روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

يحسن عطف الخبر على الإنشاء ، وقد بين الفسق بقوله عز شأنه : (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فيكون النهي عن الأكل مقيدا بكون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل ، وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة. وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جلة الأئمة الحنفية. وعليه لا حاجة للشافعية إلى دليل خارجي في تخصيص الآية.

واعترض بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول. وبأن التأكيد بأن واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصده الإعلام بتحققه البتة والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا على ما بين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل : لا تأكلوا منه إن كان فسقا فلا يحسن (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) بل وهو فسق. ومن هنا ذهب كثير إلى أن الجملة مستأنفة. وأجيب عن الأول بأنه دخل في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ما أهل لغير الله وبقوله جل شأنه : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ) إلخ الميتة فيتحقق قولهم : إن النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه. وأجاب العلامة عن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسبا كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه ، ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى.

واستظهر رجوع الضمير إلى الأكل الذي دل عليه (وَلا تَأْكُلُوا) والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن ما لم يذكر اسم الله عليه عاما لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمدا أو سهوا ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية. والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه. وأنه لا بد لمبيح منسي التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور.

ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوي تناوله للسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصا إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط من أعالي الظواهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفى به منه لو لا السبب انتهى.

ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبرا بما ذكره العلامة قبل. وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للإجماع إذ لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسيا فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامدا ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم‌الله تعالى : إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضي القاضي بجواز بيعه لا ينفّذ لكونه مخالفا للإجماع وأن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا إلا أن الشرع جعل الناسي ذاكرا لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فإن الإنسان كثير النسيان.

وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة : إن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة مفض إلى التسوية بين العمد والنسيان ، وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام ، وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذابح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة.

والحق عندي أن المسألة اجتهادية وثبوت الإجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي رحمه‌الله

٢٦١

تعالى ، واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو من متانة ، وقول الأصفهاني ـ كما في المستصفى ـ أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام ، الأولى (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، والثانية (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، والثالثة (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وثلاث في سورة الحج ، الأولى (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] ، والثانية (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) [الحج : ٣٤] ، والثالثة (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] وآية (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤] من الفحش في حق هذا الإمام القرشي ، ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره ، وبالجملة ، الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الأقوال. وعن عطاء وطاوس أنهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيوانا كان أو غيره حرام ، وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ) أي إبليس وجنوده (لَيُوحُونَ) أي يوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الذين اتبعوهم من المشركين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : المراد بالشياطين مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا إلى قريش حسبما حكيناه عن عكرمة (لِيُجادِلُوكُمْ) أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال الحرام (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ضرورة أن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واستحل الحرام واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه.

ونقل الإمام عن الكعبي أنه قال : الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفة لله عزوجل وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله تعالى شأنه شريكا بدليل أنه سبحانه سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا ، ثم قال : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك هاهنا اعتقاد أن لله تعالى شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا القدر يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط انتهى. والظاهر أن التعبير عن هذه الإطاعة بالشرك من باب التغليظ ونظائره كثيرة والكلام هنا كما قال أبو حيان وغيره على تقدير القسم وحذف لام التوطئة أي ولئن أطعتموهم والله إنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده. وجعل أبو البقاء وتبعه بعضهم المذكور جواب الشرط ولا قسم وادعى أن حذف الفاء منه حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي كما هنا واعترض بأن هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفق الكل على وجوب الفاء في الجملة الاسمية ولم يجوزوا تركها إلا في ضرورة الشعر وفيه أن المبرد أجاز ذلك في الاختيار كما ذكره المرادي في شرح التسهيل.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له ، فالآية ـ كما قال الطيبي ـ متصلة بقوله سبحانه ، (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) والهمزة للإنكار. والواو ـ كما قال غير واحد ـ لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أنتم مثلهم ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة (وَجَعَلْنا لَهُ) مع ذلك من الخارج (نُوراً) عظيما (يَمْشِي بِهِ) أي بسببه (فِي النَّاسِ) أي فيما بينهم آمنا من جهتهم ، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فما ذا يصنع بذلك النور؟ فقيل : يمشي إلخ أو صفة له. ومن اسم موصول مبتدأ : وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ) أي صفته

٢٦٢

العجيبة. ومن فيه اسم موصول أيضا و (مَثَلُهُ) مبتدأ. وقوله سبحانه : (فِي الظُّلُماتِ) خبر هو محذوف. وقوله سبحانه : (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) في موضع الحال من المستكن في الظرف ، وهذه الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية بمعنى إذا وصف يقال له ذلك ، وجملة (مَثَلُهُ) مع خبره صلة الموصول.

وإن شئت جعلت من في الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون (فِي الظُّلُماتِ) خبرا عن (مَثَلُهُ) لأن الظلمات ليس ظرفا للمثل. وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن «في الظلمات» هو الخبر وليس هناك هو مقدرا ، ولا يلزم ـ كما نص عليه بعض المحققين ـ حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية ؛ نعم ما ذكر أولا أولى لأن خبر (مَثَلُهُ) لا يكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدي مؤدى ذلك.

وجوز كون جملة (لَيْسَ بِخارِجٍ) حالا من الهاء في (مَثَلُهُ) ومنعه أبو البقاء للفصل ، قيل : ولضعف مجيء الحال من المضاف إليه. وقرأ نافع ويعقوب «ميّتا» بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو أعلّت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور.

ثم إن هذا الأخير ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مثل أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينات إلى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز إلى آخر ما قال ، ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان ، ورد ـ كما قال الشهاب ـ بأن الظاهر بأن من كان ميتا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحا ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب؟ أي الشجاع كالجبان وهو من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالأحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة ، والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه ، وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن مثله في الظلمات ليس بخارج ، وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها في حمزة وأبي جهل ، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وأيّا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من انقاد لأمر الله تعالى ومن بقي على ضلاله وعتوه (كَذلِكَ) إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إيحاء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الإيمان للمؤمنين (زُيِّنَ) من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة (لِلْكافِرِينَ) كأبي جهل وأضرابه (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من القبائح : (وَكَذلِكَ) قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) من سائر القرى (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية إلخ ، وإلى الاحتمالين ذهب الإمام الرازي. وجعل غير واحد جعل بمعنى صير المتعدية لمفعولين واختلف في تعيينهما

٢٦٣

فقيل (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) مفعول ثان ، و (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) بالإضافة هو الأول ، وقيل : (أَكابِرَ) مفعول أول و (مُجْرِمِيها) بدل منه ، وقيل : (أَكابِرَ) مفعول ثان و (مُجْرِمِيها) مفعول أول لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل ، والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل.

واعترض أبو حيان كون (مُجْرِمِيها) بدلا من (أَكابِرَ) أو مفعولا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم إفراده وتذكيره إذا كان بمن ظاهرة أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنية لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة و (أَكابِرَ) في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بال ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز. وتعقبه الشهاب فقال : إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجري مجرى الأسماء لكونه بمعنى الرؤساء ـ كما نص عليه الراغب ـ وما ذكره إنما هو إذا بقي على معناه الأصلي. ويؤيده قول ابن عطية : أنه يقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة كما قال :

إن الأحامرة الثلاث تعولت

وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر. وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه. وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و «أكابر» أول المفعولين مضاف لمجرميها و «ليمكروا» المفعول الثاني.

وجوز بعضهم كون جعل متعديا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) بالإضافة ، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة. وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال : والذي يقتضيه النظر الصائب أن (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) لغو و (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) مفعول أول و (لِيَمْكُرُوا) هو الثاني ؛ ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما. وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور ، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه : و (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ٩٤] والأول (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) ، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أن جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه. ولا يخفى بعده.

وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وقرئ «أكابر مجرميها» وهذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله سبحانه : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم (وَما يَشْعُرُونَ) حال من ضمير (يَمْكُرُونَ) أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام.

(قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال شيخ الإسلام : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه‌السلام فيخبرنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا (أَوْ تَأْتِيَ

٢٦٤

بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢]. وعن الحسن البصري مثله ، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم‌السلام هو إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه‌السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه‌السلام بالوجه المذكور ، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك ، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه‌السلام إليه الأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف ، وفيه من التمحل ما لا يخفى.

وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلا مثلا إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل ، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد ، ولعل الأمر فيه سهل. ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه‌السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابا بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين ، وفيه ما فيه. وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل حين قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي كما يأتيه. وقال الضحاك : سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢] قال الشيخ : ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس ، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين. حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه ، فالمعنى لن نؤمن رسالته أصلا حتى نؤتى نحن من النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء رسل الله ، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لا قفو الأثر بالائتمار ، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس ذلك نصا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع.

ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية ؛ ويمكن أن يدعي أيضا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركا له في أصل الرسالة فليفهم ، وقيل : إن الوليد ابن المغيرة قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا فنزلت هذه الآية. وتعقبه الشيخ قدس‌سره أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا : لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله : «لو كانت النبوة حقا» إلخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق ، ومآله تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا.

وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم (رُسُلُ اللهِ) ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى ،

٢٦٥

فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ابن جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية.

و (مِثْلَ ما أُوتِيَ) نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله ، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام ، و «حيث» مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره. والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها ، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفا. وقال الرضي : الأولى أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة ، وبحث فيه ، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه. ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع.

وجملة (اللهُ أَعْلَمُ) إلخ استئناف بياني ، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده ، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل ، وما في المواقف من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب ، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة ، وتمام البحث في موضعه.

وقرأ أكثر السبعة «رسالاته» بالجمع ، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على (رُسُلُ اللهِ) وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد ما نعي عليهم حرمانهم مما أملوه ، والسين للتأكيد ، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع ، وقيل : إشعارا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة (صَغارٌ) أي ذل عظيم وهوان بعد كبرهم (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة.

وقيل : من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء ، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول : جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد ، وقيل : المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة أو في الدنيا (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته ، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان ، وقالت المعتزلة : المراد يهديه إلى الثواب أو إلى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قيل له : «كيف الشرح يا رسول الله؟ فقال : نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل : هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره ، وقيل : المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الإيمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد

٢٦٦

يكون فيه للخير منفذ وقرأ ابن كثير «ضيقا» بالتخفيف ، ونافع وأبو بكر عن عاصم «حرجا» بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفا بالمصدر للمبالغة ، وأصل معنى الحرج ـ كما قال الراغب ـ مجتمع الشيء ، ومنه قيل : للضيق حرج ، وقال بعض المحققين : أصل معناه شدة الضيق فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها.

وأخرج ابن حميد ، وابن جرير ، وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ (حَرَجاً) بفتح الراء وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حرجا» بكسرها فقال عمر : ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا وليكن مدلجيا فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر ، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة ، وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود ، والامتناع في ذلك عادي. وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه ، وأصل (يَصَّعَّدُ) يتصعد وقد قرئ به فأدغمت التاء في الصاد.

وقرأ ابن كثير (يَصَّعَّدُ) وأبو بكر عن عاصم «يصاعد» وأصله أيضا يتصاعد ففعل به ما تقدم.

(كَذلِكَ) إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجا على الوجه المذكور (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي العذاب أو الخذلان.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال : (الرِّجْسَ) ما لا خير فيه. وقال الراغب : (الرِّجْسَ) الشيء القذر ، وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. وأصله ـ على ما قيل ـ من الارتجاس وهو الاضطراب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي عليهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل (وَهذا) أي ما جاء به القرآن كما روي عن ابن مسعود أو الإسلام كما روي عن ابن عباس أو ما سبق من التوفيق والخذلان كما قيل (صِراطُ رَبِّكَ) أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته وطريقته التي اقتضها حكمته. ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب من اللطف (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه ولا زيغ أو عادلا مطردا وهو إما حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا أو مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو ها التي للتنبيه (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) بيناها مفصلة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل الحوادث بقضائه سبحانه وقدره وأنه جل شأنه حكيم عادل في جميع أفعاله ، وتخصيص هؤلاء القوم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك التفصيل (لَهُمْ) أي لهؤلاء القوم (دارُ السَّلامِ) أي الجنة كما قال قتادة ، والسلام هو الله تعالى كما قال الحسن ، وابن زيد ، والسدي ، وإضافة الدار إليه سبحانه للتشريف. وقال الزجاج والجبائي : (السَّلامِ) بمعنى السلامة أي دار السلامة من الآفات والبلايا وسائر المكاره التي يلقاها أهل النار. وقيل : هو بمعنى التسليم أي دار تحيتهم فيها سلام (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في ضمانه وتكفله التفضلي أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنه ذلك غيره. والجملة مستأنفة ، وقيل صفة لقوم (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي محبهم أو ناصرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم متلبسا بجزائها بأن يتولى إيصال الثواب إليهم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) لتفاوت مراتب أرواحهم في الصفاء والكدورة والنور والظلمة والقرب والبعد. ومن هنا قيل : والجاهلون لأهل العلم أعداء. وكلما اشتد التفاوت اشتدت العداوة وزاد الإيذاء الناشئ منها. ولهذا ورد في بعض الآثار «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت». وتسبب هذه العداوة مزيد

٢٦٧

التوجه إلى الحق جل شأنه والإعراض عن الملاذ والحرص على الفضيلة التي يقهر بها العدو والاحتراز عما يوشك أن يكون سببا للطعن إلى غير ذلك (وَلِتَصْغى) أي تميل إليه (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وهم المحجوبون لوجود المناسبة (وَلِيَرْضَوْهُ) بمحبتهم إياه وليقترفوا ما هم مقترفون من اسم التعاضد والتظاهر (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) المعجز الجامع (مُفَصَّلاً) فيه الحق والباطل بحيث لا يبقى معه مقال لقائل فطلب ما سواه مما لا يليق بعاقل ولا يميل إليه إلا جاهل (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر (صِدْقاً) مطابقا لما يقع (وَعَدْلاً) مناسبا للاستعداد ، وقيل : صدقا فيما وعد وعدلا فيما أوعد (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لأنها على طرز ما ثبت في علمه والانقلاب محال (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأنهم لا يدعون إلا للشهوات المبعدة عن الله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون لكونهم محجوبين في مقام النفس بالأوهام والخيالات (إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) بقياس الغائب على الشاهد (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ) من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح (وَباطِنَهُ) من العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة.

وقال سهل : ظاهر الإثم المعاصي كيف كانت وباطنه حبها ، وقال الشبلي : ظاهر الإثم الغفلة وباطنه نسيان مطالعة السوابق ، وقال بعضهم : ظاهر الإثم طلب الدنيا وباطنه طلب الجنة لأن الأمرين يشغلان عن الحق وكل ما يشغل عنه سبحانه فهو إثم ، وقيل : ظاهر الإثم حظوظ النفس وباطنه حظوظ القلب ، وقيل : ظاهر الإثم حب الدنيا وباطنه حب الجاه ، وقيل : ظاهر الإثم رؤية الأعمال وباطنه سكون القلب إلى الأحوال.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ) وهم المحجوبون بالظاهر عن الباطن (لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي من يواليهم من المنكرين (لِيُجادِلُوكُمْ) بما يتلقونه من الشبه (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) وتركتم ما أنتم عليه من التوحيد (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) مثلهم (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالجهل وهو النفس أو الاحتجاب بصفاتها فأحييناه بالعلم ومحبة الحق أو كشف حجب صفاته (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالمجاهدات (فَأَحْيَيْناهُ) بروح المشاهدات أو ميتا بشهوات النفس فأحييناه بصفاء القلب أو ميتا برؤية الثواب فأحييناه برؤية المآب إلى الوهاب وجعلنا له نور الفراسة أو الإرشاد ، وقال جعفر الصادق : المعنى أومن كان ميتا عنا فأحييناه بنا وجعلناه إماما يهدي بنور الإجابة ويرجع إليه الضلّال ، وقال ابن عطاء : أومن كان ميتا بحياة نفسه وموت قلبه فأحييناه بإماتة نفسه وحياة قلبه وسهلنا عليه سبل التوفيق وكحلناه بأنوار القرب فلا يرى غيرنا ولا يلتفت إلى سوانا (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمات نفسه وصفاته وأفعاله (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) لسوء استعداده (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ) المحجوبين (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فاحتجبوا به (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) ويكون ذلك سببا لمزيد كمال العارفين حسبما تقدم في جعل الأعداء للأنبياء عليهم‌السلام. ويمكن أن يكون إشارة إلى ما في الأنفس أي «وكذلك جعلنا في كل قرية» وجود الإنسان التي هي البدن (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) من قوى النفس الأمارة «ليمكروا فيها» بإضلال القلب (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن عاقبة مكرهم راجع إليهم آفاقا وأنفسا (وَإِذا جاءَتْهُمْ) على يد الرسول عليه الصلاة والسلام (آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) من الرسالة إليهم (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وذلك حيث خزينة الاستعداد عامرة والنفس قدسية (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالاحتجاب عن الحق (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) أي ذلك بذهاب قدرهم حين خراب أبدانهم (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) بحرمانهم الملائم ووصول المنافي إليهم في المعاد الجسماني (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) إليه

٢٦٨

ويعرفه به (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بأن يقذف فيه نورا من أنواره فيعرفه بذلك (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) لا يدخل فيه شيء من أنوار شمس العرفان (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) نبوا وهربا عن قبول ذلك لأنه خلاف استعداده ، وقيل : المعنى فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره لقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله سبحانه بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس فينفسح لقبول نور الحق ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلاء النفس عليه وضغطها له كما يصعد في سماء روحه مع تلك الهيئات البدنية المظلمة وذلك أمر محال ، وقيل غير ذلك (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي رجس التلوث بنتن الطبيعة (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وهم المحجوبون عن الحق و (هذا) أي طريق التوحيد أو الجعل (صِراطُ رَبِّكَ) أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته التي اقتضتها حكمته (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) المعارف والحقائق المركوزة في استعدادهم (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هي ساحة جلاله وحضائر قدس صفاته ومساقط وقوع أنوار جماله المنزهة عن خطر الحجاب وعلة العتاب وطريان العذاب وهو وليهم بنعت رعايتهم وكشف جماله لهم أو وليهم يحفظهم عن رؤية الغير في البين. ويجوز أن يكون المعنى لهم دار السلامة من كل خوف وآفة حيث يكون العبد فيها في ظل الذات والصفات وريف البقاء بعد الفناء ؛ والكثير على أن السلام من أسمائه تعالى فما ظنك بدار تنسب إليه جل شأنه :

إذا نزلت سلمى بواد فماؤه

زلال وسلسال وأشجاره ورد

نسأل الله تعالى أن يدخلنا هاتيك الدار بحرمة نبيه المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو نقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته ، وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم ، والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين ، وقيل : للكفار. وقرأ حفص عن عاصم. وروح عن يعقوب «يحشر» بالياء والباقون بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما

٢٦٩

يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(١٤٢)

وقوله سبحانه : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) على إضمار القول ، والمعشر الجماعة أمرهم واحد ، وقال الطبرسي : الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد ، والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين ، وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين ، أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين ، وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة ، وقال آخرون: إن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار ، وأيا ما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل للخطاب بقوله سبحانه : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومجاهد ، والزجاج ، فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال : استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع.

قيل : وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الانس لما أن الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون ، وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) أي الذين أطاعوهم واتبعوهم (مِنَ الْإِنْسِ) أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم ، فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فأدخلوا عليهم السرور بذلك.

وعن الحسن ، وابن جريج ، والزجاج ، وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي. واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم.

وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته له. وقال البلخي : يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن.

٢٧٠

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) وهو يوم القيامة على ما قاله غير واحد ، وعن الحسن ، والسدي ، وابن جريج أنه الموت والأول أولى ، وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهار للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له.

قيل : ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.

وقرئ «آجالنا» بالجمع و (الَّذِي) بالتذكير والإفراد ، قال أبو علي : هو جنس أو وقع الذي موقع التي.

(قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل قال : (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر (خالِدِينَ فِيها) حال من ضمير الجمع والعامل فيها «مثوى» إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبوءون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل. وقال أبو البقاء : إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الإضافة ، وردوه بأن النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من ، ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شمول ما نقدم للمستثنى ، وقيل : إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر ، المراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي ، وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت إليه الضرورة ، وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة لإمكان غير هذا التأويل. مع أن قوله سبحانه : (مَثْواكُمْ) يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر ، وقيل : إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب ، وذلك أنه روي أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٣٤].

وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما تشيب منه النواصي ، ولعل الخبر في ذلك غير صحيح ، والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث.

وقيل : المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم ، ورده أبو حيان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإن معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضربته ؛ وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فإنه يسوغ كقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] أي لكن الموتة الأولى فإنهم ذاقوها فلعل القائل بأن المستثنى زمان إمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر ، وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال : المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل ، قال ابن المنير : ونحن نبينه فنقول : العذاب والعياذ بالله عزوجل على درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من

٢٧١

زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال :

ولجدت حتى كدت تبخل حائلا

للمنتهى ومن السرور بكاء

فكان هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط ، وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده انتهى. ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإذعان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عزوجل ، وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك ، ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه ، وفي معناه ما قيل : المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله تعالى وهو مما لا يكون مع إيراده في صورة الخروج وأطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم ومن أفاضل العصريين الأكابر من ادعى ذلك الوجه له وأنه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ).

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في التعذيب والإثابة أو في كل أفعاله (عَلِيمٌ) بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا (وَكَذلِكَ) أي مثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم أو مثل ما سبق (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ) من الإنس (بَعْضاً) آخر منهم أن نجعلهم بحيث يتولونهم ويتصرفون فيهم في الدنيا بالإغواء والإضلال وغير ذلك ، واستدل به على أن الرعية إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم ، وفي الحديث «كما تكونوا يولىّ عليكم» أو المعنى نجعل بعضهم قرناء بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي إليه من القبائح كما قيل ، وروي مثله عن قتادة (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) في الدنيا (رُسُلٌ) من عند الله عزوجل كائنة (مِنْكُمْ) أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم ولا على أن أولئك الرسل عليهم‌السلام من جنس الفريقين معا بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الإنس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء ، ونظيره في هذا قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

والفراء قدر هنا مضافا لذلك أي من أحدكم ، وقال غير واحد : المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل ، وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إلى قوله عزوجل : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩]. وعن الضحاك. وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلا منهم وصرح بعضهم أن رسولا منهم يسمى يوسف ، وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل إليهم من الإنس وهل كان ذلك قبل بعثة

٢٧٢

نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال : كان الرسل يرسلون إلى الانس حتى بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الانس والجن (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) التي أوحيتها إليهم ، والحج ملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينوا (قالُوا) استئناف بياني ، والمقصود منه حكاية قولهم : كيف يقولون وكيف يعترفون (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي بإيتاء الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب ، وقوله سبحانه : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجأهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم‌السلام واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه (وَشَهِدُوا) في الآخرة (عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (كافِرِينَ) بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب ، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه.

(ذلِكَ) إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه : (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها ، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك ، وجوز أن يكون (أَنْ لَمْ) إلخ بدلا من اسم الإشارة ، وقوله تعالى : (بِظُلْمٍ) متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من (رَبُّكَ) أو من ضميره في (مُهْلِكَ) ، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ولا يأباه قوله تعالى : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره.

واعترض شيخ الإسلام على جعل (بِظُلْمٍ) حالا من (رَبُّكَ) أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد ، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد ، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه ، واختار قدس‌سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال : والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لو لا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده.

ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد : إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم

٢٧٣

السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع ، وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق تلوين الخطاب ، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم ، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا. والمعتزلة يقولون : يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة (وَلِكُلٍ) من المكلفين جنا كانوا أو إنسا (دَرَجاتٌ) أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبا (مِمَّا عَمِلُوا) أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها ، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب.

وقرأ ابن عامر «تعملون» بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول (يَعْمَلُونَ) بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) أي لا غنى عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم ، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من اللطف الجزيل ، والكلام مبتدأ وخبر. وقوله سبحانه : (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر آخر ، وجوز أن يكون هو الخبر و (الْغَنِيُ) صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء ، وفي ذلك تنبيه على أن ما تقدم ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالإهلاك ، وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ) أي وينشئ من بعد إذهابكم (ما يَشاءُ) من الخلق ، وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه‌السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم ، وما في (كَما) مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشئ إنشاء كإنشائكم أو يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم ، و (مِنْ) لابتداء الغاية ، وقيل : هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) أي إن الذي توعدونه من القيامة ، والحساب ، والعقاب ، والثواب ، وتفاوت الدرجات والدركات ، وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي ، و (ما) اسم أن ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه : (لَآتٍ) يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء ، وهو خبر أن ، والمراد أن ذلك لواقع لا محالة ، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين ، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه ، وله نظائر في الكتاب الكريم.

(قُلْ يا قَوْمِ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلا أثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار. (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ

٢٧٤

التمكن ؛ وجوز أن يكون ظرفا بمعنى المكان كالمقام والمقامة ، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها.

وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» على الجمع في كل القرآن ، وزعم الواحدي أن الوجه الإفراد وفيه نظر ، والمعنى اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي أي ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم.

والأمر للتهديد وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد ـ مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عازما عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه. وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لا بد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي إنكم لتعلمون ذلك لا محالة. فسوف لتأكيد مضمون الجملة. والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد ، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء. والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم.

والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل ، وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة.

وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول (تَعْلَمُونَ) أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار ، وفيه مع الإنذار المستفاد من التهديد إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره. وقرأ حمزة ، والكسائي «يكون» بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يظفروا بمطلوبهم ، وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم افراد الظلم (وَجَعَلُوا) أي مشركو العرب (لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) أي خلق قال الراغب : الذرء ، إظهار الله تعالى ما أبدعه يقال : ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم ، وقال الطبرسي : الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه. ومن متعلقة بجعل وما موصولة وجملة (ذَرَأَ) صلته والعائد محذوف. وقوله سبحانه : (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ) متعلق بذرأ.

وجوز أبو البقاء أن يكون «مما» متعلقا بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى : (نَصِيباً) وأن يكون (مِنَ الْحَرْثِ) حالا أيضا من ما أو من العائد المحذوف. و (نَصِيباً) على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد ، وجوز أن يكون متعديا لاثنين أولهما (مِمَّا ذَرَأَ) على أن من تبعيضية وثانيهما (نَصِيباً) ، وقيل : الأمر بالعكس.

واعترض بأنه لا يساعده سداد المعنى ، وأيا ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة ، أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءا وجزءا للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئا مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوا لله تعالى وإن سبقهم الماء الذي سموا لله تعالى فسقي ما سموا للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي فيجعلونه للأوثان

٢٧٥

ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه. وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها ويذبحون عندها فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له ، واختار هذه الرواية الزجاج وغيره.

وأصل النظم الكريم وجعلوا لله إلخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه ـ على ما قيل ـ أمر محقق عندهم وأشير إلى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي الأوثان ، وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم فيها ؛ ويحتمل أن الإضافة لأدنى ملابسة حيث إنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى. وقرأ الكسائي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش «بزعمهم» بضم الزاي وهو لغة فيه ، وجاء الكسر أيضا فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه ، وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس بجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى ، وقيل : للإيذان بأن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به. ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني.

وجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على أن معنى قولهم. (هذا لِلَّهِ) مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله سبحانه : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم ، و (ساءَ) يجري مجرى بئس ، فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل ، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا ، وقيل : إن (ساءَ) هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فإن فاعل الجارية يجب أن يكون معرفا باللام أو مضافا في الأشهر ، واختاره بعض المحققين.

(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات من الحرث والإنعام بين الله تعالى وبين شركائهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي مشركي العرب (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنونهن أحياء ، وكانوا في ذلك ـ على ما قيل فريقين. أحدهما يقول : إن الملائكة بنات الله سبحانه فألحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها. والآخر يقتلهن خشية الإنفاق ، وقيل : خشية ذلك والعار وهو المروي عن الحسن ، وجماعة ، وقيل : السبب في قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم وكانت فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا تولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم ، وقيل : إنهم كانوا ينذر أحدهم إذا بلغ بنوه ، عشرة نحر واحد منهم كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة ، وإليها أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أنا ابن الذبيحين» و (قَتْلَ) مفعول (زَيَّنَ) مضاف إلى (أَوْلادِهِمْ) من إضافة المصدر إلى مفعوله.

وقوله سبحانه : (شُرَكاؤُهُمْ) فاعل له ، والمراد بالشركاء إما الجن أو السدنة ، ووسموا بذلك لأنهم شركاء في أموالهم كما مر آنفا أو لإطاعتهم له كما يطاع الشريك لله عز اسمه. ومعنى تزيينهم لهم ذلك تحسينه لهم وحثهم عليه. وقرأ ابن عامر «زيّن» بالبناء للمفعول الذي هو القتل ، ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما

٢٧٦

بمفعوله. وعقب ذلك الزمخشري بأنه شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج. ورد زج القلوص أبي مزادة. فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في الكلام المعجز ، ثم قال : والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف (شُرَكاؤُهُمْ) مكتوبا بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب اه.

وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء ، فقد تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا كما ذهب إليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه ، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فإن القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل تغليط الله عزوجل نعوذ بالله سبحانه من ذلك. قال أبو حيان : عجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت ، وأعجب بسوء هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله تعالى شرقا وغربا ، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم اه. وقد شنع عليه أيضا غير واحد من الأئمة ، ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول.

وقد يقال : إنه لم يفرق بين المضاف الذي لم يعمل وبين غيره. ومحققو النحاة قد فرقوا بينهما بأن الثاني يفصل فيه بالظرف ، والأول إذا كان مصدرا أو نحوه يفصل بمعموله مطلقا لأن إضافته في نية الانفصال ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ ذلك فيه ولم يخص بالشعر كغيره. وممن صرح بذلك ابن مالك ، وخطأ الزمخشري بعدم التفرقة وقال في كافيته :

وظرف أو شبيهه قد يفصل

جزأي إضافة وقد يستعمل

فصلان في اضطرار بعض الشعرا

وفي اختيار قد أضافوا المصدرا

لفاعل من بعد مفعول حجز

كقول بعض القائلين للرجز

بفرك حب السنبل الكنافج

بالقاع فرك القطن المحالج

وعمدتي قراءة ابن عامر

وكم لها من عاضد وناصر

انتهى. وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية لوجب قبولها أيضا بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير ، وما ألطف قول الإمام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي ، وكثيرا ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى ، ومما ذكرنا يعلم ما في قول السكاكي : لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف ، ونحو قوله :

بين ذراعي وجبهة الأسد

محمول على حذف المضاف إليه من الأول ، ونحو قراءة من قرأ (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) لاستنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها ، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني كما في قراءة من قرأ (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] بالجر أي عرض الآخرة ، وما ذكر وإن كان فيه نوع بعد إلا أن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد اه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ببناء «زيّن»

٢٧٧

للمفعول ورفع «قتل» وجر «أولادهم» ورفع «شركائهم» بإضمار فعل دل عليه (زَيَّنَ) كما في قوله :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

كأنه لما قيل : زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه؟ فقيل : زينه شركاؤهم (لِيُرْدُوهُمْ) أي ليهلكوهم بالإغواء : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه‌السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك أو دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل : المعنى ليوقعوهم في دين ملتبس ، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين لأن مقصودهم من إغوائهم ليس إلا ذلك ، وللعاقبة إن كان من السدنة إذ ليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبته (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي عدم فعلهم ذلك (ما فَعَلُوهُ) أي ما فعل المشركون ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو ما فعل الشركاء من التزيين أو الإرداء واللبس أو ما فعل الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير المفرد مجرى اسم الإشارة (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الفاء فصيحة أي إذا كان ما كان بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو ما يفترونه من الكذب ولا تبال بهم فإن في ما يشاء الله تعالى حكما بالغة وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (وَقالُوا) حكاية لنوع آخر من أنواع كفر أولئك الكفار ، وقيل : تتمة لما تقدم (هذِهِ) أي ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) أي زرع (حِجْرٌ) أي ممنوع منها وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث.

وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء ، وقرأ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا. ويحتمل في هذا أن يكون مصدرا كالحلم ، وأن يكون جمعا كسقف ورهن. وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم أي ضيق وأصله «حرج» بفتح الحاء وكسر الراء ، وقيل : هو مقلوب من حجر كعميق ومعيق (لا يَطْعَمُها) أي يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) يعنون كما روي عن ابن زيد ـ الرجال دون النساء ، وقيل : يعنون ذلك وخدم الأوثان ، والجملة صفة أخرى لأنعام وحرث ، وقوله سبحانه : (بِزَعْمِهِمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (قالُوا) أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة (وَأَنْعامٌ) خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله سبحانه : (هذِهِ أَنْعامٌ) أي قالوا مشيرين إلى طائفة من أنعامهم وهذه أنعام. وقيل : إن الإشارة أولا إلى ما جعل لآلهتهم السابق وما بينهما كالاعتراض وهذا عطف على (أَنْعامٌ) المتقدم إدخاله فيما تقدم لأن المراد به السوائب ونحوها وهي بزعمهم تعتق وتعفى لأجل الآلهة (حُرِّمَتْ) أي منعت (ظُهُورُها) فلا تركب ولا يحمل عليها (وَأَنْعامٌ) أي وهذه أنعام على ما مر.

وقوله سبحانه : (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) صفة لأنعام مسوق من قبله تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧] في رأي لا أنه واقع في كلامهم المحكي كنظائره كأنه قيل : وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر اسم الله تعالى عليها وإنما يذكر عليها اسم الأصنام. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وائل أن المعنى لا يحجون عليها ولا يلبون. وعن مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا ولا (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي على الله سبحانه وتعالى ، ونصب (افْتِراءً) على المصدر إما على أن قولهم المحكي بمعنى الافتراء ، وإما على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء أو على الحال من فاعل (قالُوا) أي مفترين أو على العلة أي للافتراء وهو بعيد معنى ، و (عَلَيْهِ) قيل : متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر على الاحتمالين الأولين وبافتراء على الاحتمالين الأخيرين. ولا يخفى بعد تعلقه بقالوا ، والذي دعاهم إليه ومنعهم من تعلقه بالمصدر ـ على ما قيل ـ أن

٢٧٨

المصدر إذا وقع مفعولا مطلقا لا يعمل لعدم تقديره بأن والفعل ، وفيه نظر لأن تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجار به فإنه مما يكفيه رائحة الفعل.

وجوز أبو البقاء أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لافتراء أي افتراء كائنا عليه (سَيَجْزِيهِمْ) ولا بد (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي بسببه أو بدله ، وأبهم الجزاء للتهويل (وَقالُوا) حكاية لفن آخر من فنون كفرهم (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) يعنون به أجنة البحائر والسوائب كما روي عن مجاهد والسدي ، وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يعنون به الألبان ، و (ما) مبتدأ خبره قوله سبحانه : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) أي حلال لهم خاصة لا يشركهم فيه أحد من الإناث ، والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة كرواية الشعر أي كثير الرواية له أو لأن الخالصة مصدر ـ كما قال الفراء ـ كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في كلام العرب تقول : فلان خالصتي أي ذو خلوصي ، قال الشاعر:

كنت أميني وكنت خالصتي

وليس كل امرئ بمؤتمن

نعم قيل : مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعلة قليل ، وقيل : إن التاء للتأنيث بناء على أن «ما» عبارة عن الأجنة.

والتذكير في قوله تعالى : (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي على جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ ، واستبعد ذلك بأن فيه رعاية المعنى أولا واللفظ ثانيا وهو خلاف المعهود في الكتاب الكريم من العكس ، وادعى بعض أن له نظائر فيه ، منها قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء : ٣٨] إذ أنث فيه ضمير (كُلُ) أولا مراعاة للمعنى ثم ذكر حملا على اللفظ ، وقيل : إن ما هنا جار على المعهود من رعاية اللفظ أولا لأن صلة «ما» جار ومجرور تقدير متعلقه استقر لا استقر لا استقرت ولا وجه لذلك لأن المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين. والذي يقتضيه الإنصاف أن الحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل ، وذكر بعضهم أن ارتكاب خلاف المعهود هاهنا لا يخلو عن لطف معنوي ولفظي ، أما الأول فموافقة القول الفعل حيث إن المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب الإناث لضعفهن. ولذا يندب للرجل إذا أعطي شيئا لولده أن يبدأ بأنثاهم ، وأما الثاني فمراعاة ما يشبه الطباق بوجه بين (خالِصَةٌ) و (لِذُكُورِنا) وبين (مُحَرَّمٌ) و (أَزْواجِنا) وهو كما ترى.

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) عطف على ما يفهم من الكلام أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيا وإن ولدت ميتة (فَهُمْ) أي الذكور والإناث (فِيهِ) أي فيما في بطون الأنعام ، وقيل : الضمير للميتة إلا أنه لما كان المراد بها ما يعم الذكر والأنثى غلب الذكر فذكر الضمير كما فعل ذلك فيما قبله (شُرَكاءُ) يأكلون منه جميعا ، وهذا الذي ذكر في هذه الشرطية إنما يظهر على القول الأول في تفسير الموصول ، وأما على القول الثاني فيه فلا. ولعل الذي يقول به يقرأ الآية بإحدى الأوجه الآتية أو يتأول الضمير ، وقرأ الأعرج. وقتادة «خالصة» بالنصب وخرج ذلك على أنه مصدر مؤكد وخبر المبتدأ (لِذُكُورِنا) ، وقال القطب الرازي : يجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف الواقع صلة أي في حال خلوصه من البطون أي خروجه حيا ، والتزم جعلها حالا مقدرة ولعله ليس باللازم ، ومنع غير واحد جعله حالا من الضمير فيما بعده أو من ذكورنا نفسه لأن الحال لا تتقدم على العامل المعنوي كالجار والمجرور واسم الإشارة وهاء التنبيه العاملة بما تضمنته من معنى الفعل ولا على صاحبها المجرور كما تقرر في محله ، وقرأ ابن جبير «خالصا» بدون تاء مع النصب أيضا ؛ والكلام فيه نظير ما مر ، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، والأعمش «خالصة» بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «وإن

٢٧٩

تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع ، وابن كثير «يكن» بالياء وميتة بالرفع. وأبو بكر عن عاصم «تكن» بالتاء كابن عامر «ميتة» بالنصب.

قال الإمام : وجه قراءة ابن عامر أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثا في اللفظ ، ووجه قراءة ابن كثير أن «ميتة» اسم «يكن» وخبره مضمر أي إن يكن لهم أو هناك ميتة ، وذكر لأن الميتة في معنى الميت.

وقال أبو علي : لم يلحق الفعل علامة التأنيث لأن تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ولا تحتاج كان إلى خبر لأنها بمعنى وقع وحدث ، ووجه القراءة الأخيرة أن المعنى وإن تكن الأجنة أو الأنعام ميتة (سَيَجْزِيهِمْ) ولا بد (وَصْفَهُمْ) الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) [النحل : ٦٢] وهو ـ كما قال بعض المحققين ـ من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر أي ساحر ، وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له ، قال المعري :

سرى برق المعرة بعد وهن

فبات برامة يصف الملالا

ونصب (وَصْفَهُمْ) على ما ذهب إليه الزجاج لوقوعه موقع مصدر «يجزيهم» فالكلام على تقدير المضاف أي جزاء وصفهم ، وقيل : التقدير سيجزيهم العقاب بوصفهم أي بسببه فلما سقط الباء نصب (وَصْفَهُمْ).

(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تعليل للوعد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة. واستدل بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف لأن ذلك من فعل الجاهلية ، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة ، وأخرج البخاري في التاريخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا إلا كما قال الله تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) وهم العرب الذين كانوا يقتلون أولادهم على ما مر ، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من ربيعة ومضر أي هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك العقاب أو ذهب دينهم ودنياهم.

وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتّلوا» بالتشديد لمعنى التكثير أي فعلوا ذلك كثيرا (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لخفة عقلهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه ، ونصب (سَفَهاً) على أنه علة لقتلوا أو على أنه حال من فاعله ، ويؤيده أنه قرئ «سفهاء» أو على المصدرية لفعل محذوف دل عليه الكلام ، والجار والمجرور إما صفة أو حال.

(وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من البحائر والسوائب. ونحوهما (افْتِراءً عَلَى اللهِ) نصب على أحد الأوجه المذكورة ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم (قَدْ ضَلُّوا) عن الطريق السوي (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو ما كانوا مهتدين من الأصل ، والمراد المبالغة في نفي الهداية عنهم لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن فأردف ذلك بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال وأن ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض ، وصرح بعض المحققين بأن الجملة عطف على (ضَلُّوا) على الأول واعتراض على الثاني ، وقرأ ابن رزين «قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين».

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. وقال الإمام : إنه عود إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد أي وهو الذي خلق وأظهر تلك الجنات من غير شركة

٢٨٠