روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية. ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد :

أعاذل إن يصبح صدى بقفرة

بعيدة نأني زائري وقريبي

وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في «ينهون وينأون» من التجنيس البديع. وقرئ «وينون» عنه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) أي وما يهلكون بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال. وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق. على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل كانوا يبغون الغوائل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو نظام عقد لآلئ الآيات القرآنية.

وجوز أن يكون الإهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم. ونفي الشعور ـ على ما في البحر ـ أبلغ من نفي العلم كأنه قيل. وما يدركون ذلك أصلا (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبا في نفسه. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من له أهلية ذلك قصدا إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص بها راء دون راء. و (لَوْ) شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل. ونظير ذلك قول امرئ القيس :

وجدك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

وقولهم لو ذات سوار لطمتني. و (تَرى) بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه. والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال : أوقفته على كذا إذا فهمته وعرفته. واختاره الزجاج أي ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق.

وقيل : إن لو بمعنى إن وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى. وقرئ (وُقِفُوا) بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالبا الوقوف. ويستعمل وقف متعديا أيضا ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة.

وقيل : إنه بطريق القياس (فَقالُوا) لعظم أمر ما تحققوه (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي إلى الدنيا. و (يا) للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول : أساطير الأولين. وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات ، وقال شيخ الإسلام : يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها. ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون. ونصب الفعلين ـ على ما قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج ـ بإضمار أن على جواب التمني. والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ورده أبو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن

١٢١

الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال. وشبهة من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط ، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن إسحاق «فلا نكذب» ، واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل : ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، والكسائي برفع الفعلين ، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه : دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تركتني. ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله :

اليوم يومان مذ غيبت عن نظري

نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر

وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة ، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على إنشاء. ومن النحاة من جوزه مطلقا ، ونقله أبو حيان عن سيبويه ، وجوز أن يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على (نُرَدُّ) أو حال من الضمير فيه ، فالمعنى ـ كما قال الشهاب ـ على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودا بالذات هنا ، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفا ، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد.

وقرئ شاذا بعكس هذه القراءة (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشئ عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا ، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلا فكأنه قيل : بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه.

وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عزّ شأنه : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) [الرحمن : ٤٣] وقوله عزّ من قائل : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٤] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم : «ولا نكذب بآيات ربنا» مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسا لقوة الدليل ، وقيل : المراد بما كانا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم ، وقيل : المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وقيل : المراد به أمر البعث والنشور ، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور ، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج.

١٢٢

وقيل : الآية في المنافقين ، والضمير المرفوع لهم ، والمجرور للمؤمنين ، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا ، وقيل : هي في أهل الكتاب مطلقا أو علمائهم ، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام. وتعقب كل ذلك بأنه بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها ، وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف ، ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله ، ونقل عن المبرد أن الكلام على حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضا فتدبر.

(وَلَوْ رُدُّوا) من موقفهم ذلك إلى الدنيا (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ولا يخفى حسنه ، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه ، وقيل : إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا ، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والإصرار وكون هذا جوابا لما مر من تمنيهم. وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذ كخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضا ما يصدهم.

وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد ، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم ، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب. وليس الكذب على الاحتمالين متوجها إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب. وقال الربعي : لا بأس بتوجه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه. واحتج على ذلك بقوله :

منى إن تكن حقا أحسن المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب ، ولا يخفى ما فيه مع أنه لو سلّم فهو مجاز أيضا. وقيل: الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب. واعترض بأن الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسألة ، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الإنشاء ، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذكره الراغب (وَقالُوا) عطف على (لَعادُوا) كما عليه الجمهور. واعترضه ابن الكمال بأن حق (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حينئذ أن يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه. وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث. وجوز أن يكون عطفا على (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أو على خبر إن أو على (نُهُوا) والعائد

١٢٣

محذوف أي قالوه ، وأن يكون استئنافا بذكر ما قالوا في الدنيا (إِنْ هِيَ) أي ما هي (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي :

هو الجد حتى تفضل العين أختها

وحتى يكون اليوم لليوم سيدا

وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مواضع ، منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرا له كما هنا. وجعله بعضهم ضمير الشأن. ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة. وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفردا إما مطلقا أو بشرط كون المفرد عاملا عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناء على أنه حينئذ يسد مسد الجملة. وقيل ـ وفيه بعد ـ : يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في الذهن وهو الحياة. والمعنى أن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها. وهو المراد بقولهم: الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظاهر لا سيما الأخير.

(وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلا (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة ، وقيل : الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضا وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه ، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم ، وقيل : هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل : ما عرفناك حق معرفتك ، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه.

(قالَ) استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فما ذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك؟ فقيل : قال : إلخ. وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلا (أَلَيْسَ هذا) أي البعث وما يتبعه (بِالْحَقِ) أي حقا لا باطلا كما زعمتم ، وقيل : الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء ، ولا دلالة في (فَذُوقُوا) عند أرباب الذوق على ذلك ، والهمزة للتقريع على التكذيب (قالُوا) استئناف كما سبق (بَلى) هو حق (وَرَبِّنا) أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال تيقنهم بحقيقته وإيذانا بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعا بأن ينفعهم وهيهات (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ) الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به ، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى ، ولعل هذا التوبيخ والتقريع ـ كما قيل ـ إنما يقع بعد ما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا إلا العذاب ، ويحتمل العكس وأمر سهل (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) هم الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله تعالى والاستمرار عليه ، والمراد به لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم ، وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى ، وصرح آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) أي الوقت المخصوص وهو يوم القيامة ، وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت المعلوم كالنجم للثريا ، وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه. وفسرها بعضهم هنا بوقت الموت ، والغاية المذكورة للتكذيب.

وجوز أن تكون غاية للخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذ على حد قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي

١٢٤

إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ج ٧٨] أي أنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فإذا جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل : خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين (بَغْتَةً) أي فجأة وبغتة بالتحريك مثلها ، وبغتة كمنعه فجأة أي هجم عليه من غير شعور ، وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل (جاءَتْهُمُ) أي مباغته أو من مفعوله أي مبغوتين ، وجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقرى أو لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره. وقوله سبحانه وتعالى : (قالُوا) جواب إذا (يا حَسْرَتَنا) نداء للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل : يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك ، قيل : وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ، ولذا قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته» أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة ، وقال أبو البقاء : التقدير يا حسرة احضري هذا أوانك ، وهو نداء مجازي ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها ، ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى حسنه.

(عَلى ما فَرَّطْنا) أي على تفريطنا ، فما مصدرية فالتفريط التقصير فيما قدر على فعله ، وقال أبو عبيدة : معناه التضييع ، وقال ابن بحر : معناه السبق ومنه الفارط للسابق. ومعنى فرط خلا السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدت البعير أزلت جلده وسلبته (فِيها) أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن ، والمراد من التفريط في الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان والأعمال الصالحة. وقيل : الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي ولا يخفى بعده ، وقول الطبرسي ويدل عليه ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : «يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون (يا حَسْرَتَنا) إلخ لا يخلو عن نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال ، وعن محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفة لدلالة الخسران عليها وهو بعيد أيضا ، ومثل ذلك ما قيل : إن ما موصولة بمعنى التي ، والمراد بها الأعمال والضمير عائد إليها كأنه قيل يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها ، نعم مرجع الضمير على هذا مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فإنه غير مذكور فيه بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول الأول عند بعض فتدبر (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) في موضع الحال من فاعل (قالُوا) وهي حال مقارنة أو مقدرة. والوزر في الأصل الثقل ويقال للذنب وهو المراد هنا أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وذكر الظهور لأن المعتاد الأغلب الحمل عليها كما في ـ كسبت أيديكم ـ فإن الكسب في الأكثر بالأيدي. وفي ذلك أيضا إشارة إلى مزيد ثقل المحمول ، وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظهر من باب الاستعارة التمثيلية ، والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب ، وقيل : حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك؟ قال كذلك كان عملك قبيحا قال : ما أنتن ريحك؟ قال : كذلك كان عملك منتنا قال : ما أدنس ثيابك؟ فيقول : إن عملك كان دنسا قال : من أنت؟ قال : أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار ، وأخرجا عن عمرو بن قيس قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن شيء صوره وأطيبه

١٢٥

ريحا فيقول له : هل تعرفني؟ فيقول : لا إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) [مريم : ٨٥] وإن كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا إلا أن الله تعالى قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيّئ طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ) الآية.

وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلا أيضا. ولا مانع من الحمل على الحقيقة وإجراء الكلام على ظاهره ، وقد قال كثير من أهل السنة بتجسيم الأعمال في تلك الدار وهو الذي يقتضيه ظاهر الوزن.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) تذييل مقرر لما قبله وتكملة له ، و (ساءَ) تحتمل ـ كما قيل ـ هنا ثلاثة أوجه ، أحدها أن تكون المتعدية المتصرفة وزنها فعل بفتح العين ، والمعنى ألا ساءهم ما يزرون ؛ وما موصولة أو مصدرية أو نكره موصوفة فاعل لها والكلام خبر ، وثانيها أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين وأشربت معنى التعجب ، والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم. وثالثها أنها حولت أيضا للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى والأحكام.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون بين جل شأنه حال تينك الحياتين في أنفسهما وجعله بعضهم جوابا لقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وفيه بعد ، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات ، وبهذا التقدير خرج ـ كما قال غير واحد ـ ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة إنما كان لضرورة المعاش ، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف ، وجعلت الدنيا نفسها لعبا ولهوا مبالغة كما في قوله :

وإنما هي إقبال وإدبار

صح ، واللهو واللعب ـ على ما في درة التنزيل ـ يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراما أو لا ؛ وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك ، وإذا أطلق اللهو فهو ـ على ما قيل ـ اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله :

ألا زعمت بسياسة اليوم أنني

كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

وقال قتادة : اللهو في لغة اليمن المرأة ، وقيل : اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به ، وقيل : إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو ، وقيل : العاقل المشتغل بشيء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو ، وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقا للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدما على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي ، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها

١٢٦

ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه ، وأيام السرور فصار كما قيل :

وليلة إحدى الليالي الزهر

لم تك غير شفق وفجر

وينزل على هذا الوجوه في الفرق ، وتفصيله في الدرة قاله مولانا شهاب الدين فليفهم (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) التي هي محل الحياة الأخرى (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان ، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون ، وكان الظاهر أن يقال ـ كما قال الطيبي ـ وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلا أنه وضع (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب ، وقال في الكشف : إن في ذلك دليلا على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة.

وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون ، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم ، وقرأ ابن كثير وغيره «يعقلون» بالياء والضمير للكفار القائلين (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، وقيل : للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل. (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة ، وكلمة قد للتكثير وهو ـ كما قال الحلبي رادا به اعتراض أبي حيان ـ راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى ، وقال السفاقسي : قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناء على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي ، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

كأن أثوابه مجت بفرصاد

وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم. وكلام سيبويه حيث قال : وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصا في ذلك ؛ وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به. وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان.

وقول أبي حيان : إن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرا لم يكن قرنا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي.

وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم ، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا ويتناقض أول الكلام وآخره ، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل ، وقد يراد به في بعض المواضع ضده. وهو من

١٢٧

باب استعارة أحد الضدين للآخر ، والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى قومه وتكذيبهم ، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم.

ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى ، وضمير (إِنَّهُ) للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له ، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله ، وهو ما حكي عنهم من قولهم (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥ ، الأنفال : ٣١ ، المؤمنون : ٨٣ ، النمل : ٦٨] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة (إِنَّهُ) إلخ سادة مسد مفعولي يعلم.

وقرأ نافع «ليحزنك» من أحزن المنقول من حزن اللازم ، وقوله سبحانه : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] إيذانا بكمال القرب واضمحلال شئونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الله عزوجل. وفيه أيضا استعظام لجنايتهم منبئ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل : لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون ، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه ، وقيل : إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٥٤] فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

وقيل : إن أل في (الظَّالِمِينَ) إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم ، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد ، لا يخفى ما فيه ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاما لما قدموا عليه ، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفى ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه. والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب ، وقيل : إنه إنما يتعدى بنفسه والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرءوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين ، وقيل : إنها تعليل لقوله سبحانه : (قَدْ نَعْلَمُ) إلخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر : نعلم ما تفعل فكأنه قيل : لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم ، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر ، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل : والله إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة

١٢٨

والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فما ذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية. وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال : كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى الآية ، وقيل : المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي ، ونسب هذا إلى الكسائي ، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة. واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه ، وقال مولانا سنان : إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق ؛ وقال الطيبي : مرادهم أنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر ، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر ، وقيل : معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره ، وقيل : المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية ، وعلى هذا لا يكون ذكر (الظَّالِمِينَ) من وضع المظهر موضع المضمر ، وقيل : غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل.

وقرأ نافع ، والكسائي والأعمش عن أبي بكر «لا يكذبونك» من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه ، ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ، فقال الجمهور كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل ؛ وقيل : معنى أكذبته وجدته كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا ، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول : كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية إثر تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر ، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية ، وتنوين (رُسُلٌ) للتفخيم والتكثير ، ومن متعلقة بكذبت ؛ وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل ، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان ، وفيه منع ظاهر ، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) ما مصدرية وقوله : (وَأُوذُوا) عطف على (كُذِّبُوا) داخل في حكمه ؛ ومصدر كذب التكذيب ، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره ، وقول صاحب القاموس : ولا تقل إيذاء خطأ ، والذي غره ترك الجوهري وغيره له ، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها ، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك ، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء ، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبا ، وفيه تأكيد للتسلية ، وجوز العطف على (كُذِّبَتْ) أو على (فَصَبَرُوا) ، وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافا ثم رجح الأول.

وقوله سبحانه : (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) غاية للصبر ، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين ، وجوز أن يكون غاية

١٢٩

للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف ، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.

(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم ، والمراد بكلماته تعالى ـ كما قال الكلبي ـ وقتادة ـ الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] وقوله عزّ شأنه : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧٢].

وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولا أوليا ، والالتفات إلى الاسم الجليل ـ كما قيل ـ للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال ، وظاهر الآية أن أحدا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عزوجل بمعنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية ، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم ، والنبأ كالقصص لفظا ومعنى.

وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم ، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن ، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفا في ذلك لسيبويه فاعل «جاء» ، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا منه ، وقيل : وإليه يشير كلام الرماني ـ أنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين ، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا ، وقال أبو حيان : الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه.

وقيل ـ وربما يشعر به كلام الكشاف ـ : أن من هي الفاعل ، والمراد بعض أنبائهم (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) أي شق وعظم وأتى بكان ـ على ما قيل ـ ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا لأن (كانَ) لقوة دلالته على المضي لا تقلبه إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال ، وهو مذهب المبرد ، والنحويون يؤولون ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه كبر (عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أي الكفار عن الإيمان بك وبما جئت به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وينبئ عنه فعلهم من النأي والنهي ، ولعل التعبير بالإعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كانت عنه لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل (كَبُرَ) ، وتقديم الجار والمجرور لما مر مرارا. والجملة خبر (كانَ) مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن. ولا حاجة إلى تقدير قد ، وقيل : اسم كان (إِعْراضُهُمْ) ، و (كَبُرَ) مع فاعله المستتر الراجع إلى الاسم خبر لها مقدم على اسمها ، والكلام استئناف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلا.

وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محضر من قريش فقالوا : يا محمد ائتنا بآية من عند الله تعالى كما كانت الأنبياء تفعل وإنا نصدقك فأبى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام لما أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحرص على إيمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعا في إيمانهم فنزلت (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي إن قدرت وتهيأ لك (أَنْ

١٣٠

تَبْتَغِيَ) أي تطلب (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) هو السرب فيها له مخلص إلى مكان كما في القاموس ، وأصل معناه جحر اليربوع ، ومنه النافقاء لأحد منافذه. ويقال لها النفقة كهمزة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى من القاصعاء ضربها برأسه فانتفق ومنه أخذ النفاق ، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة «نفقا» والكلام على التجريد في رأي ، وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالا من ضميره المستتر أي نفقا كائنا في الأرض أو تبتغي في الأرض أو تبتغي أنت حال كونك في الأرض (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) أي مرقاة فيها أخذا من السلامة. قال الزجاج : لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك. وهو كما قال الفراء : مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور : ٣٨] ثم قال : وأنشدت في تأنيثه بيتا أنسيته انتهى.

قال الغضائري : البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو :

لنا سلم في المجد لا يرتقونها

وليس لهم في سورة المجد سلم

وأنشدوا أيضا في تذكيره :

الشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

يريد أن يعربه فيعجمه

وفي (السَّماءِ) نظير ما في الجار قبله من الاحتمالات (فَتَأْتِيَهُمْ) أي منهما (بِآيَةٍ) مما اقترحوه من الآيات. والفاء في صدر هذه الشرطية جوابية وجواب الشرط فيه محذوف. ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر أو فافعل فعل أمر ؛ والجملة جواب للشرط الأول ، والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحا ليؤمنوا فإن استطعت كذا فتأتيهم بآية فافعل ، وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الإيماء إلى توبيخ القوم أو المعنى إن شق عليك إعراضهم فلو قدرت أن تأتي بالمحال أتيت به ، والمقصود بيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية ، وفيه إشعار ببعد إسلامهم عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر ، وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه.

وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية ، فالفاء في (فَتَأْتِيَهُمْ) حينئذ تفسيرية وتنوين «آية» للتفخيم ، والمعنى عليه فإن استطعت ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت.

ورده أبو حيان بأن هذا لا يظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي آية ، وأيضا فأي آية في دخول سرب في الأرض وإن صح أن يكون الرقي إلى السماء آية ، وما ذكرناه من أن إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان. ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : إن المراد فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب ، وأيد بما أخرجه الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخبرني عن قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) فقال رضي الله تعالى عنه سربا في الأرض فتذهب هربا وفيه بعد ، وخبر ابن الأزرق قد قيل فيه ما قيل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي لو شاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزال ، وقالت المعتزلة : المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك

١٣١

لخروجه عن الحكمة ، والحق ما عليه أهل السنة (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إذا عرفت أنه سبحانه لم يشأ هدايتهم وإيمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على إسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق شئونه تعالى ، وجوز أن يراد بالجاهلين ـ على ما نقل عن المعتزلة ـ المقترحون ، ويراد بالنهي منعه صلى الله تعالى عليه وسلّم من المساعدة على اقتراحهم ، وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق مناط النهي.

وقال الجبائي : المراد لا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم والأول أولى ، وفي خطابه سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح عليه‌السلام من قوله سبحانه له : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] إشارة إلى مزيد شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتداد حرصه عليه الصلاة والسلام فافهم هذا.

ومن باب الإشارة في الآيات : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل: وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي ناصرا ومعينا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) فهو الغنى المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) نفسه لربه عز شأنه. والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي : كن أول من أسلم فكنت ، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة ، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لي : لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء. (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة (الْخَبِيرُ) الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بإظهار المعجزات ، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بإثبات وجود غيره تعالى (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) فأظهر صفات نفسه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بإثبات الغير (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء ولهم وجود (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) لامتناع وجود شيء نشركه

١٣٢

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها (وَضَلَ) أي ضاع (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فلم يجدوه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) من حيث أنت (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) حسبما اقتضاه استعدادهم (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وهي ظلمات النفس الأمارة (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) وهو وقر الضلالة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وهي نار الحرمان (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) من تجليات صفاته (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي الموحدين (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لرسوخ ذلك فيهم (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكه فيهم (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) الآية قال بعض أهل التأويل : هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق. والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول لا يكون إلا كرها والثاني يكون طوعا ورغبة ، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الكهف : ٢٨] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت ، ومن وقف مع الصفات. وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران. وليس هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف. والمشرك موقوف أولا على الرب فيحجب بالرد والطرد (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤ ، آل عمران : ٧٧] ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) [الزمر : ٧٢] ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على النار متأخرا عن وقفه على الرب تعالى معلولا له كما قال تعالى : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٧٠] وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار. وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى. فتأمل فيه (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) وهي القيامة الصغرى أعني الموت. حكي عن بعض الكبار أنه قيل له : إن فلانا مات فجأة فقال : لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تصوير لحالهم (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول (إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي عالم الروحانيات (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) لمقتضى البشرية (الَّذِي يَقُولُونَ) ما يقولون (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الحقيقة (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ) التي تجلى بها (يَجْحَدُونَ) فهو سبحانه ينتقم منهم (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ) نصرنا فتأس بهم وانتظر الغاية (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

١٣٣

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(٥٥)

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لا يؤمنون. والاستجابة بمعنى الإجابة ، وكثيرا ما أجري استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك. ومنه قول الغنوي :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل : مستجيب. ومنهم من فرق بين استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول ، والمراد بالسماع الفرد الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلا سماع أي إنما يجيب دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ

١٣٤

الْمَوْتى) [الروم : ٥٢] (وَالْمَوْتى) أي الكفار كما قال الحسن ، ورواه عنه غير واحد (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) من قبورهم إلى المحشر ، وقيل : بعثهم هدايتهم إلى الإيمان وليس بشيء (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ، وفي إطلاق الموتى على الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما قيل :

لا يعجبن الجهول بزيه

فذاك ميت ثيابه كفن

وقيل : الموتى على حقيقته ، والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيق أولئك الكفار للإيمان باختصاصه سبحانه بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور ، وفيه إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقدر على هدايتهم لأنها كبعث الموتى. وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما يترتب على الإيمان من الآثار ، وفي إعراب (الْمَوْتى) وجهان أحدهما أنه مرفوع على الابتداء ، والثاني أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره أبو البقاء ، ويفهم من كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول ، والجملة بعده في موضع الحال والظاهر خلافه. وقرئ «يرجعون» على البناء للفاعل من رجع رجوعا. والمتواترة أوفى بحق المقام لانبائها عن كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار.

(وَقالُوا) أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم يعتدوا به (لَوْ لا) أي هلا (نُزِّلَ) أي أنزل (عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ملجئة للإيمان (قُلْ) يا محمد (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) من الآيات الملجئة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار أو استئصالا لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد الآية الملجئة.

وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجئ ولا يلزم من عدم الاعتداد بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا يلجئ لجاجا وعنادا ، ويكون الجواب بالملجئ حينئذ من أسلوب الحكيم أو يكون جوابا بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ. ومن لابتداء الغاية. والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بنزل ، وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لآية. وما يفيده التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم. والاقتصار في الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى للآية مع قدرته عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبئ عنه الاستدراك. وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع الإشعار بالعلية ، ومفعول (يَعْلَمُونَ) إما مطروح بالكلية على معنى أنهم ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا يعلمون شيئا. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا. وقرأ ابن كثير «ينزل» بالتخفيف ، والمعنى هنا ـ كما قيل ـ واحد لأنه لم ينظر إلى التدريج وعدمه.

وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق ـ كما قال الطبرسي. وغيره ـ لبيان كمال قدرته عزوجل وحسن تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه تعالى قادر على الإنزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم الباهرة ، وقيل : إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث والحشر والأول أنسب ، وزيدت (مِنْ) تنصيصا على الاستغراق. والدابة ما يدب من الحيوان ، وأصله من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابة ، ووصفت بذلك لزيادة التعميم

١٣٥

كأنه قيل : وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها ، وكذا الوصف في قوله سبحانه (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) لزيادة التعميم أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه ، وقيل : إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله :

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣].

واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة ، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة. وأورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل : ولا طائر في السماء لكان أخضر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى ، ورد ـ كما قال الشهاب ـ بأنه لو قيل : في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء ، ثم إن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعا كما لا يخفى ، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان ، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما ، والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه ، وقرأ ابن أبي عبلة (وَلا طائِرٍ) بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل : وما دابة ولا طائر (إِلَّا أُمَمٌ) أي طوائف متخالفة (أَمْثالُكُمْ) في أن أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية ، وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد ، وهو يقتضي جواز أن يقال : لا رجل قائمون ، والقياس ـ كما قيل ـ لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل. وصرح السيد السند بأن النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع ، ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها ، فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى : (إِلَّا أُمَمٌ) يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة ، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر ، وأما ما قيل : إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم «بأمثالكم» إذ الخطاب بكم لافراد نوع الإنسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع ، نعم قال السكاكي في المفتاح : إن ذكر (فِي الْأَرْضِ) مع دابة و (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما ، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالإنسان فكأنه قيل : ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم إلخ ، وهذا كما يقال : ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا ، ومراده أن لفظ (دَابَّةٍ) و (طائِرٍ) حامل لمعنى الجنس والواحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة من بالنظر إلى الجنسين ، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام ، وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والإحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى.

١٣٦

واعترض أيضا القول بالعموم بأنه كيف يصح مع وجوب خروج المشبه به عنه. وأجيب بأن القصد أولا إلى العام والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل : ما من واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم ، ولك أن تدعي دخول كل فرد من أفراد المخاطبين بالتزام أن له اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) التفريط التقصير ، وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا ، فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة للاستغراق ، ويبعد جعلها تبعيضية أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم ، والمراد من الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فإنه ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إما مفصلا وإما مجملا ، فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها.

وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك : فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له : قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] قالت : بلى قال : فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه» وقال الشافعي رحمه‌الله تعالى مرة بمكة : سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال : أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن. وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة» وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ، وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر الله تعالى به ، وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت رجله فجاءوا ليحملوه فقال : امهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم فحملوه فقيل له في ذلك فقال : راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة ، وهذا أمر لا تصله عقولنا. ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا أسماء سلاطين آل عثمان وأحوالهم ومدة سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان ، ولا بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب ، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بتخصيص الشيء بما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والتكاليف ، وقال أبو البقاء : إن شيئا هنا واقع موقع المصدر أي تفريطا ، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لأن (فَرَّطْنا) لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير واحد ، وجعلوا ما يفهم من القاموس من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث قال : فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر مما تفرد به في مقابلة من هو أطول باعا منه مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير إليه سابقا ، وعلى هذا لا يبقى ـ كما قال أبو البقاء ـ في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء ، والكلام حينئذ نظير قوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : ١٢٠] أي ضيرا. وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفيا على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع

١٣٧

أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر ، وأيا ما كان فالجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فإن من جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي ، وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند الله تعالى وهو مشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ ، والمراد بالاعتراض حينئذ الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل ، وعن أبي مسلم أن المراد منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلا هو بالغه ولا يخفى بعده.

وقرأ علقمة «ما فرطنا» بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى. وقال أبو العباس : معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك المرض أي أزاله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الضمير للأمم المذكورة في الكريم ، وصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم والتعبير عنها بالأمم ، وقيل : هو للأمم مطلقا وتكون صيغة الجمع للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه الشيخان.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها ، ومراده رضي الله تعالى عنه ـ على ما قيل ـ إن قوله سبحانه وتعالى (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث «من مات فقد قامت قيامته» فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر ، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة ، نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال ، هذا وفي رسالة المعاد لأبي علي قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ : إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) إلخ ، وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة ، وحينئذ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب.

ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد ، ومن الناس من جعلها دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد الإنسان ، وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين. وأورد الشعراني في الجواهر والدرر لذلك أدلة غير ما ذكر ، منها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام ناقته. قال عليه الصلاة والسلام : «دعوها فإنها مأمورة» ووجه الاستدلال بذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة ، وإذا ثبت أن للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق ، ومنها ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره. وأورد بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه إلا العالمون ؛ وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فإن ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة ، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة الحسن وهو من شأن ذوي النفوس. وأغرب من هذا دعوى الصوفية. ونقله الشعراني عن شيخه على الخواص قدس الله تعالى سره أن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى ومن حيث لا يشعر المحجوبون ثم قال : ويؤيده قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] حيث نكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم.

ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول : جميع ما في الأمم فينا حتى أن فيهم ابن عباس

١٣٨

مثلي. وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم أنبياء. وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن يكون خارجا عنهم من جنسهم. وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال : إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] ليس لنقص فيها وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وإن كانت منتقلة في شئونه بتنقل الشئون الإلهية لأنها لا تثبت على حال. ولذلك كان من وصفهم الله عزوجل من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله تعالى اه.

ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره ، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف ، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك. وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له.

والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر. وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة ، ويستندون في ذلك إلى الشهود. وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ولكن لا تفقهون تسبيحهم وبنحو ذلك من الآيات والأخبار.

والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي ، ونظير ذلك.

شكى إلى جملي طول السرى و

امتلأ الحوض وقال قطني

وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قالي كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك ، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع ، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا. وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه. وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده. وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات.

وقد أطالوا الكلام في هذا المقام ، وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله. وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه ، وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به. وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي ، والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولا أوليا ، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] إلخ أو الأعم من أولئك ، والكلام متعلق بقوله سبحانه (ما فَرَّطْنا) إلخ أو بقوله جل شأنه (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)

١٣٩

والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره (صُمٌّ وَبُكْمٌ) وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى. وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون. وقوله سبحانه : (فِي الظُّلُماتِ) أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع (عُمْيٌ) كما في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨ ، ١٧١] ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق ، واختير العطف فيما تقدم للتلازم ، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل : ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا ، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات ؛ وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل ، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق بقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول يشأ محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من مفعولا مقدما له لفساد المعنى ، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده ، وجوز بعضهم أن يكون (مَنْ) في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) عطف على ما تقدم ، والكلام فيه كالكلام فيه ، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد. والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال : معنى (يُضْلِلْهُ) يخذله ولم يلطف به و (يَجْعَلْهُ) إلخ بلطف به ، وقال غيره : المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى.

وكان الظاهر على ما قيل : أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض. ولهذا قيل في تفسير (يَجْعَلْهُ) إلخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد. وليس اسما لأنه لو كان كذلك لكان إما مجرورا ولا جار هنا. أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع. ولا مقتضي له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه ، الأول أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك : أرأيت زيدا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا.

والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى. وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت : أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية. والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول : أرأيتما كما وأ رأيتموكم وأ رأيتكن وهذا مذهب البصريين. والمفعولان في هذه الآية قيل : الأول منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) أي هو لها كما يدل

١٤٠