روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عزوجل وقد يفتح منها ما شاء لمن يشاء.

هذا وقد يقال : حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصورة مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا ، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال : إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا ، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ) أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها (وَالْبَحْرِ) أي بحر القلوب من لآلئ الحكم ومرجان العرفان. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب (إِلَّا يَعْلَمُها) في سائر أحوالها. (وَلا حَبَّةٍ) من بذر الجلال والجمال (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وهو عالم الطبائع والأشباح (وَلا رَطْبٍ) من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج (وَلا يابِسٍ) من الوساوس والخطرات التي تفزع منها النفس حين ترد عليها (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهو علمه سبحانه الجامع ، وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها ، ويمكن أن يقال : إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة ، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي ينيمكم وقيل : يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت.

وقيل : يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي كسبتم (بِالنَّهارِ) من الأعمال مطلقا ، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات.

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة ، وقيل الحسنة ، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي ، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي معين عنده (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) في عين الجمع المطلق (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠].

(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وهي للقوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) قيل : هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) في عين الجمع المطلق (مَوْلاهُمُ) أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به (الْحَقِ) وكل ما سواه باطل. وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى

١٨١

أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا ، ولا شك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ) وهي الغواشي النفسانية (وَالْبَحْرِ) وهي حجب صفات القلب (تَدْعُونَهُ) إلى كشفها (تَضَرُّعاً) في نفوسكم (وَخُفْيَةً) في أسراركم (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) الغواشي والحجب (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن يمن عليكم بالفناء (ثُمَّ أَنْتُمْ) بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك (تُشْرِكُونَ) به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف (لِكُلِّ نَبَإٍ) أي ما ينبأ عنه (مُسْتَقَرٌّ) أي محل وقوع واستقرار (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) حين يكشف عنكم حجب أبدانكم (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لأنهم محجوبون مشركون (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) وهم المتجردون عن صفاتهم (مِنْ حِسابِهِمْ) أي من حساب هؤلاء المحجوبين (مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى) أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن الخوض.

وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو إلخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم عن سماع الإنذار وتأثيره فيهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن كراهة (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي تحجب بكسبها بأن يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) وهو شدة الشوق إلى الكمال (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) أي أنعبد من ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) بالشرك (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) إلى التوحيد الحقيقي (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) من الوهم والتخيل (فِي الْأَرْضِ) أي أرض الطبيعة ومهامه النفس (حَيْرانَ) لا يدري أين يذهب (لَهُ أَصْحابٌ) من الفكر والقوى النظرية (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) الحقيقي يقولون (ائْتِنا) فإن الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) وهو طريق التوحيد (هُوَ الْهُدى) وغيره غيره (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمحو صفاتنا (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) الحقيقية وهو الحضور القلبي.

قال ابن عطاء : إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار (وَاتَّقُوهُ) أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالفناء فيه سبحانه (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أي سماوات الأرواح (وَالْأَرْضَ) أي أرض الجسم (بِالْحَقِ) أي قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ)

١٨٢

وهو وقت تعلق إرادته سبحانه القديمة بالظهور في التعينات (قَوْلُهُ الْحَقُ) لاقتضائه ما اقتضاه على أحسن نظام وليس في الإمكان أبدع مما كان (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وهو وقت إفاضة الأرواح على صور المكنونات التي هي ميتة بأنفسها بل لا وجود لها ولا حياة. (عالِمُ الْغَيْبِ) أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت (وَالشَّهادَةِ) أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أفاض على القوابل حسب القابليات (الْخَبِيرُ) بأحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٨٣)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) نصب ـ عند بعض المحققين ـ على أنه مفعول به لفعل مضمر خوطب به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم معطوف على (قُلْ أَنَدْعُوا) لا على (أَقِيمُوا) لفساد المعنى أي واذكر يا محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من شئونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه‌السلام الذي يدعون أنهم على ملته موبخا (لِأَبِيهِ آزَرَ) على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم. وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه‌السلام وكان من قرية من سواد الكوفة ، وهو بدل من «إبراهيم» أو عطف بيان عليه. وقال الزجاج : ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه‌السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ويروى بالخاء المعجمة. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارح.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأزر واسم أمه مثلى. وإلى كون آزر ليس اسما له وهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما. واختلف الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال : إن آزر لقب لأبيه عليه‌السلام. ومنهم من قال : اسم جده ومنهم من قال : اسم عمه والعم والجد يسميان أبا

١٨٣

مجازا. ومنهم من قال : هو اسم صنم. وروي ذلك عن ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من قال : هو وصف في لغتهم ومعناه المخطئ. وعن سلمان التيمي قال : بلغني أن معناه الأعوج. وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوارزمية. وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الاعلام الأعجمية. وقيل : الأولى أن يقال : إنه غلب عليه فالحق بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم. ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل. وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر.

وقرأ يعقوب «آزر» بالضم على النداء ، واستدل بذلك على العلمية بناء على أنه لا يحذف حرف النداء إلا من الإعلام وحذفه من الصفات شاذ أي ياء آزر (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) أي أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيراد صيغة الجنس باعتبار الوقوع وقرئ «أأزرا» بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة ومكسورة وهي إما أصلية أو مبدلة من الواو. ومن قرأ بذلك قرأ «تتخذ» بإسقاط الهمزة وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد آزرا على أنه اسم صنم ويكون (تَتَّخِذُ) إلخ بيانا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الإنكار أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أي الأجل القوة تتخذ أصناما آلهة. والكلام إنكار لتعززه بها على طريقة قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) [النساء : ١٣٩] وجوز أن يكون حالا أو مفعولا ثانيا لتتخذ.

وأعرب بعضهم (آزَرَ) على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو بمعنى الصنم أيضا أي أتعبد آزر. وجعل قوله سبحانه (أَتَتَّخِذُ) إلخ تفسيرا وتقريرا بمعنى أنه قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها وما لا يعمل لا يفسر عاملا كما تقرر عندهم. والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه‌السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام : «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات والمشركون نجس». وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه. والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا ، والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلة التتبع ، وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه‌السلام. وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا.

وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال : الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية. وفي الخبر «ردوا على أبي العباس» وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه‌السلام الحقيقي لم يكن كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم عليه‌السلام في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى إن كانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلك قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل فلما ألقوه قال الله تعالى : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩] فكانت فقال عمه من أجلي دفع عنه فأرسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته.

وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة ، ومجاهد ، والحسن ، وغيرهم أن إبراهيم عليه‌السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو الله فلم يستغفر له ثم هاجر بعد موته وواقعة النار إلى الشام ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها إسماعيل إلى مكة فنقلهما

١٨٤

ودعا هناك فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٣٧ ـ ٤١] فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرآن بالكفر هو عمه حيث صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه‌السلام هذا الاستغفار له أصلا ؛ فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالأب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت وأن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر ، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة.

ومن الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه‌السلام بأن هذه دالة على أنه عليه‌السلام شافهه بالغلظة والجفاء لقوله تعالى فيها : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) أي الذين يتبعونك في عباداتها (فِي ضَلالٍ) عظيم عن الحق (مُبِينٍ) أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا ، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء. وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب الكافر والمسلم. وأيضا أن الله تعالى لما بعث موسى عليه‌السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه. والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم. وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فإن الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه‌السلام مع الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم. وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام إلا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه‌السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو الإنسان أحيانا على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

وقال أبو العلاء المعري :

اضرب وليدك وادلله على رشد

ولا تقل هو طفل غير محتلم

فرب شق برأس جر منفعة

وقس على شق رأس السهم والقلم

وقال ابن خفاجة الأندلسي :

نبه وليدك من صباه بزجره

فلربما أغفى هناك ذكاؤه

وانهره حتى تستهل دموعه

في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه

فالسيف لا يذكو بكفك ناره

حتى يسيل بصفحتيه ماؤه

وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات متفاوتة كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام تارة : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وأخرى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] نعم لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لإبراهيم عليه‌السلام لربما قبل وحيث ادعى أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر. والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول. والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم. فقد نقل عنه الإمام أنه قال : إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون بالسماوات عندهم فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة ، وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال

١٨٥

الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في الطوالع ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فبالغوا في تعظيم الكواكب. ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذاتها. ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا : إنها مع ذلك هي المدبرة لأحوال العالم. وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها. ولما رأوها قد تغيب عن الأبصار اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها. ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] بعد أن بين أن الكواكب مسخرة. وعلى أنها لو قدر صدور فعل منها وتأثير في هذا العالم لا تخلو عن دلائل الحدوث وكونها مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالا محضا. ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن حكى توبيخ إبراهيم عليه‌السلام لأبيه على اتخاذها أقام الدليل على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للإلهية. وأنا أقول : لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولا وأما سبب عبادة العرب لها فغير ذلك. قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن الحي وهو أول من غير دين إبراهيم عليه‌السلام خرج من مكة إلى الشام في بعض أسفاره فلما قدم من أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة أولاد عملاق ويقال عمليق بن لاود بن سام بن نوح عليه‌السلام رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه التي أراكم تعبدون؟ فقالوا : هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها فتنصرنا فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته. وقال ابن إسحاق : يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه‌السلام. وذلك أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خلفهم الخلف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الأمم قبلهم من الضلالات ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه ، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارا لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة ، وقيل : إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء. والإشارة إلى مصدر «نري» لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى (إِنِّي أَراكَ) ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة. وجوز كل ، وقيل : يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من حيث إنه مدلول اللفظ ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع ، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول السابق ، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه‌السلام (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيرا آخر أدنى منه ، فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك. وغيره من أهل اللغة ، وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر ، وهو ـ كما قال الراغب ـ مختص به تعالى خلافا لبعضهم. وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات ، وقيل : العجائب التي في السماوات والأرض فإنه عليه‌السلام فرجت له السماوات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على

١٨٦

معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث ، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه ، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح. وإما أن أقبضه إليّ فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وروي نحوه موقوفا ومرفوعا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافا لمن توهمه ، وقيل : ملكوت السماوات الشمس ، والقمر ، والنجوم وملكوت الأرض ، الجبال ، والأشجار ، والبحار.

وهذه الأقوال ـ على ما قيل ـ لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه‌السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بلا اطلاعه عليه‌السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شئونه عزوجل ، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبئ عنه التشبيه السابق.

وقرئ «ترى» بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه‌السلام دلائل الربوبية (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى ، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى ، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر ، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور ، والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته ، وبعضهم لم يلاحظ ذلك فقدر الفعل مقدما لعدم انحصار العلة فيما ذكر.

وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق ، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل وليكون. واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببا للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء ، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السماوات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية ، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها ، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجها كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) يحتمل أن يكون عطفا على (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق ، فإن تعريفه عليه‌السلام ربوبيته ومالكته تعالى للسماوات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه ، واختاره بعض المحققين ، ويحتمل أن يكون تفصيلا لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه‌السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان ، والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر ، ومعنى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) سترة بظلامه ، وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر ، وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال : جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره.

وقوله سبحانه : (رَأى كَوْكَباً) جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا ـ كما قال شيخ الإسلام ـ صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس ، والتحقيق عنده أنه كان قريبا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك ، والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم المشتري. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنه الزهرة (قالَ هذا رَبِّي) استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق ، وهذا منهعليه‌السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول

١٨٧

يحكيه ثم بكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول. وقيل : إن في الكلام استفهاما إنكاريا محذوفا ، وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم ، ومنه قوله :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا ،

وقوله :

فقلت وأنكرت الوجوه : هم هم

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١] إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] وقيل: إنه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما : هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء ، وقيل : إنه عليه‌السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه‌السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان ، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا ، وقرر الإمام هذا بأنه عليه‌السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق وكان مأمورا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان ، وإذا جاء ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى ، فكلام إبراهيم عليه‌السلام كان من باب الموافقة ظاهرا للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل ، ثم قال : ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٨ ، ٨٩] وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام ، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك ، وقيل : إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه‌السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال : (هذا رَبِّي) على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ، وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لا سيما ما قرره الإمام ، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك.

وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلها وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلها وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى. وزعم أنه عليه‌السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفا بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرا مما لا يلتفت إليه أصلا ، فقد قال المحققون المحقون : إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء ، وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه‌السلام خصوصا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير. ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام ـ كما قيل ـ لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون ، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام

١٨٨

على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى. وقيل : إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضا ، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الإلهية في الأصنام والربوبية فيها. وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري «رأي» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى عن أبي بكر «رئي» بكسر الراء والهمزة (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب : (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال ، ونفي المحبة قيل : إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية.

وقيل كني بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى ، وقدر بعضهم في الكلام مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين ، وأيّا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء ، ولعله ـ كما قال الأزهري ـ مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال : بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها ، ويقال : بزغ الدم أي سال ، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبها بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه ، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكوكب.

وقوله سبحانه : (قالَ هذا رَبِّي) جواب لما وهو على طرز الكلام السابق (فَلَمَّا أَفَلَ) كما أفل الكوكب (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فإن شيئا مما رأيته لا يصلح للربوبية ، وهذا مبالغة منه عليه‌السلام في النصفة ، وفيه ـ كما قال الزمخشري ـ تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال ، والتعريض بضلالهم هنا ـ كما قال ابن المنير ـ أصرح وأقوى من قوله أولا (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وإنما ترقى عليه‌السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض لهم عليه‌السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره. والدليل على ذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته.

وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه‌السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه ، وكذا ما سيأتي.

وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان بربه عزوجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدا ، على أنه قيل : إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم ، ثم الظاهر ـ على ما قال شيخ الإسلام ـ إنه عليه‌السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقي مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور ، وقال آخر : إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع. بل كان

١٨٩

وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى.

وأنت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظاهر لا سيما على قول شيخ الإسلام لأن هذا الاحتجاج كان في نواحي بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الأثر وليس هناك اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل ، واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الأعوام بعيد ، وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم : إن واقعة إبراهيم عليه‌السلام كانت قريبا من حلب لأنه أيضا ليس هناك جبل شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والأفول البزوغ من الأفق الحقيقي لذلك الموضع والأفول عنه لا مطلق البزوغ والأفول.

وقال الشهاب : إن الذي ألجأهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن أن يكون تعقيبا عرفيا مثل تزوج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالا أو وضعا واستدراجا لا أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان كوكبا مخصوصا وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمل انتهى. ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو الذي يميل إليه القلب ، ودعوى إمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب حقيقة وقبل طلوع الشمس وأفوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لا سيما على ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في آخر الشهر. نعم قد يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامه فيح ، ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل (قالَ) أي على المنوال السابق (هذا رَبِّي) إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلا عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر اسم الإشارة.

وقال أبو حيان يمكن أن يقال : إن أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فأشير في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكي كلام إبراهيم عليه‌السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث «ببازغة». «وأفلت» أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.

وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكي كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب ، وقد صرح غير واحد بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى أنه لو قال أحد : الكوكب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت : الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته ، وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعى فيه الحكاية على أن القول بأن محاورة إبراهيمعليه‌السلام كانت بالعجمية دون العربية مبني على أن إسماعيل عليه‌السلام أول من تكلم بالعربية والصحيح خلافه.

وقيل : التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الإشارة مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط الفائدة في الكلام وما مضى فات ، وفي الكشاف بعد جعل التذكير لتذكير الخبر وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله تعالى : علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث ، واعترض عليه بأن هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك. وأجيب بأن ذلك على تقدير أن يكون مسترشدا ظاهر ، والمراد على المسلك الآخر إظهار صون الرب ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما

١٩٠

كان سببا لعدم إصغائهم ، وقوله تعالى : (هذا أَكْبَرُ) تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة مع إشارة خفية ـ كما قيل ـ إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر ، وكون الشمس أكبر مما قبلها مما لا خفاء فيه ، والآثار في مقدار جرمها مختلفة. والذي عليه محققو أهل الهيئة أنها مائة وستة وستون مثلا وربع وثمن مثل الأرض وستة آلاف وستمائة وأربعة وأربعون مثلا وثلثا مثل للقمر ، وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلا وخمس وعشر مثل للقمر ، وتحقيق ذلك في شرح مختصر الهيئة للبيرجندي (فَلَمَّا أَفَلَتْ) كما أفل ما قبلها (قالَ) لقومه صادحا بالحق بين ظهرانيهم : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي من إشراككم أو من الذي تشركونه من الاجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى المسخرة لمحدثها ، وإنما احتجعليه‌السلام بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب والأول حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها ، والثاني اختفاء يستتبع إمكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وإن كان انتقالا مع البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال. واعترض بأن البزوغ أيضا انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في الأول لاحق وفي الثاني سابق ، وكونه عليه‌السلام رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء ـ كما قيل ـ ولم يشاهد بزوغه فإنما يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجح الأفول بعمومه بخلاف البزوغ.

والأولى ما قيل : إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلّا منهما وإن كان في نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية قطعا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليه الحكم الأول أعني هذا ربي على الطريقة المذكورة ، وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب انتهى.

وبمعنى هذا ما قاله الإمام في وجه الاستدلال بالأفول من أن دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد ، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول ، ونقل عن بعض المحققين أن الهوي في حضيض الإمكان أفول ؛ وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطعا للحاجة فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال سبحانه : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] وأما الأوساط فهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل ، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوؤه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك لم يصلح للإلهية ثم قال : فكلمة لا أحب الآفلين مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين ، وهناك أيضا دقيقة أخرى وهو أنه عليه‌السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان ، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزا عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته.

١٩١

ويظهر من هذا أن للأفول على قول المنجمين مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته ، ولا يخفى أن فهم الهوى في حضيض الإمكان من (فَلَمَّا أَفَلَ) في هذه الآية مما لا يكاد يسلم ، وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من الجسمية والتحيز مثلا قال إلخ لا يخفى ما فيه ، نعم فهم هذا المعنى من (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ربما يحتمل على بعد ، ونقل عن حجة الإسلام الغزالي أنه حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك ، والشمس على العقل المجرد الذي لكل فلك ، وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل ، والمراد أن هذه القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي عليها قاهر لها وهو خلاف الظاهر أيضا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة نظير ذلك ، وإنما لم يقتصر عليه‌السلام في الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى.

وفيه أيضا رعاية الإيجاز والاختصار ترقيا من الأدون إلى الأعلى مبالغة في التقرير والبيان على ما هو اللائق بذلك المقام ولم يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند الرؤية في أمارات الحدوث والإمكان اختيارا لما هو أوضح من ذلك في الدلالة وأتم ، ثم إنه عليه‌السلام لما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجدها فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ) أي أوجد وأنشأ (السَّماواتِ) التي هذه الأجرام من أجزائها (وَالْأَرْضَ) التي تلك الأصنام من أجزائها (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أصلا في شيء من الأقوال والأفعال ، والمراد من توجيه الوجه للذي فطر إلخ قصده سبحانه بالعبادة.

وقال الإمام : المراد وجهت عبادتي وطاعتي ، وسبب جواز هذا الجواز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة ، والظاهر أن اللام صلة وجه. وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك ، وظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى ، وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر ، وليس في القاموس تعرض لهذا الفرق. وادعى الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه لأنه متعال عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها. والاكتفاء باللام هاهنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة وفي القلب من ذلك شيء. فإن قيل : إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقا وإثبات التوحيد فلم جزم عليه‌السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل ، فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق. ثم إن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني.

والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل : هذا أو القمر أو هذه أفل أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربي. أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَتْ) في الموضعين ، وقوله سبحانه : (فَلَمَّا أَفَلَ) في الأخير ، وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لأنه يشير إلى قياس. وهو كل آفل لا يستحق العبودية. وكل من لا يستحق العبودية فلبس بإله ينتج من الأول كل آفل ليس بإله ، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة. ويصح جعل

١٩٢

الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الإله بآفل ، وهي إحدى الكبريين. ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية.

وقال الملوي : الأحسن أن يقال إن قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الإله بآفل القمر وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا شيء من القمر بإله ، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضا ا ه. فتأمل فيه ولا تغفل.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي خاصموه ـ كما قال الربيع ـ أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد (قالَ) منكرا عليهم محاجتهم له عليه‌السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه. وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان بتخفيف النون ففيه حذف إحدى النونين.

واختلف في أيهما المحذوفة. فقيل : نون الرفع وهو مذهب سيبويه. ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع لا تكسر. وبأنه جاء حذفها كما في قوله :

كل له نية في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا

أراد تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف تخفيفا كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويشعركم ويأمركم. وقيل نون الوقاية وهو مذهب الأخفش ، ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها الثقل. وقوله تعالى : (وَقَدْ هَدانِ) في موضع الحال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار. فإن كونه عليه الصلاة والسلام مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدم المبالاة بها والالتفات إليها إذا وقعت. قيل : والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته عز شأنه ، وقيل هدان إلى الحق بعد ما سلكت طريقتكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه ، وعلى القولين لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة والسلام وجهل بمعرفة ربه جل وعلا. و (هَدانِ) يرسم ـ كما قال الأجهوري ـ بلا ياء.

(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) جواب كما روي عن ابن جريج عما خوفوه عليه‌السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما قال لهود عليه‌السلام قومه (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] وهذا التخويف قيل : كان على ترك عبادة ما يعبدونه ، وقيل : بل على الاستخفاف به واحتقاره بنحو الكسر والتنقيص. وقيل : ولعل ذلك حين فعل بآلهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا ، وفي بعض الآثار أنه عليه‌السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام فيعطيها له ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بارت ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رءوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه حينئذ وخوفوه. وما موصولة اسمية حذف عائدها ، والضمير المجرور لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه. وجوز أن يكون عائدا إلى الموصول والباء سببية. أي الذي تشركون بسببه ، وأن تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) بتقدير الوقت عند غير واحد غير مستثنى من أعم الأوقات استثناء

١٩٣

مفرغا. وقال بعضهم : إن المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت ، ومنع ذلك ابن الأنباري مفرقا بين المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز فيه ذلك. وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما على السواء ، والاستثناء متصل في رأي. و (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئته تعالى شيئا من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئا من مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه. وجوز بعضهم أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى ولكن أخاف أن يشأ ربي خوفي ما أشركتم به ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته تعالى.

(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علما فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب ، ونصب (عِلْماً) على التمييز المحول عن الفاعل ، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لوسع من غير لفظه ، وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم بمعزل عن القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري. وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير.

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لنفي الخوف عنه عليه‌السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر ؛ والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية ؛ وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال : أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فإذا انتفى جميع كيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني ، و (كَيْفَ) حال والعوامل فيها (أَخافُ) و (ما) موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف ، وجوز أن تكون مصدرية. وقوله تعالى : (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) في موضع الحال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ لمكان الواو. وقيل : لا حاجة إلى التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء ، ولا حاجة هنا إلى ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه‌السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه‌السلام في محل الأمن أولى وأحرى أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله تعالى الذي فطر السماوات والأرض ما هو من جملة مخلوقاته ، وعبر عنه بقوله سبحانه : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي حجة على طريق التهكم ـ قيل ـ مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى. وضمير (بِهِ) عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف أي بإشراكه. وجوز أن يكون راجعا إلى الإشراك المقيد بتعلقه بالموصول ولا حاجة إلى العائد ، وهو ـ على ما قيل ـ مبني على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه. وذكر متعلق الإشراك وهو الاسم الجليل في الجملة الحالية دون الجملة الأولى ـ قيل ـ لأن المراد في الجملة الحالية تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك.

وقال بعض المحققين : الظاهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية والترك في الأولى إنه لما قيل قبيل هذا (وَلا

١٩٤

أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) به كان ما هنا كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه‌السلام حذفه إشارة إلى بعد وحدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله تعالى ولا ذكر معه. ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه سبحانه عن ذلك صرح به ، وقيل : إن ذكر الاسم الجليل في الجملة الثانية ليعود إليه الضمير في «ما لم ينزل» وليس بشيء لأنه يكفي سبق ذكره في الجملة ، وقيل : لأن المقصود إنكاره عليه‌السلام عدم خوفهم من إشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد عند العقل السليم لا مطلق الإنكار ولا كذلك في الجملة الأولى فإن المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه‌السلام غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أو لا ؛ وليس بشيء أيضا لأن الجملة الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الإنكار إلا عند مدعي العطف وهو مما لا سبيل إليه أصلا لإفضائه إلى فساد المعنى قطعا لما تقدم أن الإنكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه‌السلام ونفي نفيه عنهم وأنه بين الفساد ، وأيضا أن (ما أَشْرَكْتُمْ) كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك أن هذا لا شيء عجاب ثم إن الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به سلطان. وهل يمتنع عقلا حصول السلطان في ذلك أم لا؟ ظاهر كلام بعضهم. وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثانية والذي اختاره الأول ، وقول الإمام : إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء ليس من محل الخلاف كما لا يخفى على الناظر فانظر.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) كلام مرتب على إنكار خوفه عليه‌السلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه‌السلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه ، وبهذا يعلم ما في دعوى أن الإنكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع ، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الإنصاف ، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف ، فإيثار ما في النظم الكريم ـ كما قيل ـ على أن يقال : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاء إلى الجواب بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربما تدعو إلى اللجاج والعناد مع الإشارة بما في النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه‌السلام بل تشمل كل موحد ترغيبا لهم في التوحيد (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم من أولي العلم فأخبروني بذلك. وقرئ «سلطانا» بضم اللام ، وهي لغة اتبع فيها الضم الضم (الَّذِينَ آمَنُوا) استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه.

وروي ذلك عن محمد بن إسحاق ، وابن زيد ، والجبائي ، ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه‌السلام. وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، واستشكل كونه استئنافا بأنه لا يمكن جعله بيانيا لأنه ما كان جواب سؤال مقدر ، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحويا لما قال ابن هشام : إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعا عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما.

وأجيب باختيار كونه نحويا. ومعنى كونه منقطعا عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر ، وقيل : المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقا أو تقديرا أي الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به (وَلَمْ يَلْبِسُوا) أي لم يخالطوا (إِيمانَهُمْ) ذلك (بِظُلْمٍ) أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وإن عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما ينبئ عنه قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس

١٩٥

رضي الله تعالى عنهما ، وابن المسيب ، وقتادة ، ومجاهد ، وأكثر المفسرين. ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين.

ويدل عليه ما أخرجه الشيخان ، وأحمد ، والترمذي ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه‌السلام لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ولا يقال : إنه لا يلزم من قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ) إلخ أن غير الشرك لا يكون ظلما لأنهم قالوا : إن التنوين في (بِظُلْمٍ) للتعظيم فكأنه قيل : لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم ، ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل افراده ، وقيل : المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي ، والبلخي ، وارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور المعتزلة.

واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي الخلط إذ هو لا يجامع الإيمان للضدية وإنما يجامع المعاصي ، والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي ، والقول بأن الفسق أيضا لا يجامع الإيمان عندهم أيضا فلا يتم لهم الاستدلال لكونه اسما لفعل الطاعات واجتناب السيئات حتى أن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع ـ كما قيل ـ بأنه كثيرا ما يطلق الإيمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في غير ما آية. وأجيب بأنه أريد بالإيمان تصديق القلب وهو قد يجامع الشرك كأن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا إليه آنفا ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦] وكذا إذا أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال : إنه لا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مرارا ، وبعد تسليم جميع ما ذكر نقول : إن قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) إنما يدل على اختصاص الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين البتة بل خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع. وقيل المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقا ، والموصول مبتدأ واسم الإشارة مبتدأ ثان والإشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بما فيه معنى البعد بعد وصفه بما ذكر ما لا يخفى ، وجملة (لَهُمُ الْأَمْنُ) من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الموصول أو عطف بيان له و (لَهُمُ) هو الخبر و (الْأَمْنُ) فاعلا للظرف لاعتماده على المبتدأ ، وأن يكون «لهم» خبرا مقدما و (الْأَمْنُ) مبتدأ مؤخرا والجملة خبر الموصول ، وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ محذوف وقال : التقدير هم الذين ولا يخلو عن بعد والأكثرون على الأول (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين ، وقدر بعضهم إلى طريق توجب الأمن من خلود العذاب (وَتِلْكَ) إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه‌السلام من قوله سبحانه : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) [الأنعام : ٧٦] إلخ ، وقيل من قوله سبحانه : (أَتُحاجُّونِّي ـ إلى ـ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وتركيب حجة اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه ، وهو مبتدأ وقوله عزّ شأنه : (حُجَّتُنا) خبره ، وفي إضافته إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى ، وقوله تعالى :

(آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها في موضع الحال من حجة والعالم فيه معنى الإشارة أو

١٩٦

في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر و (حُجَّتُنا) بدل أو بيان للمبتدإ ، وجوز أن تكون جملة (آتَيْناها) إلخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده ، و (إِبْراهِيمَ) مفعول أول لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميرا.

وقوله سبحانه : (عَلى قَوْمِهِ) متعلق بحجتنا إن جعل خبرا لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلا لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه ، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه بحجتنا أصلا للمصدرية والفصل ، ولعل المجوز لا يرى المصدرية مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفرا ، وقيل : يصح تعلقه بآيتنا لتضمنه معنى الغلبة. وقوله عزّ شأنه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) أي رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من الإعراب مقرر لما قبله ، وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب على أنه حال من فاعل (آتَيْناها) أي حال كوننا رافعين ، ونصب «درجات» إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول نرفع قوله تعالى : (مَنْ نَشاءُ) وتأخيره على الأوجه الثلاثة الأخيرة لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة ، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه‌السلام. وقرئ «يرفع» بالياء على طريقة الالتفات وكذا (نَشاءُ) وقرأ غير واحد من السبعة «درجات من» بالإضافة على أنه مفعول (نَرْفَعُ) ورفع درجات الإنسان رفع له ، وجوز بعضهم جعله مفعولا أيضا على قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد.

وقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) أي في كل ما يفعل من رفع وخفض (عَلِيمٌ) أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة ، وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولا أوليا تعليل لما قبله ، وفي وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم عليه‌السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا وقد ذكر الإمام في هذه الآيات الإبراهيمية عدة أحكام ، الأول أن قوله سبحانه : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) يدل على أنه عزوجل ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا فيكون آفلا والأفول ينافي الربوبية ، ولا يخفى أن عد تلك الغيبة المفروضة أفولا لا يخلو عن شيء لأن الأفول احتجاب مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب فيما يظهر. نعم إنه ينافي الربوبية أيضا لكن الكلام في كونه أفولا ليتم الاحتجاج بالآية ، لا يقال قد جاء في حديث الإسراء ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا نقول : الحجاب الوارد ـ كما قال القاضي عياض ـ إنما هو في حق العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس ، ونص غير واحد أن ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه سبحانه الخلق عن رؤيته. وقال السيد النقيب في الدرر والغرر : العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه : بيني وبينك حجاب ويقولون لما يستصعب طريقه : بيني وبينه كذا حجب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك. والظاهر على هذا أن فيما ذكر مجاز في المفرد فتدبر. الثاني أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول. وأنت تعلم أن الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن رسولهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقولون : إنه حركة وانتقال كما هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه إلى الله تعالى بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه في معنى الأفول الممتنع على الرب جل جلاله.

١٩٧

الثالث : أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلا للصفات المحدثة كما تقول الكرامية وإلا لكان متغيرا وحينئذ يحصل معنى الأفول وهو ظاهر. الرابع أن ما ذكر يدل على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن للاستدلال فائدة البتة. الخامس أنه يدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم عليه‌السلام إلى الاستدلال. السادس أنه يدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه‌السلام إلى هذه الطريقة ، ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين. السابع أن قوله سبحانه : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلخ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه‌السلام بإيتاء الله تعالى وإظهارها في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ؛ ويتأكد ذلك بقوله سبحانه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) إلخ الثامن أن قوله سبحانه (نَرْفَعُ) إلخ. يدل على فساد طعن الحشوية في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل ، وفيها أحكام أخر لا تخفى على من يتدبر.

ومن باب الإشارة فيها : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) حين رآه محتجبا بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء معتقدا تأثير الأكوان والأجرام ذاهلا عن الملكوت جل شأنه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً) أي أشباحا خالية بذواتها عن الحياة (آلِهَةً) فتعتقد تأثيرها (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر عند من كشف عن عينه الغين (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية ، وذلك عند الصوفية في صباه وأول شبابه (رَأى كَوْكَباً) وهو كوكب النفس المسماة روحا حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الإنساني ـ فقال ـ حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال (هذا رَبِّي) وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي (فَلَمَّا أَفَلَ) بطلوع نور القلب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ) أي قمر القلب (بازِغاً) من أفق النفس ووجد فيضه بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه (قالَ هذا رَبِّي) وكان الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى نور وجهه (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ) أي شمس الروح (بازِغَةً) متجلية عليه (قالَ) إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها (هذا رَبِّي) وكان سبحانه يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم (هذا أَكْبَرُ) من الأولين (فَلَمَّا أَفَلَتْ) بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات الوجه (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إذ لا وجود لغيره سبحانه (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي أسلمت ذاتي ووجودي (لِلَّذِي فَطَرَ) أوجد (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي سماوات الأرواح وأرض النفس (حَنِيفاً) مائلا عن كل ما سواه حتى عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في شيء (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) في ترك السوي (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) إلى وجوده الحق وتوحيده (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) الحقيقي (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) حقيقة إلى الحق.

وقال النيسابوري : قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه‌السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها آفلة في أفق الإمكان

١٩٨

فلم يبق إلا الواجب ، وقيل : غير ذلك ، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه‌السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبرا طويلا وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة ، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ

١٩٩

لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١٠)

(وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم عليه‌السلام (إِسْحاقَ) وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة. وفي نديم الفريد أن معنى إسحاق بالعربية الضحاك (وَيَعْقُوبَ) وهو ابن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة ، والجملة عطف على قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) إلخ ، وعطف الفعلية على الاسمية مما لا نزاع في جوازه ، ويجوز على بعد أن تكون عطفا على جملة (آتَيْناها) بناء على أنها لا محل لها من الإعراب كما هو أحد الاحتمالات.

وقوله تعالى : (كُلًّا) مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما (هَدَيْنا) لا أحدهما دون الآخر ، وقيل : المراد كلّا من الثلاثة ، وعليه الطبرسي. واختار كثير من المحققين الأول أن هداية إبراهيم عليه‌السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي إليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم عليه‌السلام فإنهما متعبدان به.

وقال الجبائي : المراد هديناهم بنيل الثواب والكرامات (وَنُوحاً) قال شيخ الإسلام : منصوب بمضمر يفسره (هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) ولعله إنما لم يجعله مفعولا مقدما للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلو التقديم عن الفائدة السابقة أعني القصر ولا يخلو ذلك عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه‌السلام.

٢٠٠