روح المعاني - ج ٩

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٩

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

عبد الله فقالت : يا رسول الله بعثت إليك بلبن فرددت إليّ الرسول فيه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها : «بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا» وكذا بما أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المسلمين فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك» وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح.

وجاء في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام ، وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به. ولعل تقديم الأمر الأول على تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر.

(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والباطنة (عَلِيمٌ) فأجازيكم عليه ، وفي البحر أن هذا تحذير للرسل عليهم‌السلام في الظاهر والمراد أتباعهم (وَإِنَّ هذِهِ) أي الملة والشريعة ، وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة (أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم‌السلام على نحو ما مر ؛ وقيل عام لهم ولغيرهم وروي ذلك عن مجاهد ، والجملة على ما قال الخفاجي عطف على الجملة (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فالواو من المحكي ، وقيل هي من الحكاية وقد عطفت قولا على قول ، والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا إلخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده.

وقيل : الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى ، وقوله سبحانه (أُمَّةً واحِدَةً) حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار ؛ وقيل (هذِهِ) إشارة إلى الأمم الماضية للرسل ، والمعنى أن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية ، وهذه الجملة عطف على جملة «إن هذه» إلخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تعليل لذلك ، ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة ، واقتضاء المجازاة والربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل حقية العقائد وحقيقتها تقتضي الإتيان بها والإتيان بها يقتضي الإتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الاعتقاد مع ترك العمل ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: (فَاتَّقُونِ) كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك : العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث.

وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى : (رَبُّكُمْ) وفي قوله سبحانه : (فَاتَّقُونِ) للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب ، والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلّا منهما موجب للاتقاء حتما ، والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال بموجب ما ذكر.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو «وأن» بفتح الهمزة وتشديد النون ، وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه إلخ ، والجار والمجرور متعلق باتقون ، قال الخفاجي : والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو (اعْمَلُوا) والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد

٢٤١

الحقة الموجبة للتقوى انتهى ، ولا يخلو عن شيء ، وجوز أن تكون (إِنَّ هذِهِ) إلخ على هذه القراءة معطوفا على ما (تَعْمَلُونَ) والمعنى إني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة إلخ فهو داخل في حيز المعلوم. وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه ، وقيل : هو معمول لفعل محذوف أي واعلموا أن هذه أمتكم إلخ وهذا المحذوف معطوف على «اعملوا» ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر.

وقرأ ابن عامر «وأن» بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت بمعنى الملة أو لها وإن كانت بمعنى الجماعة ، وجوز أن يراد بالأمة أولا الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الاستخدام ، والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم‌السلام من مخالفة الأمر ، والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم ، وتقطع بمعنى قطع كتقدم بمعنى قدم ؛ والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة مع اتحاده ، وجوز أن يراد بالتقطع التفرق ، و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا وتحزبوا في أمرهم ، ويجوز أن يكون (أَمْرَهُمْ) على هذا نصبا على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز (بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي قطعا جمع زبور بمعنى فرقة ، ويؤيده أنه قرئ «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة بمعنى قطعة وهو حال من «أمرهم» أو من واو (تقطعوا) أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا ، وقيل : جمع زبور بمعنى كتاب من زبرت بمعنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتبا.

وجوز أن يكون حالا من (أَمْرَهُمْ) على اعتبار تقطعوا لازما أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم. وقيل : إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب ، وتفسير (زُبُراً) بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في الدر المنثور ، ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر.

وقرئ «زبرا» بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل ، وجاء (فَتَقَطَّعُوا) هنا بالفاء إيذانا بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه ، وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر ، وجاء هنا (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى هناك : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عزوجل قاله أبو حيان ، وما ذكره أولا غير واف بالمقصود ، وما ذكره ثانيا قيل عليه : إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه‌السلام لابتداء كلام فإنه حينئذ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل.

(كُلُّ حِزْبٍ) من أولئك المتحزبين (بِما لَدَيْهِمْ) من الأمر الذي اختاروه (فَرِحُونَ) مسرورون منشرحو الصدر ، والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق ، وفي هذا من ذم أولئك المتحزبين ما فيه.

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق ، والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر والمراد بها الجهالة بجامع الغلبة والاستهلاك ، وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم‌السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطل قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإذ ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي لا جهل فوقه تخلية وخذلانا ودلالة على

٢٤٢

اليأس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه : (حَتَّى حِينٍ) فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم ، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل.

وجوز أن يقال : شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل ، والكلام حينئذ على منوال سابقه أعني قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) لما جعلوا فرحين غرورا جعلوا لاعبين أيضا والأول أظهر ؛ وقد يجعل الكلام عليه أيضا استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى.

وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة والسلمي «في غمراتهم» على الجمع لأن لكل واحد غمرة.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم ، فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها موصولة لأنها في الإمام كذلك لسر لا نعرفه. وقوله تعالى : (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان لها. وتقديم المال على النبيين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه ، وقوله سبحانه : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) خبر أن والراجع إلى الاسم محذوف أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وحذف هذا العائد لطول الكلام مع تقدم نظيره في الصلة إلا أن حذف مثله قليل ، وقال هشام بن معاوية : الرابط هو الاسم الظاهر وهو (الْخَيْراتِ) وكأن المعنى نسارع لهم فيه ثم أظهر فقيل في الخيرات ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، قيل : ولا يجوز أن يكون الخبر (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) لأن الله تعالى أمدهم بذلك فلا يعاب ولا ينكر عليهم اعتقاد المدد به كما يفيده الاستفهام الانكاري وتعقب بأنه لا يبعد أن يكون المراد ما نجعله مددا نافعا لهم في الآخرة ليس المال والبنين بل الاعتقاد والعمل الصالح كقوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨] وفيه ما فيه. وما ذكرنا من كون ما موصولة هو الظاهر ، ومن جوز كونها مصدرية وجعل المصدر الحاصل بعد السبك اسم أن وخبرها (نُسارِعُ) على تقدير مسارعة بناء على أن الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل لم يوف القرآن الكريم حقه ، وكذا من جعلها كافة كالكسائي ونقل ذلك عنه أبو حيان ، وجوز عليه الوقف على (بَنِينَ) معللا بأن ما بعد يحسب قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى وإن كان في تأويل مفرد وهو كما ترى ، وقرأ ابن وثاب «إنما نمدهم» بكسر همزة إن ، وقرأ ابن كثير في رواية «يمدهم» بالياء.

وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارع» بالياء وكسر الراء فإن كان فاعله ضميره تعالى فالكلام في الرابط ، على ما سمعت ، وإن كان ضمير الموصول فهو الرابط وعن ابن أبي بكرة المذكور أنه قرأ «يسارع» بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، وقرأ الحر النحوي «نسرع» بالنون مضارع أسرع ، وقرئ على ما في الكشاف «يسرع» بالياء مضارع أسرع أيضا وفي فاعله الاحتمالان المشار إليهما آنفا (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل لا يشعرون أي ليس من شأنهم الشعور أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك هو استدراج أم مسارعة ومبادرة في الخيرات ومن هنا قيل : من يعص الله تعالى ولم ير نقصانا فيما أعطاه سبحانه من الدنيا فليعلم أنه مستدرج قد مكر به ، وقال قتادة : لا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح.

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن استمرار

٢٤٣

الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين ترددا (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنزلة والمنصوبة في الآفاق والأنفس ، والباء للملابسة وهي متعلقة بقوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون ، والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها ، والتعبير بالمضارع دون الاسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها (الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) فيخلصون بالعبادة له عزوجل فالمراد نفي الشرك الخفي كالرياء بالعبادة كذا قيل ، وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركا جليا ولا خفيا ولعله الأولى ، ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات الله تعالى.

وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية ، ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى.

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من الصدقات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما اتوا من الإتيان لا الإيتاء فيهما ، وأخرج ابن مردويه وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ كذلك وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يروها القراء من طرقهم والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة ، وروي نحو هذا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله قول الله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله تعالى؟ قال : لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أن لا يتقبل منه ، وجملة (قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى ، والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الاستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق ، وقوله تعالى : (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨].

وجوز أن يكون بتقدير من الابتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عزوجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه عزوجل ، وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش (أَنَّهُمْ) بكسر الهمزة ، ولعل التعبير بالجملة الاسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل.

وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عزوجل بالعبودية ، فوجه التعبير بالجملة الاسمية عليه أظهر من أن يخفى ، ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائنا ما كان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذ لأنه سبحانه مالك وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو الله عزوجل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا الوجه كلفا سوى كلف العبد

٢٤٤

فتأمل ، ثم إن المواصلات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام ، وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون إلخ ، وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في غاية البعد.

وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين (أُولئِكَ) إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن ، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] وقوله سبحانه : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [النحل : ١٢٢] فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماء إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [آل عمران : ١٣٣](وَهُمْ لَها) أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت ، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى : (سابِقُونَ) وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار ، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال : سبقت إلى كذا ولكذا ، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها.

وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى ، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة ، وحسن زيادتها كون العامل فرعيا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها ، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يرد ما قيل : إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال : هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف.

وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير (لَها) لها أيضا واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة ، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون (لَها) خبر المبتدأ و (سابِقُونَ) خبر بعد خبر ، ومعنى (هُمْ لَها) أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة ، وهذا كقولك : لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره : أنت لها وهو من بليغ كلامهم ، وعلى ذلك قوله :

مشكلات أعضلت ودهت

يا رسول الله أنت لها

ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل (لَها) خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات ، ففي البحر نقلا عنه أن المعنى

٢٤٥

سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة ، ومن الناس من زعم أن ضمير (لَها) للجنة. ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» مضارع أسرع يقال : أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و «يسارعون» كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون ، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فنقتفي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.

وقوله سبحانه : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب ، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف بهو كما في قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩] و (الحق) المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقيل : المراد بالكتاب صحائف يقرءونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول ، وأدون منه ما قيل : إن المراد به القرآن الكريم ، وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لبيان فضله عزوجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق ، وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها.

وقوله عزوجل : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رءوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبئ عنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) إلخ ، وقيل : الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقا وروي ذلك عن مجاهد ، وقيل : إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة ، وقيل : إلى الدين بجملته ، وقيل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأول أظهر (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) سيئة كثيرة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ).

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفرة والشك وأن (ذلِكَ) إشارة إلى هذا المذكور ، والمعنى لهم أعمال دون الكفر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن (ذلِكَ) كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون

٢٤٦

من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون أي أضداد ما وصفوا به مما وقع في حيز الصلات وهذا غاية الذم لهم (هُمْ لَها عامِلُونَ) أي مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يفطمون عنها و (عامِلُونَ) عامل في الضمير قبله واللام للتقوية ، هذا وقال أبو مسلم : إن الضمير في قوله تعالى : (بَلْ) هم إلخ عائد على المؤمنين الموصوفين بما تقدم من الصفات كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق فلا يظلمون بل يوفي عليهم ثواب أعمالهم ، ثم وصفهم سبحانه بالحيرة في قوله تعالى : بل قلوبهم في غمرة فكأنه عزوجل قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البرسوي ما هم عليه انتهى ، قال الإمام : وهو الأولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما يحذر بذلك من الشر ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر ، و (هذا) على هذا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم انتهى ، ولا يخفى ما فيه على من ليس قلبه في غمرة.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ

٢٤٧

(٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ حَتَّى) على ما في الكشاف هي التي يبتدأ بعدها الكلام وهي مع ذلك غاية لما قبلها كأنه قيل : لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا إلخ ، وقال ابن عطية : هي ابتداء لا غير ، و (إِذا) الأولى والثانية يمنعان من أن تكون غاية لعاملون وفيه نظر ، و (إِذا) شرطية شرطها (أَخَذْنا) وهي مضافة إليه وجزاؤها قوله تعالى : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) وهي معمولة له وإذا فيه فجائية نائبة مناب الفاء ، وقال الحوفي : حتى غاية وهي عاطفة وإذا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط وإذا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إذا الأولى والعامل في الثانية (أَخَذْنا) انتهى.

وهو كلام مخبط يبعد صدوره من مثل هذا الفاضل ، والمترف المتوسع في النعمة ، والمراد بالعذاب ما أصابهم

٢٤٨

يوم بدر من القتل والأسر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة ، وقد قتل وأسر في ذلك اليوم كثير من صناديدهم ورؤسائهم والجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأر إذا صاح وجأر الرجل إلى الله تعالى إذا تضرع بالدعاء كما في الصحاح وفي الأساس جأر الداعي إلى الله تعالى ضج ورفع صوته والمراد به الصراخ إما مطلقا أو باستغاثة. وضميرا الجمع راجعان على ما رجع إليه الضمائر السابقة في (مُتْرَفِيهِمْ) و (لَهُمْ) و (قُلُوبُهُمْ) وغيرها وهم كفار أهل مكة لكن بإرادة من بقي منهم بعد أخذ المترفين بالقتل. قال ابن جريج المعذبين قتلى بدر والذين يجأرون أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا ، وفي إنسان العيون أو قريشا ناحوا على قتلاهم في بدر شهرا وجز نساؤهم شعورهن وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته ويسترنها بالستور وينحن حولها ويخرجن بها إلى الأزقة إلى أن أشير عليهم بترك ذلك خوف الشماتة ، وقال الربيع بن أنس : المراد بالجؤار الجزع إذ هو سبب الصراخ وفيه بعد لخفاء قرينة المجاز ، وعن الضحاك أن المراد بالعذاب عذاب الجوع وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف فاستجيب له عليه الصلاة والسلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام المحرقة والعلهز وفي الأخبار ما يدل على أن ذلك كان قبل الهجرة. وفيها أيضا ما يدل على أنه كان قبلها. ووفق البيهقي بأنه لعله كان مرتين ، وسيأتي ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وتخصيص المترفين بالذكر لأنه إذا جاع المترف جاع غيره من باب أولى ، وقيل : المراد بالعذاب عذاب الآخرة ، وتخصيص المترفين بما ذكر لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فلأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم.

وقال شيخ الإسلام : إن هذا القول هو الحق لأن العذاب الأخروي هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط من النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون : ٧٦] فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما وأما عذاب الجوع فإن قريشا وإن تضرعوا فيه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن لم يرد عليهم بالإقناط حيث روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك انتهى ، وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه ، نعم حمل العذاب على ذلك أوفق بجعل ما في حيز (حَتَّى) غاية لما قبلها.

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) على تقدير القول أي قلنا لهم ذلك ، والكلام استئناف مسوق لبيان إقناطهم وعدم انتفاعهم بجؤارهم ، والمراد باليوم الوقت الحاضر الذي اعتراهم فيه ما اعتراهم ، والتقييد بذلك لزيادة إقناطهم والمبالغة في إفادة عدم نفع جؤارهم.

وقال شيخ الإسلام : إن ذلك التهويل اليوم والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار ؛ والمراد بالقول على ما قيل : ما كان بلسان الحال كما في قوله : امتلأ الحوض وقال قطني. وجوز أن يراد به حقيقة القول وصدوره إما من الله تعالى وإما من الملائكة عليهم‌السلام ، والظاهر على هذا الوجه أن يكون القول في الآخرة وكونه في الدنيا مع عدم إسماعهم إياه لا يخلو عن شيء ، وتقديره فعل الأمر مسندا إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي قل لهم من قبلنا لا تجأروا بعيد جدا ، ومن الناس من جوز كون القول المقدر جواب (إِذا) الشرطية وحينئذ يكون (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) قيدا للشرط أو بدلا من إذا الأولى ، وعلى الأول المعنى أخذنا مترفيهم وقت جؤارهم أو حال مفاجأتهم لجواز أن تكون (إِذا) ظرفية أو فجائية حينئذ ، ولم يجوز جعل النهي المذكور جوابا لخلوّه عن الفاء اللازمة فيه إذا وقع كذلك. وتعقب هذا القول بأنه لا يخفى أن المقصود الأصلي من الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم الجؤار غير مقصود أصلي.

٢٤٩

وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه ؛ ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه ، وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا. وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة الله تعالى وقوته ، وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى الله تعالى وأمر التعليل سهل ، وقد يقال : المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمرا عظيما وإثما كبيرا لا يدفعه ذلك ، ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد ، والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب (فَكُنْتُمْ) عند تلاوتها (عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تعرضون عن سمائها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها ، والنكوص الرجوع ، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه ، وجعل بعضهم التقييد بالأعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوص الرجوع قهقرى وعلى الأعقاب ، وأيا ما كان فهو مستعار للإعراض.

وقرأ عليّ كرّم الله تعالى وجهه «تنكصون» بضم الكاف (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي بالبيت الحرام. والباء للسببية ، وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور المفسرين ، وقريب منه كون الضمير للحرام ، وقال في البحر : الضمير عائد على المصدر الدال عليه «تنكصون» وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالا. واعترض عليه بما فيه بحث ، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحسنه أن في قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) دلالة عليه عليه الصلاة والسلام ، والباء إما للتعدية على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازا عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثته صلّى الله عليه وسلّم. وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفا ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى : (سامِراً) أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ؛ وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا ، والمعنى على ذاك وإن لم يعلق به (بِهِ) ويجوز على تقدير تعلقه بسامرا عود الضمير على النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به ، وقيل : هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه ، ونصب «سامرا» على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر ، وقيل : هو مصدر وقع حالا على التأويل المشهور فهو يشمل القليل والكثير باعتبار أصله ؛ ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة.

والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته ، وفي البحر هو ما يقع على الشجر من ضوء القمر ، وقال الراغب : هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل ، وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم ، وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوبا بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو «سمرا» بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر ، وابن عباس أيضا ، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك «سمارا» بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك (تَهْجُرُونَ) من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك ، والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن ابن عباس تهجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق به من العبادة.

٢٥٠

وجاء الهجر بمعنى الهذيان كما في الصحاح يقال : هجر المريض يهجر هجرا إذا هذى ، وجوز أن يكون المعنى عليه أي تهذون في شأن القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام أو أصحابه رضي الله تعالى عنهم أو ما يعم جميع ذلك. وفي الدر المصون أن ما كان بمعنى الهذيان هو الهجر بفتحتين.

وجوز أن يكون من الهجر بضم فسكون وهو الكلام القبيح ، قال الراغب : الهجر الكلام المهجور لقبحه وهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد وأهجر المريض إذا أتى بذلك من غير قصد ، وفي المصباح هجر المريض في كلامه هذى والهجر بالضم اسم مصدر بمعنى الفحش من هجر كقتل وفيه لغة أخرى اهجر بالألف وعلى هذه اللغة قراءة ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم وهي تبعد كون «تهجرون» في قراءة الجمهور من الهجر بمعنى القطع.

وقرأ ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ، وعكرمة وأبو نهيك. وابن محيصن أيضا وأبو حيوة «تهجّرون» بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم وشدها على أنه من مضاعف هجر من الهجر بالفتح أو بالضم فالمعنى تقطعون أو تهذون أو تفحشون كثيرا.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعلموا بما فيه من وجوه الإعجاز أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به ، و «أم» في قوله تعالى : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) منقطعة ، وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر ، والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال بمعنى أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم‌السلام لينذروا بها الناس سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر وأن مجيء القرآن على طريقته فمم ينكرونه ، وقيل : المعنى أفلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين حين خافوا الله تعالى فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه فالمراد بآبائهم المؤمنون كإسماعيل عليه‌السلام وعدنان وقحطان ، وكأن وصفهم بالأولين على هذا الإخراج الأقربين.

وفي الخبر «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» وروي أن ضبة بن أد كان مسلما وكان على شرطة سليمان بن داود عليهما‌السلام.

وفي الكشف أن جعل فائدة التدبر استعقاب العلم فالهمزة في المنقطعة للتقرير وإثبات أنهم مصرون على التقليد فلذلك لم يتدبروا ولم يعلموا ، وإن جعلت الاعتبار والخوف فالهمزة فيها للإنكار أو التقرير تهكما ا ه فتدبر ، ثم لا يخفى أن إسناد المجيء إلى الأمن غير ظاهر ظهور إسناده إلى الكتاب وبهذا تنحط درجة هذا الوجه عن الوجه الأول.

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر ، والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق إلى غير ذلك من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم‌السلام.

وقد صح أن أبا طالب يوم نكاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب بمحضر رؤساء مضر وقريش فقال : أحمد الله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا

٢٥١

وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.

وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغاية الكمال وإلا لأنكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة والسلام ما قال.

(فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهم‌السلام فكيف ينكرونه ، واللام للتقوية ، وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة ، والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة والسلام.

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأوفرهم رزانة ، وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة والسلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يبينه شيخ الإسلام ، وقوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) إضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه ، والمراد به التوحيد ودين الإسلام الذي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن.

(وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لما في جبلتهم من كمال الزيغ والانحراف ، والظاهر أن الضمائر لقريش ، وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذرا من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق ، فلا يرد ما قيل : إن من أحب شيئا كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره الانتقال إلى الإيمان ضرورة ، وقال ابن المنير : يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد ، وكذا ما اختاره من كون ضمير (أَكْثَرُهُمْ) للناس كافة لا لقريش فيكون الكلام نظير قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقد يقال : حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الاستمرار وعلم الله تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر ، والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة أن الحق الثاني عين الحق الأول ، وأظهر في مقام الإضمار لأنه أظهر في الذم والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة والسلام ، وقيل : اللام في الأول للعهد وفي الثاني للاستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبئ عنه الإظهار كارهون ، وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق ، وكذا الظاهر أن يراد بالحق في قوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الحق الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازيا ، وقيل ما آل المعنى لو اتبع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام وما أرسل به من عنده ، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكراهة.

٢٥٢

واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث ، وكذا ما قيل : إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشا كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨].

وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقا أهواءهم لخرجت السموات والأرض عن الصلاح والانتظام بالكلية ، والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقا بأن السموات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به ولا يخلو عن حسن. وقيل : المراد بالحق هو الله تعالى.

وقد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح ، وحكاه بعضهم عن ابن جريج والزمخشري عن قتادة ، والمعنى عليه لو كان الله تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلها فتفسد السموات والأرض. وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه. وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه. ولعل الكلام عليه اعتراض أيضا للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة والسلام لا تجديهم نفعا فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله. وقيل : المعنى عليه لو فعل الله تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة ، وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى.

وقرأ ابن وثاب «ولو اتبع» بضم الواو (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها. والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول (فَهُمْ) بما فعلوا من النكوص (عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي فخرهم وشرفهم خاصة (مُعْرِضُونَ) لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به ، وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع ، والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الإتيان بذكرهم ، ومن فسر (الحق) في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) بالقرآن الكريم قال هنا : في إسناد الإتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تنويه بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام بمثابة عظيمة منه عزوجل ، وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد المشرفين. وقيل : المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم : «لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين» فكأنه قيل : بل أتيناهم الكتاب الذي تمنوه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ.

وأيد بقراءة عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث ، ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في الشناعة والقباحة.

وقيل : إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالإعراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالإعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة.

٢٥٣

وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو «بل أتيتهم» بتاء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء «بل أتيتهم» بتاء الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو عمرو وفي رواية «أتيناهم» بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون مضارع ذكر (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) متعلق بقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) فهو انتقال إلى توبيخ آخر ، وغير للخطاب لمناسبته ما بعده ، وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة (خَرْجاً) أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ، وقوله تعالى : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تعليل الحكم وتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يخفى.

و «الخرج» بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله تعالى ، وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عزوجل ، وقيل الخرج أعم من الخراج وساوى بينهما بعضهم.

وقرأ عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمشاكلة وقرأ الحسن وعيسى «خرجا فخرج» وكأن اختيار (خَرْجاً) في جانبه عليه الصلاة والسلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار «خرجا» في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيء القليل منه عزوجل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.

واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الاتهام ، قال الزمخشري : ولقد ألزمهم عزوجل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر ا ه. وهو من الحسن بمكان.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعا لهم مما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله ، وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك دخولا أوليا (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم الذي تدعو إليه (لَناكِبُونَ) أي لعادلون ، وقيل : المراد بالصراط جنسه أي إنهم عن جنس الصراط فضلا عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون ، ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبئ عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط

٢٥٤

ولو كان معوجا ، وفيه أن التعليل بمضمون الصلة لا يساعد إلا على إرادة الصراط المستقيم ، وأظن أنه قد نكب عن الصراط من زعم أن المراد هنا الصراط الممدود على متن جهنم وهو طريق الجنة أي أنهم يوم القيامة عن طريق الجنة لمائلون يمنة ويسرة إلى النار.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي من سوء حال ، قيل : هو ما عراهم بسبب أخذ مترفيهم بالعذاب يوم بدر أعني الجزع عليهم وذلك بإحيائهم وإعادتهم إلى الدنيا بعد القتل أي ولو رحمناهم وكشفنا ضرهم بإرجاع مترفيهم إليهم (لَلَجُّوا) لتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) إفراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (يَعْمَهُونَ) عامهين مترددين في الضلال يقال عمه كمنع وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا ، وقيل : هو ما هم فيه من شدة الخوف من القتل والسبي ومزيد الاضطراب من ذلك لما رأوا ما حل بمترفيهم يوم بدر وكشفه بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكف عن قتالهم وسبيهم بعد أو بنحو ذلك وهو وجه ليس بالبعيد وقيل : المراد بالضر عذاب الآخرة أي إنهم في الرداءة والتمرد إلى أنهم لو رحموا وكشف عنهم عذاب النار وردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه وفيه من البعد ما فيه.

واستظهر أبو حيان أن المراد به القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر أنه مروي عن ابن عباس وابن جريج ، وقد دعا عليهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في مكة يوم ألقى عليه المشركون وهو قائم يصلي عند البيت صلى جزور فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ودعا بذلك أيضا بالمدينة ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام مكث شهرا إذا رفع رأسه من الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول : اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك إلخ ، وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء ، وكلتا الروايتين ذكرهما برهان الدين الحلبي في سيرته ، والكثير على أنه الجوع الذي أصابهم من منع ثمامة الميرة عنهم ، وذلك أن ثمامة بن أثال الحنفي جاءت به إلى المدينة سرية محمد بن مسلمة حين بعثها صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني بكر بن كلاب فأسلم بعد أن امتنع من الإسلام ثلاثة أيام ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة لبى وهو أول من دخلها ملبيا ومن هنا قال الحنفي :

ومنا الذي لبى بمكة معلنا

برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

فأخذته قريش فقالوا : لقد اجترأت علينا وقد صبوت يا ثمامة قال : أسلمت واتبعت خير دين دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضر بهم الجوع وأكلت قريش العلهز. فكتبت قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وأنت قد قطعت أرحامنا فكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل ، وفي رواية أن أبا سفيان جاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ألست إلخ ، ووجه الجمع ظاهر وكان هذا قبل الفتح بقليل ، وعندي أن (لَوْ) تبعد هذا القول كما لا يخفى ، نعم أخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس ما هو نص في أن قصة ثمامة سبب لنزول قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) إلى آخره فيكون الجوع مرادا من العذاب المذكور فيه على ذلك ، ولا يرد على من قال به قوله تعالى : (فَمَا اسْتَكانُوا) فما خضعوا بذلك (لِرَبِّهِمْ) لأن له أن يقول : المراد بالخضوع له عزوجل الانقياد لأمره سبحانه والإيمان به جل وعلا وما كان منهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس منه شيء ، والمشهور أن المراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر ، ولا يرد على من فسر العذاب في قوله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ)

٢٥٥

به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع المستفاد من قوله سبحانه : (وَما يَتَضَرَّعُونَ) إذ له أن يقول : الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة لله عزوجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر ، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الانقياد لأمره عزوجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك ، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات ، وقيل : ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين ، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا ، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) وقوله سبحانه : (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أيضا ، واستكان استفعل من الكون ، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا ، وقال أبو العباس أحمد بن فارس : سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني : هو مشتق من قول العرب : كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر ، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة ، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين ، وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله :

وأنت من الغوائل حين ترمي

ومن ذم الرجال بمنتزاح

وقوله :

أعوذ بالله من العقراب

الشائلات عقد الأذناب

واعترض بأن الإشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد بكونه في جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه إشباع (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) من عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب الجبائي ، و (حَتَّى) مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل : هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد (إِذا هُمْ فِيهِ) أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال (مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم : ١٢](لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٥] وقيل : هذا الباب استيلاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كانوا يتوهمونه من الخير. وأخرج ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه القتل يوم بدر ، وروت الإمامية ـ وهم بيت الكذب ـ عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة ، ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا ، والوجه في الآية عندي ما تقدم ، والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها أخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع ، وقدم السمع لكثرة منافعه ، وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر ، وقيل : أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به

٢٥٦

الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات. وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي ، وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي شكرا قليلا تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب (قَلِيلاً) على أنه صفة مصدر محذوف ، والقلة على ظاهرها بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين ، وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الالتفات ، وقيل : هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء ، والأولى عندي للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر ؛ و (ما) علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيد.

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلقكم وبثكم فيها (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عزوجل (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء (وَلَهُ) تعالى شأنه خاصة (اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم : فلان يختلف إلى فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصا ، وقيل : المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر ، واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث ، وقرأ أبو عمرو في رواية «يعقلون» على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين ، وقيل : على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك.

(بَلْ قالُوا) عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) البعث (مِنْ قَبْلُ) متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر ، وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت ، ويجوز أن يكون متعلقا به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آبائنا أي كائنين من قبل (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد وجماعة ، وقيل : جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس ، والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبات لا طائل تحتها (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جوابه محذوف ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به. وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى.

ويقوي هذا أنه أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال سبحانه : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه سبحانه خلقها فاللام للملك باعتبار الخلق (قُلْ) أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول. وقرئ «تتذكرون» على الأصل (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعا لمحله من أن يكون تبعا للسماوات وجودا وذكرا ، وقرأ ابن محيصن «العظيم» بالرفع نعتا للرب.

٢٥٧

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه. وفيما بعده ولم يقرأ على ما قيل في السابق بترك اللام والقراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى وكلا الأمرين جائزان فلو قيل : من صاحب هذه الدار؟ فقيل : زيد كان جوابا عن لفظ السؤال ، ولو قيل : لزيد لكان جوابا على المعنى لأن معنى من صاحب هذه الدار؟ لمن هذه الدار وكلا الأمرين وارد في كلامهم ، أنشد صاحب المطلع :

إذا قيل من رب المزالف والقرى

ورب الجياد الجرد قلت لخالد

وأنشد الزجاج :

وقال السائلون لمن حفرتم

فقال المخبرون لهم وزير

(قُلْ) إفحاما لهم وتوبيخا (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكا. (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) مما ذكر ومما لم يذكر ؛ وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر ، وقيل : المالكية والمدبرية ، وقيل : الخزائن (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يمنع من يشاء ممن يشاء (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحدا ، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى النصرة أو الاستعلاء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه (قُلْ) تهجينا لهم وتقريعا (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك ، وهذه الآيات الثلاث أعني (قُلْ لِمَنِ) إلى هنا على ما قرر في الكشف تقرير للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها ، وقيل : (مَنْ) تغليبا للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السموات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه كلا شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتى بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع ، وقيل : (بِيَدِهِ) تصويرا وتخييلا وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولا بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم بعدم الاتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خدع عقولهم فتخيل الباطل حقا والحق باطلا وأنى لها التذكر والخوف.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) إضراب عن قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل : ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق وقرئ «بل أتيتهم» بتاء المتكلم وقرأ ابن أبي إسحاق بتاء الخطاب (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أو في ذلك قولهم بما ينافي التوحيد (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) لتنزهه عزوجل عن الاحتياج وتقدسه تعالى عن مماثلة أحد.

(وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشاركه سبحانه في الألوهية (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لاستبد بالذي خلقه واستقل به تصرفا وامتاز ملكه عن ملك الآخر (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ولوقع التحارب والتغالب بينهم كما هو الجاري فيما بين الملوك والتالي باطل لما يلزم من ذلك نفي ألوهية الجميع أو ألوهية ما عدا واحدا منهم وهو خلاف المفروض أو لما أنه يلزم أن لا يكون بيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو باطل في نفسه لما برهن عليه في الكلام وعند الخصم لأنه يقول باختصاص ملكوت كل شيء به تعالى كما يدل عليه السؤال والجواب السابقان آنفا كذا قيل ، ولا يخفى أن اللزوم في الشرطية المفهومة من الآية عادي لا عقلي ولذا قيل : إن الآية إشارة إلى دليل إقناعي للتوحيد لا قطعي.

٢٥٨

وفي الكشف قد لاح لنا من لطف الله تعالى وتأييده أن الآية برهان نير على توحيده سبحانه ، وتقريره أن مرجح الممكنات الواجب الوجود تعالى شأنه جل عن كل كثرة أما كثرة المقومات أو الأجزاء الكمية فبينة الانتفاء لإيذائها بالإمكان ، وأما التعدد مع الاتحاد في الماهية فكذلك للافتقار إلى المميز ولا يكون مقتضى الماهية لاتحادهما فيه فيلزم الإمكان ، ثم الميزان في الطرفين صفتا كمال لأن الاتصاف بما لا كمال فيه نقص فهما ناقصان ممكنان مفتقران في الوجود إلى مكمل خارج هو الواجب بالحقيقة ، وكذلك الافتقار في كمال ما للوجود يوجب الإمكان لإيجابه أن يكون فيه أمر بالفعل وأمر بالقوة واقتضائه التركيب والإمكان.

ومن هنا قال العلماء : إن واجب الوجود بذاته واجب بجميع صفاته ليس له أمر منتظر ومع الاختلاف في الماهية يلزم أن لا يكون المرجح مرجحا أي لا يكون الإله إلها لأن كل واحد واحد من الممكنات إن استقلا بترجيحه لزم توارد العلتين التامتين على معلول شخصي وهو ظاهر الاستحالة فكونه مرجحا إلها يوجب الافتقار إليه وكون غيره مستقلا بالترجيح يوجب الاستغناء عنه فيكون مرجحا غير مرجح في حالة واحدة ، وإن تعاونا فكمثل إذ ليس ولا واحد منهما بمرجح وفرضا مرجحين مع ما فيه من العجز عن الإيجاد والافتقار إلى الآخر ، وإن اختص كل منهما ببعض مع أن الافتقار إليهما على السواء لزم اختصاص ذلك المرجح بمخصص يخصصه بذلك البعض بالضرورة وليس الذات لأن الافتقار إليهما على السواء فلا أولوية للترجيح من حيث الذات ولا معلول الذات لأنه يكون ممكنا والكلام فيه عائد فيلزم المحال من الوجهين الأولين أعني الافتقار إلى مميز غير الذات ومقتضاها ولزوم النقص لكل واحد لأن هذا المميز صفة كمال ثم مخصص كل بذلك التمييز هو الواجب الخارج لا هما ، وإلى المحال الأول الإشارة بقوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) وهو لازم على تقدير التخالف في الماهية واختصاص كل ببعض ، وخص هذا القسم لأن ما سواه أظهر استحالة ، وإلى الثاني الإشارة بقوله سبحانه (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي إما مطلقا وإما من وجه فيكون العالي هو الإله أو لا يكون ثم إله أصلا وهذا لازم على تقديري التخالف والاتحاد والاختصاص وغيره فهو تكميل للبرهان من وجه وبرهان ثان من آخر ، فقد تبين ولا كفرق الفجر أنه تعالى هو الواحد الأحد جعل وجوده زائدا على الماهية أو لا فاعلا بالاختيار أو لا ، وليس برهان الوحدة مبنيا على أنه تعالى فاعل بالاختيار كما ظنه الإمام الرازي قدس‌سره انتهى ، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ، وربما يورد عليه بعض مناقشات تندفع بالتأمل الصادق ، وما أشرنا إليه من انفهام قضية شرطية من الآية ظاهر جدا على ما ذهب إليه الفراء فقد قال : إن إذا حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة نحو (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) فكأنه قيل : لو كان معه آلهة كما تزعمون لذهب كل إلخ.

وقال أبو حيان : إذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم يكون (لَذَهَبَ) جوابا له ، والتقدير والله إذا أي إن كان معه من إله لذهب وهو في معنى ليذهبن كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) [الروم : ٥١] أي ليظلن لأن إذا تقتضي الاستقبال وهو كما ترى ، وقد يقال : إن إذا هذه ليست الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ والأصل إذا كان معه من إله لذهب إلخ ، والتعبير بإذا من قبيل مجاراة الخصم ، وقيل : (كُلُّ إِلهٍ) لما أن النفي عام يفيد استغراق الجنس و (مَا) في (بِما خَلَقَ) موصولة حذف عائدها كما أشرنا إليه.

وجوز أن تكون مصدرية ويحتاج إلى نوع تكلف لا يخفى. ولم يستدل على انتفاء اتخاذ الولد إما لغاية ظهور فساده أو للاكتفاء بالدليل الذي أقيم على انتفاء أن يكون معه سبحانه إله بناء على ما قيل إن ابن الإله يلزم أن يكون

٢٥٩

إلها إذ الولد يكون من جنس الوالد وجوهره وفيه بحث (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) مبالغة في تنزيهه تعالى عن الولد والشريك ، وما موصولة وجوز أن تكون مصدرية. وقرئ «تصفون» بتاء الخطاب و (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي كل غيب وشهادة ، وجر (عالِمِ) على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له لأنه أريد به الثبوت والاستمرار فيتعرف بالإضافة.

وقرأ جماعة من السبعة ، وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم ، والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية ، وأيا ما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك ، وفي الكشف أن في قوله سبحانه : (عالِمِ) إلخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور ، ثم علمه به يكون انفعاليا تابعا لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال ـ أعني العلم ـ مفتقرا وهو يؤذن بالنقصان والإمكان (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تفريع على كونه تعالى عالما بذلك فهو كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل.

وقال ابن عطية : الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت ، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى إلخ على أنه إخبار مستأنف (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي) أي إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد (ما يُوعَدُونَ) أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخروي فلا يناسب المقام (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب ، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب ، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع ، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد ، وفي أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به. وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء.

وقيل أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك هضما لنفسه وإظهارا لكمال العبودية ، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وروي عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن له في أمته (١) نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء.

وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني «ترئني» بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف.

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) من العذاب (لَقادِرُونَ) ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة ، قال شيخ الإسلام : ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحكمة الداعية إليه.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها (السَّيِّئَةَ) بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت ، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة ، ودونه أن يصفح عن إساءته

__________________

(١) أي أمة الدعوة ا ه منه.

٢٦٠