روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» وأمره بما ذكر ونحوه من باب التأديب والتعليم ولا إشكال فيه ، وقيل : الأمر للبالغين من المذكورين على الحقيقة ولغيرهم على وجه التأديب. وقيل : هو للجميع على الحقيقة والتكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ فالمراد بالذين لم يبلغوا الحلم المميزون من الصغار وهو كما ترى. واختلف في هذا الأمر فذهب بعض إلى أنه للوجوب ، وذهب الجمهور إلى أنه للندب وعلى القولين هو محكم على الصحيح وسيأتي تمام الكلام في ذلك ، والجمهور على عموم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في العبيد والإماء الكبار والصغار ، وعن ابن عمر ومجاهد أنه خاص بالذكور كما هو ظاهر الصيغة وروى ذلك عن أبى جعفر. وأبى عبد الله رضي الله تعالى عنهما ، وقال السلمي : إنه خاص بالإناث وهو قول غريب لا يعول عليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تخصيصه بالصغار وهو خلاف الظاهر جدا ، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان ذكورا وإناثا على ما يقتضيه ما مر في سابقه عن الجمهور وخص بالمراهقين منهم ، و (مِنْكُمْ) لتخصيصهم بالأحرار ويشعر به المقابلة أيضا.

وفي البحر هو عام في الأطفال عبيدا كانوا أو أحرارا ، وكني عن القصور عن درجة البلوغ بما ذكر لأن الاحتلام أقوى دلائله ، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبي فقد بلغ ، واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة في المشهور : لا يكون بالغا حتى يتم له ماني عشرة سنة وكذا الجارية إذا لم تحتلم أو لم تحض أو لم تحبل لا تكون بالغة عنده حتى يتم لها سبع عشرة سنة ، ودليله قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام : ١٥٢] وأشد الصبي كما روي عن ابن عباس وتبعه القتيبي ثماني عشرة سنة وهو أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقص في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة وقال صاحباه والشافعي وأحمد : إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن الإمام رضي الله تعالى عنه أيضا وعليه الفتوى.

ولهم أن العادة الفاشية أن لا يتأخر البلوغ فيهما عن هذه المدة وقيدت العادة بالفاشية لأنه قد يبلغ الغلام في اثنتي عشرة سنة وقد تبلغ الجارية في تسع سنين ، واستدل بعضهم على ما تقدم بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه ، واعترض أبو بكر الرازي على ذلك بأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يصح ما ذكر في الخبر ، وأيضا لا دلالة فيه على المدعى لأن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ فقد لا يؤذن البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته وقدرته على حمل السلاح.

ولعل عدم إجازته عليه الصلاة والسلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أولا إنما كان لضعفه ويشعر بذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن. ومما تفرد به الشافعي رضي الله تعالى عنه على ما قيل جعل الإنبات دليلا على البلوغ واحتج له بما روى عطية القرظي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال : فنظروا إليّ فلم أكن قد أنبت فاستبقاني صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وتعقبه أبو بكر الرازي بأن هذا الخبر لا يجوز إثبات الشرع بمثله فإن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر ، وأيضا هو مختلف الألفاظ ففي بعض رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل من جرت عليه المواسي ، وأيضا يجوز أن يكون الأمر بقتل من أنبت ليس لأنه بالغ بل لأنه قوي فإن الإنبات يدل على القوة البدنية ، وانتصر للشافعي بأن الاحتمال مردود بما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن غلام فقال : هل اخضر إزاره فإنه يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ثم

٤٠١

المشهور عن الشافعي عليه الرحمة جعل ذلك دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار ، وتكلف الشافعية في الانتصار له ورد التشنيع عليه بما لا يخفى ما فيه على من راجعه.

ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود يقتص له ويقتص منه.

وعن ابن سيرين عن أنس قال : أتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ، وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب :

ما زال مذ عقدت يداه إزاره

وسما فأدرك خمسة الأشبار

يدني كتائب من كتائب تلتقي

بالطعن يوم تجاول وغوار

وأكثر الفقهاء لا يقولون به لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة بذلك. ولعل الأخبار السابقة لا تصح. وما نقل عن الفرزدق لا يتعين إرادة البلوغ فيه ، ومن الناس من قال : إنه أراد بخمسة الأشبار القبر كما قال الآخر :

عجبا لأربع أذرع في خمسة

في جوفه جبل أشم كبير

هذا وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «الحلم» بسكون اللام وهي لغة تميم ، وذكر الراغب أن الحلم بالضم والحلم السكون كلاهما مصدر حلم في نومه بكذا بالفتح إذا رآه في المنام يحلم بالضم ولم يخص ذلك بلغة دون أخرى ، وعن بعضهم عد حلما بالفتح مصدرا لذلك أيضا ، وفي الصحاح الحلم بالضم ما يراه النائم تقول منه : حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضا فيتعدى بالباء وبنفسه قال :

فحلمتها وبنو رفيدة دونها

لا يبعدن خيالها المحلوم

والحلم بكسر الحاء الأناة تقول منه : حلم الرجل بالضم إذا صار حليما ، وفي القاموس الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ثم قال : وحلم به وعنه رأى له رؤيا أو رآه في النوم والحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم والاسم الحلم كعنق والحلم بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم ا ه ، والظهر أن ما نحن فيه بمعنى الجماع في النوم وهو الاحتلام المعروف ووجه الكناية السابقة عليه ظاهر.

وقال الراغب : الحلم زمان البلوغ وسمي الحلم لكونه جديرا صاحبه بالحلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب وفي النفس منه شيء (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي ثلاث أوقات في اليوم والليلة ، والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار طلب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها فنصب (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) على الظرفية للاستئذان وهو الذي ذهب إليه الجمهور ويدل على ما ذكر قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) إلخ فإن الظاهر أنه في محل النصب أو الجر كما قيل إنه بدل من (ثَلاثَ) أو من (مَرَّاتٍ) بدل مفصل من مجمل.

وجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي أحدها من قبل إلخ وهو أيضا يدل على ما ذكرنا ، واختار في البحر أن المعنى ثلاث استئذانات كما هو الظاهر فإنك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام الاستئذان ثلاث ، وعليه يكون (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) مفعولا مطلقا للاستئذان و (مِنْ قَبْلِ) إلخ ظرف له ، وشرع الاستئذان من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع

٤٠٢

وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة (١) وكل ذلك مظنة انكشاف العورة. وأيضا كثيرا ما يجنب الشخص ليلا فيغتسل في ذلك الوقت ويستحي من الاطلاع عليه في تلك الحالة ولو مستور العورة (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتحطونها عنكم (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان للحين ، والظهيرة كما قال الراغب وقت الظهر ، وفي القاموس هي حد انتصاف النهار وإنما ذلك في القيظ.

وجوز أن تكون (مِنْ) أجلية والكلام على حذف مضاف أي وحين تضعون ثيابكم من أجل حر الظهيرة ، وفسر بعضهم الظهيرة بشدة الحر عند انتصاف النهار فلا حاجة إلى الحذف ؛ و (حِينَ) عطف على (مِنْ قَبْلِ) وهو ظاهر على تقدير كونه في محل نصب ، وأما على التقديرين الآخرين فيلتزم القول ببناء حين على الفتح وإن أضيف إلى مضارع كما قيل في قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] على قراءة فتح ميم يوم ، والتصريح بمدار الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون ما قيل وما بعد لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبئ عنه إيراد الحين مضافا إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق المدار فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به.

(وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) ضرورة أنه وقت التجرد عن لباس اليقظة والالتحاف بثياب النوم وكثيرا ما يتعاطى فيه مقدمات الجماع وإن كان الأفضل تأخيره لمن لا يغتسل على الفور إلى آخر الليل ، ويعلم مما ذكر في حيز بيان حكمة مشروعية الاستئذان في الوقت الأول والوقت الأخير أن المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين ليس مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين صلاة الفجر وصلاة العشاء بل المراد بهما طرفا ذلك الوقت الممتد المتصلان اتصالا عاديا بالصلاتين المذكورتين وعدم التعرض للأمر بالاستئذان في الباقي من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالاستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى ، وإما لندرة الوارد فيه جدا كما قيل ، وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى.

وقوله تعالى : (ثَلاثُ عَوْراتٍ) خبر مبتدأ محذوف ، وقوله سبحانه (لَكُمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم ، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين ، وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب : من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة ، وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة ، والكلام على حذف مضاف أي هي ثلاث أوقات يختل فيها التستر عادة ، وقدر أبو البقاء المضاف قبل (ثَلاثَ) فقال : أي هي أوقات ثلاث عورات أو لا حذف فيه ، وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات ، والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الاستئذان في تلك الأوقات.

وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي «ثلاث» بالنصب على أنه بدل من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأوقات المذكورة ، وكونه منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الأعمش «عورات» بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ) أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم (جُناحٌ) أي

__________________

(١) بفتح القاف وتسكينها غير جائز إلا في الضرورة ا ه منه.

٤٠٣

في الدخول بغير استئذان (بَعْدَهُنَ) أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن ، وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم ، وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية ، ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر.

وكان الظاهر أن يقال : ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهرا فيما تقدم بالاستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير ، وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر هاهنا أن يقال : ليس عليكم جناح بعدهن مقتصرا عليه ، ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الاستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفي الجناح عن المأمورين به فيها ظاهرا وحقيقة.

والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي ، واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.

وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا ، وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة.

ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى. والتزم في الجواب كون المراد بالجناح لإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى وإلا خلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأبى المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعلون منه. ولا يأبى ذلك تقدم الأمر السابق ولا في الإرشاد من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق.

وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [النور : ٢٧] منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاثة ودل ذلك على خلافه. ومن لم يذهب إليه قال : إنها في الصبيان ومماليك المدخول عليه وآية الاستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ. ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالاستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناء على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الاستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها.

٤٠٤

هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياره وعليه اقتصر أبو البقاء هو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن ، وعليه تقل مئونة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والجمهور على ما سمعت أولا في معناها ، والظاهر أن الجملة على القراءتين السابقتين في ثلاث مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ، وفي الكشاف أنها إذا رفع (ثَلاثَ) كانت في محل رفع على الوصف. والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلاما مقررا للاستئذان في تلك الأحوال خاصة ، وقال في ذلك صاحب التقريب : إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به (ثَلاثُ عَوْراتٍ) نصبا وهو بدل من ثلاث مرات كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان. ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني. أحدها اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذ لم يعلم إلا من هذا. والثاني جعل الحكم المقصود وصفا للظرف فيصير غير مقصود. والثالث أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف. وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الاستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى ، وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه. فإن قيل : هو مشترك الإلزام قيل : قد تقدم في قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبي : إن المقصود الأولى الاستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها تابع له لقول المحدث رضي الله تعالى عنه لوددت أن الله عزوجل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد نزلت الآية. وفي الكشف أنه جيء به أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) إلخ على رفع (ثَلاثَ) مؤكدا للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافا وأما إذا جعل وصفا فيفوت هذا المعنى. وهذا أيضا من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل.

وقوله تعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. وقوله عزوجل : (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) جوز أن يكون مبتدأ وخبرا ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض ، وجوز أن يكون معمولا لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض ، وقال ابن عطية (بَعْضُكُمْ) بدل من (طَوَّافُونَ) ، وتعقبه في البحر بأنه إن أراد أنه بدل من (طَوَّافُونَ) نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن (عَلَيْكُمْ) يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان ، وقيل : يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى ، وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلا من التي قبلها وكونها مبينة مؤكدة ، ولا يخفى عليك ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضا من المخاطبين وبذلك يقوى أمر العلية. وقرأ ابن أبي عبلة «طوافين» بالنصب على الحال من ضمير عليهم (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى :

٤٠٥

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] وفي غيره أيضا أي مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصحيح لما مر غير مرة ، وقيل : يبين علل الأحكام. وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر هاهنا.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم (حَكِيمٌ) في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشا ومعادا.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) لما بين سبحانه آنفا حكم الأطفال من أنهم لا يحتاجون إلى الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة عقب جل وعلا ببيان حالهم إذا بلغوا دفعا لما عسى أن يتوهم أنهم وإن كانوا أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول فاللام في (الْأَطْفالُ) للعهد إشارة إلى الذين لم يبلغوا الحلم المجعولين قسيما للمماليك أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) إذا أرادوا الدخول عليكم (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [النور : ٢٧] وجوز أن تكون القبلية باعتبار الوصف لا باعتبار الذكر في النظم الجليل بقرينة ذكر البلوغ وحكم الطفولية أي الذين بلغوا من قبلهم. وأخرج هذا ابن أبي حاتم عن مقاتل وزعم بعضهم أنه أظهر.

وتعقب بأن المراد بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع ، ولا ريب في أن بلوغهم قبل بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم ، فالمعنى فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف ، وكون المراد بالأطفال الأطفال الأحرار الأجانب قد ذهب إليه غير واحد ، وقال بعض الأجلة : المراد بهم ما يعم الأحرار والمماليك فيجب الاستئذان على من بلغ من الفريقين وأوجب هذا استئذان العبد البالغ على سيدته لهذه الآية ، وقال في البحر (مِنْكُمُ) أي من أولادكم وأقربائكم.

وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير. وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه قال : يستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أأستأذن على أختي؟ قال : نعم قلت : إنها في حجري وأنا أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال : نعم إن الله تعالى يقول : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) الآية فلم يأمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث وقال تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فالإذن واجب على خلق الله تعالى أجمعين ، وروي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي يعني زوجته أن تستأذن عليّ ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم ، ونقل عن بعضهم أن وجوب الاستئذان المستفاد من الأمر الدال عليه في الآية منسوخ وأنكر ذلك سعيد بن جبير روي عنه يقولون : هي منسوخة لا والله ما هي منسوخة ولكن الناس تهاونوا بها ، وعن الشعبي ليست منسوخة فقيل له : إن الناس لا يعملون بها فقال : الله تعالى المستعان ، وقيل : ذلك مخصوص بعدم الرضا وعدم باب يغلق كما كان في العصر الأول (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكلام فيه كالذي سبق ، والتكرير

٤٠٦

للتأكيد والمبالغة في طلب الاستئذان ، وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لتشريفها وهو مما يقوي أمر التأكيد والمبالغة (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) أي العجائز وهو جمع قاعد كحائض وطامث فلا يؤنث لاختصاصه ولذا جمع على فواعل لأن التاء فيه كالمذكورة أو هو شاذ ، قال ابن السكيت : امرأة قاعد قعدت عن الحيض ، وقال ابن قتيبة : سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن القعود لكبر سنهن ، وقال ابن ربيعة : لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج فقوله تعالى : (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي لا يطمعن فيه لكبرهن صفة كاشفة (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة كالجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار.

وأخرج ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنه قال : في مصحف أبيّ بن كعب ومصحف ابن مسعود «فليس عليهن جناح أن يضعن جلابيبهن» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقرآن كذلك ، ولعله لذلك اقتصر بعض في تفسير الثياب على الجلباب ، والجملة خبر (الْقَواعِدُ) والفاء إما لأن اللام في القواعد موصولة بمعنى اللاتي وإما لأنها موصوفة بالموصول. وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) حال ، وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم : سفينة بارج لا غطاء عليها ، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء ، وقيل : أصله الظهور من البرج أي القصر ثم خص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها ، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال : إن ذكر الزينة من باب التجريد ، والظاهر أن الباء للتعدية ، وقيل زائدة في المفعول لأنهم يفسرون التبرج بمتعد ، ففي القاموس تبرجت أظهرت زينتها للرجال وفيه نظر ، والمراد بالزينة الزينة الخفية لسبق العلم باختصاص الحكم بها ولما في لفظ التبرج من الإشعار ، والتنكير لإفادة الشياع وأن زينة ما وإن دقت داخلة في الحكم أي غير مظهرات زينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١].

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) بترك الوضع والتستر كالشواب (خَيْرٌ لَهُنَ) من الوضع لبعده من التهمة فلكل ساقطة لاقطة ، وذكر ابن المنير للآية معنى استحسنه الطيبي فقال : يظهر لي والله تعالى أعلم أن قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) من باب : «على لاحب لا يهتدى بمناره» أي لا منار فيه فيهتدى به وكذلك المراد والقواعد من النساء لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هن بهذه المثابة ، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب ، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة هذا في القواعد فكيف بالكواعب (وَاللهُ سَمِيعٌ) مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع بما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة (عَلِيمٌ) فيعلم سبحانه مقاصدهن. وفيه من الترهيب ما لا يخفى.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) في كتاب الزهراوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت. وقيل : كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم الله تعالى في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك. وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو وخلفوا هؤلاء الضعفاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن يأكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس منهم.

٤٠٧

وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم ، فعن عكرمة كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من البيوت الذي ذكر الله تعالى ، وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأجل أنه ليس ثم رب البيت ، والحرج لغة كما قال الزجاج الضيق من الحرجة وهو الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه ، وقال الراغب : هو في الأصل مجتمع الشيء ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم ، والمعنى على الرواية الأولى ليس على هؤلاء حرج في أكلهم مع الأصحاء ، ويقدر على سائر الروايات ما يناسب ذلك مما لا يخفى ، و (عَلَى) على معناها في جميع ذلك ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] تحرج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل : كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأغدار لمكان جولان يد الأعمى وانبساط جلسة الأعرج وعدم خلو المريض من رائحة تؤذي أو جرح ينض أو أنف يذّن فنزلت. ومن ذهب إلى هذا جعل (عَلَى) بمعنى في أي ليس في مؤاكلة الأعمى حرج وهكذا وإلا لكان حق التركيب ليس عليكم أن تأكلوا مع الأعمى حرج وكذا يقال فيما بعد وفيه بعد لا يخفى ، وقيل : لا حاجة إلى أن يقدر محذوف بعد قوله تعالى : (حَرَجٌ) حسبما أشير إليه إذ المعنى ليس على الطوائف المعدودة (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) حرج (أَنْ تَأْكُلُوا) أنتم وهم معكم (مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلخ ، وإلى كون المعنى كذلك ذهب مولانا شيخ الإسلام ثم قال : وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما ولعل ما تقدم أولى ، وأما تعميم الخطاب فلا أقول به أصلا ، وعن ابن زيد والحسن وذهب إليه الجبائي وقال أبو حيان : هو القول الظاهر أن الحرج المنفي عن أهل العذر هو الحرج في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه والحرج المنفي عمن بعدهم الحرج في الأكل من البيوت المذكورة ، قال صاحب الكشاف : والكلام عليه صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منفي عنه الحرج ، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر وهو تحقيق لأمر العطف وذلك أنه لما كان فيه غرابة لبعد الجامع بادئ النظر ازاله بأن الغرض لما كان بيان الحكم كفاء الحوادث والحادثتان وإن تباينتا كل التباين إذا تقارنتا في الوقوع والاحتياج إلى البيان قرب الجامع بينهما ولا كذلك إذا كان الكلام في غير معرض الإفتاء والبيان ، وليس هذا القول منه بناء على أن الاكتفاء في تصور ما كاف في الجامعية كما ظن ، وبهذا يظهر الجواب عما اعترض به على هذه الرواية من أن الكلام عليها لا يلائم ما قبله ولا ما بعده لأن ملاءمته لما بعده قد عرفت وجهها ، وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة إذ لم يعطف عليه ، وربما يقال في وجه ذكر نفي الحرج عن أهل العذر بترك الجهاد وما يشبهه مما رخص لهم فيه أثناء بيان الاستئذان ونحوه : إن نفي الحرج عنهم بذلك مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لترك ذلك فلهم القعود عن الجهاد ونحوه من غير استئذان ولا إذن كما أن للمماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهل البيت ، ومثل هذا يكفي وجها في توسيط جملة أثناء جمل ظاهرة التناسب ، ويرد عليه شيء عسى أن يدفع بالتأمل ، وإنما لم يذكر الحرج في قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) بأن يقال : ولا على أنفسكم حرج اكتفاء بذكره فيما مر والأواخر محل الحذف ، ولم يكتف بحرج واحد بأن يقال : ليس على الأعمى والأعرج والمريض وأنفسكم حرج أن تأكلوا دفعا لتوهم خلاف المراد ، وقيل حذف الحرج آخرا للإشارة إلى مغايرته للمذكور ولا تقدح في دلالته عليه لا سيما إذا قلنا : إن الدال غير منحصر فيه وهو كما ترى ، ومعنى (عَلى أَنْفُسِكُمْ) كما في الكشاف عليكم وعلى من في مثل حالكم من

٤٠٨

المؤمنين ، وفيه كما في الكشف إشارة إلى فائدة إقحام النفس وأن الحاصل ليس على الضعفاء المطعمين ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ومن في مثل حالهم وهم الأصدقاء حرج. وقيل : إن فائدة إقحامها الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن وهو وجه حسن دقيق لا يلزمه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ظاهرا ، وكان منشؤه كثرة إقحام النفس في ذوي الشأن ، ومن ذلك قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] ولم يقل سبحانه : كتب ربكم عليه الرحمة ، وقوله عزوجل في الحديث القدسي : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي» دون أن يقول جل وعلا : إني حرمت الظلم عليّ إلى غير ذلك مما يعرفه المتتبع المنصف ، وما قيل من أنّ فائدة الإقحام الإشارة إلى أن التجنب عن الأكل المذكور لا يخلو عن رعاية حظ النفس مع خفائه لا يلائم إلا بعض الروايات السابقة في سبب النزول ، ونحو ما قيل من أنها أقحمت للإشارة إلى أن نفي الحرج عن المخاطبين في الأكل من البيوت المذكورة لذواتهم بخلاف نفي الحرج عن أهل الأعذار في الأكل منها فإنه لكونهم مع المخاطبين وذهابهم بهم إليها ، والتعرض لنفي الحرج عنهم في أكلهم من بيوتهم مع ظهور انتفاء ذلك لإظهار التسوية بينه وبين قرنائه كما في قوله تعالى : (يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦] لكن ذلك فيما نحن فيه من أول الأمر ، ولم يتعرض لبيوت أولادهم لظهور أنها كبيوتهم ، وذكر جمع أنها داخلة في بيوت المخاطبين ، فقد روى أبو داود وابن ماجة «أنت ومالك لأبيك» في حديث رواه الشيخان وغيرهما «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» وقال بعضهم : المراد ببيوت المخاطبين بيوت أولادهم وأضافها إليهم لمزيد اختصاصها بهم كما يشهد به الشرع والعرف ، وقيل : المعنى أن تأكلوا من بيوتكم من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم وهو كما ترى (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم ، والكسائي وطلحة بكسر الهمزة وفتح الميم (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي أو مما تحت أيديكم وتصرفكم من بستان أو ماشية وكالة أو حفظا وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس. فقد روى عنه غير واحد أنه قال : ذاك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته فلا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر. وقال السدي : هو الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه.

وقال ابن جرير : هو الزمن يسلم إليه مفتاح البيت ويؤذن له بالتصرف فيه ، وقيل : ولي اليتيم الذي له التصرف بماله فإنه يباح له الأكل منه بالمعروف. وملك المفتاح على جميع ذلك كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه. والعطف على ما أشرنا إليه على ما بعد (مِنْ) وعن قتادة أن المراد بما ملكتم مفاتحه العبيد فالعطف على ما بعد (بُيُوتِ) والتقدير أو بيوت الذين ملكتم مفاتحهم. وكان ملك المفتاح لما شاع كناية لم ينظر فيه إلى أن المتصرف مما يتوصل إليه بالمفتاح أولا ومثله كثير ، أو هو ترشيح لجري العبيد مجرى الجماد من الأموال المشعر به استعمال ما فيهم ، ولا يخفى عليك بعد هذا القول وأنه يندرج بيوت العبيد في قوله تعالى : (بُيُوتِكُمْ) لأن العبد لا ملك له ، وإرادة المعتوقين منهم بقرينة (مَلَكْتُمْ) بلفظ الماضي مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وقرأ ابن جبير «ملكتم» بضم الميم وكسر اللام مشددة «ومفاتيحه» بياء بعد التاء جمع مفتاح. وقرأ قتادة وهارون عن أبي عمرو «مفتاحه» بالإفراد وهو آلة الفتح وكذا المفتح كما في القاموس ، وقال الراغب: المفتح والمفتاح ما يفتح به وجمعه مفاتيح ومفاتح وفي بعض الكتب أن جمع مفتح مفاتح وجمع مفتاح مفاتيح (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتك وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع ، والمراد به هنا الجمع ، وقيل : المفرد ، وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء حتى قيل :

٤٠٩

صاد الصديق وكاف الكيمياء معا

لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا

ونقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال : نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه ، وقيل: إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الاثنينية ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق لأنه أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من ذوي القرابة ؛ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء: ١٠٠ ، ١٠١].

وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ ، وقيل لأفلاطون : من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال : لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي ، وقد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبا.

يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال : هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين ، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك ، وهذا شيء قد كان.

«إذا الناس ناس والزمان زمان» وأما اليوم فقد طوي فيما أعلم بساطه واضمحل والأمر لله تعالى فسطاطه وعفت آثاره وأفلت أقماره وصار الصديق اسما للعدو الذي يخفي عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغارته فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد

ثم إن نفي الحرج في الأكل المذكور مشروط بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ، ولا يرد أنه إذا وجد الرضا جاز الأكل من مال الأجنبي والعدو أيضا فلا يكون للتخصيص وجه لأن تخصيص هؤلاء لاعتياد التبسط بينهم فلا مفهوم له ، وقال أبو مسلم : هذا في الأرقاب الكفرة أباح سبحانه في هذه الآية ما حظره في قوله سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: ٢٢] وليس بشيء ، وقيل : كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» ، وقوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) [النور : ٢٧] الآية ، وقوله عزوجل : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] فإنهم إذا منعوا من منزله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالشرط المذكور وهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأقلهم حجابا فغيره صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم بالطريق الأولى.

وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى القول بالنسخ بناء على ما قلنا أولا ، واحتج بالآية بعض أئمة الحنفية على أنه لا قطع بسرقة مال المحارم مطلقا لا فرق في ذلك بين الوالدين والمولودين وبين غيرهم لأنها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم فلا يكون مالهم محرزا ومجرد احتمال إرادة الظاهر وعدم النسخ كاف في الشبهة المدرئة للحد ، وبحث فيه بأن درء الحدود بالشبهات ليس على إطلاقه عندهم كما يعلم من أصولهم ، وأورد عليه أيضا أنه يستلزم أن لا تقطع يد من سرق من الصديق ، وأجيب عن هذا بأن الصديق متى قصد سرقة مال صديقه انقلب عدوا ، وتعقب بأن الشرع ناظر إلى الظاهر لا إلى السرائر ، وقرئ «صديقكم» بكسر الصاد اتباعا لحركة الدال حكى ذلك حميد الخزاز (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) أي مجتمعين وهو نصب على الحال من فاعل (تَأْكُلُوا) وهو في الأصل

٤١٠

بمعنى كل ولا يفيد الاجتماع خلافا للفراء ، ودل عليه هنا لمقابلته بقوله تعالى : (أَوْ أَشْتاتاً) فإنه عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال : أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة. والآية على ما ذهب أكثر المفسرين كلام مستأنف مسوق لبيان حكم آخر من جنس ما بين قبله ، وقد نزلت على ما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة في بني ليث بن عمرو بن كنانة تحرجوا أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، قيل : وهذا التحرج سنة موروثة من الخليل عليه الصلاة والسلام ، وقد قال حاتم :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا فإني لست آكله وحدي

وفي الحديث «شر الناس من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده» وهذا الذم لاعتياده بخلا بالقرى ونفي الجناح عن وقوعه أحيانا بيانا لأنه لا إثم فيه ولا يذم به شرعا كما ذمت به الجاهلية فلا حاجة إلى القول بأن الوعيد في الحديث لمن اجتمعت فيه الخصال الثلاث دون الانفراد بالأكل وحده فإنه يقتضي أن كلّا منها على الانفراد غير منهي عنه وليس كذلك ، والقول بأنهم أهل لسان لا يخفى عليهم مثله ولكن لمجيء الواو بمعنى أو تركوا كل واحد منها احتياطا لا وجه له لأن هؤلاء المتحرجين لم يتمسكوا بالحديث ، وكون الواو بمعنى أوتوهم لا عبرة به ، ولا شك أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة فتركه بغير داع مذمة انتهى.

وعن عكرمة وأبي صالح أنها نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا ، قيل : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : إني لأتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى ونحوه طعاما على حدة فبين الله تعالى أن ذلك ليس بواجب.

وقيل : كانوا يأكلون فرادى خوفا أن يزيد أحدهم على الآخر في الأكل أو أن يحصل من الاجتماع ما ينفر أو يؤذي فنزلت لنفي وجوب ذلك ، وأيّا كان فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وقيل : الآية من تتمة ما قبلها على معنى أنها وقعت جوابا لسؤال نشأ منه كأن سائلا يقول : هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكر خاص فيما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت أم لا؟ فأجيب بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) أي مجتمعين مع أهل تلك البيوت في الأكل أو أشتاتا أي متفرقين بأن يأكل كل منكم وحده ليس معه صاحب البيت وما ألطف نفي الحرج فيما اتسعت دائرته ونفي الجناح فيما ورد فيه بين أمرين والنكات لا يجب اطرادها كذا قيل فتدبر.

(فَإِذا دَخَلْتُمْ) شروع في بيان الأدب الذي ينبغي رعايته عند مباشرة ما رخص فيه بعد بيان الرخصة فيه (بُيُوتاً) أي من البيوت المذكورة كما يؤذن به الفاء. (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي على أهلها كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وقريب منه ما أخرجه عبد الرزاق وجماعة عن الحسن أن المعنى فليسلم بعضكم على بعض نظير قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] والتعبير عن أهل تلك البيوت بالأنفس لتنزيلهم منزلتها لشدة الاتصال ، وفي الانتصاف في التعبير عنهم بذلك تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت المعدودة وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه للقرابة ونحوها ، وقيل : المراد السلام على أهلها على أبلغ وجه لأن المسلم إذا ردت تحيته عليه فكأنه سلم على نفسه كما أن القاتل

٤١١

لاستحقاقه القتل بفعله كأنه قاتل نفسه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في الآية : هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين. فحمل البيوت فيها على المساجد والسلام على الأنفس على ظاهره ، وقيل : المراد بيوت المخاطبين وأهلهم ، وذكر أن الرجل إذا دخل على أهله سن له أن يقول : السلام عليكم تحية من عند الله مباركة طيبة فإن لم يجد أحدا فليقل السلام علينا من ربنا وروي هذا عن عطاء ، وقيل السلام على الأنفس على ظاهره والمراد ببيوت بيوت الكفار وذكر أن داخلها وكذا داخل البيوت الخالية يقول ما سمعت آنفا عن ابن عباس وقيل يقول على الكفار يقول : السلام على من اتبع الهدى ، ولا يخفى المناسب للمقام ، والسلام بمعنى السلام من الآفات ؛ وقيل : اسم من أسمائه عزوجل وقد مر الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكر.

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه عزوجل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لتحية ، وجوز أن يتعلق بتحية فإنها طلب الحياة وهي من عنده عزوجل ، وأصل معناها أن تقول حياك الله تعالى أي أعطاك سبحانه الحياة ثم عمم لكل دعاء ، وانتصابها على المصدرية ليسلموا على طريق قعدت جلوسا فكأنه قيل فسلموا تسليما أو فحيوا تحية (مُبارَكَةً) بورك فيها بالأجر كما روي عن مقاتل ، قال الضحاك : في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون ومع البركات ثلاثون (طَيِّبَةً) تطيب بها نفس المستمع ، والظاهر أنه يزيد المسلم ما ذكر في سلامه ، وعن بعض السلف زيادته كما مر آنفا ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى سمعت الله تعالى يقول : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) تكرير لمزيد التأكيد ، وفي ذلك تفخيم فخيم للأحكام المختتمة به (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام وتعملون بموجبها وتحوزون بذلك سعادة الدارين ، وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبها من الجزالة ما لا يخفى ، وذكر بعض الأجلة أنه سبحانه بدأ السورة بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) [النور : ١] وختمها بقوله عزوجل : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) ثم جعل تبارك وتعالى ختام الختم قوله سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلخ دلالة على أن ملاك ذلك كله والمنتفع بتلك الآيات جمع من سلم نفسه لصاحب الشريعة صلوات الله تعالى وسلامه عليه كالميت بين يدي الغاسل لا يحجم ولا يقدم دون إشارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذه الدقيقة أورد هذه الآية شهاب الحق والدين أبو حفص عمر السهروردي قدس‌سره في باب سير المريد مع الشيخ ونبه بذلك أن كل ما يرسمه من أمور الدين فهو أمر جامع.

وقال شيخ الإسلام : إن هذا استئناف جيء به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببيان بعض آخر من جنسها ، وإنما ذكر الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلة للموصول الواقع خبرا للمبتدإ مع تضمنه له قطعا تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان المذكور منتظما في سلكه فقوله تعالى : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) إلخ معطوف على (آمَنُوا) داخل معه في حيز الصلة وبذلك يصح الحمل ، والحصر باعتبار الكمال أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صميم قلوبهم وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الاتفاق كما إذا كانوا معه عليه الصلاة والسلام على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع لغرض من الأغراض ، وعن ابن زيد أن الأمر

٤١٢

الجامع الجهاد وقال الضحاك وابن سلام هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء ، وعن ابن جبير هو الجهاد وصلاة الجمعة والعيدين ، ولا يخفى أن الأولى العموم وإن كانت الآية نازلة في حفر الخندق ولعل ما ذكر من باب التمثيل ، ووصف الأمر بالجمع مع أنه سبب له للمبالغة ، والظاهر أن ذلك من المجاز العقلي ، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية.

وقرأ اليماني «على أمر جميع» وهو بمعنى جامع أو مجموع له على الحذف والإيصال (لَمْ يَذْهَبُوا) عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) عليه الصلاة والسلام في الذهاب فيأذن لهم به فيذهبون فالغاية هي الإذن الحاصل بعد الاستئذان والاقتصار على الاستئذان لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الإذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه عليه الصلاة والسلام من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب سبحانه بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فقد جعل فيه المستأذنين هم المؤمنون عكس الأول دلالة على أنهما متعاكسان سواء بسواء ومنه يلزم أنه كالمصداق لصحة الإيمانين وكذلك من اسم الإشارة لدلالته على أن استئهال الإيمانين لذلك (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) بيان لما هو وظيفته صلى الله تعالى عليه وسلّم في هذا الباب إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون فإذا استأذنوك (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) تفويض للأمر إلى رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم ، وهذه مسألة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له : احكم بما شئت فإنه صواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران : بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء ، وقال أبو علي الجبائي : بجواز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه ، وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون. والمجوزون اختلفوا في الوقوع ، قال الآمدي والمختار الجواز دون الوقوع ، وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع. والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويا لا تشهيا ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالاجتهاد ، والأليق بشأن الله تعالى وشأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة. وذكر بعض الفضلاء أنه لا خلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت ترويا بل الخلاف في جواز أن يقال : احكم بما شئت تشهيا كيفما اتفق ، وأنت تعلم أنه بعد التقييد لا يكون ما نحن فيه من محل النزاع ، ومن الغريب ما قيل : إن المراد ممن شئت منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يخفى ما فيه (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة. وتقديم «لهم» للمبادرة إلى أن الاستغفار للمستأذنين لا للإذن.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) مبالغ في مغفرة فرطات العباد (رَحِيمٌ) مبالغ في إفاضة شآبيب الرحمة عليهم ، والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الاستغفار لهم ، وقد بالغ جل شأنه في الاحتفال برسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه فجعل سبحانه الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا للاستغفار فضلا عن الذهاب بدون إذن ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان مطلقا ولا على الاستئذان لأي أمر مهما كان أو غير مهم ومع ذلك علق الإذن بالمشيئة ، وإذا اعتبرت وجوه المبالغة في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إلى هنا وجدتها تزيد على العشرة. وفي أحكام القرآن للجلال السيوطي أن في الآية دليلا على وجوب استئذانه صلى الله تعالى عليه وسلّم قبل الانصراف

٤١٣

عنه عليه الصلاة والسلام في كل أمر يجتمعون عليه ، قال الحسن : وغير الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس ، وقال ابن الفرس : لا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الانصراف واختلف في صلاة الجمعة إذا كان له عذر كالرعاف وغيره فقيل يلزمه الاستئذان سواء كان أمامه الأمير أم غيره أخذا من الآية وروي ذلك عن مكحول والزهري و (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، والالتفات لإبراز مزيد الاعتناء بشأنه أي لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة والسلام إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه عليه الصلاة والسلام بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات ، وإلى نحو هذا ذهب أبو مسلم واختاره المبرد والقفال وقيل : المعنى لا تحسبوا دعاءه صلّى الله تعالى عليه وسلّم عليكم كدعاء بعضكم على بعض فتعرضوا لسخطه ودعائه عليكم عليه الصلاة والسلام بمخالفة أمره والرجوع عن مجلسه بغير استئذان ونحو ذلك ، وهو مأخوذ مما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي عن الشعبي وتعقبه ابن عطية بأن لفظ الآية يدفع هذا المعنى ، وكأنه أراد أن الظاهر عليه على بعض ، وقيل : إنه يأباه (بَيْنَكُمْ) وهو في حيز المنع ، وقيل : المعنى لا تجعلوا دعاءه عليه الصلاة والسلام ربه عزوجل كدعاء صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم يسأله حاجته فربما أجابه وربما رده فإن دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلّم مستجاب لا مرد له عند الله عزوجل فتعرضوا لدعائه لكم بامتثال أمره واستئذانه عند الانصراف عنه إذا كنتم معه على أمر جامع وتحققوا قبول استغفاره لكم ولا تتعرضوا لدعائه عليكم بضد ذلك.

ولا يخفى وجه تقرير الجملة لما قبلها على هذين القولين ؛ لكن بحث في دعوى أن جميع دعائه عليه الصلاة والسلام مستجاب بأنه قد صح أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم سأل الله تعالى في أمته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه ، وهو ظاهر في أنه قد يرد بعض دعائه عليه الصلاة والسلام. وتعقب بأنه كيف يرد وقد قال الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وفي الحديث «إن الله تعالى لا يرد دعاء المؤمن وإن تأخر» وقد قال الإمام السهيلي في الروض : الاستجابة أقسام إما تعجيل ما سال أو أن يدخر له خير مما طلب أو يصرف عنه من البلاء بقدر ما سال من الخير ، وقد أعطى صلى الله تعالى عليه وسلّم عوضا من أن لا يذيق بعضهم بأس بعض الشفاعة وقال : «أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذابها في الدنيا الزلزال والفتن» كما في أبي داود فإذا كانت الفتنة سببا لصرف عذاب الآخرة عن الأمة فلا يقال : ما أجاب دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن عدم استجابته أن لا يعطي ما سأل أو لا يعوض عنه ما هو خير منه ، والمراد بالمنع في الحديث منع ذلك بخصوصه لا عدم استجابة الدعاء بذلك بالمعنى المذكور ، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله.

وقيل : المعنى لا تجعلوا نداءه عليه الصلاة والسلام وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.

أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كانوا يقولون : يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه : (لا تَجْعَلُوا) الآية إعظاما لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا نبي الله يا رسول الله ، وروي نحو هذا عن قتادة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وفي أحكام القرآن للسيوطي أن في هذا النهي تحريم ندائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه.

والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته إلى الآن. وذكر الطبرسي أن من جملة المنهي عنه النداء بيا ابن عبد الله فإنه

٤١٤

مما ينادي به العرب بعضهم بعضا. وتعقب هذا القول بأن الآية عليه لا تلائم السباق واللحاق.

وقال بعضهم : وجه الارتباط بما قبلها عليه الإرشاد إلى أن الاستئذان ينبغي أن يكون بقولهم : يا رسول الله إنا نستأذنك ونحوه ، وكذا خطاب من معه في أمر جامع إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينبغي أن يكون بنحو يا رسول الله لا بنحو يا محمد ، ويكفي هذا القدر من الارتباط بما قبل ولا حاجة إلى بيان المناسبة بأن في كل منهما ما ينافي التعظيم اللائق بشأنه العظيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نعم الأظهر في معنى الآية ما ذكرناه أولا كما لا يخفى. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية «نبيكم» بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء آخر الحروف مشددة بدل (بَيْنَكُمْ) الظرف في قراءة الجمهور ، وخرج على أنه بدل من (الرَّسُولِ) ولم يجعل نعتا له لأنه مضاف إلى الضمير والمضاف إليه في رتبة العلم وهو أعرف من المعرف بال ويشترط في النعت أن يكون دون المنعوت أو مساويا له في التعريف ، وقال أبو حيان : ينبغي أن يجوز النعت لأن (الرَّسُولِ) قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة فقد تساويا في التعريف.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ) وعيد لمن هو بضد أولئك المؤمنين الذين لم يذهبوا حتى يستأذنوه عليه الصلاة والسلام ، والتسلل الخروج من البين على التدريج والخفية ، وقد للتحقيق ، وجوز أن تكون لتقليل المتسللين في جنب معلوماته تعالى وأن تكون للتكثير إما حقيقة أو استعارة ضدية ، وقال أبو حيان : إن قول بعض النحاة بإفادة قد التكثير إذا دخلت على المضارع غير صحيح وإنما التكثير مفهوم من سياق الكلام كما في قول زهير :

أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

فإن سياق الكلام للمدح يفهم منه ذلك أي قد يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية (لِواذاً) أي ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج. وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل قال : كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام فيأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير إليه بيده وكان من المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج فأنزل الله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ) الآية ، وقيل يلوذ به إراءة أنه من أتباعه.

ونصب (لِواذاً) على المصدرية أو الحالية بتأويل ملاوذين وهو مصدر لاوذ لعدم قلب واوه ياء تبعا لفعله ولو كان مصدر لاذ لقيل لياذا كقياما.

وقرأ يزيد بن قطيب «لو إذا» بفتح اللام فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم تقلب واوه ياء لأنه لا كسرة قبلها فهو كطواف مصدر طاف ، واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وفتحة اللام لأجل فتحة الواو ، والفاء في قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) لترتيب الحذر أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنه مما يوجب الحذر البتة ، والمخالفة كما قال الراغب : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله والأكثر استعمالها بدون عن فيقال خالف زيد عمرا وإذا استعملت بعن فذاك على تضمين معنى الإعراض.

وقيل الخروج أي يخالفون معرضين أو خارجين عن أمره. وقال ابن الحاجب : عدي يخالفون بعن لما في المخالفة من معنى التباعد والحيد كأنه قيل الذين يحيدون عن أمره بالمخالفة وهو أبلغ من أن يقال : يخالفون أمره.

وقيل على تضمين معنى الصد ، وقيل إذا عدي بعن يراد به الصد دون تضمين ويتعدى إلى مفعول بنفسه يقال : خالف زيدا عن الأمر أي صده عنه والمفعول عليه هنا محذوف أي يخالفون المؤمنون أي يصدونهم عن أمره وحذف المفعول لأن المراد تقبيح حال المخالف وتعظيم أمر المخالف عنه فذكر الأهم وترك ما لا اهتمام به وقد يتعدى بإلى فيقال خالف إليه إذا أقبل نحوه.

٤١٥

وقال ابن عطية : (عَنْ) هنا بمعنى بعد ، والمعنى يقع خلافهم بعد أمره كما تقول : كان المطر عن ريح وأطعمته عن جوع. وقال أبو عبيدة والأخفش : هي زائدة أي يخالفون (أَمْرِهِ) وضمير أمره لله عزوجل فإن الأمر له سبحانه في الحقيقة أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه المقصود بالذكر ، والأمر له قيل الطلب أو الشأن أو ما يعمهما ، ولا يخفى أن في تجويز على كل من الاحتمالين في الضمير نظرا فلا تغفل. وقرئ «يخلفون» بالتشديد أي يخلفون أنفسهم عن أمره (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي بلاء ومحنة في الدنيا كما روي عن مجاهد وعن ابن عباس تفسير الفتنة بالقتل ، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه تفسيرها بتسليط سلطان جائر ، وعن السدي ومقاتل تفسيرها بالكفر والأول أولى.

(أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة. وقيل في الدنيا ، والمراد بالعذاب الأليم القتل وبالفتنة ما دونه وليس بشيء. وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع. وإعادة الفعل صريحا للاعتناء بالتهديد والتحذير. وشاع الاستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب فإنه تعالى أوجب فيها على مخالف الأمر الحذر عن العذاب وذلك تهديد على مخالفة الأمر وهو دليل كون الأمر للوجوب إذ لا تهديد على ترك غير الواجب ، وأيضا بناء حكم الحذر عن العذاب إلى المخالف يقتضي أن يكون حذره عنه من حيث المخالفة ، وذلك إنما يكون إذا أفضى إلى العذاب كما في قولك فليحذر الشاتم للأمير أن يضربه ولا إفضاء في ترك غير الواجب.

وهذا الأمر أعني (فَلْيَحْذَرِ) بخصوصه مستعمل في الإيجاب إذ لا معنى لندب الحذر عن العقاب أو إباحته ، وأيضا إشعار الآية بوجوب الحذر غير خاف بقرينة ورودها في معرض الوعيد بتوقع إصابة العذاب على أنه لو حمل الأمر المذكور على أنه للندب يحصل المطلوب وذلك لأن التحذير عما لم يعلم أو لم يظن تحققه ولا تحقق ما يفضي إلى وقوعه في الجملة سفه غير جائز بمعنى أنه مخالف للحكمة ولهذا يلام من يحذر عن سقوط الجدار المحكم الغير المائل ، وأيا ما كان يندفع ما يقال : لا نسلم أن قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ) للوجوب لأنه عين محل النزاع إذ يكفي في المطلوب على ما قررنا استعماله في الندب أيضا ، والقول بأن معنى مخالفة الأمر عدم اعتقاد حقيته أو حمله على غير ما هو عليه بأن يكون للوجوب أو الندب مثلا فيحمل على غيره بعيد جدا ، والظاهر المتبادر إلى الفهم أنه ترك الامتثال والإتيان بالمأمور فلا يترك إلى ذلك إلا بدليل. واعترض بأنه بعد هذا القيل والقال لا يدل على أن جميع الأوامر حقيقة في الوجوب لإطلاق الأمر.

وأجيب بأن (أَمْرِهِ) مصدر مضاف وهو يفيد العموم حيث فقدت قرينة العهد على أن الإطلاق كاف في المطلوب ، وهو كون الأمر المطلق للوجوب خاصة. إذ لو كان حقيقة لغيره أيضا لم يترتب التهديد على مخالفة مطلق الأمر. وقال بعض الأجلة : لا قائل بالفصل في صيغ الأمر بأن بعضها للوجوب وبعضها لغيره. وزعم بعضهم أن الاستدلال لا يتم إذا أريد بالأمر الطلب ، ولو فسر بالشأن وكان الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام لزم من القول بدلالتها على الوجوب أن يكون كل ما يفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبا علينا ولا قائل به. والزمخشري فسره بالدين والطاعة.

وقال صاحب الكشف : إن الاستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب مشهور سواء فسر بما ذكر لأن الطاعة امتثال الأمر القولي أو فسر على الحقيقة ، وأما إذا جعل إشارة إلى ما سبق من الأمر الجامع ومعنى (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ينصرفون عنه فلا وليس بالوجه وإن آثره جمع لفوات المبالغة والتناول الأولي والعدول عن الحقيقة في لفظ الأمر ثم المخالفة من غير ضرورة انتهى ، وهذا الذي آثره جمع ذكره الطيبي عن البغوي ثم قال : هذا هو التفسير الذي عليه

٤١٦

التعويل ويساعد عليه النظم والتأويل لأن الأمر حينئذ بمعنى الشأن وواحد الأمور وبيانه أن ما قبله حديث في الأمر الجامع وهو الأمر الذي يجمع عليه الناس ومدح من لزم مجلس رسولا لله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذهب عنه وذم من فارقه بغير الإذن وأمر بالاستغفار في حق من فارق بالإذن لأن قوله تعالى : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) يؤذن أن القوم ثلاث فرق المأذون في الذهاب بعد الاستئذان والمتخلف عنه ثم المتخلف إما أن يدوم في مجلسه عليه الصلاة والسلام ولم يذهب وهم المؤمنون المخلصون أو يتسلل لواذا وهم المنافقون وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ) إلخ مترتب على القسم الثالث على سبيل الوعيد والفعل المضارع يفيد معنى الدأب والعادة وقد أقيم المظهر موضع المضمر علة لاستحقاقهم فتنة الدارين انتهى ، وقد كشف عن بعض ما فيه صاحب الكشف نعم قيل عليه : إن فوات المبالغة والتناول لا يقاوم العهد ولا عدول عن الحقيقة لأن الأمر حقيقة في الحادثة وكذا المخالفة فيما ذكر ولو سلم فهو مشترك الإلزام فإن الأمر ليس حقيقة في الأمر العام وقوله : بلا ضرورة ممنوع فإن إضافة العهد صارفة. وتعقب بأن هذا مكابرة ومنع مجرد لا يسمع فإن الأبلغية لا شبهة فيا فإن تهديد من لم يمتثل أمره عليه الصلاة والسلام أشد من تركه بلا إذن وكون الأمر حقيقة في الطلب هو الأصح في الأصول والمخالفة المقارنة للأمر لا شبهة في أن حقيقتها عدم الامتثال واشتراك الإلزام ليس بتام لأن أمره إذا عم يشمل الأمر الجامع بمعنى الطلب أيضا وعهد الإضافة ليس بمتعين حتى يعد صارفا كذا قيل وفيه بحث فتأمل ، وقد يقال بناء على كون الأمر المذكور إشارة إلى الأمر الجامع : إنه جيء بأوفى قوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لما أن الأمر الجامع إما أن يكون أمرا دنيويا كالتشاور وفي الأمور الحربية فالانصراف عنه مظنة إصابة المحنة الدنيوية للمنصرفين وإما أن يكون أمرا دينيا كإقامة الجمعة التي فيها تعظيم شعائر الإسلام فالانصراف عنه مظنة إصابة العذاب الأخروي.

وبالجملة لا استدلال بالآية على اعتبار العهد وأما إذا لم يعتبر فقد استدل بها ، وقد سمعت شيئا من الكلام في ذلك وتمامه جرحا وتعديلا وغير ذلك في كتب الأصول (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدءا وإعادة لا لأحد غيره شركة أو استقلالا (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق ودخول المنافقين مع أن الخطاب فيما قبل للمؤمنين بطريق التغليب ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) خاص بالمنافقين وهو مفعول به عطف على (ما أَنْتُمْ) أي يعلم يوم يرجع المنافقون المخالفون للأمر إليه عزوجل للجزاء والعقاب.

وتعليق علمه بيوم رجعهم لا برجعهم لزيادة تحقيق علمه سبحانه بذلك وغاية تقريره لما أن العلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعلم بوقوع الشيء على أبلغ وجه وآكده ، وفيه إشعار بأن علمه جعل وعلا بنفس رجعهم من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان قطعا. ويجوز أن يكون الخطاب السابق خاصا بهم أيضا فيتحقق التفاتان التفات من الغيبة إلى الخطاب في (أَنْتُمْ) والتفات من الخطاب إلى الغيبة في (يُرْجَعُونَ) والعطف على حاله. وجوز أن يكون على مقدر أي ما أنتم عليه الآن ويوم إلخ فإن الجملة الاسمية تدل على الحال في ضمن الدوام والثبوت. وقيل : يجوز أن يكون (يَوْمَ) ظرفا لمحذوف يعطف على ما قبله أي وسيحاسبهم يوم أو نحو ذلك ولا أرى اختصاصه بالوجه الثاني في الخطاب.

وفي البحر بعد ذكر الوجهين فيه والظهر عطف (يَوْمَ) على (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) وقال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير والعلم يظهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون (يَوْمَ) نصبا على الظرفية بمحذوف وقد للتحقيق وفيا الاحتمالان

٤١٧

المتقدمان آنفا ، وقد مر غير مرة ما يراد بمثل هذه الجملة من الوعيد أو الوعد. ولا يخفى المناسب لكل من الاحتمالات في (أَنْتُمْ) و (يُرْجَعُونَ) وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو «يرجعون» مبنيا للمفعول (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي بعملهم أو بالذي عملوه من الأعمال السيئة التي من جملتها مخالفة الأمر فيرتب سبحانه عليه ما يليق به من التوبيخ والجزاء أو فينبئهم بما عملوا خيرا أو شرا فيرتب سبحانه على ذلك ما يليق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من الأشياء. والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم ، وتقديم الظرف لرعاية رءوس الآي. وقيل وفيه بحث : إنه للحصر على معنى والله عليم بكل شيء لا ببعض الأشياء كما يزعمه بعض جهلة الفلاسفة ومن حذا حذوهم حفظنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلالات لنا نورا نهتدي به إذا ادلهم ليل الجهالات هذا.

ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) إلى آخره أنه إشارة إلى جمع العناصر الأربعة وتركيب الإنسان منها ثم خروج مطر الإحساس من عينيه وأذنيه مثلا وينزل من سماء العقل الفياض برد حقائق العلوم فيصيب به من يشاء فتظهر آثاره عليه ويصرفه عمن يشاء حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) نور تجليه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) بأن يعطلها عن الابصار ويفني أصحابها عنها لما أن الإدراك بنوره فوق الإدراك بنور الابصار (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إشارة إلى ليل المحو ونهار الصحو أو ليل القبض ونهار البسط أو ليل الجلال ونهار الجمال أو نحو ذلك. وقيل : يزجي سحاب المعاصي إلى أن يتراكم فترى مطر التوبة يخرج من خلاله كما خرج من سحاب (وَعَصى آدَمُ) مطر (ثُمَّ اجْتَباهُ) ربه وينزل من سماء القلوب من جبال القسوة فيها من برد القهر يقلب الله ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) تقدم الكلام في الماء (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) يعتمد في سيره على الباطن وهم أهل الجذبة المغمورون في بحار المحبة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) يعتمد في سيره الشريعة والطريقة لكن فيما يتعلق به خاصة منهما وهم صنف من الكاملين سكنوا زوايا الخمول ولم يخالطوا الناس ولم يشتغلوا بالإرشاد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) يعتمد في سيره الشريعة والطريقة فيما يتعلق به وبغيره منهما وهم صنف آخر من الكاملين برزوا للناس وخالطوهم واشتغلوا بالإرشاد وعملوا في أنفسهم بما تقتضيه الشريعة والطريقة وعاملوا الناس والمريدين بذلك أيضا (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) فلا يبعد أن يكون في خلقه من يمشي على أكثر كالكاملين الذين أوقفهم الله تعالى على أسرار الملك والملكوت وما حده لكل أمة من الأمم ونوع من أنواع المخلوقات فعاملوا بعد أن عملوا في أنفسهم ما يليق بهم كل أمة وكل نوع بما حد له (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).

وفي قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) الآيات إشارة إلى أحوال المنكرين في القلب على المشايخ وأحوال المصدقين بهم قلبا وقالبا وفي قوله سبحانه : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إشارة إلى أن طاعة الرسول سبب لحصول المكاشفات ونحوها ، وقال أبو عثمان : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) وفي قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إشارة إلى أنه لا ينبغي للمريد الاستبداد بشيء قال عبد الله الرازي : قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان أوصنا فقال : عليكم بالاجتماع على الدين وإياكم ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم فإذا فعلتم

٤١٨

أرجو أن لا يضيع الله تعالى لكم سعيا (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) فيه من تعظيم أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيه ، وذكر أن الشيخ في جماعته كالنبي في أمته فينبغي أن يحترم في مخاطبته ويميز على غيره (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال أبو سعيد الخراز : الفتنة إسباغ النعم مع الاستدراج ، وقال الجنيد قدس‌سره : قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر ، وقال بعضهم : طبع على القلوب والعذاب الأليم هو عذاب البعد والحجاب عن الحضرة نعوذ بالله تعالى من ذلك ونسأله سبحانه التوفيق إلى أقوم المسالك فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

٤١٩

سورة الفرقان

أطلق الجمهور القول بمكيتها ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله سبحانه : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠] ، وقال الضحاك : هي مدنية إلا أولها إلى قوله تعالى (وَلا نُشُوراً) [الفرقان : ٣] فهو مكي ، وعدد آياتها سبع وسبعون آية بلا خلاف كما ذكره الطبرسي والداني في كتاب العدد ، ولما ذكر جل وعلا في آخر السورة السابقة وجوب متابعة المؤمنين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدح المتابعين وحذر المخالفين افتتح سبحانه هذه السورة بما يدل على تعاليه جل شأنه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله أو على كثرة خيره تعالى ودوامه وأنه أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا اطماعا في خيره وتحذيرا من عقابه جل شأنه وفي هذه السورة أيضا من تأكيد ما في السابقة من مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيها فقال تبارك وتعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا

٤٢٠