روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

وقال أبو عبيدة. واختاره أبو مسلم : أي لا يقصر من الألو بوزن الدلو والألو بوزن العتو ، قيل : والأول أوفق بسبب النزول وذلك أنه صح عن عائشة وغيرها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حلف لما رأى براءة ابنته أن لا ينفق على مسطح شيئا أبدا وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا وكان ابن خالته ، وقيل : ابن أخته رضي الله تعالى عنه فنزلت (وَلا يَأْتَلِ) إلخ وهذا هو المشهور.

وعن محمد بن سيرين أن أبا بكر حلف لا ينفق على رجلين كانا يتيمين في حجره حيث خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح فنزلت ، وعن ابن عباس ، والضحاك أنه قطع جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم فيه فنزلت ، وقرأ عبد الله بن عباس بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم «يتال» مضارع تالى بمعنى حلف ، قال الشاعر :

تالى ابن أوس حلفة ليردني

إلى نسوة لي كأنهن مقائد

وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي الزيادة في الدين (وَالسَّعَةِ) أي في المال (أَنْ يُؤْتُوا) أي على أن لا يؤتوا أو كراهة أن يؤتوا أو لا يقصروا في أن يؤتوا.

وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهسم «تؤتوا» بتاء الخطاب على الالتفات.

(أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفات لموصوف واحد بناء على ما علمت من أن الآية نزلت على الصحيح بسبب حلف أبي بكر أن لا ينفق على مسطح وهو متصف كما سمعت بها فالعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الموصوفات ، والجمع وإن كان السبب خاصا لقصد العموم وعدم الاكتفاء بصفة للمبالغة في إثبات استحقاق مسطح ونحوه الإيتاء فإن من اتصف بواحدة من هذه الصفات إذا استحقه فمن جمعها بالطريق الأولى ، وقيل : هي لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي أن يؤتوهم شيئا (وَلْيَعْفُوا) ما فرط منهم (وَلْيَصْفَحُوا) بالإغضاء عنه ، وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد «ولتعفو ولتصفحوا» بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى :

(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته سبحانه على المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها ، وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل : ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته ، وصح أن أبا بكر لما سمع الآية قال : بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له نفقته ، وفي رواية أنه صار يعطيه ضعفي ما كان يعطيه أولا ، ونزلت هذه الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بعد أن أقبل مسطح إلى أبي بكر معتذرا فقال : جعلني الله تعالى فداك والله الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قذفتها وما تكلمت بشيء مما قيل لها أي خال فقال أبو بكر ولكن قد ضحكت وأعجبك الذي قيل فيها فقال مسطح لعله يكون قد كان بعض ذلك ، وفي الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها. واستدل بها على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه داخل في أولي الفضل قطعا لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر في ذلك عموم الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر ، ولا حاجة إلى دعوى أنها فيه خاصة والجمع للتعظيم ، وكونه مخصوصا بضمير المتكلم مردود على أن فيها من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيها ، وأجاب الرافضة بأن المراد بالفضل الزيادة في المال ، ويرد عليه أنه حينئذ يتكرر مع قوله سبحانه : (وَالسَّعَةِ) وادعى الإمام أنها تدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه أفضل جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبين ذلك بما هو بعيد عن فضله ، وذكر أيضا دلالتها على وجوه من مدحه رضي الله تعالى عنه وأكثرها للبحث فيها مجال ، واستدل بها

٣٢١

على أن ما لا يكون ردة من المعاصي لا يحبط العمل وإلا لما سمى الله تعالى مسطحا مهاجرا مع أنه صدر منه ما صدر ، وعلى أن الحلف على ترك الطاعة غير جائز لأنه تعالى نهى عنه بقوله سبحانه : (لا يَأْتَلِ) ومعناه على ما يقتضيه سبب النزول لا يحلف ، وظاهر هذا حمل النهي على التحريم ، وقيل : هو للكراهة ، وقيل : الحق أن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراما ، وقد يكون مكروها ، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقا وفيه بحث.

وذكر جمهور الفقهاء أنه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ، وقال بعضهم. إذا حلف فليأت الذي هو خير وذلك كفارته كما جاء في حديث آخر.

وتعقب بأن المراد من الكفارة في ذلك الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي بإحدى الخصال.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) قد تقدم تفسيرها (الْغافِلاتِ) عما يرمين به بمعنى أنه لم يخطر لهن ببال أصلا لكونهن مطبوعات على الخير مخلوقات من عنصر الطهارة ففي هذا الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات (الْمُؤْمِناتِ) أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبئ عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم كذا في إرشاد العقل السليم.

وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وروي ما ظاهره ذلك عن ابن عباس وابن جبير ، والجمع على هذا باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في النزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونظير ذلك جمع «المرسلين» في قوله سبحانه وتعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] وقيل : المراد أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا. وروي ما يؤيده عن أبي الجوزاء والضحاك وجاء أيضا عن ابن عباس ما يقتضيه ، فقد أخرج عند سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه أنه رضي الله تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ) إلخ قال : هذه في عائشة وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التوبة ثم قرأ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) إلى قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) [النور : ٤. ٥] الخبر ، وظاهره أنه لا تقبل توبة من قذف إحدى الأزواج الطاهرات رضي الله تعالى عنهن.

وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة من خاض في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها ، ولعل ذلك منه خارج مخرج المبالغة في تعظيم أمر الإفك كما ذكرنا أولا وإلا فظاهر الآيات قبول توبته وقد تاب من تاب من الخائضين كمسطح وحسان وحمنة ولو علموا أن توبتهم لا تقبل لم يتوبوا ، نعم ظاهر هذه الآية على ما سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عزوجل رتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين فقال سبحانه (لُعِنُوا) أي بسبب رميهم إياهن (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حيث يلعنهم اللاعنون والملائكة في الدارين (وَلَهُمْ) مع ما ذكر من اللعن (عَذابٌ عَظِيمٌ) هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية.

وكذا ذكر سبحانه أحوالا مختصة بأولئك فقال عزوجل : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) إلخ ، ودليل الاختصاص قوله

٣٢٢

سبحانه : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) [فصلت : ١٩] إلى آخر الآيات الثلاث ، ومن هنا قيل : إنه لا يجوز أن يراد بالمحصنات إلخ المتصفات بالصفات المذكورة أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الأمة لأنه لا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر ، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لم يستبح ولم يقصد ، وأما من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقا غير ظاهر.

والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أبيّ لعنه الله تعالى فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسان ومسطح وحمنة فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله أجمعين وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على ذلك توبيخا شديدا ، ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين قبل بالرمي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعاملهم معاملة المرتدين بالإجماع وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في بعض الروايات فالآية بناء على القول بخصوص المحصنات وهو الذي تعضده أكثر الروايات إن كانت لبيان حكم من يرمي عائشة أو إحدى أمهات المؤمنين مطلقا بعد تلك القصة كما هو ظاهر الفعل المضارع الواقع صلة الموصول فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه مختص بالكفار والمنافقين ظاهر لما سمعت من القول بكفر الرامي لإحدى أمهات المؤمنين بعد مطلقا ، وإن كانت لبيان حكم من رمى قبل احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس مخصوصون رموا عائشة رضي الله تعالى عنها استباحة لعرضها وقصد إلى الطعن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كابن أبيّ وإخوانه المنافقين عليهم اللعنة ، وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنا فآنا. وعلى هذا يمكن أن يقال المراد بيان حكم من لم يتب من الرمي فإن التائب من فعل قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل فيكون الوعيد مخصوصا بمن لم يتب.

والذي تقتضيه الأخبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب سوى اللعين ابن أبيّ وأشياعه من المنافقين. وعن ابن عباس أنها نزلت فيه خاصة ولا يخفى وجه الجمع عليه ، وقيل المراد بيان حكم من رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة ولم يذكر للعلم به من القواعد المستقرة إذ الذنب كيفما كان يغفر بالتوبة ، فلا حاجة إلى أن يقال : المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة ، والظاهر أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين وأشياعه المنافقين.

واختار جمع وقال النحاس : هو أحسن ما قيل أن الحكم عام فيمن يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة ، ورميهن إن كان مع استحلال فهو كفر فيستحق فاعله الوعيد المذكور وإن لم يتب على ما علم من القواعد ؛ وإن كان بدون استحلال فهو كبيرة وليس بكفر ، ويحتاج إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار والمنافقين أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي في ثبوته لبعض أفراده ولا شك أن فيها من يموت كافرا. وفي البحر يناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ) إلخ اه.

وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحكم رمي سائر أمهاتهم حكم رميها وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم‌السلام وكذا أمهاتهم ، وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة والسلام كذلك لا سيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى الله تعالى

٣٢٣

على أبيها وعليها وسلم ولم أر من تعرض لذلك فتدبر ، واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين تحقق موته على الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذا قلنا باستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء أما إن تضمن ذلك حرم.

ومن الحرام لعن أبي طالب على القول بموته كافرا بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه ، ثم إن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية ، وأما لعن كافر معين حي فالمشهور أنه حرام ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة وسؤال ذلك كفر ؛ ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبة : فتفطن لهذه المسألة فإنها غريبة وحكمها متجه وقد زل فيه جماعة ، وقال العلامة ابن حجر في ذلك : ينبغي أن يقال : إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر وإن أراد سؤال بقائه على الكفر أو الرضى ببقائه عليه كفر : ثم قال : فتدبر ذلك حق التدبر فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم ا ه.

وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك ، وقال السراج البلقيني : بجواز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وهو ظاهر فيما يدعيه ؛ وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه : يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا : لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان بعيد جدا. ومما يؤيد قول السراج خبر مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بحمار وسم في وجهه فقال : «لعن الله من فعل هذا» وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده ، وقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال : «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله» ، وفيه نوع تأييد لذلك أيضا ، لكن قيل : إنه يجوز أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من علم موته عليه ، ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب ، فقد صح «من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» وأرى الدعاء للعاصي المعين بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه ، وأرى لعن من لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث إن فيه اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام ، وكذا لعن من لعنه الله تعالى على الوجه الذي لعنه سبحانه به ، هذا وقوله عزوجل : (يَوْمَ تَشْهَدُ) إلخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في (لَهُمْ) من معنى الاستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز إعمال المصدر الموصوف من الخلاف ، وقيل : لإخلاله بجزالة المعنى وفيه نظر ، وإما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفا أو ليوفيهم الآتي كما قيل بكل ، واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه كأنه قيل : يوم تشهد عليهم (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يظهر من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جمع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط.

ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عزوجل ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها يخبر بجنايتهم المعهودة فحسب. والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداها خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله شيخ الإسلام ، ثم قال : وجعل الموصول المذكور عبارة عن جناياتهم المعودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل

٣٢٤

بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع. والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنا فآنا. وتقديم (عَلَيْهِمْ) على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ا ه ولا يخلو عن حسن.

وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازا عن ظهور آثاره على هاتيك الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه وذلك بكيفية يعلمها الله تعالى. واعترض بأنه معارض بقوله تعالى : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١].

وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازا عن الدلالة الواضحة كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول : هذا في حال وذاك في حال أو كل منهما في قوم.

ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) الآية [يس : ٦٥] لأن الختم على الأفواه ينافي شهادة الألسن.

وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليها فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع الختم على الأفواه وشهادة الألسن بأن يمنعوا عن التكلم بالألسنة وتجعل الألسنة نفسها ناطقة متكلمة كما جعل سبحانه الذراع المسموم ناطقا متكلما حتى أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مسموم وللمعتزلة في ذلك كلام ، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال ، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة ، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضا وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاء له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال : إنها نكتة سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر.

وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان «يشهد» بالياء آخر الحروف ووجهه ظاهر.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ) ظرف لقوله سبحانه : (يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) والتنوين عوض عن الجملة المضافة إليها ، والتوفية إعطاء الشيء وافيا ، والدين هنا الجزاء ومنه كما تدين تدان ، والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة ، وقريب منه تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يومئذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيا تاما ، والكلام استئناف مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال ، وجوز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) بدلا من (يَوْمَ تَشْهَدُ) من جوز تعلق ذاك بيوفيهم. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يوفيهم» مخففا ، وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة «الحقّ» بالرفع على أنه صفة للاسم الجليل ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته ، ومعنى الحق على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة ، وفسره بعضهم بالعادل ، والأكثرون على تفسيره بالواجب لذاته ، وكذا في قوله سبحانه : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) والمبين إما من أبان اللازم أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتا للحق أو الظاهر ألوهيته عزوجل على تقدير جعله خبرا ثانيا أو من أبان المعتدي أي المظهر للأشياء كما هي في أنفسها ، وجملة (يَعْلَمُونَ) معطوفة على جملة (يُوَفِّيهِمُ اللهُ) فإن كانت مقيدة بما قيدت به الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعلمون أن الله إلخ ، وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن الله إلخ ، والظاهر أن الشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلا في حصول العلم بمضمون ما في حيز

٣٢٥

(يَعْلَمُونَ) فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لا سيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل ، وقيل : إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري : وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين ، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عزوجل حقا أي موجدا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهم‌السلام مخل بحكمة البعثة ، وكذا تأبى كونه عزوجل حقا أي واجبا لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الإنصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة ، وهذه الجملة ظاهرة جدا في أن الآية في ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن المؤمن عالم أن الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة. ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال : يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلا قبل. قد حمل السيد السند قدس‌سره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل ، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانا مقتضى أن الله هو الحق المبين. أعني الانتقام من الظالم للمظلوم. ويحتمل غير ذلك.

وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر ، وقوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ) إلخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين الخلق على موجب أن لله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل ، وقول القائل : «إن الطيور على أشباهها تقع» أي الخبيثات من النساء (لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص (وَالْخَبِيثُونَ) أيضا (لِلْخَبِيثاتِ) لأن المجانسة من دواعي الانضمام (وَالطَّيِّباتُ) منهن (لِلطَّيِّبِينَ) منهم (وَالطَّيِّبُونَ) أيضا (لِلطَّيِّباتِ) منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي الله تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات حسبما نطق به قوله سبحانه : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) على أن الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالا ونساء ويدخل في ذلك الصديقة رضي الله تعالى عنها دخولا أوليا ، وقيل : إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصديقة وصفوان وقال الفراء : إشارة إلى الصديقة وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد.

وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أي أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة. وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسبما سمعت رواه الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل ورواه الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما واختاره أبو مسلم والجبائي وجماعة وهو الأظهر عندي وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها الطبراني أيضا وابن مردويه وغيرهما أن (الْخَبِيثاتُ) و (الطَّيِّباتُ) صفتان للكلم (وَالْخَبِيثُونَ) و (الطَّيِّبُونَ) صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك والحسن و (الْخَبِيثُونَ) عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب وكذا (الطَّيِّبُونَ) و (أُولئِكَ) إشارة إلى الطيبين وضمير (يَقُولُونَ) للخبيثين ، وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولاصقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث الكلم

٣٢٦

والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرءون عن الاتصاف مما يقول الخبيثون وقيل الآفكون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة رضي الله تعالى عنها أيضا.

وقيل : المراد الخبيثات من القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بالخبيثات من القول متعرضون لها والطيبات من القول للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بالطيبات من القول لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرءون مما يقول الخبيثون أي لا يصدر عنهم مثل ذلك ، وروي ذلك عن مجاهد ، والكلام عليه على حذف مضاف إلى ما ، ومآله الحط على الآفكين وتنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة لما لا يخلو البشر عنه من الذنب ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هو الجنة كما قاله أكثر المفسرين ، ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) [الأحزاب : ٣١] فإن المراد به ثمت الجنة بقرينة (أَعْتَدْنا) والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وفي هذه الآيات من الدلالة على فضل الصديقة ما فيها ، ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عزوجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وهو دال على فضلها أيضا ، وكانت رضي الله تعالى عنها تتحدث بنعمة الله تعالى عليها بنزول ذلك في شأنها.

فقد أخرج ابن أبي شيبة عنها أنها قالت : خلال فيّ لم تكن في أحد من الناس إلا ما آتى الله تعالى مريم ابنة عمران والله ما أقول هذا اني أفتخر على صواحباتي قيل : وما هن؟ قالت : نزل الملك بصورتي وتزوجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسبع سنين وأهديت له لتسع سنين وتزوجني بكرا لم يشركه فيّ أحد من الناس وأتاه الوحي وأنا وإياه في لحاف واحد وكنت من أحب الناس إليه ونزل فيّ آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيهن ورأيت جبريل عليه‌السلام ولم يره أحد من نسائه غيري وقبض في بيتي لم يله أحد غير الملك وأنا.

وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت : لقد نزل عذري من السماء ولقد خلقت (١) طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما ، وفي قوله سبحانه : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) بناء على شموله عائشة رضي الله تعالى عنها رد على الرافضة القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل مع أشياء افتروها ونسبوها إليها ، ومما يرد زعم ذلك أيضا قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله تعالى وجهه مع الحسن رضي الله تعالى عنه يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة : إني لأعلم أنها زوجة نبيكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة ولكن الله تعالى ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها ، ومما يقضى منه العجب ما رأيته في بعض كتب الشيعة من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأمير كرم الله تعالى وجهه : قد أذنت لك أن تخرج بعد وفاتي من الزوجية من شئت من أزواجي فأخرجها كرم الله تعالى وجهه من ذلك لما صدر منها معه ما صدر ، ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى ، وفي حسن معاملة الأمير كرم الله تعالى وجهه إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر الذي صحبها الثابت عند الفريقين ما يكذب ذلك ، ونحن لا نشك في فضلها رضي الله تعالى عنها لهذه الآيات ولما جاء في مدحها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو لم يكن من ذلك سوى ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن فضل عائشة على

__________________

(١) بالقاف ويروى بالفاء وتشديد اللام أي تركت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته طيبة ا ه منه.

٣٢٧

النساء كفضل الثريد على الطعام» لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها والوجه لا يخفى ، وفي هذا المقام أبحاث تطلب من محلها ، ثم إن الذي أراه أن إنزال هذه الآيات في أمرها لمزيد الاعتناء بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام ولجبر قلب صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه وكذا قلب زوجته أم رومان فقد اعتراهما من ذلك الإفك ما الله تعالى أعلم به. ولمزيد انقطاع عائشة رضي الله تعالى عنها إليه عزوجل مع فضلها وطهارتها في نفسها. وقد جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار (١) في تاريخ بغداد بسنده عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : «كنت جالسا عند أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لأقر عينها بالبراءة وهي تبكي فقالت : هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة وما عرض عليّ طعام ولا شراب فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة فرأيت في منامي فتى فقال لي : ما لك؟ فقلت : حزينة مما ذكر الناس فقال : ادعي بهذه الدعوات يفرج الله تعالى عنك فقلت : وما هي؟ فقال قولي : يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم يا أعدل من حكم يا حسب من ظلم يا ولي من ظلم يا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية يا من له اسم بلا كنية اللهم اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا قالت : فانتبهت وأنا ريانة شبعانة وقد أنزل الله تعالى فرجي ، ويسمى هذا الدعاء دعاء الفرج فليحفظ وليستعمل ، ثم إنه عزوجل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) إلخ ، وسبب النزول على ما أخرج الفريابي وغيره من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، وإضافة البيوت إلى ضمير المخاطبين لامية اختصاصية ، والمراد عند بعض الاختصاص الملكي ، ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن.

وقال بعضهم : المراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها لأن كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فيحمل ذلك على الاختصاص المذكور فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة ، وقرئ (بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) بكسر الباء لأجل الياء (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها ، وتفسيره بذلك أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ويخالفه ما روى الحاكم وصححه والضياء في المختارة والبيهقي في شعب الإيمان وناس آخرون عنه أنه قال في (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أخطأ الكاتب وإنما هي «حتى تستأذنوا» لكن قال أبو حيان : من روى عن ابن عباس أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك القول انتهى.

وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن للخبر المذكور طرق كثيرة ، وكتاب الأحاديث المختارة للضياء كتاب معتبر ، فقد قال السخاوي في فتح المغيث في تقسيم أهل المسانيد ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في مختارته ، والسيوطي بعد ما عد في ديباجة جمع الجوامع الكتب الخمسة

__________________

(١) ونقله السيوطي في الدر المنثور ا ه منه.

٣٢٨

وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح ابن حبان والمستدرك والمختارة للضياء قال وجميع ما في هذه الكتب الخمسة صحيح.

ونقل الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة عن بعض الأئمة أنه قال : كتاب المختارة خير من صحيح الحاكم فوجود هذا الخبر هناك مع ما ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان ، وابن الأنباري أجاب عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر القرآن المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وسيأتي في تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى بعضها أيضا. بأن الروايات ضعيفة ومعارضة بروايات أخر عن ابن عباس أيضا وغيره وهذا دون طعن أبي حيان. وأجاب ابن اشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في الاختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي الله تعالى عنه لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة لا أن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.

واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال : هو أولى وأقعد من جواب ابن الأنباري ، ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه ، وأيضا ظن ابن عباس أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على خلافه مما سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العرضة الأخيرة بعيدة وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في مختارته ، ويشجع على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل.

واستعمال الاستئناس بمعنى الاستئذان بناء على أنه استفعال من آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم فالاستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو لا.

وقيل الاستئناس خلاف الاستيحاش فهو من الأنس بالضم خلاف الوحشة. والمراد به المأذونية فكأنه قيل: حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس ، وهو في ذلك كناية أو مجاز ، وقيل : الاستئناس من الإنس بالكسر بمعنى الناس أي حتى تطلبوا معرفة من في البيوت من الإنس. وضعف بأن فيه اشتقاقا من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا إذن. ومن الناس من رجحه بمناسبته لقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) ولا يكافئ التضعيف بما سمعت.

وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم ولا يخفى ما فيه ، وقيل : المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت ، والمراد حتى تعلموهم على أتم وجه ، ويرشد إلى ذلك ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال : «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» وما أخرجه ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال : تستأنسوا تنحنحوا وتنخموا ، وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه ، والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى ، وفي دلالة ما ذكر من تفسير الاستئناس في الخبر على ما سبق له بحث سنشير إليه إن شاء الله تعالى (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أي الساكنين فيها ، وظاهر الآية بأن الاستئذان قبل التسليم وبه قال بعضهم.

وقال النووي : الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان ، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السلام قبل الكلام» وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال : لا يؤذن له حتى يسلم ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن وهب في كتاب المجالس عن زيد بن أسلم قال : أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فجئته فقلت : أألج؟ فقال : ادخل فلما دخلت قال :

٣٢٩

مرحبا يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل : السلام عليكم فإذا قيل : وعليك فقل : أأدخل؟ فإذا قالوا : ادخل فادخل.

وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد عن ابن عباس قال : استأذن عمر رضي الله تعالى عنه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ واختار الماوردي التفصيل وهو أنه إن وقعت عين المستأذن على من في البيت قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان ، والظاهر أن الاستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحا والمأثور المشهور في ذلك أأدخل؟ كما سمعت ، وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقا وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل البيت بالجائي فإن في إيذانهم دلالة على ما طلب الإذن منهم ، وحملوا ما تقدم من حديث أبي أيوب وكلام مجاهد على ذلك ، وهو على ما روي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرة الواحدة على ما يقتضيه ظاهر الآية ، وأخرج البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال : كان يقال الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع ، أما الأولى فيسمع الحي ، وأما الثانية فيأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا. وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث حديث مرفوع أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري.

وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن من في البيت لم يسمع ، وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم ، وقد أخرج مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار «أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أأستأذن على أمي؟ قال : نعم قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا قال : فاستأذن عليها» وأخرج ابن جرير ، والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم ، وهو أيضا على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع للنساء إذا أردن دخول بيوت غير بيوتهن. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها تعالى عنها فقلت : ندخل؟ فقالت : لا فقال واحد : السلام عليكم أندخل؟ قالت : ادخلوا ثم قالت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) إلخ ؛ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب ، ووجه مشروعية الاستئذان لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال لا يحبون اطلاع النساء عليه كما لا يحبون اطلاع الرجال.

وصح من حديث أخرجه الشيخان. وغيرهما «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الاستئذان ، وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان يشهد أني رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل» وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخرج أبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن بشر إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور فاستقبال الباب ربما يفضي إلى النظر ، وظاهر الآية أيضا مشروعية الاستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول ، ووجهها كراهة اطلاعه بواسطة السمع على ما لا يجب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام مثلا.

وفي الكشاف إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول بذلك إلى القول بأن عليه الصلاة والسلام إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» خارج مخرج الغالب.

وجيء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجيء إنما لذلك فلا تغفل ؛ ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم

٣٣٠

متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه ، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم. هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم «حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا» (ذلِكُمْ) إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم المفهوم من الكلام ، وقيل : إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيا بهما أي الاستئذان والتسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية ، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول : حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف ، وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة الناس اليوم في قولهم : صباح الخير ومساء الخير ، ولعل الأولى أن يقال : إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل.

وجوز أن يكون (خَيْرٌ) صفة فلا تقدير ، وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) بأن كانت خالية من الأهل (فَلا تَدْخُلُوها) واصبروا (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) من جهة من يملك الإذن عند وجدانكم إياه ، ووجه ذلك أن الدخول في البيوت الخالية من غير إذن سبب للقيل والقال ، وفيه تصرف بملك الغير بغير رضاه وهو يشبه الغضب ، وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية عن أهلها كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها.

وجوز أن تكون هذه تأكيدا لأمر الاستئناس وأنه لا بدّ منه والأمر دائر عليه ، والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدا من الآذنين أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها إلخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه ، ومن اختار الأول قال : إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل. وقال سبحانه: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) إلى آخره دون فإن لم يكن فيها أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقا أو ممن يملك ذلك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل : وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك ، بأن كانت خالية كونها خالية بحسب الاعتقاد ، وكذا يقال في نظيره فلا تغفل ، ثم إن ما أفادته الآيتان من الحكم قد خصصه الشرع فجوز الدخول لإزالة منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت الخالي لإطفاء حريق فيه أو نحو ذلك.

وقد ذكر الفقهاء السور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك الإذن فلتراجع ، وقيل : المراد بالإذن في قوله سبحانه : (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ما يعم الإذن دلالة وشرعا ولذا وقع بصيغة المجهول وحينئذ لا حاجة إلى القول بالتخصيص وفيه خفاء (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا (هُوَ) أي الرجوع (أَزْكى لَكُمْ) أي أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد القول المذكور من دنس الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن (أَزْكى) من الزكاة بمعنى النمو.

والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة ، وقيدنا الوقوف على الأبواب بما سمعت لأنه ليس فيه دناءة مطلقا ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه فإذا خرج ورآه قال : يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم ، وكأنه رضي الله تعالى عنه عد ذلك من التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم ، وقد أعطاني الله عزّ

٣٣١

وجل نصيبا وافيا منه فكنت أكثر التلامذة تواضعا وخدمة للمشايخ والحمد لله تعالى على ذلك (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٣)

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا) أي بغير استئذان (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغيرها مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا) إلخ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) إلخ ، وعنى الصديق رضي الله تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك ، ولا عبرة بخصوص السبب فما روي عن ابن جبير ومحمد بن الحنفية والضحاك وغيرهم من تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل ، وكذا ما أخرجه جماعة عن عطاء وعبد بن حميد وإبراهيم النخعي أنها البيوت الخربة التي تدخل للتبرز ، وأما ما روي عن ابن الحنفية أيضا من أنها دور مكة فهو من باب التمثيل أيضا لكن صحة ذلك مبنية

٣٣٢

على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس فيها شركاء وقد علمت ما في المسألة من الخلاف.

وأخرج أبو داود في الناسخ وابن جرير عن ابن عباس أن قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) قد نسخ بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) إلخ واستثنى منه البيوت الغير المسكونة ، وروي حديث الاستثناء عن عكرمة والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر مقاتل وإليه ذهب الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه لا يظهر ذلك الآن الآية الأولى في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد. والذي يقتضيه النظر الجليل أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصا لذلك وهو المعني بالاستثناء فتدبر ولا تغفل.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا أوليا. وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إليه عليه الصلاة والسلام قيل لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع حرية بأن يكون الآمر بها والمتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم. وقيل : إن ذلك لما أن بعض المؤمنين جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالمستدعي لأن يقول له ما في حيز القول.

فقد أخرج ابن مردويه عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه قال : مر رجل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال : والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ومفعول القول مقدر ، و (يَغُضُّوا) جواب لقل لتضمنه معنى حرف الشرط كأنه قيل : إن تقل لهم غضوا يغضوا ، وفيه إيذان بأنهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام وأنه كالسبب الموجب له وهذا هو المشهور.

وجوز أن يكون (يَغُضُّوا) جوابا للأمر المقدر المقول للقول. وتعقب بأن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيه ، وأيضا الأمر للمواجهة و (يَغُضُّوا) غائب ومثله لا يجوز ، وقيل عليه : إنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل «من كانت هجرته» الحديث ولا نسلم أنه لا يجاب الأمر بلفظ الغيبة إذا كان محكيا بالقول لجواز التلوين حينئذ وفيه بحث ، ومن أنصف لا يرى هذا الوجه وجيها وهو على ما فيه خلاف الظاهر جدا ، وجوز الطبرسي. وغيره أن يكون (يَغُضُّوا) مجزوما بلام أمر مقدرة لدلالة (قُلْ) أي قل لهم ليغضوا والجملة نصب على المفعولية للقول ، وغض البصر إطباق الجفن على الجفن ، و (مِنْ) قيل صلة وسيبويه يأبى ذلك في مثل هذا الكلام والجواز مذهب الأخفش ، وقال ابن عطية : يصح أن تكون من لبيان الجنس ويصح أن تكون لابتداء الغاية. وتعقبه في البحر بأنه لم يتقدم مبهم لتكون من لبيان الجنس على أن الصحيح أنها ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس انتهى ، والجل على أنها هنا تبعيضية ؛ والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل ، وجعل الغض عن بعض المبصر غض بعض البصر وفيه كما في الكشف كناية حسنة ثم إن غض البصر عما يحرم النظر إليه واجب ونظرة الفجأة التي لا تعمد فيها معفو عنها ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتبع النظرة

٣٣٣

النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» وبدأ سبحانه بالإرشاد إلى غض البصر لما في ذلك من سد باب الشر فإن النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا وراء الفجور ، وقال بعضهم :

كل الحوادث مبداها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين العين موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب فاعلها

فعل السهام بلا قوس ولا وتر

يسر ناظره ما ضر خاطره

لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى ذلك ، والظاهر أيضا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم ، وزعم بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العباد والمؤمنين المخلصين على أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة ، ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم لما أنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك. وفي الكشاف دخلت (مِنْ) في غض البصر دون حفظ الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى ، وقال صاحب الفرائد : يمكن أن يقال : المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلا بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول (مِنْ) فيه وفيه تأمل ، وقيل : لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها.

فقد أخرج ابن المنذر وجماعة عن أبي العالية أنه قال : كل آية يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) فهو أن لا يراها أحد ، وروي نحوه عن أبي زيد ، والستر مأمور به مطلقا.

وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة إلى ذلك ، وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن بعد لمخالفته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره بما ذكر.

واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الإفضاء إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته يتناول القسمين ، وذكر أن الحفظ عن الإبداء يستلزم الآخر من وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل الأمر بالتستر مطلقا للحفظ عن الإفضاء ، ومن هنا تعلم أن من ضعف ما روي عن أبي العالية. وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ الفرج عن الزنا لم يصب المحز.

(ذلِكَ) أي ما ذكر من الغض والحفظ (أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر من دنس الريبة أو انفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وأفعل للمبالغة دون التفضيل.

وجوز أن تكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن الريبة ، وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فإنهم يتوهمون لذة ذلك نفعا (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه عزوجل في كل ما يأتون وما يذرون (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء وهي ما بين السرة والركبة ، وفي الزواجر لابن حجر المكي كما يحرم نظر

٣٣٤

الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة ، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا السرة والركبة بشهوة حرم وإن بدونها لا يحرم نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه. والنسائي. والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميمونة قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه الصلاة والسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احتجبا منه فقلت : يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ ، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبي مطلقا ، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق أو من الإبداء أو مما يعم ذلك والإبداء (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي ما يتزين به من الحلي ونحوه (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط.

وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استثني في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الخطر ثابت القدم في الحرمة شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله تعالى في الكشف عنها كذا في الكشاف ، وهو على ما قال الطيبي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم : فلان طاهر الجيب طاهر الذيل.

وقال صاحب الفرائد : هو من باب اطلاق اسم الحالّ على المحل فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص بدلالته وهي أقوى ، وفيه بحث.

وقيل : الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن ، وقال ابن المنير : الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله عزوجل : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي ، وأيضا لو كان المراد من الزينة موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة ، وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين (١) والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها ، وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) رقعة الوجه وباطن

__________________

(١) وفي رواية أن الذراعين ليستا بعورة ا ه منه.

٣٣٥

الكف ، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال : الوجه والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات. ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمه على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة ، وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في باب شروط الصلاة عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة ، ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب تجمل انتهى.

وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضا بل قال : حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو من يدها ، وذهب بعض الشافعية إلى حلّ النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة وليس يعول عليه عندهم ، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما ، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة ، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقا في غاية البعد فتأمل. واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة ، وقيل : بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء ، ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كأن كشفته الريح مثلا فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء ، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب ، وروى الطبراني والحاكم وصححه وابن المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب ، وفي رواية الاقتصار على الثياب وعليها اقتصر ايضا الإمام أحمد. وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] على ما في البحر ، وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط والقلادة.

وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر ، وعن الحسن أنه الخاتم والسوار. وروي غير ذلك ، ولا يخفى أن بعض الأخبار ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في حملها على مواقعها ، وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، والمراد في الآية النهي عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطرف ، وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة ، قال في البحر : والأقرب دخولها في الزينة وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها ، والخمر جمع خمار ويجمع في القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر ، والجيوب جمع جيب وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد ، وأصله على ما قيل من الجيب بمعنى القطع ؛ وفي الصحاح تقول : جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه ، قال الراجز :

باتت تجيب أدعج الظلام

جيب البيطر مدرع الهمام

وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة ، وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو

٣٣٦

الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطإ بحسب المعنى ، والمراد من الآية كما روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهنّ وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رءوسهن بالخمر ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض صدورهن ، وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى امتثال ما فيها فشققن مروطهن فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما أنزل الله تعالى من كتابه ، وعدي يضرب بعلى على ما قال أبو حيان لتضمينه معنى الوضع والإلقاء ، وقيل : معنى الشد ، وظاهر كلام الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «وليضربن» بكسر اللام وقرأ غير واحد من السبعة «جيوبهن» بكسر الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا بجمع على فعول في الصحيح والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء ، وزعم الزجاج أنها لغة رديئة.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أي أزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة والمأمورات نساؤهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في إرشاد العقل السليم.

وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم ، وقيل : إنه خلاف الأولى وهو على ما قال الخفاجي: مذهب الحنفية وتفصيله في الهداية وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه تقديم بعولتهن.

(أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وهذا الحكم ليس خاصا بالآباء الأقربين بل آباء الآباء وإن علوا كذلك ومثلهم آباء الأمهات وكذا ليس خاصا بالأبناء والبنين الصلبيين بل يعمهم وأبناء الأبناء وبني البنين وإن سفلوا ، والمراد بالإخوان ما يشمل الأعيان وهم الإخوة لأب واحد وأم واحدة وبني العلات وهم أولاد الرجل من نسوة شتى والأخياف وهم أولاد المرأة من آباء شتى ونظير ذلك يقال في الأخوات ، واستعمل (بَنِي) معهم دون أبناء لأنه أوفق بالعموم وأكثر استعمالا في الجماعة ينتمون إلى شخص مع عدم اتحاد صنف قرابتهم فيما بينهم ألا ترى أنك كثيرا ما تسمع بني آدم وبني تميم وقلما تسمع أبناء آدم وأبناء تميم وفيما نحن فيه قد يجتمع للمرأة ابن أخ شقيق وابن أخ لأب وابن أخ لأم بل قد يجتمع لها أبناء أخ شقيق أو إخوة أشقاء أعيان وبنو علات وأبناء أخ أو إخوة لأب وأبناء أخ أو إخوة لأم كذلك ويتأتى مثل ذلك في ابن الأخت لكن لا يتصور هنا بنو العلات كما لا يتصور في أبناء الأخ الأخياف والاجتماع في أبنائهن وأبناء بعولتهن وإن اتفق لكنه ليس بتلك المثابة.

وقيل اختير في الأخيرين (بَنِي) لأنه لو جيء بأبناء تلاقت همزتان إحداهما همزة أبناء والثانية همزة إخوان أو أخوات وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال إذ للسائل أن يقول بعد : لم اختبر في الأولين (أَبْناءِ) دون (بَنِي) ويحتاج إلى نحو أن يقال اختير ذلك لأنه أوفق بآباء ، وقيل اختير (أَبْناءِ) في الأولين لهذا ، واختير بني في (بَنِي أَخَواتِهِنَ) ليكون المضاف والمضاف إليه من نوع واحد ، وفي بني اخوانهن للمشاكلة وفيه ما فيه ، ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن. وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ ، وقيل لم يذكرهم سبحانه لما أن الأحوط أن يستترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهم فيؤدي ذلك إلى نظر الأبناء إليهن.

٣٣٧

وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي شيبة عن الشعبي وفيه من الدلالة على وجوب التستر من الأجانب ما فيه. وضعف بأنه يجري في آباء البعولة إذ لو رأوا زينتهن لربما وصفوهن لأبنائهم وهم ليسوا محارم فيؤدي إلى نظرهم إليهن لا سيما إذا كن خليات ، وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء فإنهم عند الناس بمنزلتهم لا سيما الأعمام وكثيرا ما يطلق الأب على العم ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) [الأنعام : ٧٤] ثم إن المحرمية المبيحة للإبداء كما تكون من جهة النسب تكون من جهة الرضاع فيجوز أن يبدين زينتهنّ لآبائهن وأبنائهن مثلا من الرضاع (أَوْ نِسائِهِنَ) المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب ، ولا فرق في ذلك بين الدمية وغيرها وإلى هذا ذهب أكثر السلف.

وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان أصحهما عند الغزالي أنها كالمسلمة وأصحهما عند البغوي المنع ، وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة ، ومقتضاه أنها معها كالأجنبي واعتمده جمع من الشافعية ، وقال ابن حجر : الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها ومحرمها ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال الإمام الرازي : المذهب أنها كالمسلمة ، والمراد بنسائهن جميع النساء. وقول السلف محمول على الاستحباب وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) أي من الإماء ولو كوافر وأما العبيد فهم كالأجانب ، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وأحد قولين في مذهب الشافعي عليه الرحمة وصححه كثير من الشافعية والقول الآخر أنهم كالمحارم ، وصحح أيضا ، ففي المنهاج وشرحه لابن حجر والأصح أن نظر العبد العدل ولا يكفي العفة عن الزنا فقط غير المشترك والمبعض وغير المكاتب كما في الروضة عن القاضي وأقره وإن أطالوا في رده إلى سيدته المتصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر ا ه بتلخيص ، وإلى كون العبد كالأمة ذهب ابن المسيب ثم رجع عنه وقال : لا يغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور ، وعلل بأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة كما في الهداية.

وروي عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين أنهم قالوا : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته ، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن طاوس أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال : ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا فأما رجل ذو لحية فلا ، ومذهب عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما ، وروي عن بعض أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون : وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها وأنها قالت لذكوان : إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر ، وعن مجاهد كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم.

وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة رضي الله تعالى عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك.

٣٣٨

والذي يقتضيه ظاهر الآية عدم الفرق بين الذكر والأنثى لعموم «ما» ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة لقيل أو إمائهن فإنه أخصر ونص في المقصود ، وإذا ضم الخبر المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق والتفصي عن ذلك صعب ، وأحسن ما قيل في الجواب عن الخبر أن الغلام فيه كان صبيا إذ الغلام يختص حقيقة به فتأمل ، وخرج بإضافة الملك إليهن عبد الزوج فهو والأجنبي سواء قيل : وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة «أو ما ملكت أيمانكم» (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أي الذين يتبعون ليصيبوا من فضل الطعام غير أصحاب الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الطاعنون في السن الذين فنيت شهواتهم والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم ، وفي المجبوب وهو الذي قطع ذكره والخصي وهو من قطع خصاه خلاف واختير أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب وكان معاوية يرى جواز نظر الخصي ولا يعتد برأيه وهو على ما قيل أول من اتخذ الخصيان ، وعن ميسون الكلبية أن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله تعالى ، وليس له أن يستدل بما روي أن المقوقس أهدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصيا فقبله إذ لا دلالة فيه على جواز إدخاله على النساء.

وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن غير أولي الإربة الأبله الذي لا يعرف أمر النساء وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعن ابن جبير أنه المعتوه ومثله المجنون كما قال ابن عطية.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه المخنث الذي لا يقوم زبه لكن أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي عليه الصلاة والسلام يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا ترى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخل عليكن فحجبوه ، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم ، ولعل الأولى حمل غير أولي الإربة على الذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن بحيث لا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ولا يصفونهن للأجانب ولا أرى الاكتفاء في غير أولي الاربة بعدم الحاجة إلى النساء إذ لا تنتفي به مفسدة الإبداء بالكلية كما لا يخفى.

ولعل في الخبر نوع إيماء إلى هذا ؛ وفي المنهاج وشرحه لابن حجر عليه الرحمة ، والأصح أن نظر الممسوح ذكره كله وأنثياه بشرط أن لا يبقى فيه ميل للنساء أصلا وإسلامه في المسلمة ولو أجنبيا لأجنبية متصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر ويعلم منه أن التمثيل بالممسوح فيما سبق ليس على إطلاقه ، وأما الشيخ الهم والمخنث فهما عند الشافعية في النظر إلى الأجنبيات ليسا كالممسوح ، وصححوا أيضا أن المجنون يجب الاحتجاب منه فلا تغفل ، وجر (غَيْرِ) قيل على البدلية لا الوصفية لاحتياجها إلى تكلف جعل التابعين لعدم تعينهم كالنكرة كما قال الزجاج أو جعل (غَيْرِ) متعرفا بالإضافة هنا مثلها في الفاتحة وفيه نظر وقرأ ابن عامر وأبو بكر (غَيْرِ) بالنصب على الحال والاستثناء.

(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها على أن (لَمْ يَظْهَرُوا) إلخ من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه فجعل كناية عن ذلك أو الذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع على أنه من ظهر على فلان إذا قوي عليه ومنه قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] ويشمل الطفل الموصوف بالصفة المذكورة بهذا المعنى المراهق الذي لم يظهر منه تشوق للنساء ، وقد ذكر بعض أئمة الشافعية أنه كالبالغ فيلزم الاحتجاب منه على الأصح كالمراهق الذي ظهر منه ذلك ،

٣٣٩

ويشمل أيضا من دون المراهق لكنه بحيث يحكي ما يراه على وجهه. وذكروا في غير المراهق أنه إن كان بهذه الحيثية فكالمحرم وإلا فكالعدم فيباح بحضوره ما يباح في الخلوة فلا تغفل.

والظاهر أن (الطِّفْلِ) عطف على قوله تعالى : (لِبُعُولَتِهِنَ) أو على ما بعده من نظائره لا على (الرِّجالِ) وكلام أبي حيان ظاهر في أنه عطف عليه وليس بشيء ، ثم هو مفرد محلى بال الجنسية فيعم ولهذا كما قال في البحر : وصف بالجمع فكأنه قيل : أو الأطفال كما هو المروي عن مصحف حفصة ، ومثل ذلك قولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، وقيل هو مفرد وضع موضع الجمع ، ونحوه قوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧].

وتعقب بأن وضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وما هنا عنده من باب المفرد المعرف بلام الجنس وهو يعم بدليل صحة الاستثناء منه ، والآية المذكور يحتمل أن تكون عنده على معنى ثم يخرج كل واحد منكم طفلا كما قيل في قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف : ٣١] أنه على معنى واعتدت لكل واحدة منهن متكأ فلا يتعين كون «طفلا» فيها مما لا ينقاس عنده ، وقال الراغب : إن «طفلا» يقع على الجمع كما يقع على المفرد ونص على ذلك الجوهري ، وكذا قال بعض النحاة : إنه في الأصل مصدر فيقع على القليل والكثير والأمر على هذا ظاهر جدا ، والعورات جمع عورة وهي في الأصل ما يحترز من الاطلاع عليه وغلبت في سوأة الرجل والمرأة ؛ ولغة أكثر العرب تسكين الواو في الجمع وهي قراءة الجمهور.

وروي عن ابن عامر أنه قرأ «عورات» بفتح الواو ، والمشهور أن تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ «عورات» بالفتح ثم قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن ، وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون : روضات وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان ، وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو ؛ وأنشدني بعضهم:

أبو بيضات رائح متأدب

رفيق بمسح المنكبين سبوح

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ) أي ما يسترنه عن الرؤية (مِنْ زِينَتِهِنَ) أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيعلم أن هن ذوات خلاخل فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم. أخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله تعالى (وَلا يَضْرِبْنَ) إلخ ، والنساء اليوم على جعل الخرز ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هونا صوت ، ولهن من أنواع الحلي غير الخلخال ما يصوت عند المشي أيضا لا سيما إذا كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء ، ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة الحلي أكثر من رؤيته. وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى. وربما يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن.

والمذكور في معتبرات كتب الشافعية وإليه أميل أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة ، وكذا إن التذ به كما بحثه الزركشي. وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام : صرح في النوازل أن نغمة المرأة عورة ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والتكبير للرجال والتصفيق للنساء» فلا يحسن أن يسمعها الرجل ا ه.

ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن

٣٤٠