روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

واعترض بأنه كيف يقصر الوحي على الوحدانية وقد أوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمور كثيرة غير ذلك كالتكاليف والقصص ، وأجيب بوجهين : الأول أن معنى قصره عليه أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه أو غير منظور إليه في جنبه فهو قصر ادعائي ، والثاني أنه قصر قلب بالنسبة إلى الشرك الصادر من الكفار ، وكذا الكلام في القصر الثاني. وأنكر أبو حيان إفادة أنما المفتوحة الحصر لأنها مؤولة بمصدر واسم مفرد وليست كالمكسورة المؤولة بما وإلا وقال : لا نعلم خلافا في عدم إفادتها ذلك والخلاف إنما هو في إفادة إنما المكسورة إياه.

وأنت تعلم أن الزمخشري وأكثر المفسرين ذهبوا إلى إفادتها ذلك ، والحق مع الجماعة ويؤيده هنا أنها بمعنى المكسورة لوقوعها بعد الوحي الذي هو في معنى القول ولأنها مقولة (قُلْ) في الحقيقة ولا شك في إفادتها التأكيد فإذا اقتضى المقام القصر كما فيما نحن فيه انضم إلى التأكيد لكنه ليس بالوضع كما في المكسورة فقد جاء ما لا يحتمله كقوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) [ص : ٢٤] ولذا فسره الزمخشري بقوله ابتليناه لا محالة مع تصريحه بالحصر هنا ، نعم في توجيه القصر هنا بما سمعت من كونه قصر الله تعالى على الوحدانية ما سمعته في آخر سورة الكهف فتذكر.

وجوز في. ما. (إِنَّما يُوحى) أن تكون موصولة وهو خلاف الظاهر. وتجويزه فيما بعد بعيد جدا موجب لتكلف لا يخفى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي منقادون لما يوحى إليّ من التوحيد ، وهو استفهام يتضمن الأمر بالانقياد ، وبعضهم فسر الإسلام بلازمه وهو إخلاص العبادة له تعالى وما أشرنا إليه أولى.

والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها قالوا : فيه دلالة على أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع بخلاف إثبات الواجب فإن طريقه العقل لئلا يلزم الدور.

قال في شرح المقاصد : إن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصدقهم لا يتوقف على الوحدانية فيجوز التمسك بالأدلة السمعية كإجماع الأنبياء عليهم‌السلام على الدعوة إلى التوحيد ونفي الشريك وكالنصوص القطعية من كتاب الله تعالى على ذلك ، وما قيل إن التعدد يستلزم الإمكان لما عرفت من أدلة التوحيد وما لم تعرف أن الله تعالى واجب الوجود خارج عن جميع الممكنات لم يتأت إثبات البعثة والرسالة ليس بشيء لأن غاية استلزام الوجوب الوحدة لا استلزام معرفته معرفتها فضلا عن التوقف ، وسبب الغلط عدم التفرقة بين ثبوت الشيء والعلم بثبوته انتهى.

وتفريع الاستفهام هنا صريح في ثبوت الوحدانية بما ذكر ، وقول صاحب الكشف : إن الآية لا تصلح دليلا لذلك لأنه إنما يوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك مبرهنا لا على قانون الخطابة فلعل نزولها كان مصحوبا بالبرهان العقلي ليس بشيء لظهور أن التفريع على نفس هذا الموحى ، وكون نزوله مصحوبا بالبرهان العقلي والتفريع باعتباره غير ظاهر (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه (فَقُلْ) لهم (آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم ، والإيذان إفعال من الإذن وأصله العلم بالإجازة في شيء وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم وصيغ منه الأفعال ، وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير ، والإنذار وهو يتعدى لمفعولين الثاني منهما مقدر كما أشير إليه. وقوله تعالى : (عَلى سَواءٍ) في موضع الحال من المفعول الأول أي كائنين على سواء في الاعلام بذلك لم أخص أحدا منكم دون أحد. وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل والمفعول معا أي مستويا أنا وأنتم في المعاداة أو في العلم بما أعلمتكم به من وحدانية الله تعالى لقيام الأدلة عليها. وقيل ما أعلمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم به يجوز أن يكون ذلك وأن يكون وقوع الحرب في البين واستوائهم في العلم بذلك جاء من إعلامهم به وهم يعلمون أنه عليه الصلاة والسلام الصادق الأمين وإن كانوا يجحدون بعض ما يخبر به عنادا فتدبر.

١٠١

وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي إيذانا على سواء. وأن يكون في موضع الخبر لأن مقدرة أي أعلمتكم أني على سواء أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير وهذا خلاف المتبادر جدا.

وفي الكشاف أن قوله تعالى : (آذَنْتُكُمْ) إلخ استعارة تمثيلية شبه بمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس بغدرهم فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وإشاعة وآذانهم جميعا بذلك وهو من الحسن بمكان (وَإِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين عليكم وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتيا لا محالة ، والجملة في موضع نصب بأدري. ولم يجىء التركيب أقريب ما توعدون أم بعيد لرعاية الفواصل.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي ما تجهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) من الاحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيرا وقطميرا (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي ما أدري لعل تأخير جزائكم (١) استدراج لكم وزيادة في افتنانكم أو امتحان لكم لينظر كيف تعملون. وجملة (لَعَلَّهُ) إلخ في موضع المفعول على قياس ما تقدم.

والكوفيون يجرون لعل مجرى هل في كونها معلقة. قال أبو حيان : ولا أعلم أحدا ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهرا فيها. وعن ابن عباس في رواية أنه قرأ «أدري» بفتح الياء في الموضعين تشبيها لها بياء الإضافة لفظا وإن كانت لام الفعل ولا تفتح إلا بعامل. وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء.

(وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وتمتيع لكم وتأخير إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم. وقيل المراد بالحين يوم بدر. وقيل يوم القيامة (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) حكاية لدعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الأكثر «قل» على صيغة الأمر. والحكم القضاء. والحق العدل أي رب اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لتعجيل العذاب والتشديد عليهم فهو دعاء بالتعجيل والتشديد وإلا فكل قضائه تعالى عدل وحق. وقد استجيب ذلك حيث عذبوا ببدر أي تعذيب.

وقرأ أبو جعفر «ربّ» بالضم على أنه منادى مفرد كما قال صاحب اللوامح ، وتعقبه بأن حذف حرف النداء من اسم الجنس شاذ بابه الشعر. وقال أبو حيان : إنه ليس بمنادى مفرد بل هو منادى مضاف إلى الياء حذف المضاف إليه وبني على الضم كقبل وبعد وذلك لغة حكاها سيبويه في المضاف إلى ياء المتكلم حال ندائه ولا شذوذ فيه. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن «ربّي» بياء ساكنة «أحكم» على صيغة التفضيل أي أنفذ أو أعدل حكما أو أعظم حكمة. فربي أحكم مبتدأ وخبر.

وقرأت فرقة «أحكم» فعلا ماضيا (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) مبتدأ وخبر أي كثير الرحمة على عباده. وقوله سبحانه : (الْمُسْتَعانُ) أي المطلوب منه العون خبر آخر للمبتدإ. وجوز كونه صفة للرحمن بناء على إجرائه مجرى العلم. وإضافة الرب فيما سبق إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لما أن الدعاء من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام كما أن إضافته هاهنا إلى ضمير الجمع المنتظم للمؤمنين أيضا لما أن الاستعانة من الوظائف العامة لهم.

(عَلى ما تَصِفُونَ) من الحال فإنهم كانوا يقولون : إن الشركة تكون لهم وإن راية الإسلام تخفق ثم تسكن

__________________

(١) فالضمير لما علم من الكلام ا ه منه.

١٠٢

وإن المتوعد به لو كان حقا لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيه فاستجاب الله عزوجل دعوة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر أولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله. وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ على أبيّ رضي الله تعالى عنه «يصفون» بياء الغيبة ورويت عن ابن عامر وعاصم. هذا وفي جعل خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يتعلق به خاتمة لسورة الأنبياء طيب كما قال الطيبي يتضوع منه مسك الختام.

ومن باب الإشارة في الآيات (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) قيل ذلك الرشد إيثار الحق جل شأنه على ما سواه سبحانه ، وسئل الجنيد متى أتاه ذلك؟ فقال : حين لا متى (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) فيه إشارة إلى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله ا ه.

وقال حمدون القصار : استعانة الخلق بالخلق كاستعانة المسجون بالمسجون (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) قال ابن عطاء : كان ذلك لسلامة قلب ابراهيم عليه‌السلام وخلوه من الالتفات إلى الأسباب وصحة توكله على الله تعالى ، ولذا قال عليه‌السلام حين قال له جبريل عليه‌السلام : ألك حاجة؟ أما إليك فلا (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فيه إشارة إلى أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا تعلق له بالصغر والكبر فكم من صغير أفضل من كبير بكثير (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً) قيل معرفة بأحكام الربوبية (وَعِلْماً) معرفة بأحكام العبودية (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) قيل كان عليه‌السلام يخلو في الكهوف لذكره تعالى وتسبيحه فيشاركه في ذلك الجبال ويسبحن معه ، وذكر بعضهم أن الجبال لكونها خالية عن صنع الخلق حالية بأنوار قدره الحق يحب العاشقون الخلوة فيها ، ولذا تحنث صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار حراء.

واختار كثير من الصالحين الانقطاع للعبادة فيها (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ذكر أنه عليه‌السلام قال ذلك حين قصدت دودة قلبه ودودة لسانه فخاف أن يشغل موضع فكره وموضع ذكره ، وقال جعفر : كان ذلك منه عليه‌السلام استدعاء للجواب من الحق سبحانه ليسكن إليه ولم يكن شكوى وكيف يشكو المحب حبيبه وكل ما فعل المحبوب محبوب وقد حفظ عليه‌السلام آداب الخطاب (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قيل إن ذلك رشحة من دن خمر الدلال ، وذكروا أن مقام الدل دون مقام العبودية المحضة لعدم فناء الإرادة فيه ولذا نادى عليه‌السلام (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي حيث اختلج في سري أن أريد غيره ما أردت (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) قيل إنه عليه‌السلام أراد ولدا يصلح لأن يكون محلا لإفشاء الأسرار الإلهية إليه فإن العارف متى كان فردا غير واجد من يفشي إليه السر ضاق ذرعه (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) قيل أي رغبة فينا ورهبة عما سوانا أو رغبة في لقائنا ورهبة من الاحتجاب عنا (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).

قال أبو يزيد : الخشوع خمود القلب عن الدعاوى ، وقيل الفناء تحت أذيال العظمة ورداء الكبرياء (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أكثر الصوفية قدست أسرارهم على أن المراد من العالمين جميع الخلق وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة لكل منهم إلا أن الحظوظ متفاوتة ويشترك الجميع في أنه عليه الصلاة والسلام سبب لوجودهم بل قالوا : إن العالم كله مخلوق من نوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد صرح بذلك الشيخ عبد الغني النابلسي قدس‌سره في قوله وقد تقدم غير مرة:

طه النبي تكونت من نوره

كل الخليقة ثم لو ترك القطا

١٠٣

وأشار بقوله لو ترك القطا إلى أن الجميع من نوره عليه الصلاة والسلام وجه الانقسام إلى المؤمن والكافر بعد تكونه فتأمل ، هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من رحمته الحظ الوافر وأن ييسر لنا أمور الدنيا والآخرة بلطفه المتواتر.

١٠٤

سورة الحجّ

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ، رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بالمدينة وهو قول الضحاك وقيل كلها مكية ، وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات (هذانِ خَصْمانِ) [الحج : ١٩] إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة ، وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات (هذانِ خَصْمانِ) إلى قوله تعالى : (عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٢٢].

وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربع آيات (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ـ إلى ـ (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [الحج : ٥٢. ٥٥] فإنها مكيات ، والأصح القول بأنها مختلطة فيها مدني ومكي وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور. وعدة آياتها ثمان وتسعون في الكوفي وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري وأربع وتسعون في الشامي. ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر ، وجاء في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما. والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور ، نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال : في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ

١٠٥

هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ(١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١٧)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم بعد من الموجودين القاصرين عن رتبة التكليف والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة لكن لا بطريق الحقيقة عندنا بل بطريق التغليب أو تعميم الحكم بدليل خارجي فإن خطاب المشافهة لا يتناول من لم يكلف بعد وهو خاص بالمكلفين الموجودين عند النزول خلافا للحنابلة وطائفة من السلفيين والفقهاء حيث ذهبوا إلى تناوله الجميع حقيقة ، ولا خلاف في دخول الإناث كما قال الآمدي في نحو الناس مما يدل على الجمع ولم يظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث وإنما الخلاف في دخولهن في نحو ضمير (اتَّقُوا) والمسلمين فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه ، وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته ، والدخول هنا عندنا بطريق التغليب.

وزعم بعضهم أن الخطاب خاص بأهل مكة وليس بذاك ، والمأمور به مطلق التقوى الذي هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك ويندرج فيه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر حسبما ورد به الشرع اندراجا أوليا لكن على وجه يعم الإيجاد والدوام ، والمناسب لتخصيص الخطاب بأهل مكة أن يراد بالتقوى المرتبة الأولى منها وهي التوقي عن الشرك ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترهيبا وترغيبا أي احذروا عقوبة مالك أمركم ومربيكم ، وقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) تعليل لموجب الأمر بذكر أمر هائل فإن ملاحظة عظم ذلك وهوله وفظاعة ما هو من مبادئه ومقدماته من الأحوال والأهوال التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مركزها ، وإضافتها إلى الساعة إما من إضافة المصدر إلى فاعله لكن على سبيل المجاز في النسبة كما قيل في قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] لأن المحرك

١٠٦

حقيقة هو الله تعالى والمفعول الأرض أو الناس أو من إضافته إلى المفعول لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله :

يا سارق الليلة أهل الدار

وجوز أن تكون الإضافة على معنى في وقد أثبتها بعضهم وقال بها في الآية السابقة ، وهي عند بعض المذكورة في قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] وتكون على ما قيل عند النفخة الثانية وقيام الساعة بل روي عن ابن عباس أن زلزلة الساعة قيامها.

وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ـ إلى ـ (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر (١) فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم. قال : ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه‌السلام ابعث بعث النار قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا ، وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ آخر وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة وهو المروي عن الحسن.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن علقمة والشعبي وعبيد بن عمير أنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها ، وإضافتها إلى الساعة على هذا لكونها من أماراتها ، وقد وردت آثار كثيرة في حدوث زلزلة عظيمة قبل قيام الساعة هي من أشراطها إلا أن في كون تلك الزلزلة هي المراد هنا نظرا إذ لا يناسب ذلك كون الجملة تعليلا لموجب أمر جميع الناس بالتقوى ، ثم إنها على هذا القول على معناها الحقيقي وهو حركة الأرض العنيفة ، وتحدث هذه الحركة بتحريك ملك بناء على ما روي أن في الأرض عروقا تنتهي إلى جبل قاف وهي بيد ملك هناك فإذا أراد الله عزوجل أمرا أن يحرك عرقا فإذا حركه زلزلت الأرض.

وعند الفلاسفة أن البحار إذا احتبس في الأرض وغلظ بحيث لا ينفد في مجاريها لشدة استحصافها وتكاثفها اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه فزلزلت الأرض ، وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض فيخرج نار لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لا سيما إذا امتزجا امتزاجا مقربا إلى الدهنية ، وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة ، وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدأت في باطن الأرض فيتموج بها الهواء المحتقن فتزلزل به الأرض ، وقليلا ما فتتزلزل بسقوط قلل الجبال عليها لبعض الأسباب.

ومما يستأنس به للقول بأن سببها احتباس البخار الغليظ وطلبه للخروج وعدم تيسره له كثرة الزلازل في الأرض الصلبة وشدتها بالنسبة إلى الأرض الرخوة ، ولا يخفى أنه إذا صح حديث في بيان سبب الزلزلة لا ينبغي العدول عنه وإلا فلا بأس بالقول برأي الفلاسفة في ذلك وهو لا ينافي القول بالفاعل المختار كما ظن بعضهم ، وهي على القول بأنها يوم القيامة قال بعضهم على حقيقتها أيضا ، وقال آخرون : هي مجاز عن الأهوال والشدائد التي تكون في ذلك

__________________

(١) وذلك في غزوة بني المصطلق كما صرح به في بعض الروايات ا ه منه.

١٠٧

اليوم ، وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. وفي البحر أن إطلاق الشيء عليها مع أنه لم توجد بعد يدل على أنه يطلق على المعدوم ، ومن منع ذلك قال : إن إطلاقه عليها ليتقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود لا محالة.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) الظاهر أن الضمير المنصوب في (تَرَوْنَها) للزلزلة لأنها المحدث عنها ، وقيل هو للساعة وهو كما ترى ، و (يَوْمَ) منتصب بتذهل قدم عليه للاهتمام ، وقيل بعظيم ، وقيل : بإضمار اذكر ؛ وقيل هو بدل من (السَّاعَةِ) وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) [المائدة : ١١٩] على قراءة يوم بالفتح ، وقيل بدل من (زَلْزَلَةَ) أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر ، وجملة (تَذْهَلُ) على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها ، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا ، والمرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر :

كمرضعة أولاد أخرى وضيعت

بني بطنها هذا الضلال عن القصد

والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول ، والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته ، والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ما ذا لأنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه ، وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها ، والأول دل على شدة الهول وكمال الانزعاج ، والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد ، وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه‌السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة إن لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فنحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار ، وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته ، ولا يضر في كونه تمثيلا أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف وأطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفى على المنصف النبيل.

وقرئ «تذهل» من الإذهال مبنيا للمفعول ، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني «تذهل» منه مبنيا للفاعل و (كُلُ) بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة ، وقيل : الساعة كل مرضعة (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تلقي كل ذات جنين جنينها لغير تمام ، وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصا في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد ، وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة ، وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل. وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وان إطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحثا ففي البحر الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة.

وفي القاموس الحمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل علقت ولا يقال حملت به أو قليل وهي حامل وحاملة ، والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر ما لم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه أحمال وحمول وحمال ا ه ، وقيل : المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في

١٠٨

التهويل من حامل أو حاملة لإشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعر الكلام بأن الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالمفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع.

(وَتَرَى النَّاسَ) بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والاختلاف بالجمعية والأفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى إلخ ، وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد.

وجوز بعضهم كون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أبلغ في التهويل ، والرؤية بصرية و (النَّاسَ) مفعولها ، وقوله تعالى : (سُكارى) حال منه أي يراهم كل واحد مشابهين للسكارى ، وقوله تعالى : (وَما هُمْ بِسُكارى) أي حقيقة حال أيضا لكنها مؤكدة والحال المؤكد تقترن بالواو لا سيما إذا كانت جملة اسمية. فلا يقال : إنه إذا كان معنى قوله تعالى : (تَرَى النَّاسَ سُكارى) على التشبيه يكون (وَما هُمْ بِسُكارى) بالمعنى المذكور مستغنى عنه ، ولا وجه لجعله حالا مؤكدة لمكان الواو ، وجوز أن يكون (تَرَى) بمعنى تظن فسكارى مفعول ثان ، وحينئذ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الاسمية في موضع الحال المؤكدة ؛ ويجوز أن يكون على الحقيقة فلا تأكيد هنا ، وأمر أفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحالة ، وأيا ما كان فالمراد في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِسُكارى) استمرار النفي ، وأكد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله ، وأشير إليه سببه بقوله تعالى : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى ، وهو استدراك على ما في الانتصاف راجع إلى قوله تعالى : (وَما هُمْ بِسُكارى) وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينةولكن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جدا.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ترى» بضم التاء وكسر الراء أي ترى الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وقرأ الزعفراني «ترى» بضم التاء وفتح الراء «الناس» بالرفع على إسناد الفعل المجهول اليه ، والتأنيث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا (النَّاسَ) وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في البحر ؛ الأول الضمير المستتر وهو نائب الفاعل ، والثاني (النَّاسَ) والثالث (سُكارى) وقرأ أبو هريرة وابن نهيك (سُكارى) بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير واحده سكران ، وقال أبو حاتم : هي لغة تميم ، وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ «سكرى» كعطشى في الموضعين ، وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح ، وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمراض كقتلى وموتى وحمقى ، ولكون السكر جاريا مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران ؛ وقال أبو علي الفارسي : يصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن ، وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش «سكرى» بضم السين فيهما ، قال الزمخشري : وهو غريب ، وقال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عنه انتهى.

١٠٩

وإلى كونه اسما مفردا ذهب أبو الفضل الرازي فقال : فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد ، وعن أبي زرعة «سكرى» بفتح السين «بسكرى» بضمها ، وعن ابن جبير «سكرى» بفتح السين من غير ألف (بِسُكارى) بالضم والألف كما في قراءة الجمهور ، والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله تعالى عنه في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول الملائكة عليهم‌السلام بنات الله سبحانه والقرآن أساطير الأولين ولا يقدر الله تعالى شأنه على إحياء من بلي وصار ترابا ، وقيل في أبي جهل ، وقيل في أبيّ بن خلف وهي عامة في كل من تعاطى الجدل فيما يجوز وما لا يجوز على الله سبحانه من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان ولا نصفة ، وخصوص السبب لا يخرجها عن العموم ، وكان ذكرها أثر بيان عظم شأن الساعة المنبئة عن البعث لبيان حال بعض المنكرين لها ؛ ومحل الجار الرفع على الابتداء إما بحمله على المعنى أو بتقدير ما يتعلق به ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع الحال من ضمير (يُجادِلُ) لإيضاح ما تشعر به المجادلة من الجهل أي وبعض الناس أو بعض كائن من الناس من ينازع في شأن عزوجل ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل ملابسا الجهل (وَيَتَّبِعُ) فيما يتعاطاه من المجادلة أو في كل ما يأتي وما يذر من الأمور الباطلة التي من جملتها ذلك (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) متجرد للفساد معرى من الخير من قولهم : شجرة مرداء لا ورق لها ، ومنه قيل : رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا ، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر ، وقال الزجاج : أصل المريد والمارد المرتفع الأملس وفيه معنى التجرد والتعري ، والمراد به إما إبليس وجنوده وإما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما (وَيَتَّبِعُ) خفيفا.

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ضمير (عَلَيْهِ) للشيطان وكذا الضمير المنصوب في (تَوَلَّاهُ) والضمير في (فَأَنَّهُ) والضميران المستتران في (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) وضمير (أَنَّهُ) للشأن وباقي الضمائر لمن. واختلف في إعراب الآية فقيل إن (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) إلخ نائب فاعل (كُتِبَ) والجملة في موضع الصفة الثانية لشيطان و (مَنْ) جزائية وجزاؤها محذوف و (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) إلخ عطف على (أَنَّهُ) مع ما في حيزها وما يتصل بها أي كتب على الشيطان أن الشأن من تولاه أي اتخذه وليا وتبعه يهلكه فإنه يضله عن طريق الجنة وثوابها ويهديه إلى طريق السعير وعذابها ، والفاء لتفصيل الإهلاك كما في قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف وهو وجه حسن إلا أن في كونه مراد الزمخشري خفاء ، وقيل (مَنْ) موصولة مبتدأ وجملة (تَوَلَّاهُ) صلته والضمير المستتر عائده وأنه (يُضِلُّهُ) في تأويل مصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة خبر الموصول ، ودخول الفاء في خبره على التشبيه بالشرط أي كتب عليه أن الشأن من تولاه فشأنه أو فحق أنه يضله إلخ. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابية وما بعدها مع القدر جواب الشرط. وقيل ضمير (أَنَّهُ) للشيطان وهو اسم أن و (مَنْ) موصولة أو موصوفة. والأول أظهر. خبرها والضمير المستتر في (تَوَلَّاهُ) لبعض الناس والضمير البارز لمن والجملة صلة أو صفة ، وقوله تعالى : (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عطف على (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) والمعنى ويتبع كل شيطان كتب عليه أنه هو الذي اتخذه بعد الناس وليا وأنه يضل من اتخذه وليا فالأول كأنه توطئة للثاني أي يتبع شيطانا مختصا به مكتوبا عليه أنه وليه وأنه مضله فهو لا يألو جهدا في إضلاله ، وهذا المعنى أبلغ من المعنى السابق على احتمال كون من جزائية لدلالته على أن لكل واحد من المجادلين واحدا من مردة الشياطين ، وارتضى هذا في الكشف وحمل عليه مراد صاحب الكشاف.

١١٠

وعن بعض الفضلاء أن الضمير في (أَنَّهُ) للمجادل أي كتب على الشيطان أن المجادل من تولاه وقوله تعالى : (فَأَنَّهُ) إلخ عطف على (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) واعترض بأن اتصاف الشيطان بتولي المجادل إياه مقتضى المقام لا العكس وأنه لو جعلت من في (مَنْ تَوَلَّاهُ) موصولة كما هو الظاهر لزم أن لا يتولاه غير المجادل وهذا الحصر يفوت المبالغة.

وفي البحر الظاهر أن الضمير في (عَلَيْهِ) عائد على من لأنه المحدث عنه ، وفي أنه وتولاه وفي فإنه عائد عليه أيضا والفاعل بتولي ضمير من وكذا الهاء في يضله ، ويجوز أن يكون الهاء في أنه على هذا الوجد ضمير الشأن والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه فشأنه أن يضل من يتولاه انتهى. وعليه تكون جملة كتب إلخ مستأنفة لا صفة لشيطان ، والأظهر جعل ضمير (عَلَيْهِ) عائدا على الشيطان وهو المروي عن قتادة ، وأيّا ما كان فكتب بمعنى مضى وقدر ويجوز أن يكون على ظاهره ، وفي الكشاف أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب عليه ذلك لظهوره في حاله ، ولا يخفى ما في (يَهْدِيهِ) من الاستعارة التمثيلية التهكمية.

وقرئ «كتب» مبنيا للفاعل أي كتب الله. وقرئ «فإنه» بكسر الهمزة فالجملة خبر من أو جواب لها ، وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو «إنه» «فإنّه» بكسر الهمزة فيهما ووجهه الكسر في الثانية ظاهر ، وأما وجهه في الأولى فهو كما استظهر أبو حيان إسناد (كُتِبَ) إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتبت أن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان أو تقدير قول وجعل الجملة معمولة له أو تضمين الفعل معنى ذلك أي كتب عليه مقولا في شأنه أنه من تولاه (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) إلخ إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرا إثر الإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم ، واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث ، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه ، وإما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع ، وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها. وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته ، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة للريب ، واستظهر أن المراد في ريب من إمكان البعث لأنه الذي يقتضيه ما بعد ، وجوز أن يكون المراد من وقوع البعث ، واعترض بأن الدليل المشار إليه فيما بعد إنما يدل على الإمكان مع ما يلزم من التكرار مع قوله تعالى الآتي (أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وفيه تأمل فتأمل ، وقرأ الحسن «من البعث» بفتح العين وهي لغة فيه كالجلب والطرد في الجلب والطرد عند البصريين ، وعند الكوفيين إسكان العين تخفيف وهو قياسي في كل ما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر.

وقوله تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) دليل جواب الشرط أو هو الجواب بتأويل أي وإن كنتم في ريب من البعث فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فإنا خلقناكم إلخ ، وقيل : التقدير فأخبركم وأعلمكم أنا خلقناكم إلخ وليس بذاك ، وخلقهم من تراب في ضمن خلق آدم عليه‌السلام منه أو بخلق الأغذية التي يتكون منها المني منه وهي وإن تكونت من سائر العناصر معه إلا أنه أعظم الأجزاء على ما قيل فلذلك خصه بالذكر من بينها ، واختير الأول وجعل

١١١

المعنى خلقناكم خلقا إجماليا من تراب (ثُمَ) خلقناكم خلقا تفصيليا (مِنْ نُطْفَةٍ) أي مني من النطف بمعنى التقاطر ، وقال الراغب : النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل ، قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل ، والحق أن النطفة كما يعبر بها عن مني الرجل يعبر بها عن المني مطلقا وكلام الراغب ليس نصا في نفي ذلك ، والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة ، وقيل : المراد نطفة آدم عليه‌السلام وحكي ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته.

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المني (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضع (مُخَلَّقَةٍ) بالجر صفة (مُضْغَةٍ) وكذا قوله تعالى : (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).

وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه ، والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد ، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة ، وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة ، وقيل : المخلقة المسوأة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجبل أخلق أي أملس ، فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم ، وعن مجاهد وقتادة والشعبي وأبي العالية وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت ، واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال : يا رب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دما وإن قيل : مخلقة قال : يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق ، وبأي أرض تموت؟ الخبر وهو في حكم المرفوع ، والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر ، وكأن التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) متعلق بخلقنا ، وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفما أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس ، وقدر بعضهم المفعول خاصا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك.

وأبعد جدا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل المختار ولو لا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق ، وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» بالباء على طريق الالتفات وكذا قرأ قوله تعالى :

١١٢

(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) وقرأ الجمهور بالنون ، والجملة استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وتوارد الأطوار عليهم أي ونقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها («إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه عندنا سنتان وعند الشافعي عليه الرحمة أربع سنين ، وعن يعقوب أنه قرأ «ونقرّ» بفتح النون وضم القاف من قررت الماء إذا صببته ، وقرأ يحيى بن وثاب ما نشاء بكسر النون.

(ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) أي من الأرحام بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى (طِفْلاً) حال من ضمير المخاطبين ، والأفراد إما باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس الصادق على الكثير أو لأنه مصدر فيستوي فيه الواحد وغيره كما قال المبرد أو لأن المراد طفلا طفلا فاختصر كما نقله الجلال السيوطي في الأشباه النحوية.

وقرأ عمر بن شبة «يخرجكم» بالياء (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي كمالكم في القوة والعقل والتمييز ، وفي القاموس حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أي قياسا فلا يرد نعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما بمسموعين بل قياس و (لِتَبْلُغُوا) ، قال العلامة أبو السعود : علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلخ ، وقيل علة المحذوف والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا إلخ.

وجوز العلامة الطيبي أن يكون التقدير (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) كان ذلك الإقرار والإخراج ؛ وقيل إنه عطف على نبين ، وتعقبه العلامة بأنه مخل بجزالة النظم الكريم وجعله كغيره عطفا عليه على قراءة نقر. ونخرج بالنصب وهي قراءة المفضل وأبي حاتم إلا أن الأول قرأ بالنون والثاني قرأ بالياء ، وكذا جعل الفعلين عطفا عليه وقال : المعنى خلقناكم على التدريج المذكور لأمرين ، أحدهما أن نبين شئوننا ، والثاني أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم ، وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات ، وإعادة اللام في (لِتَبْلُغُوا) مع تجريد نقر «ونخرج» عنها للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة ، وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال ا ه.

وما ذكره من عطف وو نقر و (نخرج) بالنصب على (نبين) لم يرتضه الشيخ ابن الحاجب ، قال في شرح المفصل : إنه مما يتعذر فيه النصب إذ لو نصب عطفا على (نبين) ضعف المعنى إذا اللام في لنبين للتعليل لما تقدم والمقدم سبب للتبيين فلو عطف (وَنُقِرُّ) عليه لكان داخلا في مسببية (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) إلخ وخلقهم من تراب ثم ما تلاه لا يصلح سببا للإقرار في الأرحام ، وقال الزجاج : لا يجوز في (وَنُقِرُّ) إلا الرفع ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام وإنما خلقهم ليدلهم على رشدهم وصلاحهم وهو قول بعدم جواز عطفه على نبين.

وأجيب بأن الغرض في الحقيقة هو بلوغ الأشد والصلوح للتكليف لكن لما كان الإقرار وما تلاه من مقدماته صح إدخاله في التعليل ، وما ذكره من أن العطف على نبين على قراءة الرفع مخل بجزالة النظم الكريم فالظاهر أنه تعريض بالزمخشري حيث جعل العطف على ذلك وقال فإن قلت : كيف يصح عطف (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) على (لِنُبَيِّنَ) ولا طباق قلت الطباق حاصل لأن قوله تعالى : (وَنُقِرُّ) قرين للتعليل ومقارنته له والتباسه به ينزلانه منزلة نفسه فهو راجع من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب ا ه. وفيه ما يومئ إلى أن قراءة النصب أوضح كما أنها أمتن ،

١١٣

ولم يرتض ذلك المحققون ففي الكشف أن القراءة بالرفع هي المشهورة الثابتة في السبع وهي الأولى وقد أصيب بتركيبها هكذا شاكلة الرمي حتى لم يجعل الإقرار في الأرحام علة بل جعل الغرض منه بلوغ الأشد وهو حال الاستكمال علما وعملا وحيث لم يعطف على (لِنُبَيِّنَ) إلا بعد أن قدم عليه (وَنُقِرُّ) ثم نخرج مجعولا (نُقِرُّ) عطفا على إنا (خَلَقْناكُمْ) والعدول إلى المضارع لتطوير الحال والدلالة على زيادة الاختصاص فالطباق حاصل لفظا ومعنى مع أن في الفصل بين العلتين من النكتة ما لا يخفى على ذي لب حسن موقعها بعد التأمل ، وكذلك في الإتيان بثم في قوله سبحانه : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا) دلالة على أنه الغرض الأصيل الذي خلق الإنسان له (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ولما كانت الأوائل في الدلالة على البعث أظهر قدم قوله تعالى : (لِنُبَيِّنَ) على الإقرار والإخراج ا ه.

ويعلم منه ما في قول العلامة : إن عطف «لتبلغوا» إلخ على «لنبين» مخل بجزالة النظم الكريم وأنه لا يتعين الاستئناف في (وَنُقِرُّ) وفيه أيضا أن قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) إلخ استئناف لبيان أقسام الإخراج من الرحم كما استوفى أقسام الأول وفيه تبيين تفضيل حال بلوغ الأشد وأنها الحقيق بأن تكون مقصودة من الإنشاء لكن منهم من لا يصل إليها فيحتضر ومنهم من يجاوزها فيحتقر أي منكم من يموت قبل بلوغ الأشد (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أرداه وأدناه ، والمراد يرد إلى مثل زمن الطفولية (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) أي علم كثير (شَيْئاً) أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم ، واللام متعلقة بيرد وهي لام العاقبة والمراد المبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله وليس لزمان ذلك الرد حد محدود بل هو مختلف باختلاف الأمزجة على ما في البحر وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعين الفاعل كما في إرشاد العقل السليم ، وفي شرح الكشاف للطيبي بعد تجويز أن يكون (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا) بتقدير (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا) كان ذلك الإقرار والإخراج أن فائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال والإخراج أبدعها والرد إلى أرذل العمر أسوؤها وتغيير العبارة لذلك ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته تعالى المقدسة وحذف المعلل في الثاني ولم ينسب الثالث إلى فاعله وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المومي إليه بالأشد كأنه قيل ثم يخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلا إنشاء غريبا كما قال سبحانه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ثم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب لأنه أوان رسوخ العلم والمعرفة والتمكن من العمل المقصودين من الإنشاء ثم يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل ا ه.

ويفهم منه جواز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى بعد بلوغ الأشد ، ومن الناس من جوز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى عند البلوغ ، وقيل : إن ذلك يجعل الجملة حالية ومن صيغة المضارع وهو كما ترى. وقرئ «يتوفّى» على صيغة المعلوم وفاعله ضمير الله تعالى أي من يتوفاه الله تعالى ، وجوز أن يكون ضمير من أي «من» يستوفي مدة عمره ، وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر ، هذا ثم لا يخفى ما في اختلاف أحوال الإنسان بعد الإخراج من الرحم من التنبيه على صحة البعث كما في اختلافها قبل فتأمل جميع ما ذكر ولله تعالى در التنزيل ما أكثر احتمالاته (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) حجة أخرى على صحة البعث معطوفة على إنا (خَلَقْناكُمْ) وهي حجة آفاقية وما تقدم حجة أنفسية والخطاب لكل أحد من تتأتى منه الرؤية ، وقيل : للمجادل ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وهي بصرية لا علمية كما قيل ، و (هامِدَةً) حال من (الْأَرْضَ) أي ميتة يابسة يقال همدت الأرض إذا يبست ودرست وهمد الثوب إذا بلي ؛ وقال الأعشى :

١١٤

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا

وأرى ثيابك باليات همّدا

وأصله من همدت النار إذا صارت رمادا (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) أي ماء ، المطر ، وقيل : ما يعمه وماء العيون والأنهار وظاهر الإنزال يقتضي الأول (اهْتَزَّتْ) تحرك نباتها فالإسناد مجازي أو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لأجل خروج النبات وحمل الاهتزاز على الحركة في الكيف بعيد (وَرَبَتْ) ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات.

وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن الياس وأبو عمرو في رواية «وربأت» بالهمز أي ارتفعت يقال فلان يربأ بنفسه عن كذا أي يرتفع بها عنه ، وقال ابن عطية : هو من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة عليهم فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف (بَهِيجٍ) حسن سار للناظر (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) كلام مستأنف جيء به إثر تحقيق حقية البعث وإقامة البرهان عليه على أتم وجه لبيان أن ما ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أحوال متباينة وإحياء الأرض بعد موتها الكاشف عن حقية ذلك من آثار ألوهيته تعالى وأحكام شئونه الذاتية والوصفية والفعلية وأن ما ينكرونه من إتيان الساعة والبعث من أسباب تلك الآثار العجيبة المعلومة لهم ومبادئ صدورها عنه تعالى ، وفيه من الإيذان بقوة الدليل وأصالة المدلول في التحقق وإظهار بطلان إنكاره ما لا يخفى فإن إنكار تحقق السبب مع الجزم بتحقق المسبب مما يقضي ببطلانه بديهة العقول فذلك إشارة إلى خلق الإنسان على أطوار مختلفة وما معه والإفراد باعتبار المذكور وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الكمال وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور ، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محالة لكونه لذاته لا الثابت مطلقا فوجه الحصر ظاهر أي ما ذكر من الصنع البديع حاصل بسبب أنه تعالى هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق لما سواه من الأشياء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي شأنه وعادته تعالى إحياء الموتى ، وحاصله أنه تعالى قادر على إحيائها بدءا وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرة بعد مرة وما تفيده صيغة المضارع من التجدد إنما هو باعتبار تعلق القدرة ومتعلقها لا باعتبار نفسها لأن القدم الشخصي ينافي ذلك. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة للحصر التي من جملتها ما ذكر ، وتخصيص إحياء الموتى بالذكر مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع والدفع في نحور المنكرين ، وتقديمه لإبراز الاعتناء به (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي فيما سيأتي ، والتعبير بذلك دون الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقرر البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة ، وقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيها) إما خبر ثان لأن أو حال من ضمير (السَّاعَةَ) في الخبر ، ومعنى نفي الريب عنها أنها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها.

وأن وما بعدها في تأويل مصدر عطف على المصدر المجرور بياء السببية داخل معه في حيزها كالمصدرين الحاصلين من قوله تعالى : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وقوله سبحانه : (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكذا قوله عزوجل : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) لكن لا من حيث إن إتيان الساعة وبعث من في القبور مؤثر أن فيما ذكر من أفاعيله تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث إن كلا منهما بسبب داع له عزوجل بموجب رأفته بالعباد المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للاستشهاد به على إمكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به عليه أو على وقوعهما ويصدقوا بذلك لينالوا السعادة الأبدية ولو لا ذلك لما فعل بل لما خلق العالم رأسا ، وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال ؛ هذا ما اختاره العلامة أبو السعود في تفسير ذلك وهو مما يميل اليه الطبع

١١٥

السليم ، وجعل صاحب الكشاف الإشارة إلى ما ذكر أيضا إلا أنه بحسب الظاهر جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور حيث إن ذلك من روادف الحكمة كناية عنها فكأن الأصل ذلك حاصل بسبب أن الله تعالى هو الحق الثابت الموجود وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم فاكتفى بمقتضى الحكمة عن الوصف بالحكمة لما في الكناية من النكتة خصوصا والكلام مع منكري البعث للدفع في نحورهم ولا يخلو عن بعد ، ونقل النيسابوري عبارة الكشاف واعترضها بما لا يخفى رده وأبدى وجها في الآية ذكر أنه مما لم يخطر لغيره ورجا أن يكون صوابا وهو مع اقتضائه حمل الباء على ما يعم السببية الفاعلية والسببية الغائية مما لا يخفى ما فيه ، وقيل : ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) إلخ ليس معطوفا على المجرور بالياء ولا داخلا في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والأمر أن الساعة آتية إلخ ، وعليه اقتصر أبو حيان وفيه قطع للكلام عن الانتظام ، وقيل : ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن الباء صلة لكون خاص وليست سببية مشعر بأن الله هو الحق إلخ ، وفيه أنه لا قرينة على هذا الكون الخاص وقيل : المعنى ذلك ليعلموا أن الله هو الحق إلخ ، وفيه تلويح ما إلى معنى الحديث القدسي المشهور على الألسنة وفي كتب الصوفية وإن لم يثبت عند المحدثين وهو «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وهو كما ترى ، وقيل : الإشارة إلى البعث المستدل عليه بما سبق واستظهره بعضهم ، ولا يخفى عليك ما يحتاج إليه من التكلف ، ونقل في البحر أن ذلك منصوب بفعل مضمر أي فعلنا ذلك بأن إلخ. وأبو علي اقتصر على القول بأنه مرفوع على الابتداء والجار والمجرور خبره ؛ وقال : لا يجوز غير ذلك وكأنه عنى بالغير ما ذكر ، وما نقله العكبري من أنه خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك والحق الجواز إلا أنه خلاف الظاهر جدا ، ثم إن المراد من الساعة قيل يوم القيامة المشتمل على النشر والحشر وغيرهما ، وقال سعدي جلبي : المراد بها هنا فناء العالم بالكلية لئلا تتكرر مع البعث ، وقول الطيني: إن سبيل قوله تعالى (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) من قوله سبحانه : (أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) سبيل قوله جل وعلا : إن الله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من قوله عزوجل : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل ظاهر في الأول ، هذا وفي الإتقان للجلال السيوطي أن الإسلاميين من أهل المنطق ذكروا أن في أول سورة الحج إلى قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات ثم بين ذلك بما يقضي منه العجب ويدل على قصور باعه في ذلك العلم ، وقد يقال في بيان ذلك : إن النتائج الخمس هي الجمل المتعاطفة الداخلة في حيز الباء ، واستنتاج الأولى بأنه لو لم يكن الله سبحانه هو الحق أي الواجب الوجود لذاته لما شوهد بعض الممكنات من الإنسان والنبات وغيرها والتالي باطل ضرورة فالله تعالى هو الحق ، ودليل الملازمة برهان التمانع ، واستنتاج الثانية بأنه لو لم يكن سبحانه قادرا على إحياء الموتى لما طور الإنسان في أطوار مختلفة حتى جعله حيا وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والتالي باطل ضرورة أن الخصم لا ينكر أنه تعالى أحيا الإنسان وأحيا الأرض فالله تعالى قادر على إحياء الموتى ووجه الملازمة ظاهر. واستنتاج الثالثة بأنه إذا كان الله تعالى قادرا على إحياء الموتى فهو سبحانه على كل شيء قدير لكنه تعالى قادر على إحياء الموتى فهو على كل شيء قدير ، ووجه الملازمة أن المراد من الشيء الممكن وإحياء الموتى ممكن والقدرة على بعض الممكنات دون بعض تنافي وجوب وجوده تعالى الذاتي ؛ وأيضا إحياء الموتى أصعب الأمور عند الخصم المجادل حتى زعم أنه من الممتنعات فإذا ثبت أنه سبحانه قادر عليه بما سبق ثبت أنه تعالى قادر على سائر الممكنات بالطريق الأولى. واستنتاج الرابعة بأن الساعة أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه وكل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فالساعة آتية إما أن الساعة أمر ممكن فلأنه لا يلزم من فرض وقوعها محال وإما أنها وعد الصادق بإتيانها فللآيات القرآنية المتحدى بها وإما أن كل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فلاستحالة الكذب واستنتاج الخامسة بنحو ذلك ولا يتعين استنتاج

١١٦

كل بما ذكر بل يمكن بغير ذلك واختياره لتسارعه إلى الذهن ، وربما يقتصر على ثلاث من هذه الخمس بناء على ما علمت بين قوله تعالى : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكذا بين قوله سبحانه (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) وقوله سبحانه : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ويعد من الخمس قوله تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) واستنتاجها بأن يقال : زلزلة الساعة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكل ما هذا شأنه فهو شيء عظيم فزلزلة الساعة شيء عظيم ، والتقوى واجبة عليكم المدلول عليه بقوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) واستنتاجه بأن يقال : التقوى يندفع بها ضرر الساعة وكل ما يندفع به الضرر واجب عليكم فالتقوى واجبة عليكم ، ولا يخفى أن ما ذكر أولا أولى إلا أنه لو كان مرادهم لكان الظاهر أن يقولوا : إن في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) إلى قوله سبحانه و (أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) خمس نتائج دون أن يقولوا : إن في أول سورة الحج إلى آخره ويناسب هذا القول ما ذكر ثانيا إلا أنه يرد عليه أن المتبادر من كلامهم كون كل من النتائج مذكورا صريحا ، ولا شك أن التقوى واجبة عليكم ليس مذكورا كذلك وإنما المذكور ما يدل عليه في الجملة وهو أيضا ليس بقضية كما لا يخفى ، وقد تكلف بعض الناس لبيان ذلك غير ما ذكرنا رأينا ترك ذكره أولى فتأمل.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت على ما روي عن محمد بن كعب في الأخنس بن شريق ؛ وعلى ما روي عن ابن عباس في أبي جهل ، وعلى ما ذهب إليه جمع في النضر كالآية السابقة فإذا اتحد المجادل في الآيتين فالتكرار مبالغة في الذم أو لكون كل من الآيتين مشتملة على زيادة ليست في الأخرى ، وقال ابن عطية : كررت الآية على جهة التوبيخ فكأنه قيل هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل إلى آخره فالواو هنا واو الحال وفي الآية المتقدمة واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها على معنى الأخبار لا للتوبيخ انتهى ، وهو كما ترى. وفي الكشف أن الأظهر في النظم والأوفق للمقام كون هذه الآية في المقلدين بفتح اللام وتلك في المقلدين بكسر اللام فالواو للعطف على الآية الأولى ، والمراد بالعلم الضروري كما أن المراد بالهدي في قوله تعالى : (وَلا هُدىً) الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى شأنه من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة ولا ببرهان سمعي.

(ثانِيَ عِطْفِهِ) حال من ضمير «يجادل» كالجار والمجرور السابق أي لا ويا لجانبه وهو كناية عن عدم قبوله ، وهو مراد ابن عباس بقوله متكبرا والضحاك بقوله شامخا بأنفه وابن جريج بقوله معرضا عن الحق.

وقرأ الحسن «عطفه» بفتح العين أي مانعا لتعطفه وترحمه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) متعلق بيجادل علة له فإن غرضه من الجدال الإضلال عن سبيله تعالى وإن لم يعترف بأنه إضلال ، وجوز أبو البقاء تعلقه بثاني وليس بذاك ، والمراد بالإضلال إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادله من المؤمنين أو الناس جميعا بتغليب المؤمنين على غيرهم وأما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازا فالمفعول هم الكفرة خاصة.

وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية «ليضل» بفتح الياء أي ليضل في نفسه ؛ والتعبير بصيغة المضارع مع أنه لم يكن مهتديا لجعل تمكنه من الهدى كالهدى لكونه هدى بالقوة ، يجوز أن يراد ليستمر على الضلال أو ليزيد ضلاله ، وقيل : إن ذلك لجعل ضلاله الأول كالاضلال ، وأيا ما كان فاللام للعاقبة (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) جملة مستأنفة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريق ، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا مقدرة أو مقارنة على معنى استحقاق ذلك والأول أظهر أي ثابت له في الدنيا بسبب ما فعله ذل وهوان ، والمراد به عند القائلين بأن هذا المجادل النضر أو أبو

١١٧

جهل ما أصابه يوم بدر ، ومن عمم. وهو الأولى. حمله على ذم المؤمنين إياه وإفحامهم له عند البحث وعدم إدلائه بحجة أصلا أو على هذا مع ما يناله من النكال كالقتل لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد.

(وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار البالغة في الإحراق ، والإضافة على ما قيل من إضافة المسبب إلى السبب ، وفسر الحريق أيضا بطبقة من طباق جهنم ، وجوز أن تكون الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والمراد العذاب الحريق أي المحرق جدا ، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه تعالى «وأذيقه» بهمزة المتكلم.

(ذلِكَ) أي ما ذكر من ثبوت الخزي له في الدنيا وإذاقة عذاب الحريق في الأخرى ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي بسبب ما اكتسبته من الكفر والمعاصي ، وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي ، وجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك وأن يكون مفعولا لفعل محذوف أي فعلنا ذلك إلخ وهو خلاف الظاهر ، والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب ، وجوز أن تكون في محل نصب مفعولة لقول محذوف وقع حالا أي قائلين أو مقولا له ذلك إلخ ، وعلى الأول يكون في الكلام التفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الظاهر أنه عطف على ما وبه قال بعضهم ، وفائدته الدلالة على أن سببية ما اقترفوا من الذنوب لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ما اقترفوه إلا أن لا يعذبهم بما اقترفوا ، وحاصله أن تعذيب العصاة يحتمل أن يكون لذنوبهم ويحتمل أن يكون لمجرد إرادة عذابهم من غير ذنب فجيء بهذا لرفع الاحتمال الثاني وتعيين الأول للسببية لا لرفع احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم لأنه جائز بل بعض الآيات تدل على وقوعه في حق بعض العصاة ، ومرجع ذلك في الآخرة إلى تقريع الكفر وتبكيتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم كأنه قيل : إن ذلك العذاب إنما نشأ من ذنوبكم التي اكتسبتموها لا من شيء آخر.

واختار العلامة أبو السعود أن محل أن وما بعدها الرفع على الخبرية لمبتدإ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها ، وقال في العطف : للدلالة على أن سببية إلخ أنه ليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه ، نعم لو كان المدعي كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك انتهى. وتعقب قوله : إن إمكان إلخ بأن الكلام ليس في منافاة ذينك الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وقوله نعم لو كان المدعي إلخ بأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المذنبين بأنه لا سبب لتعذيبهم إلا من قبلهم فالقول بالاحتياج في صورة الجميع وبعدمه في صورة الخصوصية ركيك جدا ، وتعقب أيضا بغير ذلك ، والقول بالاعتراض وإن كان لا يخلو عن بعد أبعد عن الاعتراض ، والتعبير عن نفي تعذيبه تعالى لعبيده من غير ذنب ، بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم ، وقيل : هي لرعاية جمعية العبيد فتكون للمبالغة كمّا لا كيفا. واعترض بأن نفي المبالغة كيفما كانت توهم المحال ، وقيل : ويجوز أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفيا للمبالغة ، واعترض بأن ذلك ليس مثل القيد المنفصل الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي ، وجعله قيدا في التقدير لأنه بمعنى

١١٨

ليس بذي ظلم عظيم أو كثير تكلف لا نظير له ، وقيل : إن ظلاما للنسبية أي ليس بذي ظلم ولا يختص ذلك بصيغة فاعل فقد جاء «وليست بذي رمح ولست بنبال» وقيل غير ذلك.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائنا على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية ، وقوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) إلخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه ، والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاصف (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه وأهله أو ماله (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي مستوليا على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يمينا وشمالا ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبال ، وهو معنى قوله في الكشاف : طار على وجهه وجعله في الكشف كناية عن الهزيمة ، وقيل هو هاهنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن ، وأيّا ما كان فالمراد ارتد رجع عن دينه إلى الكفر.

أخرج البخاري وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء. وأخرج ابن مردويه عن ابي سعيد قال : أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقلني فقال عليه الصلاة والسلام : إن الإسلام لا يقال فقال : لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت هذه الآية ، وضعف هذا ابن حجر ، وقيل : نزلت في شيبة ابن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة والسلام وارتد بعد ظهوره وروي ذلك عن ابن عباس ، وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) جملة مستأنفة أو بدل من «انقلب» كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي ابي حيان ، والمعنى فقد الدنيا والآخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما.

وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم «خاسر» بزنة فاعل منصوبا على الحال لأن إضافته لفظية ، وقرئ «خاسر» بالرفع على أنه فاعل «انقلب» وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه ، وقيل : إنه من التجريد ففيه مبالغة ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر ، والجملة واردة على الذم والشتم (ذلِكَ) أي ما ذكر من الخسران ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون ، وقيل إن أداة البعد لكون المشار إليه غير مذكور صريحا (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي الواضح كونه خسرانا لا غير (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) قيل استئناف ناع عليه بعض قبائحه ، وقيل استئناف مبين لعظم الخسران ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل (انْقَلَبَ) وما تقدمه اعتراض ، وأيا ما كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى : (ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) والمراد بالدعاء العبادة أي يعبد متجاوزا عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده ، وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جمادا ليس من شأنه الضر والنفع ، ويلوح بكون المراد جمادا كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما (ذلِكَ) أي الدعاء (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق.

١١٩

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا مع إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة ونفيه عنه بطريق التسبب أيضا فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة :

يدعون عنتر والرماح كأنها

أشطان بئر في لبان الأدهم

واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولا له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ و (ضَرُّهُ أَقْرَبُ) مبتدأ وخبر والجملة صلة له ، وقوله تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر (من) أي يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققا من نفعه : والله لبئس الذي يتخذ ناصرا ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية ، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمّه ما لا يخفى ، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل ، وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه.

وقد ذهب إليه أيضا جار الله ، جوز أن يكون (يَدْعُوا) هنا إعادة ليدعو السابق تأكيدا له وتمهيدا لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا والله لبئس المولى إلخ ، ولا تناقض عليه أيضا إذا الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب ، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي ، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء ، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخبارا من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به. ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه.

واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولا سيما في التوكيد اللفظي ، وقال الأخفش : إن (يَدْعُوا) بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي ، والجملة محكية بالقول. واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها.

وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم. نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أدل عليه ، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه ، وقيل : (يَدْعُوا) مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولا مع اعتقاد. واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق ، والجملة في محل نصب بيدعو ، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه.

وقال الفراء : إن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو. وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول ، وقال ابن الحاجب : قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله (يَدْعُوا) من ضره بإسقاط اللام ، وقيل (يَدْعُوا) بمعنى يسمي (ومن) مفعوله الأول

١٢٠