روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

لأحد في ذلك بوجه من الوجوه ، والمعروشات من الكرم ما يحمل على العريش وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) وهي الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا ، وهذا قول من قال: إن المعروشات وغيرها كلاهما للكرم ، وعن أبي مسلم أن المعروش ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه من الكرم وما يجري مجراه ، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعروش ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس وغير المعروش ما نبت في البراري والجبال ، وقيل : المعروش العنب الذي يجعل له عريش وغير المعروش كل ما نبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ ، وقال عصام الدين : ولا يبعد أن يراد بالمعروش المعروش بالطبع كالأشجار التي ترتفع وبغير المعروش ما ينبسط على وجه الأرض كالكرم ويكون قوله سبحانه : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) تخصيصا بعد التعميم وهو عطف على (جَنَّاتٍ) أي أنشأهما (مُخْتَلِفاً) في الهيئة والكيفية (أُكُلُهُ) أي ثمره الذي يؤكل منه ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكله» بسكون الكاف وهو لغة فيه على ما يشير إليه كلام الراغب ، والضمير إما أن يرجع إلى أحد المتعاطفين على التعيين ويعلم حكم الآخر بالمقايسة إليه أو إلى كل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الإشارة ، وعن أبي حيان أن الضمير لا يجوز إفراده مع العطف بالواو فالظاهر عوده على أقرب مذكور وهو (الزَّرْعَ) ويكون قد حذف حال النخل لدلالة هذه الحال عليها ، والتقدير والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله ، وجوز وجها آخر وهو أن في الكلام مضافا مقدرا والضمير راجع إليه أي ثمر جنات ، والحال المشار إليها على كل حال مقدرة إذ لا اختلاف وقت الإنشاء.

وزعم أبو البقاء أنها كذلك إن لم يقدر مضاف أي ثمر النخل وحب الزرع وحال مقارنة إن قدر.

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي أنشأهما (مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي يتشابه بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة ولا يتشابه في بعضها ، وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن ابن جريح أنه قال : متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم ، والنصب على الحالية (كُلُوا) أمر إباحة كما نص عليه غير واحد (مِنْ ثَمَرِهِ) الكلام في مرجع الضمير على طرز ما تقدم آنفا (إِذا أَثْمَرَ) وإن لم ينضج وينيع بعد ففائدة التقييد إباحة الأكل قبل الإدراك ، وقيل : فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو اختيار الجبائي وغيره.

(وَآتُوا حَقَّهُ) الذي أوجبه الله تعالى فيه (يَوْمَ حَصادِهِ) وهو على ما في رواية عطاء عن ابن عباس العشر ونصف العشر ، وإليه ذهب الحسن ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وطاوس ، وغيرهم ، والظرف قيد لما دل عليه الأمر بهيئته من الوجوب لا لما دل عليه بمادته من الحدث إذ ليس الأداء وقت الحصاد والحب في سنبله كما يفهم من الظاهر بل بعد التنقية والتصفية. وادعى علي بن عيسى أن الظرف متعلق بالحق فلا يحتاج إلى ما ذكر من التأويل.

وفي رواية أخرى عن الحبر أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ثم نسخ بالزكاة ، وإلى ذلك ذهب سعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وغيرهما. قيل : ولا يمكن أن يراد به الزكاة المفروضة لأنها فرضت بالمدينة والسورة مكية ، وأجاب الإمام عن ذلك بأنا لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة وكون آيتها مدنية لا يدل على ذلك ، على أنه قد قيل : إن هذه الآية مدنية أيضا ، وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة ، وأخرج ابن منصور ، وابن المنذر ، وغيرهما عن مجاهد أنه قال في الآية : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم فإذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي (حَصادِهِ) بكسر الحاء وهي لغة فيه ، وعدل عن حصده وهو المصدر المشهور لحصد

٢٨١

إليه لدلالته على حصد خاص وهو حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه كما صرح به سيبويه وأشار إليه الراغب (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تتجاوزا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى ذلك ، وروي مثله عن أبي العالية.

وعن أبي مسلم أن المراد ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب أن المعنى لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ، وقال الزهري : المعنى لا تنفقوا في معصية الله تعالى. ويروى نحوه عن مجاهد.

فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. وقال مقاتل : المراد لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام.

والخطاب على جميع هذه الأقوال لأرباب الأموال ، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن الخطاب للولاة أي لا تأخذوا ما ليس لكم بحق وتضروا أرباب الأموال. واختار الطبرسي أنه خطاب للجميع من أرباب الأموال والولاة أي لا يسرف رب المال في الإعطاء ولا الإمام في الأخذ والدفع (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذبهم عليه إن شاء جل شأنه (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل ، وهو عطف على (جَنَّاتٍ) والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما. والجار والمجرور متعلق بأنشأ. والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة.

والمراد به ما يحمل الأثقال من الأنعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره ، وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس. وإلى الثاني ذهب الجبائي ، وقيل : الحمولة الكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها ، وروي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الإبل وصغارها وهو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفي رواية أخرى الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال ، فمن تبعيضية.

والرزق شامل للحلال والحرام ، والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذه الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلا منطقيا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو ظاهر والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فالحرام ليس برزق.

وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا ، والآية لا تدل عليه ، أما إذا كانت تبعيضية فظاهر ، وأما إن كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع ، وقيل : معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا) في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طرقه فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم عليه‌السلام من الجنة وقال : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره إنه الرحمن الرحيم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) في عين الجمع المطلق قائلا يا معشر الجن أي

٢٨٢

القوى النفسانية (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم بإغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) وانتفع كل منا في صورة الجمعية الإنسانية بالآخر (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) بالموت أو المعاد على أقبح الهيئات وأسوأ الأحوال (قالَ النَّارُ) أي نار الحرمان ووجدان الآلام (مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي نجعل بعضهم ولي بعض أو وليه وقرينه في العذاب (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي حسب استعدادهم.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) وهي عند كثير من أرباب الإشارة العقول وهي رسل خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لإرسال الرسل الأخر وهي رسل خارجية.

وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) على العقل أيضا. وهذه الأسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي الأبدان أو القلوب (بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) بل ينبههم بالعقل وإرشاده إقامة للحجة ولله تعالى الحجة البالغة (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) مراتب في القرب والبعد (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) لذاته عن كل ما سواه (ذُو الرَّحْمَةِ) العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم ، والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لغناه الذاتي عنكم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) من أهل طاعته برحمته (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي جهتكم من الاستعداد (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي من ذلك (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) في قلوب عباده (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) ككرم العشق والمحبة (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء ، والوفاء ، والعفة ، والحلم ، والشجاعة. (وَالنَّخْلَ) أي نخل الإيمان (وَالزَّرْعَ) أي زرع إرادات الأعمال الصالحة (وَالزَّيْتُونَ) أي زيتون الإخلاص (وَالرُّمَّانَ) أي رمان شجر الإلهام ، وقيل في كل غير ذلك وباب التأويل واسع (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) وهو المشاهدات والمكاشفات (إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا) المريدين (حَقَّهُ) وهو الإرشاد والموعظة الحسنة (يَوْمَ حَصادِهِ) أوان وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة وَلا تُسْرِفُوا) بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل أوانها (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) لا يرتضي فعلهم (وَمِنَ الْأَنْعامِ) أي قوى الإنسان (حَمُولَةً) ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع (وَفَرْشاً) ما هو مستعد لإصلاح القالب وقيام البشرية (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان. ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالميل إلى الشهوات الفانية والاحتجاب بالسوى (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ

٢٨٣

وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١٤٧)

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما ، والمراد به هنا الأول ، وإلا كانت أربعة. وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام و (ثَمانِيَةَ) على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين ـ بدل من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء.

وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على (جَنَّاتٍ) وحذف الفعل وحرف العطف ، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى. وأن يكون مفعولا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج (وَلا تَتَّبِعُوا) جملة معترضة. وأن يكون حالا من ما مرادا بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانا للهيئة وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقا أو مؤولا به ظاهر. وتعقب ذلك شيخ الإسلام بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة انتهى. وفيه منع ظاهر ، وقوله سبحانه : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة. ونصب «اثنين» قيل : على أنه بدل من «ثمانية أزواج» بدل بعض من كل أو كل من كل أن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به.

وقال العلامة الثاني : الظاهر أن (مِنَ الضَّأْنِ) بدل من الأنعام و (اثْنَيْنِ) من (حَمُولَةً وَفَرْشاً) أو من ثمانية أزواج أن جوزنا أن يكون للبدل بدل ، وجوز أن يكون البدل «اثنين» ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها.

وقرئ «اثنان» على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب ، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر ، وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه (وَمِنَ الْمَعْزِ) زوجين (اثْنَيْنِ) التيس والعنز. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس. وقرأ أبي «ومن المعزى» وهو اسم جمع معز ، وهذه الأزواج الأربعة ـ على ما

٢٨٤

اختاره شيخ الإسلام ـ تفصيل للفرش قال : ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى (قُلْ) تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن الجواب (آلذَّكَرَيْنِ) ذكر الضار وذكر المعز (حَرَّمَ) الله تعالى (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أنثى ذينك الصنفين ، ونصب (آلذَّكَرَيْنِ) و (الْأُنْثَيَيْنِ) بحرم (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى. (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئا ما ذكر أو نبئوني ببينة متلبسة بعلم صادرة عنه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى ، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الانقطاع (وَمِنَ الْإِبِلِ) زوجين (اثْنَيْنِ) الجمل والناقة ، وهذا عطف على قوله سبحانه : و (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) والإبل ـ كما قال الراغب ـ يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع ـ كما في القاموس ـ على آبال والتصغير أبيلة.

(وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) هما الثور وأنثاه (قُلْ) إفحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) الله تعالى منهما (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من ذينك النوعين ، والمعنى ـ كما قال كثير من أجلة العلماء ـ إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه ، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.

وبيانه ـ على ما قال الكسائي ـ أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة ، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل الذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت.

ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما ؛ وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما. وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكر والإناث.

وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول : هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا : إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر. وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى. ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون ، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما.

٢٨٥

ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبختي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه ، وقول الطبرسي : إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم ، وقوله سبحانه : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) تكرير للإفحام والتبكيت ، وأم منقطعة ، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ) أي أمركم وألزمكم (بِهذا) التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولا بخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه. والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم ، والمراد به ـ على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ عمرو بن لحي بن قمئة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى ، وقيل : كبراؤهم المقررون لذلك ، وقيل : الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى ، والمراد فأي فريق أظلم ممن إلخ ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء. ومن تابع عمرا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به ، والفاء لترتيب ما بعد على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم ، ونصب (كَذِباً) قيل على المفعولية ، وقيل : على المصدرية من غير لفظ الفعل ، وجعله حالا أي كاذبا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافا لمن زعمه.

(لِيُضِلَّ النَّاسَ) متعلق بالافتراء (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير (افْتَرى) أي افترى عليه سبحانه جاهلا بصدور التحريم عنه جل شأنه ، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور.

وجوز كونه حالا من فاعل يضل على معنى متلبسا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم. وقيل : معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلا بذلك غير عالم به ، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من (النَّاسَ) وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم. واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم ، وفيه أنه ليس كل ما كان مذموما من الخلق كان مذموما من الخالق.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الحق ، وقيل : إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي ، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضا. وقيل : إلى ما فيه صلاحهم عاجلا وآجلا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول ، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى (قُلْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم.

وقوله سبحانه : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلخ كناية عن عدم الوجود ، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى ، وتنبيه ـ كما قيل ـ على أن الأصل في الأشياء الحل ، و

٢٨٦

(مُحَرَّماً) صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني (فِي ما أُوحِيَ) قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف ، وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى «أوحي» أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها (عَلى طاعِمٍ) أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم : (مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) وقوله تعالى : (يَطْعَمُهُ) في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه : (طائِرٍ يَطِيرُ) [الأنعام : ٣٨] قطعا للمجاز. وقرئ «يطعمه» بالتشديد وكسر العين ، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى ، والمراد بالطعم تناول الغذاء ، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم الكلام عليه ، والمتبادر هنا الأول ، وقد يراد به مطلق النفع ، ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا إلا عجازا صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به ، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به ، نعم قيل : المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك ، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس ، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم : رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء (يَطْعَمُهُ) على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه.

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ) ذلك الطعام أو الشيء المحرم (مَيْتَةً) المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها. وقرأ ابن كثير. وحمزة «تكون» بالتاء لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «يكون ميتة» بالياء ورفع «ميتة». وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة (أَوْ دَماً) عطف على (مَيْتَةً) أو على أن مع ما في حيزه. وقوله سبحانه : (مَسْفُوحاً) أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال. وفي الحديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال» وقد رخص في دم العروق بعد الذبح ، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء. وعن عكرمة أنه قال : لو لا هذا القيد لا تبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود.

(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ) أي اللحم ـ كما قيل ـ لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا. وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى ، وقيل ـ وهو خلاف الظاهر ـ : الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور (رِجْسٌ) أي قدر أو خبيث مخبث (أَوْ فِسْقاً) عطف على (لَحْمَ خِنزِيرٍ) على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة له موضحة. وأصل الإهلال رفع الصوت. والمراد الذبح على اسم الأصنام. إنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق. وجوز أن يكون (فِسْقاً) مفعولا له لأهلّ وهو عطف على (يَكُونَ) و (بِهِ) قائم مقام الفاعل. والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في (يَكُونَ).

قال أبو حيان : وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ «إلا أن يكون ميتة» بالرفع لأن ضمير (بِهِ) ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر اه. وعنى بذلك ـ كما قال الحلبي ـ أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام ـ من ـ التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه ـ من ـ كان ضرورة كقوله :

ترمى بكفي كان من أرمى البشر

٢٨٧

أراد بكفي رجل كان إلخ. وهذا ـ كما حقق في موضعه ـ رأي بعض ، وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة ـ كما قال السفاقسي ـ فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك ، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك (غَيْرَ باغٍ) أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين.

وقال الحسن : أي غير متناول للذة ؛ وقال مجاهد : (غَيْرَ باغٍ) على إمام (وَلا عادٍ) أي متجاوز قدر الضرورة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه.

ونصب (غَيْرَ) على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة.

وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه. وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والفسق الذي أهلّ لغير الله تعالى به ، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له.

فإن قلت : المستثنى ليس (مَيْتَةً) بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلو لا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الأشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة [النحل : ١١٥] : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وإنما تفيد الحصر ، وقال سبحانه في سورة [المائدة : ١] : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عزوجل : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.

وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو

٢٨٨

حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر (١) المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة. واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا. ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال. وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة. وبعضهم قال لاتصال الاستثناء : إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من (مُحَرَّماً) وفيه تكلف ظاهر ، وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة. والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة.

وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار. وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر هاهنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية. أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أبى ذلك البحر ـ يعني ابن عباس ـ وقرأ قل (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) الآية.

وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت : (قُلْ لا أَجِدُ) إلخ. وأخرج عن ابن عباس قال : ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه (قُلْ لا أَجِدُ) الآية. وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام. فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ؛ ثم قال : ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما استخبثته العرب فهو حرام» وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال : «يعافه طبعي» ولم يكن ذلك سببا لتحريمه. وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم انتهى. ولا يخفى ما فيه.

واستدل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله سبحانه : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ ، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إنما قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما

__________________

(١) قوله فالمصدر المتحصل من ان يكون إلخ كذا بخطه ولعله من ان يكون إلخ.

٢٨٩

على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به».

واستدل الشافعية بقوله سبحانه : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل ، والنعام ، والإوز ، والبط قاله ابن عباس ، وابن جبير وقتادة ، ومجاهد ، والسدي وعن ابن زيد أنه الإبل فقط. وقال الجبائي : يدخل فيه كل السباع والكلاب ، والسنانير ، وما يصطاد بظفره ، وعن القتبي. والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا مجازا. واستبعد ذلك الإمام ، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراما قبله.

ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة (حَرَّمْنا) وهذا ـ كما قيل ـ تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيها فصل بإبطال ما يخلفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون : لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح ، وإبراهيم ، ومن بعدهما عليهم‌السلام حتى انتهى التحريم إلينا ، وقال بعض المحققين : إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبا عليهم : وقرأ الحسن «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء. وقرأ أبو السماك بكسرهما. وقرئ كما قال أبو البقاء «ظفر» بضم الظاء وسكون الفاء.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) لا لحومهما فإنها باقية على الحل ، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى. وقيل : هو عام استثني منه ما سيأتي. و (مِنَ الْبَقَرِ) متعلق بحرمنا بعده. وكان يكفي حينئذ أن يقال : الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال : أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم ، وجوز أبو البقاء ـ وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر ـ أن (مِنَ الْبَقَرِ) عطف على (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) على معنى وبعض البقر وجعل (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) تبيينا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه.

(إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي ما علق بظهورهما. والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم. وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحما يحنث بشحم البطن فقط وخالفه في ذلك صاحباه فقالا : يحنث بشحم الظهر أيضا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار. وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال. وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاما لا شحاما. والاتصال وإن كان أصلا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى : (أَوِ الْحَوايا) فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما أو المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والأمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة. وللقائل بالاتصال أن يقول : العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر (الْحَوايا) بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء. وجوز غير واحد أن يكون العطف على (ظُهُورُهُما) وأن يكون على (شُحُومَهُما) وحينئذ يكون ما ذكر محرما وإليه ذهب بعض السلف. وهو يعطف قوله تعالى : (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص ، وقيل : هو المخ ولا يقول أحد إنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضا. و (الْحَوايا) قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل

٢٩٠

وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة إلفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا ؛ وقيل : جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضا وإعلاله كما علمت ، وقيل : جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام الفا فصار حوايا.

وجوز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضا. و (أَوِ) بمعنى الواو.

وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] وقال الزجاج : هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا. و (أَوِ) بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت : لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم ولا تطع الجماعة ، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب. واختاره العلامة الثاني وقال : الوجه أن يقال إن كلمة (أَوِ) في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل. وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم ، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال : وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط. وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن ، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في «أو» هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثني منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم و (أَوِ) على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع (ذلِكَ) إشارة إلى الجزاء أو التحريم : فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده. وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم (جَزَيْناهُمْ) وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره. وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والحلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارا به إلى المصدر غير متبوع به.

وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه (بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم.

وقيل : المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن ابراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضا. ولا بعد

٢٩١

في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي. وعد منها ـ واقتصر عليهم بعضهم ـ الوعد والوعيد.

وقوى الإمام بهذه الآية ما ذهب إليه الإمام مالك ، وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها. وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين : الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا. والثاني أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال : إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذا وجب حمله على المخلب. والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين. الأول إفادة التركيب الحصر لغة ، والثاني أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع. وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصا باليهود. وحينئذ فما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي اليهود كما قال مجاهد ، والسدي ، وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد بعنوان الإشراك ، وقيل: الضمير للمشركين فالمعنى على الأول إن كذلك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) عظيمة (واسِعَةٍ) لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي لا يدفع عذابه بالكلية (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا. وعلى الثاني فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم : ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال.

وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد ، وقيل : المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى : (وَلا يُرَدُّ) إلخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لاحق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى

٢٩٢

يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٦٥)

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) حكاية لفن آخر من أباطيلهم والأخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥] صريح في أنه من عند الله تعالى ، وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الإعجاز لكلامه ولم يكن الإعجاز به فقط كما في قوله مضعف (لَوْ شاءَ اللهُ) عدم إشراكنا وعدم تحريمنا شيئا (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم

٢٩٣

إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عزوجل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والإرادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عزوجل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى. وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عزّ من قائل : (كَذلِكَ) أي مثل ما كذب هؤلاء (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم أسلافهم المشركون. وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم‌السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم. ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم‌السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم : إن ما نرتكبه مشروع مرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول ، وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا. وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي ، ويجوز أيضا أن يقال مقصود المشركين من قولهم ذلك : رد دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذكور في كثير من الكتب الكلامية. وحاصله حينئذ أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطا بالاستطاعة فينتج أن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم‌السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب ، ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنها لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة. وسيأتي توجيه آخر إن شاء الله تعالى قريبا للآية.

وعطف (آباؤُنا) على الضمير المرفوع في (أَشْرَكْنا) وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان ، وقد فصل بلا هاهنا ، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وإن لم يفصل حرف العطف. وادعى الإمام أن في الكلام تقديرا لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الإشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا إشكال. (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم ، وفيه ـ على ما قيل ـ إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء.

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم (فَتُخْرِجُوهُ) أي فتظهروه (لَنا) على أتم وجه وأوضح بيان ، وقيل : المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما ادعيتهم أن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان ، وجعل إمام الحرمين في الإرشاد هذا وما بعده دليلا على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزءون بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم‌السلام حيث قرع

٢٩٤

مسامعهم من شرائع الرسل عليهم‌السلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزءين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق.

(إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تكذبون على الله تعالى ، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر (قُلْ فَلِلَّهِ) خاصة (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية ، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان ، وقال شيخ مشايخنا الكوراني : (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جودا ورحمة لا وجوبا. وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد به إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور ، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم جميعا (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.

وقال الكوراني : المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول. وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به ، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر. وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عزوجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم ، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع ، واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون.

المقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وإن أقامتهم الحجة بذلك خاصة ، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان. والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين.

ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم‌السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة.

وقوله سبحانه : (فَلَوْ شاءَ) إلخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب

٢٩٥

بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة ، ثم قال : وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النخل يجب أن يكون عندكم حقا لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة ، وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه ، ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلو عن دغدغة فتدبر (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أي احضروهم للشهادة وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم. وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال.

وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال. وعلى هذا تكون (هَلُمَ) اسم فعل مطلقا كما في شرح التسهيل وعليه الرضي حيث قال : وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظرا إلى أصله. وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس ، واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر. ودفع بما نقله الرضي عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به ما فعل. ويكون متعديا بمعنى احضر وائت ولازما بمعنى أقبل كما في قوله تعالى : (هَلُمَّ إِلَيْنا) [الأحزاب : ١٨] (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم. والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم وإظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم. وهذا إشارة إلى ما حرموه من الأنعام على ما حكته الآيات السابقة.

وقال مجاهد : إشارة إلى البحائر والسوائب (فَإِنْ شَهِدُوا) أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالرضا ، وإرادة هذا المعنى من «لا تشهد» إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة ، ومن الناس من زعم أن ضمير (شَهِدُوا) للمشركين أي فإن لم يجدوا شاهدا يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد ، وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فإن لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من وضع المظهر موضع المضمر للإيماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها ، والخطاب ـ قيل ـ لكل من يصلح له. وقيل : لسيد المخاطبين والمراد أمته.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس ، وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الإقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع إنكار الآخرة ولا يخفى ما فيه (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له عديلا أي شريكا فهو كقوله تعالى : (هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل : ١٠٠] وقيل : يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عزوجل ، وقيل : (يَعْدِلُونَ) بعبادتهم عنه تعالى ، والجملة عطف على (لا يُؤْمِنُونَ) والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بالآيات والكفر بالآخرة والإشراك بربهم عزوجل لكن لا على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها ، وقيل : الجملة في موضع الحال من

٢٩٦

ضمير (لا يُؤْمِنُونَ قُلْ تَعالَوْا) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات ، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم ، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا ، ويحتمل هنا ـ كما قيل ـ أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم تراقوا إلى ذروة العلم وقمة العز.

وقوله سبحانه : (أَتْلُ) جواب الأمر أي إن تأتوني أتل ، و «ما في» قوله تعالى : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه ، والمراد الآية الدالة عليه ، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل ، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم ، والجملة مفعول «أتل» لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه.

والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم ، وقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ) متعلق على كل حال بحرم ، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة ، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي من الإشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمفعولية ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب (أَلَّا). وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي أحسنوا بهما (إِحْساناً) كاملا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما ، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عزوجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان. وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بالوأد (مِنْ إِمْلاقٍ) من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] وقيل : الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه : (مِنْ إِمْلاقٍ) من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل ، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عزوجل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل : «نحن نرزقهم وإياكم» وهو كلام حسن.

وأيا ما كان فجملة (نَحْنُ) إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي الزنا ، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، وقيل : المراد بها المعاصي كلها.

وفي المراد ـ بما ظهر منها وما بطن ـ على هذا أقول تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة. ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات ، ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن

٢٩٧

القتل مطلقا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل : «ذاك وأد خفي» وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه ، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها. وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي ، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله (إِلَّا بِالْحَقِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها ، وذلك كما ورد في الخبر بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا إلا قتلا كائنا وهو القتل بأحد المذكورات (ذلِكُمْ) أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي طلبه منكم طلبا مؤكدا ، والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه. وقال الإمام : جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره ، وقيل : المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد ؛ والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل : احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] والأشد ـ على ما قال الفراء ـ جمع لا واحد له. وقال بعض البصريين : هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما. وقيل : هو جمع شدة كنعمة وأنعم ، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح.

وقال ابن الأنباري : إنه جمع شد بضم الشين كود وأود. وقيل : جمع شد بفتحها. وأيا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. ومنه قول عنترة :

عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي. وجماعة بلوغ الحلم. وقيل : أن يبلغ ثماني عشرة سنة ، وقال السدي : أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) [النساء : ٦] وقيل : غير ذلك. وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر (وَأَوْفُوا) أي أتموا (الْكَيْلَ) أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول (وَالْمِيزانَ) كذلك ـ كما قال أبو البقاء ـ وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير (أَوْفُوا) أي مقسطين. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا من المفعول أي تاما. ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد.

وفي التفسير الكبير فإن قيل : إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا : أمر الله تعالى المعطى بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء

٢٩٨

الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل : عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل : جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق (وَإِذا قُلْتُمْ) قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما (فَاعْدِلُوا) فيه وقولوا الحق (وَلَوْ كانَ) المقول له أو عليه (ذا قُرْبى) أي صاحب قرابة منكم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. والجار والمجرور متعلق بما بعده ، وتقديمه للاعتناء بشأنه (ذلِكُمْ) أي ما فصل من التكاليف الجليلة (وَصَّاكُمْ بِهِ) أمركم به أمرا مؤكدا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم «تذكرون» بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد.

وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهذه بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك. وقتل الأولاد. وقربان الزنا ، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم. وإيفاء الكيل. والعدل في القول. والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان ؛ قاله القطب الرازي : ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول؟ قلت : أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.

وقال الإمام : السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى. ويمكن أن يقال : إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأخر فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي فيكون الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي) إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي ، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي ، وقيل : إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.

وقرأ حمزة والكسائي «إن» بالكسر. وابن عامر. ويعقوب بالفتح والتخفيف ، والباقون به مشددة.

وقرأ ابن عامر «صراطي» بفتح الياء ، وقرئ و (هذا صِراطِي). «وهذا صراط ربكم» (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٢٦] وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه ، ونصبه على الحال (فَاتَّبِعُوهُ) أي اقتفوا أثره واعملوا به (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية ، وأخرج ابن المنذر ، وعبد ابن حميد ، وغيرهما عن مجاهد

٢٩٩

أنها البدع والشبهات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه (عَنْ سَبِيلِهِ) أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام ، وقيل : هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان ، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه‌السلام عين سبيل الله تعالى ، وقد أخرج أحمد. وجماعة عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا بيده ثم قال «هذا سبيل الله تعالى مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبيل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) إلخ ، وإنما أضيف إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عزوجل (ذلِكُمْ) إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه. قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويا لها من وصية ما أعظم شأنها ، وأوضح برهانها.

وأخرج الترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعالَوْا) إلى (تَتَّقُونَ) وأخرج ابن حميد ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث» ثم تلاهنّ إلى آخرهن ثم قال «فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه».

وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال : سمع كعب رجلا يقرأ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلخ فقال : والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.

هذا وأن في قوله سبحانه (أَلَّا تُشْرِكُوا) يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية قال العلامة الثاني : وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرم بدلا من ما أو عائده المحذوف. وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على لا تشركوا وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرما فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب ، وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام ؛ وإن جعلت أن مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان ، أحدهما عطف (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) على (أَلَّا تُشْرِكُوا) مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل. وثانيهما عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بيانا لتلاوة المحرمات بل الواجبات ، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه ، ولا سبيل حينئذ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت.

وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي) ليس عطفا على (أَلَّا تُشْرِكُوا) بل

٣٠٠