روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

يكون في موضع الحال من الضمير ، وقيل : هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالا متلبسا بذلك ، وقيل : في الجار والمجرور غير ذلك (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلناه ثابتا قارا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها ، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه ، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلا فيه من حيث الفاعلية.

وقال ابن سينا في نجاته : هذه الأبخرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيونا أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائما. وما في الآية يؤيد ما ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر : إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى ، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلا ، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سببا تاما وأما على أنها لا مدخل لها أصلا فلا. والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه ، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقامات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين ، وقيل : المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه‌السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض» وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه‌السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه‌السلام وتابوت موسى عليه‌السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة. ولا يخفى على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف ، نعم حديث أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهرا الهند وبلخ كما سمعت على ما قاله ابن عبد البر والفرات والنيل صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك. وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ، وأنت تعلم أن الأوفق بالأخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر.

(إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك (لَقادِرُونَ) كما كنا قادرين على إنزاله ، فالجملة في موضع الحال وفي تنكير (ذَهابٍ) إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات ، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠].

وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجها للأبلغية ، الأول أن ذلك على الفروض والتقدير ، وهذا الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع ، الثاني التوكيد بأن الثالث اللام في الخبر الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم الخامس أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب السادس ما في

٢٢١

تنكير (ذَهابٍ) من المبالغة السابع اسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه تمت حيث قيل (غَوْراً). الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة التاسع ما في «قادرون» من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ. العاشر ما في جمعه. الحادي عشر ما في لفظ (بِهِ) من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له ، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب بأطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع. الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي. الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره. الخامس عشر ما في لفظ «أصبح» من الدلالة على الانتقال والصيرورة. السادس عشر أن الإذهاب هاهنا مصرح به. وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام. السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه هاهنا. الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا. ثم قال : هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم ا ه. وفي النفس من عد الأخير وجها شيء.

وقد يزاد على ذلك فيقال : التاسع عشر إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك. العشرون عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك. الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت. الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين ، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر المعاصرين سلاف التحقيق من كرم أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال : الثالث والعشرون تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك. الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في (إِنْ أَصْبَحَ) فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا. الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل. السادس والعشرون أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك. السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة. الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه. التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان (إِنْ) وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون. الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى ، ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه.

واختيرت المبالغة هاهنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدئ بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما تمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف ، وقال الخلف : المراد أنشأنا عنده (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة (لَكُمْ فِيها) أي في الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي ، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب.

٢٢٢

(وَمِنْها) أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها ، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول (تَأْكُلُونَ) والمراد بالأكل معناه الحقيقي.

وجوز أن يكون مجازا أو كناية عن العيش مطلقا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته ، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتها جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما.

وذكر الراغب في الفاكهة قولين : الأول أنها الثمار كلها ، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان ، وصاحب القاموس اختار الأول وقال : قول مخرج التمر والرمان منها مستدلا بقوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] باطل مردود ، وقد بينت ذلك مبسوسا في اللامع المعلم العجاب ا ه ؛ وأنت تعلم أن للفقهاء خلافا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثرى ونحوها لا العنب والرمان والرطب ، وقال صاحباه : المستثنيات أيضا فاكهة وعليه الفتوى ، ولا خلاف كما في القهستاني نقلا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة.

وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي ، ولا يخفى أن شيئا واحدا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين ، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه ا ه ، ثم إني لم أر أحدا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل. (وَشَجَرَةً) بالنصب عطف على (جَنَّاتٍ) ، وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، والأولى تقديره مقدما أي أنشأنا لكم شجرة (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهو جبل موسى عليه‌السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وأيلة ، ويقال لها اليوم العقبة ، وقيل بفلسطين من أرض الشام ، ويقال له طور سينين ، وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد. وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويعقوب وأكثر السبعة هو اسم للبقعة والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى (سَيْناءَ) كما أجمعوا عليه ، ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت وعلى الثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد.

وجوز أن يكون كامرئ القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما على ذلك العلم ، وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وروي هذا عن مجاهد وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر وقيل هو اسم الجبل والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد.

وحكي هذا القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء ، وقيل : منع من الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل : للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادرا كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو إما نبطي أو حبشي وأصل معناه الحسن أو المبارك ، وجوز بعض أن يكون عربيا من السناء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور.

وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين السناء أو السنا نون وعين سيناء ياء. ورد بأن القائل بذلك يقول

٢٢٣

إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو ، الحرميان وأبو عمرو والحسن «سيناء» بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضا ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث : وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق بفعلال كعلباء وحزباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما ، وقال أبو البقاء : همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء ، وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس ، وقرأ الأعمش «سينا» بالفتح والقصر ، وقرئ «سناء» بالكسر والقصر فألفه للتأنيث إن لم يكن أعجميا ، والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصه بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة. وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيرا ، ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله : لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة. وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضا وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها على ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها. ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحا لها باعتبار مكانها.

وقوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) مدحا لها باعتبار ما هي عليه في نفسها ، والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك : جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم ، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة.

وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك : ذهبت بزيد كأنه قيل : تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله ، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري «تنبت» بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الافعال ، وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير :

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم

قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل

وأنكر ذلك الأصمعي وقال : إن الرواية في البيت نبت بدون همزة مع أنه يحتمل أن تكون همزة أنبت فيه إن كانت للتعدية بتقدير مفعول أي أنبت البقل ثمره أو ما يأكلون ، ومنهم من خرج ما في الآية على ذلك وقال : التقدير تنبت زيتونها بالدهن ، والجار والمجرور على هذا في موضع الحال من المفعول أو من الضمير المستتر في الفعل ؛ وقيل : الباء زائدة كما في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية قال الخفاجي : ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان.

وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنيا للمفعول ؛ والجار والمجرور في موضع الحال ، وقرأ زر بن حبيش «تنبت» من الافعال «الدهن» بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان» جمع دهن كرماح جمع رمح ، وما رووا من قراءة عبد الله تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور.

(وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) معطوف على الدهن ، ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين ، وقد جاء كثيرا تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين ، ومنه قوله :

٢٢٤

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

والمعنى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهن يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس للائتدام قال في المغرب يقال : صبغ الثوب بصبغ حسن وصباغ ومنه الصبغ والصباغ من الإدام لأن الخبز يغمس فيه ويلون به كالخل والزيت ، وظاهر هذا اختصاصه بكل إدام مائع وبه صرح في المصباح. وصرح بعضهم بأن إطلاق الصبغ على ذلك مجاز ، ولعل في كلام المغرب نوع إشارة إليه وروي عن مقاتل أنه قال : الدهن الزيت والصبغ الزيتون وعلى هذا يكون العطف من عطف المتغايرين ذاتا وهو الأكثر في العطف ، ولا بد أن يقال عليه : إن الصبغ الإدام مطلقا وهو ما يؤكل تبعا للخبز في الغالب مائعا كان أم جامدا والزيتون أكثر ما يأكله الفقراء في بلادنا تبعا للخبز والأغنياء يأكلونه تبعا لنحو الأرز وقلما يأكلونه تبعا للخبز ، وأنا مشغوف به مذ أنا يافع فكثيرا ما آكله تبعا واستقلالا ، وأما الزيت فلم أر في أهل بغداد من اصطبغ منه وشذ من أكل منهم طعاما وهو فيه وأكثرهم يعجب ممن يأكله ومنشأ ذلك قلة وجوده عندهم وعدم الفهم له فتعافه نفوسهم ، وقد كنت قديما تعافه نفسي وتدريجا ألفته والحمد لله تعالى ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكله. وصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه ، وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام» وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» لكن قال بعضهم : هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضر به كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والادهان فإن الأدهان به قد يضر كالأكل ، قال ابن القيم : الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى.

وقرأ عامر بن عبد الله «وصباغا» وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ ونصبه بالعطف على موضع (بِالدُّهْنِ) وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا للآكلين وهو محمول على التفسير.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) بيان للنعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظم قدرة الله عزوجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه ، وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر.

وقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) تفصيل لما فيها من مواقع العبر. وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها. وأيا ما كان فضمير (بُطُونِها) للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على استخدام لأن عموم ما بعده يأباه ، وقرئ بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل ، وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في (تَأْكُلُونَ) من الدلالة على العادة المستمرة ، وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم.

٢٢٥

(وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم. وضمير (عَلَيْها) للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا. ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الاستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحه :

سفينة بر تحت خدي زمامها

وهذا مما لا بأس به ، وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الإبل فلا يناسب مقام الامتنان ولا سياق الكلام ، وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل ، قيل : وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً

٢٢٦

وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ)(٦٣)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [المؤمنون : ٢٣. ٦٣] شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش.

وتقديم قصة نوح عليه‌السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه ، وفي إيرادها إثر قوله تعالى : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) من حسن الموقع ما لا يوصف ، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها ، والكلام في نسب نوح عليه‌السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر ، والأصح أنه عليه‌السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين (فَقالَ) متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة [هود : ٢](أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا ، وقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها ، و (غَيْرُهُ) بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل ـ بلكم ـ أو مبتدأ خبره (لَكُمْ) أو محذوف و (لَكُمْ) للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى. وقرئ «غيره» بالجر اعتبارا للفظ «إله» (أَفَلا تَتَّقُونَ) الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده وإشراككم به عزوجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لو لا إيجاد الله تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه ، ويجوز أن يكون التقدير ألا تلاحظون فلا تتقون فالمنكر كلا الأمرين فالمبالغة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية ، وتقدير مفعول (تَتَّقُونَ) حسبما أشرنا إليه أولى من تقدير بعضهم إياه زوال النعم ولا نسلم أن المقام يقتضيه كما لا يخفى (فَقالَ الْمَلَأُ) أي الإشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وصف الملإ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه ، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه‌السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول : (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) وقال الخفاجي : يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه‌السلام المتبعين له أشرافا ؛ وأما قول (ما نَراكَ) [هود : ٢٧] إلخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف ، وأيا ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه‌السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة ، ووصفوه بقوله سبحانه : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) إغضابا للمخاطبين عليه عليه‌السلام وإغراء لهم على

٢٢٧

معاداته ، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل : يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعائه الرسالة مع كونه مثلكم ، وقيل : صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل : يريد كمال الفضل عليكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه‌السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة ، وإنما قيل (لَأَنْزَلَ) لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ) [النحل : ٩] ولا بأس في ذلك ، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمرا غريبا وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقا فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن ، وعلى هذا يجوز أن يقال : التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عزوجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه‌السلام لهم (اعْبُدُوا اللهَ) وكذا قوله تعالى : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضا وذلك بناء على أن (هذا) إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عزوجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه‌السلام ، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول ، وقيل : الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه ؛ ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد ، وأيا ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادي دعوته عليه‌السلام كما ينبئ عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى : (فَقالَ الْمَلَأُ) إلخ.

وقيل : (هذا) إشارة إلى نوح عليه‌السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته ، وقيل : إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبيا لكان له ذكر في آبائنا الأولين ، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام ، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه‌السلام وقيل : بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر ، وعليهما أيضا يكون قولهم : (إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا (حَتَّى حِينٍ) لعله يفيق مما هو فيه محمولا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه‌السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه‌السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا ، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال عليه‌السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل؟ فقيل : قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحي إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦](رَبِّ انْصُرْنِي) بإهلاكهم بالمرة بناء على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه‌السلام (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] إلخ ، والباء في قوله تعالى : (بِما كَذَّبُونِ) للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم ، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ٥٩ ، الشعراء : ١٣٥ ، الأحقاف : ٢١] وحاصله انصرني بإنجاز ذلك ، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام ، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «رب» بضم الباء ولا يخفى وجهه (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) عقيب ذلك ، وقيل : بسبب ذلك (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أَنِ) مفسرة لما في الوحي من معنى القول (بِأَعْيُنِنا) ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من

٢٢٨

الزيغ في الصنع (وَوَحْيِنا) وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها ، والفاء في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك ، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل ، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أي ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا ، وقوله سبحانه : (وَفارَ التَّنُّورُ) بيان وتفسير لمجيء الأمر ، روي أنه قيل له عليه‌السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه‌السلام فصار إلى نوح عليه‌السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا ، واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم ، وقيل : كان في عين وردة من الشام ، وقيل : بالجزيرة قريبا من الموصل ، وقيل : التنور وجه الأرض ، وقيل : فار التنور مثل كحمي الوطيس ، وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه فسر (فارَ التَّنُّورُ) بطلع الفجر فقيل : معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك.

(فَاسْلُكْ فِيها) أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه ، ومنه قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢](مِنْ كُلٍ) أي من كل أمة (زَوْجَيْنِ) أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى : (اثْنَيْنِ) فإنه ظاهر في الفردين دون الجمعين.

وقرأ أكثر القراء من «كل زوجين» بالإضافة على أن المفعول «اثنين» أي اسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة. روي أنه عليه‌السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منه ، ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر. والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك ، وفي سورة [هود : ٤٠](حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكي على صورة التنجيز (وَأَهْلَكَ) قيل عطف على (اثْنَيْنِ) على قراءة الإضافة وعلى (زَوْجَيْنِ) على قراءة التنوين ، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على (فَاسْلُكْ) أي واسلك أهلك ، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك ، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) استثناء منقطعا ، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذ يكون الاستثناء متصلا كما كان هناك ، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله ، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه‌السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم ، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم ، والمراد بالقول القول بالإهلاك ، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا ، وجيء بعلى لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] لكون السابق نافعا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه ، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول

٢٢٩

فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) تعليل للنهي أو لما ينبئ عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به قوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) من أهلك وأتباعك (عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم ، وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد لله الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم ، وقال الخفاجي : إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرره أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله.

وأنت تعلم أن الحمد هنا رديف الشكر فإذا خص بالنعمة الواصلة إلى الشاكر لا يصح أن يتعلق بالمصيبة من حيث إنها مصيبة وهو ظاهر ، وفي أمره عليه‌السلام بالحمد على نجاة أتباعه إلى أنه نعمة عليه أيضا.

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) في الفلك (مُنْزَلاً) أي إنزالا أو موضع إنزال (مُبارَكاً) يتسبب لمزيد الخير في الدارين (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي من يطلق عليه ذلك ، والدعاء بذلك إذا كان بعد الدخول فالمراد إدامة ذلك الإنزال ولعل المقصود إدامة البركة ، وجوز أن يكون دعاء بالتوفيق للنزول في أبرك منازلها لأنها واسعة ، وإن كان قبل الدخول فالأمر واضح ، وروى جماعة عن مجاهد أن هذا دعاء أمر نوح عليه‌السلام أن يقوله عند النزول من السفينة فالمعنى رب أنزلني منها في الأرض منزلا إلخ ، وأخذ منه قتادة. ندب أن يقول راكب السفينة عند النزول منها (رَبِّ أَنْزِلْنِي) إلخ ، واستظهر بعضهم الأول إذ العطف ظاهر في أن القولين وقت الاستواء. وأعاد (قُلْ) لتعدد الدعاء ، والأول متضمن دفع مضرة ولذا قدم وهذا لجلب منفعة.

وأمره عليه‌السلام أن يشفع دعاءه ما يطابقه من ثنائه عزوجل توسلا به إلى الإجابة فإن الثناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه ، وقد قالوا : الثناء على الكريم يعني عن سؤاله ، وإفراده عليه‌السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء لإظهار فضله عليه‌السلام وأنه لا يليق غيره منهم للقرب من الله تعالى والفوز بعز الحضور في مقام الإحسان مع الإيماء إلى كبريائه عزوجل وأنه سبحانه لا يخاطب كل أحد من عباده والإشعار بأن في دعائه عليه‌السلام وثنائه مندوحة عما عداه.

وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان «منزلا» بفتح الميم وفتح الزاي أي مكان نزول ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. قال أبو علي : يحتمل أن يكون المنزل على هذه القراءة مصدرا وأن يكون موضع نزول (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر مما فعل به عليه‌السلام وبقومه (لَآياتٍ) جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر ذوو الاعتبار (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) إن مخففة من ان واللام فارقة بينها وبين إن النافية وليست إن نافية واللام بمعنى إلا والجملة حالية أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر ، والمراد معاملين معاملة المختبر وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٥](ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاك قوم نوحعليه‌السلام (قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد أو ثمود (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود أو صالح عليهما‌السلام ، والأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه ذهب أكثر المفسرين ، وأيد بقوله تعالى حكاية عن هود (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] وبمجيء قصة عاد بعد قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود وغيرهما ؛ واختار أبو سليمان الدمشقي والطبري الثاني واستدلا عليه بذكر الصيحة آخر القصة والمعروف أن قوم صالح هم المهلكون بها دون قوم

٢٣٠

هود ، وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى ، وجعل القرن ظرفا للإرسال كما في قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) [الرعد : ٣٠] لا غاية له كما في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) للإيذان من أول الأمر أن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم ، و (أَنِ) في قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله ، وجوز كونها مصدرية ولا مانع من وصلها بفعل الأمر وقبلها جار مقدر أي أرسلنا فيهم رسولا بأن اعبدوا الله وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) الكلام فيه كالكلام في نظيره المار في قصة نوح عليه‌السلام (وَقالَ الْمَلَأُ) أي الأشراف (مِنْ قَوْمِهِ) بيان لهم ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بالمعاد أو بالحياة الثانية صفة للملإ جيء بها ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر ، ويجوز أن تكون للتمييز إن كان في ذلك القرن من آمن من الأشراف ، وتقديم (مِنْ قَوْمِهِ) هنا على الصفة مع تأخيره في القصة السابقة لئلا يطول الفصل بين البيان والمبين لو جيء به بعد الصفة وما في حيزها مما تعلق بالصلة مع ما في ذلك من توهم تعلقه بالدنيا أو يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لو جيء به بعد الوصف وقبل العطف كذا قيل.

وتعقب بأنه لا حاجة إلى ارتكاب جعل (الَّذِينَ) صفة للملإ وإبداء نكتة للتقديم المذكور مع ظهور جواز جعله صفة لقومه. ورد بأن الداعي لارتكابه عطف قوله تعالى : (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالا من ضمير (كَذَّبُوا) وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصول صفة لقومه بأن يجعل جملة (أَتْرَفْناهُمْ) حالا من (الْمَلَأُ) بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلخ في حال إحساننا عليهم.

نعم الظاهر لفظا جملة (أَتْرَفْناهُمْ) على جملة الصلة ، والأبلغ معنى جعلها حالا من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم ، وجيء بالواو العاطفة في (وَقالَ الْمَلَأُ) هنا ولم يجأ بها بل جيء بالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في الكشف ، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه : لم حكي هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس؟ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال : إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضا ، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك ، وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في (فَقالَ الْمَلَأُ) في قصة نوح عليه‌السلام فقد قيل : لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه‌السلام والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

ولا يخفى ما في قولهم ما هذا إلخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه‌السلام وتهوينه قاتلهم الله ما أجهلهم ، وقوله تعالى : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) تقرير للمماثلة ، والظاهر أن (ما) الثانية موصولة والعائد إليها ضمير مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه الحذف هنا مثله في قولك : مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط ، وحسنه هنا كون (تَشْرَبُونَ) فاصلة.

وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين ، والآية إما لا

٢٣١

حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه ا ه ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضا إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلا بد من إرادة الجنس على الوجهين.

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم ، واللام موطئة للقسم وجملة (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم ، و (إِذاً) فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك ، وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور.

قال أبو حيان : ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال : فإنكم إلخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ ا ه.

وذكر بعضهم أن «إذا» هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في أمثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور ، وفي همع الهوامع وكذا في الإتقان للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه (أَيَعِدُكُمْ) استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه‌السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده ، وقوله تعالى : (أَنَّكُمْ) على تقدير حرف الجر أي بأنكم ، ويجوز أن لا يقدر ونحو وعدتك الخير (إِذا مِتُّمْ) بكسر الميم من مات يمات ، وقرئ بضمها من مات يموت (وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب ، وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما ، وقوله تعالى : (أَنَّكُمْ) تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى : (مُخْرَجُونَ) وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا.

واختار هذا الإعراب الفراء والجرمي والمبرد ، ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافا لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة. ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن (أَنَّكُمْ) بدل من (أَنَّكُمْ) الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا ، ولا يجوز أن يكون هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة ، وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز ، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى.

وذهب الأخفش إلى أن (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم ، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر (أَنَّكُمْ) الأول ويكون جواب (إِذا) ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملا في إذا ، وبعضهم يحكي عن الأخفش أنه يجعل (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) فاعلا بإذا كما يجعل الخروج في قولك : يوم الجمعة الخروج فاعلا بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة.

وجوز بعضهم أن يكون (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ و (إِذا مِتُّمْ) خبرا على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل

٢٣٢

الجملة خبر أن الأولى ، قال في البحر : وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد ، والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه ، وفي قراءة عبد الله «أيعدكم إذا متم» بإسقاط (أَنَّكُمْ) الأولى (هَيْهاتَ) اسم لبعد وهو في الأصل اسم صوت وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو الصحة أو الوقوع أو نحو ذلك مما يفهمه السياق فكأنه قيل بعد التصديق أو الصحة أو الوقوع ، وقوله تعالى : (هَيْهاتَ) تكرير لتأكيد البعد ، والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة وجاءت غير مكررة في قول جرير :

وهيهات خل بالعقيق نواصله

وقوله سبحانه : (لِما تُوعَدُونَ) بيان لمرجع ذلك الضمير فاللام متعلقة بمقدر كما في سقيا له أي التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون ، ولا ينبغي أن يقال : إنه متعلق بالضمير الراجع إلى المصدر كما في قوله :

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

فإن إعمال ضمير المصدر وإن ذهب إليه الكوفيون نادر جدا لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى ، وقيل : لم يثبت والبيت قابل للتأويل وهذا كله مع كون الضمير بارزا فما ظنك إذا كان مستترا ، والقول بأن الفاعل محذوف وليس بضمير مستتر وهو مصدر كالوقوع والتصديق والجار متعلق به مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا لا سيما إذا كان ذلك المصدر المحذوف معرفا كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير البعد واللام للبيان كأنه قيل ، فعل البعد ووقع ثم قيل لما ذا؟ فقيل : لما توعدون ، وقيل : فاعل (هَيْهاتَ) ما توعدون واللام سيف خطيب ، وأيد بقراءة ابن أبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون» بغير لام ورد بأنها لم تعهد زيادتها في الفاعل ، وقيل : هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ مبني اعتبارا لأصله خبره (لِما تُوعَدُونَ) أي البعد كائن لما توعدون ونسب هذا التفسير للزجاج.

وتعقبه في البحر بأنه ينبغي أن يكون تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية (هَيْهاتَ) وقرأ هارون عن أبي عمرو «هيهاتا هيهاتا» بفتحهما منونتين للتنكير كما في سائر أسماء الأفعال إذا نونت فهو اسم فعل نكرة ، وقيل : هو على هذه القراءة اسم متمكن منصوب على المصدرية ، وقرأ أبو حيوة والأحمر بالضم والتنوين ، قال صاحب اللوامح : يحتمل على هذا أن تكون (هَيْهاتَ) اسما متمكنا مرتفعا بالابتداء و (لِما تُوعَدُونَ) خبره والتكرار للتأكيد ، ويحتمل أن يكون اسما للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة ا ه ، وقيل : هو اسم متمكن مرفوع على الفاعلية أي وقع بعد ، وعن سيبويه أنها جمع كبيضات ، وأخذ بعضهم منه تساوي مفرديهما في الرنة فقال مفردها هيهة كبيضة. وفي رواية عن أبي حيوة أنه ضمها من غير تنوين تشبيها لهما بقبل وبعد ذلك. وقرأ أبو جعفر وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين. وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم وأسد وعنه أيضا وعن خالد بن الياس أنهما قرءا بكسرهما والتنوين.

وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بالإسكان فيهما ، فمنهم من يبقي التاء ويقف عليها كما في مسلمات ، ومنهم من يبدلها هاء تشبيها بتاء التأنيث ويقف على الهاء ، وقيل : الوقف على الهاء لاتباع الرسم ، والذي يفهم من مجمع البيان أن (هَيْهاتَ) بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين ، وهي على هذا اسم معرب مفرد ، ومتى اعتبرت جمعا كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة منونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني.

وقرأ «أيهاه» بإبدال الهزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء ، والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد ، وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره (إِنْ

٢٣٣

هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور ، منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا. واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا.

وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته ، وهذا في الآخرة يعود إلى القول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا : لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال : إنه كشعري شعري ، ومن هذا القبيل على رأي قولهم : هي العرب تقول ما شاءت ، وقوله :

هي النفس ما حملتها تتحمل

وللدهر أيام تجور وتعدل

وفي الكشف ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذ تفسيرا والجملة بعدها بيانا بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه ثم أخبر بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل ، وقوله تعالى : (نَمُوتُ وَنَحْيا) جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا ، وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) وقيل : أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده ، ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلا إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضا تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهذا مذهب لبعض التناسخية وهم مليون ونحليون ، ويمكن أن يقال : إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكي عنهم قيل : (نَمُوتُ وَنَحْيا) ليكون أوفق بقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم المراد بقولهم (وَما نَحْنُ) إلخ استمرار النفي وتأكيده (إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين فيما يقوله ، والمراد أيضا استمرار النفي وتأكيده (قالَ) أي رسولهم عند يأسه من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى الله عزوجل (رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم وانتقم لي منهم (بِما كَذَّبُونِ) أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم ، ويجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه‌السلام (قالَ) تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب (عَمَّا قَلِيلٍ) أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة و (قَلِيلٍ) صفة لزمان حذف واستغني به عنه ومجيئه كذلك كثير ، وجوز أن تكون (ما) نكرة تامة و (قَلِيلٍ) بدلا منها ، وأن تكون نكرة موصوفة بقليل ، و (عن) بمعنى بعد هنا وهي متعلقة بقوله تعالى : (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل ، وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.

وقال أبو حيان : جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفا أم جارا ومجرورا أم غيرهما ، وعليه يكون ذلك متعلقا بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن إلخ ، ومذهب الفراء وأبي عبيدة أنه يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها

٢٣٤

مطلقا ، و «يصبح» بمعنى يصير أي بالله تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمان قليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له ، وقيل : بعد الموت ، وفي اللوامح عن بعضهم «لتصبحن» بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعد ما أجيب دعاؤه لكان جائزا.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبريل عليه‌السلام صاح عليه‌السلام بهم فدمرهم ، وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه‌السلام ظاهر ، ومن قال : إنهم قوم هود عليه‌السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناء على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية ، وأجاب بأن جبريل عليه‌السلام صاح بهم من الريح كما روي في بعض الأحاديث ، وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلّا لو انفرد لتدميرهم لكفى ، ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله :

صاح الزمان بآل برمك صيحة

خروا لشدتها على الأذقان

(بِالْحَقِ) متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدافع له كما في قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) [ق : ١٩] أو بالعدل من الله عزوجل من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذا وقد تشدد ثاؤه كما في قول امرئ القيس :

كأن ذرى رأس المجيمر (١) غدوة

من السيل والغثاء فلكة مغزل

(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يحتمل الاخبار والدعاء ، والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول في الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعدا من رحمة الله تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكا ، ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائيا كما صرح به في الدر المصون ، واللام لبيان من دعي عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعدا ، وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن إبعادهم لظلمهم (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد هلاكهم (قُرُوناً آخَرِينَ) هم عند أكثر المفسرين قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الاستغراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي ، وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ذلك الأجل ساعة ، وضمير الجمع عائد على (أُمَّةٍ) باعتبار المعنى.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) عطف على (أَنْشَأْنا) لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل : ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به ، والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي ، وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلا وللعلماء فيه توجيهات (تَتْرا) من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي واختاره الحريري في الدرة.

__________________

(١) من جبال بني أسد ا ه منه.

٢٣٥

وفي الصحاح المواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في القاموس ، وعن أبي علي أنه قال : المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير ، ونقل في البحر عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة ، وقيل : هو التتابع مطلقا ، والتاء الأولى بدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الاشتقاق ، وجمهور القراء والعرب على عدم تنوينه فألفه للتأنيث كألف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول ، والمراد كما قال أبو حيان والراغب وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين ، وقيل : حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين.

وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالا متواترا ، وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى واترنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشعبة وابن محيصن والإمام الشافعي عليه الرحمة «تترى» بالتنوين وهو لغة كنانة ، قال في البحر : وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطى وعلقى لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة ، وقيل : إنها لا توجد فيها.

وقال الفراء : يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتترى في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلى ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبرا عند الوقف. ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات ، وأيضا كتبه بالياء يأبى ذلك ، وما ذكرنا من مصدرية (تَتْرا) هو المشهور ، وقيل : هو جمع ، وقيل : اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضا.

وقوله تعالى : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة ، والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة ، وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاءوا كل الأمم وللإشعار بكمال شناعة المكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم ، وقيل : أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عزوجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال إليه عزوجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به تعجبا وتلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي ، ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر.

وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع ، والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهم (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) اقتصر هاهنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا ، وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) أي بالآيات المعهودة وهي الآيات التسع وقد تقدم الكلام في تفصيلها وما قيل فيه ، و (هارُونَ) بدل أو عطف بيان ، وتعرض لإخوته لموسىعليهما‌السلام للإشارة إلى تبعيته له في الإرسال (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة أو مظهرة للحق ، والمراد بها عند جمع العصا ، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لتفردها بالمزايا حتى صارت كأنها شيء آخر ، وجوز أن يراد بها الآيات والتعاطف من تعاطف المتحدين في الماصدق لتغاير مدلوليهما كعطف الصفة على الصفة مع اتحاد الذات وقد مر نظيره آنفا أو هو من ناب قولك : مررت بالرجل والنسمة المباركة حيث جرد من نفس الآيات سلطان مبين وعطف عليه مبالغة ،

٢٣٦

والإتيان به مفردا لأنه مصدر في الأصل أو للاتحاد في المراد ، وعن الحسن أن المراد بالآيات التكاليف الدينية وبالسلطان المبين المعجز ، وقال أبو حيان : يجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء عليهم‌السلام في أصل الدلالة على الصدق فقد فارقتها في قوة دلالتها على ذلك وهو كما ترى ، وممكن أن يقال : المراد بالسلطان تسلط موسى عليه‌السلام في المحاورة والاستدلال على الصانع عزوجل وقوة الجأش والإقدام («إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل وهو مما أرسلا عليهما‌السلام لأجله منوط بآرائهم ، ويمكن أن يراد بالملإ قومه فقد جاء استعماله بمعنى الجماعة مطلقا (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد لما أمروا به ودعوا إليه من الإيمان وإرسال بني إسرائيل وترك تعذيبهم ، ليست الدعوة مختصة بإرسال بني إسرائيل وإطلاقهم من الأسر ففي سورة [النازعات : ١٧ ـ ١٩](اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) وأيضا فيما نحن فيه ما يدل على عدم الاختصاص.

(وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) متكبرين أو متطاولين بالبغي والظلم ؛ والمراد كانوا قوما عادتهم العلو.

(فَقالُوا) عطف على (استكبروا) وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار ، والمراد فقالوا فيما بينهم بطريق المناصحة (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى : (بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) [مريم : ٢٦] ولم يثن مثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر ، ولو أفرد البشر لصح لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره ، وكذا لو ثنى المثل فإنه جاء مثنى في قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) ومجموعا في قوله سبحانه : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) نظرا إلى أنه في تأويل الوصف إلا أن المرجح لتثنيته الأول وإفراده الثاني الإشارة بالأول إلى قلتهما وانفرادهما عن قومهما مع كثرة الملأ واجتماعهم وبالثاني إلى شدة تماثلهم حتى كأنهم مع البشرين شيء واحد وهو أدل على ما عنوه.

وهذه القصص كما ترى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء عليهم‌السلام على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شئون الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين اللطيف والكثيف فيتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى حضرة الحق وبعضها في أسفل سافلين وهم كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.

ومن العجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضي أكثرهم للإلهية بحجر فقاتلهم الله تعالى ما أجهلهم ، والهمزة للإنكار أي لا نؤمن لبشرين مثلنا (وَقَوْمُهُما) يعنون سائر بني إسرائيل (لَنا عابِدُونَ) خادمون منقادون لنا كالعبيد ففي (عابِدُونَ) استعارة تبعية نظرا إلى متعارف اللغة.

ونقل الخفاجي عن الراغب أنه صرح بأن العابد بمعنى الخادم حقيقة ، وقال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان للملك عابدا ، وجوز الزمخشري الحمل على حقيقة العبادة فإن فرعون كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة على الحقيقة.

واعترض بأن الظاهر أن هذا القول من الملأ وهو يأبى ذلك ، وكونهم قالوه على لسان فرعون كما يقول خواص ملك : نحن ذوو رعية كثيرة وملك طويل عريض ومرادهم أن ملكنا ذو رعية إلخ خلاف الظاهر ، وقيل عليه أيضا على تقدير أن يكون القائل فرعون : لا يلزم من ادعائه الإلهية عبادة بني إسرائيل له أو كونه يعتقد أو يدعي عبادتهم على

٢٣٧

الحقيقة له ؛ وأنت تعلم أنه متى سلم أن القائل فرعون وأنه يدعي الإلهية لا يقدح في إرادته حقيقة العباد عدم اعتقاده ذلك لأنه على ما تدل عليه بعض الآثار كثيرا ما يظهر خلاف ما يبطن حتى أنها تدل على أن دعواه الإلهية من ذلك ، نعم الأولى تفسير (عابِدُونَ) بخادمون وهو مما يصح إسناده إلى فرعون وملئه ، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما‌السلام وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية ، واللام في (لَنا) متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل ، وقيل للحصر أي لنا عابدون لا لهما ، والجملة حال من فاعل (نُؤْمِنُ) مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرئاسة الدينية على الرئاسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من خلقه (فَكَذَّبُوهُما) فاستمروا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكبارا (فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في بحر القلزم ، والتعقيب باعتبار آخر زمان التكذيب الذي استمروا عليه ، وقيل : تعقيب التكذيب بذلك بناء على أن المراد محكوم عليهم بالإهلاك ، وقيل : الفاء المحض السببية أي فكانوا بسبب تكذيب الرسولين من المهلكين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا) بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة ، وحيث كان إيتاؤه عليه‌السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي إلى طريق الحق علما وعملا لما تضمنته من الاعتقاديات والعمليات.

وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي أتينا قوم موسى وضمير (لَعَلَّهُمْ) عائد عليه ، وقيل أريد بموسى عليه‌السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه‌السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه ، ولم يجعل ضمير (لَعَلَّهُمْ) لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه‌السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل ، ولم يذكر هارون مع موسى عليهما‌السلام اقتصارا على من هو كالأصل في الإيتاء ، وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهارون عليه‌السلام كان غائبا مع بني إسرائيل.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت ، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه‌السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرا وجعلنا أمة آية بأن ولدت من غير مسيس ، وقال الحسن : إنها عليها‌السلام تكلمت في صغرها أيضا حيث قالت : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٣٧] ولم تلتقم ثديا قط ، وقال الخفاجي : لك أن تقول : إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيسى عليه‌السلام لنبوته دون مريم ا ه. ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم ، والتعبير

٢٣٨

عن عيسى عليه‌السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه‌السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية ، وتقديمه عليه‌السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه‌السلام.

وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء ، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه‌السلام وهم بتخليتها فرأى في المنام ملكا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه‌السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلا ، والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه‌السلام ويقولون : كان ذلك لقرابته منها (وَآوَيْناهُما) أي جعلناهما يأويان (إِلى رَبْوَةٍ) هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل.

واختلف في المراد هنا فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : (إِلى رَبْوَةٍ) أنبئنا أنها دمشق ، وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا : الربوة هي دمشق ، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف.

وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال : هي الرملة من فلسطين ، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعا ، وأخرج الطبراني في الأوسط ، وجماعة عن مرة البهزي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الربوة الرملة ، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أنه قال : هي بيت المقدس ، وأخرج هو وغيره أيضا عن قتادة أنه قال : كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس ، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه‌السلام منه ، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها ، وأخرج ابن المنذر ، وغيره عن وهب وابن جرير وغيره عن ابن زيد الربوة مصر ، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : هي الاسكندرية ، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربا لغرقت ، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه‌السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في البحر ، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه‌السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون : أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمة في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا : في بيت لحم فدعا المجوس سرا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم : اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجوده مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلا ومضى إلى مصر وكان هناك وفاة هيرودس فلما توفي رأى يوسف الملك في المنام يقول له : قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى

٢٣٩

أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة ا ه ، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم ، وقرأ أكثر القراء «ربوة» بضم الراء وهي لغة قريش.

وقرأ أبو إسحاق السبيعي «ربوة» بكسرها ، وابن أبي إسحاق «رباة» بضم الراء وبالألف ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرئ بكسرها وبالألف (ذاتِ قَرارٍ) أي مستقر من أرض منبسطة ، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوي إليه ، وقال مجاهد : ذات ثمار وزروع ، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى : (وَمَعِينٍ) أي وماء معين أي جار ، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى جرى ، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر.

وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون ، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه ، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرا مشاهدا بالعين ، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) حكاية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهما‌السلام إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مبادي النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه‌السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم‌السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما‌السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قيل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي أعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم ، وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه‌السلام وأمرا له بأن يأكل من الطيبات ، فقد جاء في حديث مرسل عن حفص ابن أبي جبلة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) إلخ : ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل (١) من غزل أمه ، وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي أنه نداء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري ، وما وقع في شرح التلخيص تبعا للرضي من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع في غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقا بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة ، والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه ، واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعتها النصارى ، وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي ، وأيد بتعقيبه بقوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي عملا صالحا ، وقد يؤيد بما أخرجه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن؟ قالت : من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة؟ فقالت : اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة والسلام فلما كان من الغد أتته أم

__________________

(١) والمشهور أنه عليه‌السلام كان يأكل من بطن البرية ا ه منه.

٢٤٠