعي عليه الرحمة :

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تزود لأخرى مثلها فكأن قد

وقول ذي الإصبع العدواني :

إذا ما الدهر جر على أناس

كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

وذكر العلامة الطيبي ونقله صاحب الكشف بأدنى زيادة أن هذا رجوع إلى ما سيق له السورة الكريمة من حيث النبوة ليتخلص منه إلى تقرير مشرع آخر ، وذلك لأنه تعالى لما أفحم القائلين باتخاذ الولد والمتخذين له سبحانه شركاء وبكتهم ذكر ما يدل على إفحامهم وهو قوله تعالى : (أَفَإِنْ) إلخ لأن الخصم إذا لم يبق له متشبث تمنى هلاك خصمه.

وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) برهان على ما أنكر من خلودهم وفيه تأكيد لقوله سبحانه: (وَما جَعَلْنا) إلخ ، والموت عند الشيخ الأشعري كيفية وجودية تضاد الحياة ، وعند الأسفرايني وعزي للأكثرين أنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة بالفعل فيكون عدم تلك الحياة كما في العمى الطارئ على البصر لا مطلق العمى فلا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتا ، وقيل عدم الحياة عما من شأنه الحياة مطلقا فيلزم ذلك ولا ضير لقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] واستدل الأشعري على كونه وجوديا بقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] فإن الخلق هو الإيجاد والإخراج من العدم وبأنه جائز والجائز لا بد له من فاعل والعدم لا يفعل. وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون بمعنى التقدير وهو أعم من الإيجاد ولو سلم كونه بمعنى الإيجاد فيجوز أن يراد بخلق الموت إيجاد أسبابه أو يقدر المضاف وهو غير عزيز في الكلام ، وعن الأستاذ أن المراد بالموت الآخرة والحياة الدنيا لما روي عن ابن عباس تفسيرهما بذلك ، وعن الثاني بأن الفاعل قد يريد العدم كما يريد الحياة فالفاعل يعدم الحياة كما يعدم البصر مثلا.

وقال اللقاني : الظاهر قاض بما عليه الأشعري والعدول عن الظاهر من غير داع غير مرضي عند العدول ، وكلامه صرح في أنه عرض وتوقف بعض العلماء القائلين بأنه وجودي في أنه جوهر أو عرض لما أن في بعض الأحاديث أنه

٤٣

معنى خلقه الله تعالى في كف ملك الموت ، وفي بعضها أن الله تعالى خلقه على صورة كبش لا يمر بشيء يجد ريحه إلا مات ، وجل عبارات العلماء أنه عرض يعقب الحياة أو فساد بنية الحيوان ، والأول غير مانع والثاني رسم بالثمرة ، وقريب منه ما قاله بعض الأفاضل : إنه تعطل القوى لانطفاء الحرارة الغريزية التي هي آلتها فإن كان ذلك لانطفاء الرطوبة الغريزية فهو الموت الطبيعي وإلا فهو الغير الطبيعي ، والناس لا يعرفون من الموت إلا انقطاع تعلق الروح بالبدن التعلق المخصوص ومفارقتها إياه ، والمراد بالنفس النفس الحيوانية وهي مطلقا أعم من النفس الإنسانية كما أن الحيوان مطلقا أعم من الإنسان.

والنفوس عند الفلاسفة ومن حذا حذوهم ثلاثة : النباتية والحيوانية والفلكية والنفس مقولة على الثلاثة بالاشتراك اللفظي على ما حكاه الإمام في الملخص عن المحققين. وبالاشتراك المعنوي على ما يقتضيه كلام الشيخ في الشفاء ، وتحقيق ذلك في محله ، وإرادة ما يشمل الجميع هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقال بعضهم : المراد بها النفس الإنسانية لأن الكلام مسوق لنفي خلود البشر ، واختير عمومها لتشمل نفوس البشر والجن وسائر أنواع الحيوان ولا يضر ذلك بالسوق بل هو أنفع فيه ، ولا شك في موت كل من أفراد تلك الأنواع نعم اختلف في أنه هل يصح إرادة عمومها بحيث تشمل نفس كل حي كالملك وغيره أم لا بناء على الاختلاف في موت الملائكة عليهم‌السلام والحور العين فقال بعضهم : إن الكل يموتون ولو لحظة لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقال بعضهم : إنهم لا يموتون لدلالة بعض الأخبار على ذلك ، والمراد من كل نفس النفوس الأرضية والآية التي استدل بها مؤولة بما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى وهم داخلون في المستثنى في قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] أولا يسلم أن كل صعق موت ، وقال بعضهم : إن الملائكة يموتون والحور لا تموت ، وقال آخرون : إن بعض الملائكة عليهم‌السلام يموتون وبعضهم لا يموت كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم‌السلام ورجح قول البعض ، ولا يرد أن الموت يقتضي مفارقة الروح البدن والملائكة عليهم‌السلام لا أبدان لهم لأن القائل بموتهم يقول بأن لهم أبدانا لكنها لطيفة كما هو الحق الذي دلت عليه النصوص ، وربما يمنع اقتضاء الموت البدن.

وبالغ بعضهم فادعى أن النفوس أنفسها تموت بعد مفارقتها للبدن وإن لم تكن بعد المفارقة ذات بدن ، وكأنه يلتزم تفسير الموت بالعدم والاضمحلال ، والحق أنها لا تموت سواء فسر الموت بما ذكر أم لا ، وقد أشار أحمد بن الحسين الكندي إلى هذا الاختلاف بقوله :

تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم

إلا على شجب والخلف في شجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمة

وقيل تشرك جسم المرء في العطب

وذهب الإمام إلى العموم في الآية إلا أنه قال : هو مخصوص فإن له تعالى نفسا كما قال سبحانه حكاية عن عيسى عليه‌السلام (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه ، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت ، ثم قال : والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه ، وذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية إنها لا تموت ا ه ، وفيه أنه إن أراد بالنفس الجوهر المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف كما قاله الفلاسفة ومن وافقهم أو الجسم النوراني الخفيف الحي المتحرك النافذ في الأعضاء الساري فيها سريان ماء الورد كما عليه جمهور المحدثين وذكر له ابن القيم مائة دليل فالله تعالى منزه عن ذلك أصلا.

٤٤

وكذا الجمادات لا تتصف بها على الشائع ، وأيضا ليس للأرواح البشرية والعقول المفارقة عند الفلاسفة نفسا بأحد ذينك المعنيين فكيف يبطل بالآية الكريمة قولهم ، وإن أراد بها الذات كما هو أحد معانيها جاز أن تثبت لله تعالى وقد قيل به في الآية التي ذكرها ، وكذا هي ثابتة للجمادات لكن يرد عليه أنه إن أراد بالموت مفارقة الروح للبدن أو نحو ذلك يبطل قوله وذلك يبطل إلخ لأن الأرواح والعقول المذكورة لا أبدان لها عند الفلاسفة فلا يتصور فيها الموت بذلك المعنى ، وإن أراد به العدم والاضمحلال يرد عليه أن الجمادات تتصف به فلا يصح قوله وهي لا تموت ، وبالجملة لا يخفى على المتذكر أن الإمام سها في هذا المقام ، ثم إن معنى كون النفس ذائقة الموت أنها تلابسه على وجه تتألم به أو تلتذ من حيث إنها تخلص به من مضيق الدنيا الدنيئة إلى عالم الملكوت وحظائر القدس كذا قيل.

والظاهر أن كل نفس تتألم بالموت لكن ذلك مختلف شدة وضعفا ، وفي الحديث «إن للموت سكرات» ولا يلزم من التخلص المذكور لبعض الناس عدم التألم ، ولعل في اختيار الذوق إيماء إلى ذلك لمن له ذوق فإن أكثر ما جاء في العذاب ، وقال الإمام : إن الذوق إدراك خاص وهو هاهنا مجاز عن أصل الإدراك ولا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس الطعام حتى يذاق ، وذكر أن المراد من الموت مقدماته من الآلام العظيمة لأنه قيل دخوله في الوجود ممتنع الإدراك وحال وجوده يصير الشخص ميتا والميت لا يدرك ، وتعقب بأن المدرك النفس المفارقة وتدرك ألم مفارقتها البدن (وَنَبْلُوكُمْ) الخطاب إما للناس كافة بطريق التلوين أو للكفرة بطريق الالتفات أي نعاملكم معاملة من يختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) بالمكروه والمحبوب هل تصبرون وتشكرون أو لا.

وتفسير الشر والخير بما ذكر مروي عن ابن زيد ، وروي عن ابن عباس أنهما الشدة والرخاء ، وقال الضحاك : الفقر والمرض والغنى والصحة ، والتعميم أولى ، وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم أو لأنه ألصق بالموت المذكور قبله ، وذكر الراغب أن اختيار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فالمنحة والمحنة جميعا بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فالمحنة أعظم البلاءين ، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه : بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر ، ولهذا قال علي كرم الله تعالى وجهه : من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله ا ه ، ولعله يعلم منه وجه لتقديم الشر (فِتْنَةً) أي ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم على غير لفظه.

وجوز أن يكون مفعولا له أو حالا على معنى نبلوكم بالشر والخير لأجل إظهار جودتكم ورداءتكم أو مظهرين ذلك فتأمل ولا تغفل (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال ، فهو على الأول من وجهي الخطاب وعد ووعيد وعلى الثاني منهما وعيد محض ، وفي الآية إيماء إلى أن المراد من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب. وقرئ «يرجعون» بياء الغيبة على الالتفات (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي المشركون (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي ما يتخذونك إلا مهزوا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اتخاذهم إياه عاملهم الله تعالى بعدله هزوا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزوا كما هو المتبادر كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا.

والظاهر أن جملة (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) إلخ جواب (إِذا) ولم يحتج إلى الفاء كما لم يحتج جوابها المقترن بما إليها في قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ) [الجاثية : ٢٥] وهذا بخلاف جواب غير إذا من أدوات الشرط المقترن بما فإنه يلزم فيه الاقتران بالفاء نحو إن تزورنا فما نسيء إليك ، وقيل الجواب محذوف وهو يقولون المحكي به قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) وقوله سبحانه : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) إلخ اعتراض وليس

٤٥

بذاك ، نعم لا بدّ من تقدير القول فيما ذكر وهو إما معطوف على جملة (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أو حال أي ويقولون أو قائلين والاستفهام للإنكار والتعجب ويفيدان أن المراد يذكر آلهتكم بسوء ؛ وقد يكتفى بدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٠] فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء وقد تحاشوا عن التصريح أدبا مع آلهتهم. وفي مجمع البيان تقول العرب ذكرت فلانا أي عبته ، وعليه قول عنترة :

لا تذكري مهري وما أطعمته

فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

انتهى ؛ والإشارة مثلها في قوله :

هذا أبو الصقر فردا في محاسنه

من نسل شيبان بين الضال والسلم

فيكون في ذلك نوع بيان للاتخاذ هزوا ، وقوله تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) في حيز النصب على الحالية من ضمير القول المقدر ، والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة والسلام أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم بالقرآن الذي أنزل رحمة كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار ، فالضمير الأول مبتدأ خبره (كافِرُونَ) وبه يتعلق (بِذِكْرِ) وقدم رعاية للفاصلة وإضافته لامية ، والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول ، والفصل بين العامل والمعمول بالمؤكد وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول جائز ، ويجوز أن يراد (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) توحيده على أن ذكر مصدر مضاف إلى المفعول أي وهم كافرون بتوحيد الرحمن المنعم عليهم بما يستدعي توحيده والإيمان به سبحانه ، وأن يراد به عظته تعالى وإرشاده الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب على أنه مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقيل المراد بذكر الرحمن ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا اللفظ وإطلاقه عليه تعالى ، والراد بكفرهم به قولهم ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فهو مصدر مضاف إلى المفعول لا غير وليس بشيء كما لا يخفى.

وجعل الزمخشري الجملة حالا من ضمير (يَتَّخِذُونَكَ) أي يتخذونك هزوا وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بذكر الرحمن. وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر على أبي سفيان. وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال : ما تنكر أن يكون لبني عبد مناف فسمعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال : ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة وقال لأبي سفيان : أما أنك لم تقل ما قلت إلا حمية ، وأنا أرى أن القلب لا يثلج لكون هذا سببا للنزول والله تعالى أعلم.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ

٤٦

الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)(٥٨)

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) وهو طلب الشيء وتحريه قبل أوانه ، والمراد بالإنسان جنسه جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من نفس العجل تزيلا لما طبع عليه من الأخلاف منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه ، وقال أبو عمرو وأبو عبيدة وقطرب : في ذلك قلب والتقدير خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل من طبائعه وأخلاقه للزومه له ، وبذلك قرأ عبد الله وهو قلب غير مقبول ، وقد شاع في كلامهم مثل ذلك عند إرادة المبالغة فيقولون لمن لازم اللعب أنت من لعب ، ومنه قوله :

وأنا لمما يضرب الكبش ضربة

على رأسه يلقي اللسان من الفم

وقيل المراد بالإنسان النضر بن الحرث لأن الآية نزلت فيه حين استعجل العذاب بقوله (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) [الأنفال : ٣٢] إلخ ، وقال مجاهد. وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والضحاك ومقاتل والكلبي : المراد به آدم عليه‌السلام أراد أن يقوم قبل أن يتم نفخ الروح فيه وتصل إلى رجليه ، وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة فلما أجري الروح في عينيه ولسانه ولم يبلغ أسفله قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وروي ذلك عن مجاهد ، وقيل المراد أنه خلق بسرعة على غير ترتيب خلق بنيه حيث تدرج في خلقهم ، وذكر ذلك لبيان أن خلقه كذلك من دواعي عجلته في الأمور ، والأظهر إرادة الجنس وإن كان خلقه عليه‌السلام وما يقتضيه ساريا إلى أولاده وما تقدم في سبب النزول لا يأباه كما لا يخفى ، وقيل العجل الطين بلغة حمير ، وأنشد أبو عبيدة لبعضهم :

النبع في الصخرة الصماء منبته

والنخل منبته في الماء والعجل

واعترض بأنه لا تقريب لهذا المعنى هاهنا وقال الطيبي : يكون القصد عليه تحقير شأن جنس الإنسان تتميما لمعنى التهديد في قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) والمعول عليه المعنى الأول ، والخطاب للكفرة المستعجلين ، والمراد بآياته تعالى نقماته عزوجل ، والمراد بإراءتهم إياها إصابته تعالى إياهم بها ، وتلك الإراءة في

٤٧

الآخرة على ما يشير إليه ما بعد ، وقيل فيها وفي الدنيا ، والنهي عن استعجالهم إياه تعالى بالإتيان بها مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق لأن الله تعالى أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ويرجع هذا النهي إلى الأمر بالصبر ، وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم «خلق الإنسان» ببناء «خلق» للفاعل ونصب «الإنسان».

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي وقت وقوع الساعة الموعود بها ، وكانوا يقولون ذلك استعجالا لمجيئه بطريق الاستهزاء والإنكار كما يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك ، و (مَتى) في موضع رفع على أنه خبر لهذا.

ونقل عن بعض الكوفيين أنه في موضع نصب على الظرفية والعامل فيه فعل مقدر أي متى يأتي هذا الوعد (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنه يأتي ؛ والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن إتيان الساعة ، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه فإن قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) حيث كان استبطاء منهم للموعود وطلبا لإتيانه بطريق العجلة في قوة طلب إتيانه العجلة فكأنه قيل إن كنتم صادقين فليأتنا بسرعة ، وقوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه ، وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم بحسب المقام وإلا فكثيرا ما يفيد المضارع المنفي انتفاء الاستمرار ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم.

وقوله تعالى : (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) مفعول (يَعْلَمُ) على ما اختاره الزمخشري وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه ، وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضا مع إنكار الكفرة ذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة إلى الإخبار به وإنما حقه الانتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها ، وجواب (لَوْ) محذوف أي لو لم يستمر عدم علمهم بالوقت الذي يستعجلونه بقولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وهو الوقت الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب ، وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب واستلزام الإحاطة بهما للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على رفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من جهة الغير في دفعها إلخ لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال ، وقدر الحوفي لسارعوا إلى الإيمان وبعضهم لعلموا صحة البعث وكلاهما ليس بشيء ، وقيل إن (لَوْ) للتمني لا جواب لها وهو كما ترى.

وجوز أن يكون (يَعْلَمُ) متروك المفعول منزلا منزلة اللام أي لو كان لهم علم لما فعلوا ذلك ، وقوله تعالى : (حِينَ) إلخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل : حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال ، وفي الكشف كأنه استئناف بياني وذلك أنه لما نفي العلم كان مظنة أن يسأل فأي وقت يعلمون؟ فأجيب حين لا ينفعهم ، والظاهر كون (حِينَ) إلخ مفعولا به ليعلم.

وقال أبو حيان : الذي يظهر أن مفعوله محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطئوه و (حِينَ) منصوب بذلك المفعول وليس عندي بظاهر (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) عطف على (لا يَكُفُّونَ) وزعم ابن عطية أنه استدراك مقدر قبله نفي والتقدير إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة ،

٤٨

وقيل : إنه استدراك عن قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ) إلخ وهو منفي معنى كأنه قيل : لا يعلمون ذلك بل تأتيهم إلخ ، وبينه وبين ما زعمه ابن عطية كما بين السماء الأرض. والمضمر في (تَأْتِيهِمْ) عائد على (الْوَعْدُ) لتأويله بالعدة أو الموعدة أو الحين لتأويله بالساعة أو على (النَّارَ) واستظهره في البحر ، (بَغْتَةً) أي فجأة مصدر في موضع الحال أو مفعول مطلق لتأتيهم وهو مصدر من غير لفظه (فَتَبْهَتُهُمْ) تدهشهم وتحيرهم أو تغلبهم على أنه معنى كنائي.

وقرأ الأعمش «بل يأتيهم» بياء الغيبة «بغتة» بفتح الغين وهو لغة فيها ، وقيل : إنه يجوز في كل ما عينه حرف حلق «فيبهتهم» بياء الغيبة أيضا ، فالضمير المستتر في كل من الفعلين للوعد أو للحين على ما قال الزمخشري.

وقال أبو الفضل الرازي : يحتمل أن يكون للنار بجعلها بمعنى العذاب (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) الضمير المجرور عائد على ما عاد عليه ضمير المؤنث فيما قبله ، وقيل : على البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين ، وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) إلخ تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استهزائهم بعد أن قضى الوطر من ذكر الأجوبة الحكمية عن مطاعنهم في النبوة وما أدمج فيها من المعاني التي هي لباب المقاصد وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قضى ما عليه من عهدة الإبلاغ وأنه المنصور في العاقبة ولهذا بدئ بذكر أجلة الأنبياء عليهم‌السلام للتأسي وختم بقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) [الأنبياء : ١٠٥] إلخ ، وتصدير ذلك بالقسم لزيادة تحقيق مضمونه ، وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير ، ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزئ برسل أولى شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه (فَحاقَ) أي أحاط عقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله ، وقيل : أصل حاق حق كزال وزل وذام وذم. وقوله تعالى : (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي من أولئك الرسل عليهم‌السلام متعلق بحاق. وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم ، و (ما) إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد عليها والجار متعلق بالفعل بعده وتقديمه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزءون به حيث أهلكوا لأجله. وإما مصدرية فالضمير راجع إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا. ولعل إيثار الأفراد على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد منهم عليهم‌السلام لأجزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع المسبب إيذانا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروي بناء على ظهور الأعمال في النشأة الأخروية بصور مناسبة لها في الحسن والقبح (قُلْ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل أولئك المستهزئين سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغتروا بما غشيهم من نعم الله تعالى ويقول (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) أي يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي من بأسه بقرينة الحفظ ، وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته تعالى وتلقين للجواب كما قيل في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] وقيل إن ذلك إيماء إلى أن بأسه تعالى إذا أراد شديد أليم ولذا يقال نعوذ بالله عزوجل من غضب الحليم وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته ودلالة على شدة خبثهم.

وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة «يكلوكم» بضمة خفيفة من غير همز ، وحكى الكسائي والفراء «يكلوكم» بفتح اللام وإسكان الواو ، وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) إضراب عن ذلك تسجيلا عليهم بأنهم ليسوا

٤٩

من أهل السماع وأنهم قوم ألهتهم النعم عن المنعم فلا يذكرونه عزوجل حتى يخافوا بأسه أو يعدوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة ليسألوا عن الكالئ على طريقة قوله :

عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار

ما ذا تحيون من نوء وأحجار

وفيه أنهم مستمرون على الأعراض ذكروا ونبهوا أولا ، وفي تعليق الأعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبئ عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي ما لا يخفى ، وقيل إنه إضراب عن مقدر أي إنهم غير غافلين عن الله تعالى حتى لا يجدي السؤال عنه سبحانه كيف وهم إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتشفع لهم عنده تعالى وتقربهم إليه زلفى بل هم معرضون عن ذكره عزوجل فالتذكير يناسبهم ، وهذا مع ظهوره من مساق الكلام ووضوح انطباقه على مقتضى المقام قد خفي عن الناظرين وغفلوا عنه أجمعين ا ه.

وتعقب بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل عليهم بأنهم إذا ذكروا لا يذكرون ألا يرى قوله تعالى : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) [الأنبياء : ٤٥] وما ذكر يقتضي العكس لتضمنه وصفهم بإجداء الإنذار والدعاء مع أن قوله غير غافلين مناف لما يدل عليه النظم الكريم فالحق ما تقدم ، وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) إعراض عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها ، فأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة و (لَهُمْ) خبر مقدم و (آلِهَةٌ) مبتدأ وجملة (تَمْنَعُهُمْ) صفته و (مِنْ دُونِنا) قيل صفة بعد صفة أي بل ألهم آلهة مانعة لهم متجاوزة منعنا أو حفظنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ، وعليه يكون (مِنْ دُونِنا) صفة أيضا ، وقال الحوفي : إنه متعلق بتمنعهم أي بل ألهم آلهة تمنعهم من عذاب من عندنا ، والاستفهام لإنكار أن يكون لهم آلهة كذلك ، وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم إلخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلا عن رتبة المنع ما لا يخفى.

وقال بعض الأجلة : إن الإضراب الذي تضمنته (أَمْ) عائد على الأمر بالسؤال كالإضراب السابق لكنه أبلغ منه من حيث إن سؤال الغافل عن الشيء بعيد وسؤال المعتقد لنقيضه أبعد ، وفهم منه بعضهم أن الهمزة عليه للتقرير بما في زعم الكفرة تهكما.

وتعقب أنه ليس بمتعين فيجوز أن يكون للإنكار لا بمعنى أنه لم يكن منهم زعم ذلك بل بمعنى أنه لم كان مثله مما لا حقيقة له ، والأظهر عندي جعله عائدا على الوصف بالإعراض كما سمعت أولا ، وفي الكشف ضمن الإعراض عن وصفهم بالإعراض إنكاره أبلغ الإنكار بأنهم في إعراضهم عن ذكره تعالى كمن له كالئ يمنعه عن بأسنا معرضا فيه بجانب آلهتهم وأنهم أعرضوا عنه تعالى واشتغلوا بهم ولهذا رشح بما بعد كأنه قيل دع حديث الإعراض وانظر إلى من أعرضوا عن ربهم سبحانه إليه فإن هذا أطم وأطم فتأمله فإنه دقيق.

وقوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) استئناف مقرر لما قبله من الإنكار أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم ذلك من جهتنا فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم ، فالضمائر للآلهة بتنزيلهم منزلة العقلاء وروي عن قتادة ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها للكفرة على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم ولا يصحبهم

٥٠

نصر من جهتنا ، والأول أولى بالمقام وإن كان هذا أبعد عن التفكيك ، و (مِنَّا) على القولين يحتمل أن يتعلق بالفعل بعده وأن يتعلق بمقدر وقع صفة لمحذوف.

وقوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) إلخ إضراب على ما في الكشف عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الاستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم ، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم ، وفي غير كتاب إنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم.

ويحتمل أن يكون إضرابا عما يدل عليه الاستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا متعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا وأعرضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب (أَفَلا يَرَوْنَ) أي ألا ينظرون فلا يرون (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي أرض الكفرة أو أرضهم (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم ، والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في النظم الجليل لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم ، وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عزوجل تعظيما لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه ، وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين.

والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال : إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال : إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة ، وقيل ننقصها بموت العلماء وهذا إن صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظرا إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم ، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ) بعد ما بيّن من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعي عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار وغير ذلك من مساويهم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم : إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة (بِالْوَحْيِ) الصادق الناطق بإثباتها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية فإن الإيمان برهان لأعياني.

وقوله تعالى : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله لهم توبيخا وتقريعا وتسجيلا عليهم بكمال الجهل والعناد ، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله سبحانه : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) كأنه قيل قل لهم ذلك وهم بمعزل عن السماع ، واللام في الصم إما للجنس المنتظم لهؤلاء الكفرة انتظاما أوليا وإما للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصامم ، وتقييد نفي السماع بقوله تعالى : (إِذا ما يُنْذَرُونَ) مع أن الصم لا يسمعون مطلقا لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هو

٥١

عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك ، فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكن صممهم في غاية لم يسمع بمثلها ، وقيل لأن الكلام في الإنذار ألا ترى قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) وفيه دغدغة لا تخفى.

وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص «تسمع» بالتاء على الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأسماع «الصمّ الدعاء» بنصبهما على المفعولية ، وهذه القراءة تؤيد احتمال كون الجملة من جهته تعالى وقرئ «يسمع» بالياء على الغيبة وإسناد الفعل إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصم الدعاء» بنصبهما على ما مر. وذكر ابن خالويه أنه قرئ «يسمع» مبنيا للمفعول «الصم» بالرفع على النيابة عن الفاعل «الدعاء» بالنصب على المفعولية. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو «يسمع» بضم ياء الغيبة وكسر الميم «الصمّ» بالنصب على المفعولية «الدعاء» بالرفع على الفاعلية يسمع ، وإسناد الأسماع إليه من باب الاتساع والمفعول الثاني محذوف كأنه قيل ولا يسمع الصم الدعاء شيئا ، وقوله تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) بيان لسرعة تأثرهم من مجيء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبره على نهج التوكيد القسمي أي وبالله لئن مسهم أدنى شيء من عذابه تعالى : (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن عليها بالظلم السابق ، وفي (مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) ثلاث مبالغات كما قال الزمخشري وهي كما في الكشف ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما ، وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء ويقال نفحته الدابة ضربته بحد حافرها ونفحه بعطية رضخه وأعطاه يسيرا ، وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم ، وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير ، واستفادة ذلك إن سلمت من بناء المرة ونفس الكلمة لا يعكر عليه كما زعم صاحب الإيضاح.

واعترض بعضهم المبالغة في المس بأنه أقوى من الإصابة لما فيه من الدلالة على تأثر حاسة الممسوس ومما ذكر في الكشف يعلم اندفاعه لمن مسته نفحة عناية ، ولعل في الآية مبالغة خامسة تظهر بالتأمل ؛ ثم الظاهر أن هذا المس يوم القيامة كما رمزنا إليه ، وقيل في الدنيا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من تفسير النفحة بالجوع الذي نزل بمكة ؛ وقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه.

وجعل الطيبي الجملة حالا من الضمير في (لَيَقُولُنَ) بتقدير ونحن نضع ، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة ، ويجوز أن يقال : أقيم العموم في (نَفْسٌ) الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل ، وتظهر بصور جوهرية مشرقة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات ، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان ، وقيل لكل مكلف ميزان ، وقيل للمؤمن موازين بعد خيراته وأنواع حسناته ، والأصح أشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفّتاه كأطباق السموات ، والأرض لصحة الأخبار بذلك ، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) [المؤمنون : ٩٩] وقوله فارحموني يا إله محمّد ، وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه‌السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه‌السلام أمين عليه كما في نوادر الأصول ، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غدا؟.

قال اللقاني : لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو ا ه ، وما روي من أن داود عليه‌السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ

٥٢

كفته حسنات؟ فقال تعالى : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر.

وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا : يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف ، ووضع الموازين عندهم تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال ، وروي هذا عن الضحاك وقتادة ومجاهد والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر ، وأفراد القسط مع كونه صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط ، وجوز أبو حيان أن يكون مفعولا لأجله نحو قوله :

لا أقعد الجبن عن الهيجاء

وحينئذ يستغني عن توجيه أفراده. وقرئ «القصط» بالصاد ، واللام في قوله تعالى : (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي :

أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم

كما مضى من قبل عاد وتبع

وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستجعلونها ؛ وقال غير واحد : هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر ، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام بمعنى في : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ) من النفوس (شَيْئاً) من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود. فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور.

وجوّز أن يكون (شَيْئاً) مفعولا به على الحذف والإيصال والظلم بحالة أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثوابا أو تزاد عذابا ، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوّز في (شَيْئاً) المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئا من النقص أو شيئا من الثواب ، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف ، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم ، والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين.

وربما يفهم من ذلك أن كل أحد من توزن أعماله ، وقال القرطبي : الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال : يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم‌السلام ، وقوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] وقوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥]. وقوله سبحانه : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣]. وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين.

وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا ، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار ، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها ، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العموم ، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الأنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن ، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبي واستنبطه من عدة آيات ، وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن (وَإِنْ كانَ) أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين ، وقيل الضمير راجع لشيئا بناء على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور

٥٣

متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة ، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب ، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ، وأبو جعفر وشيبة ونافع «مثقال» بالرفع على أن كان تامة (أَتَيْنا بِها) أي جئنا بها وبه قرأ أبي ، والمراد أحضرناها ، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأن لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية ، وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني «آتينا» بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفا ، والمراد جازينا أيضا مجازا ولذا عدي بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدي بنفسه كما قال ابن جني وغيره. وقرأ حميد «أثبنا» من الثواب (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مرادا به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي ، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة. وذكر اللقاني أن لحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثني منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرا كانت أو شرا تفصيلا لا بالوزن ، وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار قبل الوزن ، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل ، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في البحر.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) إلخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكر في جلاله وجماله سبحانه ساهية ، وفي قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية (وَكَمْ قَصَمْنا) قبلهم (مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب ، وفي قوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار (وَمَنْ عِنْدَهُ) قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس ، وفي قوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئا بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس ، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس‌سره وغمرنا بره لم يتوفّ حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض ، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الجواهر واليواقيت (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) قد تقدم ما فيه من الإشارة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) قال الجنيد قدس‌سره : من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك ، ولا يخفى أنه كثيرا ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت في كل عما يحطه عن درجته ، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ (وَنَضَعُ

٥٤

الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال بعض الصوفية : الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا ، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفسا منها السموات والأرض.

وذكروا أن في الدنيا موازين أيضا أعظم موازينها الشريعة وكفتا الكتاب والسنة ، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال إنه عزوجل المتفضل بأنواع الأفضال.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) إلى قوله سبحانه : (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [الأنبياء : ٧. ٩] وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم ، وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه ، والمراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر ، والعطف كما في قوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

ونقل الطيبي أنه أدخل الواو على (ضِياءً) وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظا كقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأنفال : ٤٩ ، الأحزاب: ١٢] وقال سيبويه : إذا قلت مررت بزيد وصاحبك جاز وإن قلت مررت بزيد فصاحبك بالفاء لم يجز كما جاز بالواو لأن الفاء تقتضي التعقب وتأخير الاسم عن المعطوف عليه بخلاف الواو ، وأما قول القائل :

يا لهف زيابة للحارث الصا

بح فالغانم فالآئب

فإنما ذكر بالفاء وجاد لأنه ليس بصفة على ذلك الحد لأن أل بمعنى الذي أي فالذي صبح فالذي غنم فالذي آب ، وأبو الحسن يجيز المسألة بالفاء كما يجيزها بالواو انتهى ، والمعنى وبالله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس ويتذكرون ، وتخصيص للمتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به أو ذكر ما يحتاجون به من الشرائع والأحكام أو شرف لهم.

وقيل : الفرقان النصر كما في قوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] وأطلق عليه لفرقه بين الولي والعدو وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس ، والضياء حينئذ إما التوراة أو الشريعة أو اليد البيضاء. والذكر بأحد المعاني المذكورة.

وعن الضحاك أن الفرقان فلق البحر والفرق والفلق اخوان ، وإلى الأول ذهب مجاهد وقتادة وهو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترح الكفرة مثله بقولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥].

وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك «ضياء» بغير واو على أنه حال من «الفرقان» وهذه القراءة تؤيد أيضا التفسير الأول ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) مجرور المحل على أنه صفة مادحة المتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح ، والمراد على كل تقدير يخشون عذاب ربهم. وقوله سبحانه (بِالْغَيْبِ) حال من المفعول أي يخشون ذلك وهو غائب عنهم غير مرئي لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه.

وقال الزجاج : حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عن أعين الناس ورجحه ابن عطية. وقيل : يخشونه بقلوبهم (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي خائفون بطريق الاعتناء ، والجملة تحتمل العطف على الصلة وتحتمل الاستئناف ، وتقديم الجار لرعاية الفواصل ، وتخصيص إشفاقهم من الساعة بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان

٥٥

بكونها معظم المخلوقات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على أن حالتهم فيما يتعلق بالآخرة الإشفاق الدائم (وَهذا) أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا للإيذان بسهولة تناوله ووضوح أمره ، وقيل : لقرب زمانه (ذِكْرٌ) يتذكر به من تذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة مع انطواء جميع ما تقدم في وصفه بقوله سبحانه : (مُبارَكٌ) أي كثير الخير غزير النفع ؛ ولقد عاد علينا والله تعالى الحمد من بركته ما عاد.

وقوله تعالى : (أَنْزَلْناهُ) إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر لهذا ، وفيه على التقديرين من تعظيم أمر القرآن الكريم ما فيه (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) إنكار لإنكارهم بعد ظهور كونه كالتوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل أو للحصر لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية ؛ وقيل : الصحف ، وقيل : الحكمة ، وقيل : التوفيق للخير صغيرا ، واختار بعضهم التعميم.

وقرأ عيسى الثقفي «رشده» بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى وهارون ، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب ، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه‌السلام ، وقيل من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في الكشف : وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى ، أما الأول فللقرب ، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم‌السلام للتأسي ، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى عليهم‌السلام لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي فقد ذكر موسى عليه‌السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل (مِنْ قَبْلُ) لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) [الأنبياء : ٧٦] أي من قبل هؤلاء المذكورين ، وقيل من قبل إبراهيم ولوط ا ه (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي بأحواله وما فيه من الكمالات ، وهذا كقولك في خير من الناس : أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل.

وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته ، وقد قال عليه‌السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه‌السلام له سل ربك : علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله ، وجوّز أن يكون ظرفا لرشد أو لعالمين ، وأن يكون بدلا من موضع (مِنْ قَبْلُ) وأن ينتصب بإضمار أعني أو أذكر ، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه‌السلام وفي النصيحة والإنقاذ من الضلال.

والظاهر أنه عليه‌السلام قال له ولقومه مجتمعين : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أراد عليه‌السلام ما هذه الأصنام إلا أنه عبر عنها بالتماثيل تحقيرا لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبّهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به. وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا ، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا ، وفي الإشارة إليها بما يشار به للقريب إشارة إلى التحقير أيضا ، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ما ذا وإلا فهو عليه‌السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه ، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له ، وقيل اللزوم

٥٦

والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع ، واللام في (لَها) للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى : (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الأعراف : ١٣٨] وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف.

واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة (عاكِفُونَ) محذوفة أي عاكفون على عبادتها ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية.

وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد ، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا و (عاكِفُونَ) خبر بعد خبر ، وأنت تعلم أنه نفي بعده مكابرة ، ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفى خير له من أن يمسها ، وفيه نظر لا يخفى ، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره ، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بألطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجئوا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) وأبطل عليه‌السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الذين وجدتموهم كذلك (فِي ضَلالٍ) عجيب لا يقادر قدره (مُبِينٍ) ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالا لاستنادكم وإياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع ، و (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المتصل في (كُنْتُمْ) ولا بد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير ، ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم ، وفي اختيار (فِي ضَلالٍ) على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم ، وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المتمسكين به (قالُوا) لما سمعوا مقالته عليه‌السلام استبعادا لكون ما هم عليه ضلالا وتعجبا من تضليله عليه‌السلام إياهم على أتم وجه (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي بالجد (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي الهازلين فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب ، وقولهم (أَمْ أَنْتَ) إلخ عديله كلام منصف مومئ فيه بألطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة ، وأشار في الكشاف كما في الكشف إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه.

وقال صاحب المفتاح : أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطي الحق أم أحوال الصبا بعد على الاستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهر أو بيان المراد بالمجيء وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة. واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال : إنهم لما سمعوا منه عليه‌السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه‌السلام البرهان فكأنهم قالوا هب أنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وجاءوا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فاضربوا ببل عما أثبتوا له وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت ، وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غرق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوى اللعب واللهو على سبيل الكناية إلا بمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان ، وهذه الكناية توقفك

٥٧

على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعا وكذا بل فيما بعد انتهى ؛ والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه ، وأما وجوبه ففيه ما فيه.

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه. وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة ، وضمير (فَطَرَهُنَ) أما للسماوات والأرض واستظهره أبو حيان ، ووصفه تعالى بإيجادهن أثر وصفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقا للحق تنبيها على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة. وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه ، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل ، وقوله تعالى : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه‌السلام إلى اللعب والهزل ، والإشارة إلى المذكور ، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده ، وإن كان في صلة أل لاتساعهم في المظروف أقوال مشهورة ، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين ، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها.

وقال شيخ الإسلام : إن قوله : (بَلْ رَبُّكُمْ) إلخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أربابا لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم إلخ ؛ وقال القاضي : هو إضراب عن كونه عليه‌السلام لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه ، وجعله الطيبي إضرابا عن ذلك أيضا قال : وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم ، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه‌السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله : (بَلْ رَبُّكُمْ) الآية لينبه به على أن إبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه.

وقوله : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم : (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال : لست من اللاعبين في الدعاوى بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوى ا ه ، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الاضراب أولى (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) أي لأجتهدن في كسرها ، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه ، وفيه إيذان بصعوبة لانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليحتاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت ، وكان هذا منه عليه‌السلام عزما على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر ، ولا يأباه ما روي عن قتادة أنه قال : نرى أنه عليه‌السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم ، وقيل قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين : وقيل اثنين وسبعين.

وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل «بالله» بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث إن الواو تفيد معنى قريبا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة.

٥٨

وتعقبه في البحر بأنه لا يقوم على ذلك دليل ، وقدره السهيلي ، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلا لآخر ، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب ، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه‌السلام على أمر فيه مخاطرة. ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم ، وفرق آخرون بينهما استعمالا بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافا إلى الكعبة على قلة (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) من عبادتها إلى عيدكم. وقرأ عيسى بن عمر (تُوَلُّوا) من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام ، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [الصافات : ٩٠] والفاء في قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ) فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه‌السلام والأصنام فجعلهم (جُذاذاً) أي قطعا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع ، قال الشاعر :

بنو المهلب جذ الله دابرهم

أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف

فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر ، وقرأ الكسائي وابن محيض وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية «جذاذا» بكسر الجيم ، وابن عباس وابن نهيك وأبو السمال «جذاذا» بالفتح ، والضم قراءة الجمهور ، وهي كما روي عن ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم ؛ ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع ، وقال اليزيدي : جذاذا بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة ، وقيل : بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام ، وقيل : هو بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود.

وقرأ يحيى بن وثاب «جذذا» بضمتين مع جمع جذيذ كسرير وسرر ، وقرئ «جذذا» بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين. وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه‌السلام في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال إني سقيم فدخل فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كان في يده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه ، وقيل : في يده وذلك قوله تعالى : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة ، والكبر إما في المنزلة على زعمهم أيضا أو في الجثة ، وقال أبو حيان : يحتمل أن يكون الضمير للعبدة ، قيل : ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير ، وضمير (إِلَيْهِ) عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه‌السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه‌السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى ، وقيل : الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه‌السلام فيجيبهم ، ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ليس أجنبيا في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده.

وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس في عنقك أو في يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم ، وكأن هذا بناء على ظنه عليه‌السلام بهم لما جرب لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم ، وكأن هذا بناء على ظنه عليه‌السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها ، ويحتمل أنه عليه‌السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لكن ذلك من باب الاستهزاء

٥٩

والاستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل ، وعلى الاحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام ، ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادرا لكن جمهور المفسرين على الأول ، والجار والمجرور متعلق بيرجعون ، والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ما قيل ، وقيل : هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل.

وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه‌السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلا من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ(٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى

٦٠