روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

فأعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه. ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه ، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية (وَنُودُوا) أي نادتهم الملائكة ، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله ، والآثار تؤيد الأول.

(أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي أي تلكم على أن (أَنْ) مفسرة لما في النداء من معنى القول ، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم ، وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا ، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك ، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها ، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد ، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج.

والظاهر أن (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) مبتدأ وخبر وقوله سبحانه : (أُورِثْتُمُوها) حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون (الْجَنَّةُ) نعتا لتلكم أو بدلا و (أُورِثْتُمُوها) الخبر ، ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من ـ كم ـ كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر ؛ والتزم بعضهم في توجيه البعد أن (تِلْكُمُ) خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه.

والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له ، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من الأعمال الصالحة ، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له ، والباء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما في بعض الكتب : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر «لن ينجو أحد منكم بعمله» للسبب التام فلا تعارض ، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم ، وقيل : تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين ، فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم ، وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز.

وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية ، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل ، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلو لا فضله لم يكن ذلك ، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانه هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح.

٣٦١

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر ، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع ، والمعنى ينادي ولا بد كل فريق من أهل الجنة (أَصْحابَ النَّارِ) أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار والاستخبار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) على ألسنة رسله عليهم‌السلام من النعيم والكرامة (حَقًّا) حيث نلنا ذلك (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب (حَقًّا) وحذف المفعول تخفيفا وإيجازا واستغناء بالأول ، وقيل : لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث ، والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم.

وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا ، فالوجه الحمل على ما تقدم ، ونصب (حَقًّا) في الموضعين على الحالية ، وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم ، والتعبير بالوعد قيل : للمشاكلة ، وقيل : للتهكم. ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف ـ نا ـ وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم. وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وأن بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى.

(قالُوا) في جواب أصحاب الجنة (نَعَمْ) قد وجدنا ذلك حقا. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل ، ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به وإثبات أهل اللغة له بالنقل الصحيح.

نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا : نعم فقال عمر : أما النعم فالإبل قولوا :نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه‌السلام ، وقيل : مالك خازن النار. وقيل : ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك. ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس (بَيْنَهُمْ) أي الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل ، ولا يراد أن الظاهر أن يقال : بينهما لأنه غير متعين (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) بأن المخففة أو المفسرة ، والمراد الإعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن.

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب : وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه ، فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الإعراض لازم لكل ظالم ، وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر ، وفسر الإمام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير ، والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها أو يطلبون لها تأويلا وإمالة إلى الباطل ، فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والإمالة ونصبه قيل : على الحالية. وقيل : على المفعولية. وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقرى واشتمل الصماء ، وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر ، وقال الراغب : العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه. والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش ، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.

٣٦٢

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أي غير معترفين بالقيامة وما فيها ، والجار متعلق بما بعده ، والتقديم لرعاية الفواصل ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي بين الفريقين كقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الحديد : ١٣] أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وإن لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا.

(وَعَلَى الْأَعْرافِ) أي أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما أجمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل : العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه. وقيل : ذاك جبل أحد.

فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحد يحبنا ونحبه ـ و ـ أنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة». وقيل : هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل ، وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال : المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار (رِجالٌ) والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربهم فقال لهم : قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم. أخرجه أبو الشيخ ، والبيهقي ، وغيرهما عن حذيفة ، وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف : ما تنتظرون؟ قالوا : ننتظر أمرك فيقال : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي». وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم.

وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وقيل : إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهو من كل أمة حكاه الزهري ، وأخرج البيهقي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وغيرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال : «هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله». وقيل : هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر.

وقال الحسن البصري : إنهم قوم كان فيهم عجب. وقال مسلم بن يسار : هم قوم كان عليهم دين ، وقيل : هم أهل الفترة ، وقيل : أولاد المشركين ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا ، وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة.

وعن أبي مسلم أنهم ملائكة ويرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. وقيل وقيل وأرجح الأقوال ـ كما قال القرطبي ـ الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله.

ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرغ هي عليه لا تليق بغيرهم (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض

٣٦٣

الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار. ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى ، ويقال : سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء. وقال الشاعر :

له سيمياء ما تشق على البصر

ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة. وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة. ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة (وَنادَوْا) أي رجال الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) حين رأوهم وعرفوهم (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره (لَمْ يَدْخُلُوها) حال من فاعل (نادَوْا) أو من مفعوله.

وقوله سبحانه : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) حال من فاعل (يَدْخُلُوها) أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم.

وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) [الشعراء : ٨٢]. وفي الكشاف أن جملة (لَمْ يَدْخُلُوها) إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ). وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات همزته وهمزة «أصحاب» وحذف الأولى وإثبات الثانية. وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار ـ كما قال غير واحد ـ بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه. فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء (قالُوا) متعوذين بالله سبحانه من سوء ما رأوا من حالهم (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي إليه من الظلم. وفي الآية ـ على ما قيل ـ إشارة إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء. وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين. وقرأ الأعمش «وإذا قلبت أبصارهم». وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير. وقيل : لم يكتف بالإضمار للفرق بين المراد منهم هنا. والمراد منهم فيما تقدم فإن المنادى هناك الكل وهنا البعض. وفي إطلاق أصحاب الأعراف على أولئك الرجال بناء على أن مآلهم إلى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض (رِجالاً) من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى. وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده ـ ويفهم من كلام

٣٦٤

بعضهم ، وفيه بعد ، أنه متعلق بنادى. والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات.

(قالُوا) بيان لنادى أو بدل منه (ما أَغْنى عَنْكُمْ) استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه (جَمْعُكُمْ) أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب مما بعده.

وقرئ «تستكثرون» من الكثرة. و (ما) على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال.

ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك. والمراد بها حينئذ الأصنام. ومعنى استكبارهم إياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا : ما أغنى وقالوا : أهؤلاء ، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان ، وصهيب ، وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبئ عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤].

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) من كلام أصحاب الأعراف أيضا أي فالتفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.

وقيل : هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الأعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة.

وقال غير واحد : إن قوله سبحانه : (أَهؤُلاءِ) إلخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف ، والمشار إليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول ، وقيل : المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار ، و (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول : ادخلوا الجنة ، ولا يخفى بعده ، وقيل : لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة اليوم مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم وجه الخطاب إليهم فقيل : ادخلوا الجنة إلخ ؛ وقرئ «ادخلوا». و «دخلوا» بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم ، وعليها فلا بد أن يكون (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) إلخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف إلخ.

وقرئ أيضا «ادخلوا» بأمر المزيد للملائكة. والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار : (أَنْ أَفِيضُوا) أي صبوا (عَلَيْنا) شيئا (مِنَ الْماءِ) نستعين به على ما نحن فيه ، وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الأطعمة كما روي عن السدي ، وابن زيد ، ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه

٣٦٥

من العذاب لا يمنعهم عن طلب أكل وشرب. وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه ـ فيما يروي ـ على هارون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك.

واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض (قالُوا) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فما ذا قالوا؟ فقيل قالوا : في جوابهم : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) أي منع كلا منهما أو منعهما منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا ، ولا يحمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به (لَهْواً وَلَعِباً) فلم يتدينوا به أو فحرموا ما شاءوا واستحلوا ما شاءوا ، واللهو ـ كما قيل ـ صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه ، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب ، وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل ، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة أو مجازا مرسلا ، وعن مجاهد أنه قال : المعنى نؤخرهم في النار ، وعليه ، فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى (فَالْيَوْمَ) فصيحة ، وقوله عزّ وعلا.

(كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) قيل : في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي أن ينسى. وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم إخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه.

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى ، وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إذ يمنع منه قوله تعالى : (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) لأنه عطف على ما نسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله.

وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر ، ومن ادعاه قال : المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا. وقال القطب : الجحود في معنى النسيان ، وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمهما على الكافرين فقط. وقال بعضهم : إنه ذلك لا غير ، وعليه فيجوز أن يكون (الَّذِينَ) مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره ، والفاء فيه مثلها في قولك : الذي يأتيني فله درهم كما قيل.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) بينا معانيه من العقائد ، والأحكام ، والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة ، وقيل : لهم وللمؤمنين ، والمراد بالكتاب الجنس ، وقيل : للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين. والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم. وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الأنواع بقوله :

حلال حرام محكم متشابه

بشير نذير قصة عظة مثل

والمراد منع الخلو كما لا يخفى (عَلى عِلْمٍ) منا بوجه تفصيله وهو في موضع الحال من فاعل (فَصَّلْناهُ) وتنكيره للتعظيم أي عالمين على أكمل وجه بذلك حتى جاء حكيما متقنا ، وفي هذا ـ كما قيل ـ دليل على أنه سبحانه

٣٦٦

يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال ، ويجوز أن يكون موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير. وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بالضاد المعجمة ، وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك ، وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر ؛ وقيل : إن (عَلى) للتعليل كما في قوله سبحانه : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] وهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتماله على علم يشتمل عليه غيره منها ، وقيل : إن (عَلى) في القراءتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول (جِئْناهُمْ) أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذوي العلم القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل.

(هُدىً وَرَحْمَةً) حال من مفعول (فَصَّلْناهُ) وجوز أن يكون مفعولا لأجله وأن يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف ، والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور. وقرئ بالجر على البدلية من (عِلْمٍ) وبالرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئا (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد ، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة ، وحينئذ فلا يقال : كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟.

وقيل : إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل ـ بنو فلان قتلوا زيدا (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة ، وقيل : هو ويوم بدر (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إتيان تأويله (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق ، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه (أَوْ نُرَدُّ) عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام ، و (مِنْ) مزيدة في المبتدأ.

وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل : هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا ، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول. ابتداء : هل يضرب زيد ، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري ، وأراد ـ كما في الكشف ـ لفظا لأن الظرف مقدر بجملة ، وهل مما له اختصاص بالفعل ، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظا. وقرأ ابن أبي إسحاق (أَوْ نُرَدُّ) بالنصب عطفا على (فَيَشْفَعُوا لَنا) المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن (أَوْ) بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهارا لمعنى السببية ، قال القاضي : فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة. والرد إلى الدنيا ، وعلى النصب المسئول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت (أَوْ) عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد ، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد (فَنَعْمَلَ) بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على (نُرَدُّ) مسبب عنه على قراءة ابن أبي إسحاق.

٣٦٧

وقرأ الحسن بنصب «نردّ» ورفع «نعمل» أي فنحن نعمل (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي في الدنيا من الشرك والمعصية (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي (وَضَلَّ عَنْهُمْ) غاب وفقد (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة ، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا.

ومن باب الإشارة في الآيات : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الآدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف آدم عليه‌السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحبة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال : إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه‌السلام كما خمر طينته بيده لها :

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها

وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع ، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل (قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أو همهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذات ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورئاسة على القوى بغير زوال إن قرئ «ملكين» بكسر اللام.

(فَدَلَّاهُما) فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها (بِغُرُورٍ) بما غرهما من كأس القسم الترعة من حميا ذكر الحبيب (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) والقليل منهما بالنسبة إليهما كثير (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي يكتمان هاتيك السوءات والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما) بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات (عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها عليها (وَتَرْحَمْنا) بإفاضة المعارف الحقيقية (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي (قالَ اهْبِطُوا) إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية.

٣٦٨

وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) وهو لباس الشريعة (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره (وَرِيشاً) زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات (وَلِباسُ التَّقْوى) أي صفة الورع والحذر من صفات النفس (ذلِكَ خَيْرٌ) من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال : لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوأة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوأة التعلق بالسوي. ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سورة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع بالبقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوأة هوية ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل : وهذا إشارة إلى الحقيقة ، وربما يقال : اللباس المواري للسوءات إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوي وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون (١) عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) الفطري النوري (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل وهو الصراط المستقيم (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي مقام سجود أو وقته ، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوء ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور ، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعبير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة.

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه (كَما بَدَأَكُمْ) أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم (تَعُودُونَ) إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) كما ثبت ذلك في علمه (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ) من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) للمناسبة التامة بين الفريقين (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) لقوة سلطان الوهم (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة الاستقامة ولكل مقام مقال (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم.

__________________

(١) قوله لعلكم تذكرون كذا بخطه والتلاوة لعلهم يذكرون اه.

٣٦٩

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي منع عنها وقال : لا يمكن التزين بها (وَ (١) الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) كعلوم الإخلاص. ومقام التوكل ، والرضا ، والتمكين (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) رذائل القوة البهيمة (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) رذائل القوة السبعية (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) ينتهون عنده إلى مبدئهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لأن وقوع ما يخالف العلم محال (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم ، وقيل : هي العقول ، وقال النيسابوري : التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم ، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته (فَمَنِ اتَّقى) في الفناء (وَأَصْلَحَ) بالاستقامة عند البقاء (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لوصولهم إلى مقام الولاية (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) بالاتصاف بالرذائل (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) نار الحرمان و (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لسوء ما طبعوا عليه (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن قال : أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر.

وقيل : الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة علينا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) أي جمل أنفسهم المستكبرة (فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق ، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا ، وقد يقال : الخياط إشارة إلى خياط الشريعة ، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ) الحرمان (مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي إن الحرمان أحاط بهم ، وقيل : لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم. (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) المرحومون (أَصْحابَ النَّارِ) المحرمون (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد (حَقًّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) وهو مؤذن العزة والعظمة (بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الموصلة إليه سبحانه ، وقيل : يصدون القلب والروح عن ذلك (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق ، وقيل : يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى (كافِرُونَ) لمزيد احتجابهم بما هم فيه (وَبَيْنَهُما) أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه (وَعَلَى الْأَعْرافِ) أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب (رِجالٌ) وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته. قيل : وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عزوجل تصرف الرجل بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) لما أعطوا من نور الفراسة (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي جنة ثواب الأعمال (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار ، وقيل : إن سلامهم على أهل الجنة

٣٧٠

بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم (لَمْ يَدْخُلُوها) أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في كل وقت بما هو أعلى وأغلى ، وقيل : هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) ليعتبروا (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) من رؤساء أهل النار ، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه‌السلام. (أَهؤُلاءِ) إشارة إلى أهل الجنة (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي الحياة التي أنتم فيها (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم (قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) في الأزل (عَلَى الْكافِرِينَ) لسوء استعدادهم ، وقيل : إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا (فَصَّلْناهُ) أي أظهرنا منه ما أظهرنا (عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي ما يؤول إليه عاقبة أمره ، وقيل : الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه «سيجزيهم وصفهم» وكما قال سبحانه : «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» انتهى.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ

٣٧١

مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)(٧٢)

ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة ، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام (إِنَّ رَبَّكُمُ) أي خالقكم ومالككم (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) السبع (وَالْأَرْضَ) بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة على ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [الأنفال : ١٦] أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ ، نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات ، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي ، وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا ـ وهو قول عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، والضحاك ، ومجاهد ، واختاره ابن جرير الطبري ـ أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق أخذا له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمي تلك الأيام بأبوجاد وهواز وحطى وكلمون وسعفص وقريشات. وقال محمد بن إسحاق وغيره : إن ابتداء الخلق في يوم السبت ، وسمي سبتا لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قال ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل ، واستدل لهذا القول بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال : «أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وفي آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين

٣٧٢

العصر إلى الليل» ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وإن رواه مسلم وإما مؤول ، وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق فافهم ، وإلى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا : كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم ، وفي خلقه سبحانه الأشياء مدرجا على ما روي عن ابن جبير للخلق التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث «التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان» وقال غير واحد : إن في خلقها مدرجا مع قدرته سبحانه على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار. واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون الفاعل موجبا ويكون وجود المعلول مشروطا بشرائط توجد وقتا فوقتا ، وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السماوات والأرض وليس ذلك بالمحقق.

وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على إبداعها دفعه وبيانه أن الفاعل إذا كان مختارا ـ كما يقوله أهل الحق ـ يتوقف وجود المعلول على تعلق الإرادة به فهو جزء العلة التامة حينئذ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الإرادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول ، وأما إذا كان الفاعل موجبا مقتضيا لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فإن كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه وإلا لزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذ قدمه ، والأجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فإنه ما لم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم ، ولهذا أثبتوا برزخا بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمبادئ القديمة ؛ ففي صورة كون الفاعل موجبا مشروطا وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الإبداع دفعه. فإمكان وجود هذه الأشياء المنبئ عن عدم التوقف على شيء آخر أصلا دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لا يجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت ، بأن الإيداع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والإرادة والقدرة بكل منها تفصيلا بخلاف الإيجاد الدفعي لها فإنه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع إجمالا ، واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فإنك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفا فحرفا وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر ، فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وإرادته وقدرته للأشياء تفصيلا قائلين : سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وأيضا قالوا : إنا إذا فعلنا شيئا تصورناه أولا ثم اعتقدنا له فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الإرادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للأعضاء نحو إيجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الأمور دخل في وجود ذلك الشيء ، ثم قالوا : فكما لا بد في صدور الأفعال الاختيارية فينا من هذه الأمور كذلك لا بد في صدور الأفعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لا يمتنع عليه سبحانه فأثبتوا له تعالى علما ، وإرادة ، وقدرة ، وفائدة لأفعاله ، واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختارا فالخلق التدريجي لما كان دالا على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتبارا للنظار.

وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسماوات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل : إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين.

وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه

٣٧٣

سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضا ، وقيل : إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة ، وقيل : إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه ، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال : فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله :

إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم

وأودت كما أودت إياد وحمير

وقوله :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعيينة بن الحارث بن شهاب

وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك ، وليس كما قال قوم. إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر ، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون. فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور ، وفسر الاستواء بالاستقرار. وروي ذلك عن الكلبي ، ومقاتل ، ورواه البيهقي في كتابه : الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها. وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل : وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله : غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول ومن قوله : والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة.

ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذه الرحضاء ثم قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] كما وصف نفسه ولا يقال له : كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين ، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال ، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجها الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضا بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف ، ولما انتهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي وتقوله أهل الغرور علي زعموا أني أسمع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي ومحمولا علي إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد عنه فصلا ولا بالمطبق له حملا أوجدني منه رحمة وفضلا ولو محقني لكان حقا منه وعدلا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اه.

٣٧٤

وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه واستوى بمعنى استولى. واحتجوا عليه بقوله:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وخص العرش بالأخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال : استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ونسب ذلك للأشعرية. وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال : إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي. وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش ، ويبعده تعدى الاستواء بعلى ، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض وهو كما ترى. وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم ، قيل : ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة [يونس : ٣] (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فإن (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) جرى مجرى التفسير لقوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول ، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويا عليه قبل خلق السماوات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال : شبع زيدا إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال : إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السماوات والأرض ، ومنهم من يجعل الإسناد مجازيا ويقدر فاعلا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه ، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء. ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة.

ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال ، وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن (اسْتَوى) بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه. وهو على هذا من صفات الذات وكلمة (ثُمَ) تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين.

وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون : استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن ، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لا بد أن يقول : هو استيلاء لائق به عزوجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا.

وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافا لبعضهم. ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يغطي سبحانه النهار بالليل ، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطي وجودا وذلك لا يتصور هنا قالوا : المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له ؛ وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس لملابسة. وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار.

٣٧٥

ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا. وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا ، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ «يغشى الليل النهار» بفتح الياء ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما.

وبأن قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] يعلم منه ـ على ما قال المرزوقي ـ أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولي ، وبأن قوله سبحانه : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر ، وقد قالوا : إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم :

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى

نطير غرابا ذا قوادم جون

ولبعض المتأخرين من أبيات :

وكأن الشرق باب للدجى

ماله خوف هجوم الصبح فتح

وحديث أن التغشية أنسب بالليل قيل. مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه ، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١ ، لقمان : ٢٩ ، فاطر : ١٣ ، الحديد : ٦] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله ـ على ما قيل ، وقال بعض المحققين : إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية. وجملة (يُغْشِي) ـ على ما قاله ابن جني ـ على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى) والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه ، وقوله جل وعلا : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) بدل من (يُغْشِي) إلخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من (اللَّيْلَ) أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا ، و (حَثِيثاً) حال من الضمير في (يَطْلُبُهُ) وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من (النَّهارَ) على تقدير قراءة حميد أيضا.

وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم : يجوز في (حَثِيثاً) أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا ، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا ، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار ـ على ما قال الإمام وغيره ـ إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوة بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسماوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى

٣٧٦

وكيف شاء ، وقال الشيخ الأكبر قدس‌سره. إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون ، وفسر ـ فيما نقل عنه ـ قوله سبحانه : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بيجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال : ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات ، وإن صح هذا فما أصح قولهم : الليلة حبلى وما ألطفه ، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن وثبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا ، ويقرب من هذا قوله :

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومر العشى

وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى ، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء ـ على ما نقل عن القفال ـ إنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات ، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا ، وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد هو الليل ، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال : والنكتة في ذلك أن تسخير الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهاهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيدا لقوله سبحانه : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل ، وللجمع بين القراءتين أيضا اه فتدبر ولا تغفل.

وقرئ «يغشّى» بالتشديد للدلالة على التكرار (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيه والاستعارة ، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته. ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال : إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصص إلى حيث شاء. ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكا وفهما لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقا ، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكا لغير ما ذكر ، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات. وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكانا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى ، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على أنحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعا لجواز أن يكون نصفه مضيئا من ذاته ونصفه مظلما ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرا ثم يميل نصفه المظلم شيئا فشيئا إلى أن يؤول إلى المحاق. وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلا. وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر. والنصب بالعطف على (السَّماواتِ) والحالية كما أشرنا إليه ، وجوز تقدير جعل وجعل (الشَّمْسَ) مفعولا أولا.

٣٧٧

(مُسَخَّراتٍ) مفعولا ثانيا (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كالتذييل للكلام السابق أي إنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السماوات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه : (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف.

وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضا ، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال : إن الله تعالى فرّق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة من خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك ، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه في القاموس. وقال الإمام : إن البركة لها تفسيران : أحدهما البقاء والثبات ، والثاني كثرة الآثار الفاضلة. فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى ، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا. واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا ، وقال البيضاوي : المعنى تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية ، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عزّ من قائل : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) الذي عرفتم شئونه الجليلة والمراد من الدعاء ـ كما قال غير واحد ـ السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى غير ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات.

وقيل : المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه (ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر. أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا.

وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى (تَضَرُّعاً) أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل ، وجوز نصبه على المصدرية. وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان ، وقال الزجاج : التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا ، وقيل : التضرع مقابل الخفية. واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية (وَخُفْيَةً) أي سرا.

أخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن الحسن قال : لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] وفي رواية عنه أنه قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقوم يجهرون : «أيها

٣٧٨

الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء.

ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي الانتصاف حسبك في تعين الاسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار بصحبه ، وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد.

وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم. وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به ، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم‌السلام والصعود إلى السماء. وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتبني ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). وفصل آخرون فقالوا : الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه ، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي ، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك ، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة. وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأمون عندهم.

وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال : لا بأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول. والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيها المعتدون في الدعاء دخولا أوليا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشرّ كالخزي واللعن. وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتي به عدم الكفر. وذكروا للدعاء آدابا كثيرة ، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه ، وتحري ساعات الإجابة ، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي. ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن ، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) نهي عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس ، والأموال ، والأنساب ، والعقول ،

٣٧٩

والأديان (بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الإجابة وطمع في إجابته تفضلا منه ، وقيل : خوفا من عقابه وطمعا في جزيل ثوابه.

وقال ابن جريج : المعنى خوف العدل وطمع الفضل. وعن عطاء خوفا من الميزان وطمعا في الجنان. وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر ، وقيل : توقع مكروه يحصل فيما بعد ، والطمع توقع محبوب يحصل به ، ونصبهما على الحالية كما أشير إليه.

وجوز أن يكون على المفعولية لأجله. قيل : ولما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره وقيده أولا بالأوصاف الظاهرة وآخرا بالأوصاف الباطنة ، وقيل : الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته ، وقيل : لا تكرار فما تقدم أمر بالدعاء بمعنى السؤال وهذا أمر بالدعاء بمعنى العبادة ، والمعنى اعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبية وهو كما ترى ، ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع ، والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ، وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أعمالهم ، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع ، وقد كثر الكلام في توجيه تذكير (قَرِيبٌ) مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث ، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا ما لها وما عليها. الأول أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم ، وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف ، ومعنى الآية عندهم نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة ، والثاني أن ذلك على حذف مضاف أي إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر ، ونظير ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشيرا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام» فإن الإخبار بالمفرد لأن التقدير أن استعمال هذين. وقول حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفق بالرحيق السلسل

فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال : يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده. والثالث أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر :

قامت تبكيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة

قد ذل من ليس له ناصر

أي شخصا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم : امرأة حائض أي شخص ذو حيض. وقول الشاعر أيضا :

فلو أنك في يوم الرخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزع كلام الله تعالى عنه ، على أنه لا فصاحة في قولك : رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام

٣٨٠