روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسىعليه‌السلام ذلك منهم قال : هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.

وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) إلى قوله تعالى : (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا ، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئا أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء اللهعزوجل.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عطف على (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام : (أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) يوم القيامة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه الصلاة والسلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عزوجل.

وقيل : قاله سبحانه عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرا لله تعالى حين خاطبه بذلك ، وكان الأولى لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية لنفيها عن أمه. والثالثة لإثباتها لله عزوجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضا خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٦٢] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى. (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان : ١٧] وقال بعض : لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه ، وقيل : التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن

٦١

المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها ، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه ، وفي قوله (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل : أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد.

وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام (لِلنَّاسِ) للتبليغ ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول و (إِلهَيْنِ) مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول و (مِنْ دُونِ اللهِ) حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه. فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عزوجل. وهذا كما في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) إلى قوله سبحانه : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك.

وقال الراغب : إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال : إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذ يكون (مِنْ دُونِ اللهِ) مجازا عن مع الله تعالى أو يقال : إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا : هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها.

وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلها في حق ذلك البعض ، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام.

واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها‌السلام إلها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر (إِلهَيْنِ) على طريق الإلزام لهم. والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذ على حد ـ القلم أحد اللسانين ـ والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم : المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.

(قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر. وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عزوجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته ، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية ،

٦٢

وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ إلهان دونك ، وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك ، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير ـ على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت ـ علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب ، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى.

وقوله سبحانه : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول (أَقُولَ) والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولا أوليا ، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ليس ضمير عائد إلى ما و (بِحَقٍ) خبره ، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس. ومعنى (ما يَكُونُ لِي) أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه : والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الأوقات ، وجوز أبو البقاء أن يكون (لِي) خبر ليس و (بِحَقٍ) في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس و (لِي) صفة حق قدم عليه فصار حالا ، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم المجرور عليه ، وقيل : إن (لِي) متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره ، وقوله عزوجل : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال.

وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك ، وقد نقل ذلك عثمان ابن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته ، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه‌السلام ، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة ، قيل : وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولى مجاز فيما عداه ، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب ، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات

٦٣

وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة ، ومن ذلك قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران ٢٨ ، ٣٠] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال» وقوله عليه الصلاة والسلام : «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عزوجل ولأجل ذلك مدح نفسه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه» إلى غير ذلك من الأخبار.

وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره : إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث ، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) [البقرة : ١٣٨] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة ، نعم قيل : إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي. وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه ، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ (فِي) فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه‌السلام والارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرا إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام ، وقال الراغب : يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال : تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فاعلم ما فيها كقول الشاعر :

ولا ترى الضب بها ينجحر

وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه‌السلام أيضا ، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تقرير لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضا ، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه.

وقوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) استئناف ـ كما قال شيخ الإسلام ـ مسوق لبيان ما صدر عنه عليه‌السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل : (ما قُلْتُ لَهُمْ) نزولا على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معا آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ). ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا كقوله :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فكذا ما أول به لأنه ـ كما قال ابن هشام ـ لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن

٦٤

الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر.

وجوز إبقاء القول على معناه و (أَنِ اعْبُدُوا) إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدرا ، قيل : عطف بيان للضمير في (بِهِ) ، واعترض بأنه صرح في المغني بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان ، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في المغني قد أشار شراحه إلى رده ، وقيل : بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في الكشاف بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه ، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقا بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضا : إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط ، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله : وأنت الذي في رحمة الله أطمع. ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافا لهم ، وجوز أن يكون بدلا من (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ، واعترض بأن (ما) مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلا كانت مفعول القول مع أنها ليست واحدا من هذه الأمور فلا يقال : ما قلت لهم إلا العبادة ، وفي الانتصاف أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم : إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] أي الوطن الذي قالوا قولا يتعلق به وقوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم : ٨٠] ونحو ذلك ، وفي الفوائد أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ويصح كون هذه الجملة بدلا من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة و (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) مفرد لفظا وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف ، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر ، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكى به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله ونحوه ، وأجيب عن هذا بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه‌السلام حكى معنى قول الله عزوجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه‌السلام : مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه‌السلام : اعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه‌السلام قال : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [طه : ٥٢ ، ٥٣] فإن موسى عليه‌السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه‌السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عزوجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] إلى قوله سبحانه : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الزخرف : ١١] إلى غير ذلك.

وقال أبو حيان : يجوز أن يكون المفسر (اعْبُدُوا اللهَ) ويكون (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى عليه‌السلام على إضمار أعني لا على الصفة لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [النساء : ١٥٧] على رأي. وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف م ٥ ـ

٦٥

المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه ، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف.

وقيل على الأول : إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسرا له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولا فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا.

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهدا لأحوالهم من إيمان وكفر ، و (عَلَيْهِمْ) كما قال أبو البقاء متعلق بشهيدا ، ولعل التقديم لما مر غير مرة (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي مدة دوامي فيما بينهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور.

وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه‌السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا ، وقيل : المراد بالرقيب المطلع المشاهد ، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها ، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام ، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولا ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيبا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم به كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات ، و (أَنْتَ) ضمير فصل أو تأكيد و (الرَّقِيبَ) خبر كان. وقرئ «الرقيب» بالرفع على أنه خبر أنت ، والجملة خبر كان و (عَلَيْهِمْ) في القراءتين متعلق بالرقيب.

وقوله سبحانه : (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه ـ على ما قيل ـ إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه‌السلام فيما بينهم ، و (عَلى) متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة ، وقوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) على معنى أن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه ، وقيل : على معنى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وما ذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه ، وقيل : المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا ، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم ، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه.

(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة ، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر ، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن.

٦٦

وقد نقل الإمام أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا : لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم ، وهذا قول عيسى عليه‌السلام في الدنيا اه.

ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق ، وقيل : الترديد بالنسبة إلى فرقتين ، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك إلخ وهو بعيد جدا ، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه وإن تغفر إلخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته ، ولذا قال سبحانه (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما ، وما جاء في الإخبار مما أخرجه أحمد في المصنف والنسائي والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) إلخ فلما أصبح قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال : إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئا»وما أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الأسماء والصفات. وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٣٦] الآية ، وقوله عزوجل في عيسى ابن مريم : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) إلخ فرفع يديه فقال : اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته : يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقل له : إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك» وما أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال : «قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن أو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال : دعوت الله سبحانه لأمتي قال : فما ذا أجبت؟ قال : أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت : أفلا أبشر الناس؟ قال : بلى فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع» لا يقوم دليلا على أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن على الوجه الذي قصده عيسى عليه‌السلام منه ، ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتبس ذلك من القرآن مؤديا به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء ، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن (١) شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر ، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاما طويلا حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر ، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري ، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك.

وقيل : إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما ، وفي أمالي العز بن عبد السلام أن (الْعَزِيزُ) معناه هنا الذي لا نظير له ، والمعنى

__________________

(١) هكذا في الأصل تأمل.

٦٧

وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك ، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم ، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به ، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط ، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم ، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام.

(قالَ اللهُ) كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكي مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله ، وصيغة الماضي لما تحقق ، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه‌السلام مشيرا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضا عنه عليه‌السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل.

(هذا) أي اليوم الحاضر (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه‌السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق ترغيب السامعين المقصود بالحكاية في الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صِدْقُهُمْ) أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذ ، وقيل : في الآخرة.

والمراد من الصادقين الأمم ومن (صِدْقُهُمْ) صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى ، وقيل : المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه‌السلام فيما قاله جوابا عن السؤال على ما يقتضيه السوق ، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة ، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق ، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء ، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه ، ولعل فيما تقدم غني عن هذا كما لا يخفى على الناظر ، وقيل : المراد من الصادقين النبيون ومن (صِدْقُهُمْ) صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه‌السلام في قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة.

وقيل : المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم ، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه‌السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء ، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ و (يَوْمُ) بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده «يوم» بالنصب على أنه ظرف لقال و «هذا» مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه‌السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرا ؛ والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه‌السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع ، وجوز أن يكون «هذا» مفعولا به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولا مطلقا لأنه بمعنى القول ، وقيل : إن «هذا» مبتدأ و «يوم» خبره وهو مبني على الفتح بناء على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله : على حين عاتبت المشيب على الصبا. وألحقوا بذلك الفعل المنفي ، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة.

وقرأ الأعمش «يوم» بالرفع والتنوين على أنه خبر (هذا) والجملة بعده صفته بحذف العائد ، وقرأ «صدقهم»

٦٨

بالنصب على أن يكون فاعل (يَنْفَعُ) ضمير الله تعالى ، و (صِدْقُهُمْ) كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك : صدقته القتال ، والمراد يحققون الصدق.

(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل : ما لهم من النفع؟ فقيل : لهم نعيم دائم وثواب خالد ، وقوله سبحانه : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عزوجل الذي لا غاية وراءه كما ينبئ عن ذلك قوله سبحانه : (وَرَضُوا عَنْهُ) إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال (ذلِكَ) إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في البحر وإليه يشير ما روي عن الحسن (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلا (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما‌السلام.

وقيل : استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : من يملك ذلك ليعطيهم إياه؟ فقيل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ) [آل عمران : ١٨٩ ، المائدة : ١٨ ، النور : ٤٢ ، الشورى : ٤٩] إلخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده. وفي إيثار «ما» على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة ـ كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية ، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (قَدِيرٌ) أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدرا بتقدير الإرادة. والعلم واقعا على وفقهما ، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير. والتقديم لمراعاة الفاصلة ، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام ، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة «ولله ملك السماوات والأرض والله سميع بصير».

ومن باب الإشارة في الآيات : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار ، وقيل : قلب المؤمن ، وقيل : الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عزّ شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران» (قِياماً لِلنَّاسِ) من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك (وَالْهَدْيَ) وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي (وَالْقَلائِدَ) وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) بما يحصل لكم (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال (وَالطَّيِّبُ) من ذلك (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني

٦٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان البرهاني (لا تَسْئَلُوا) من أرباب الإيمان العياني (عَنْ أَشْياءَ) غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لإنكار كم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا ـ كما قيل ـ تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) الجامع للظاهر والباطن والمتضمن لما سئلتم عنه (تُبْدَ لَكُمْ) بواسطته (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات (وَلا سائِبَةٍ) وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات (وَلا وَصِيلَةٍ) وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة (وَلا حامٍ) وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان ، وقال : يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات.

ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقلندرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة ، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة ، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد ، والحام إشارة إلى المغرور بالله عزوجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) لمتابعته (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الشريعة والطريقة (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحقيقة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فاشتغلوا بتزكيتها (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) عما أنتم فيه فأنكر عليكم (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وزكيتم أنفسكم ، وإنما ضرر ذلك على نفسه.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير ، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وهو يوم القيامة الكبرى (فَيَقُولُ) لهم (ما ذا أُجِبْتُمْ) حين دعوتم الخلق (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) بذلك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فتعلم جواب ما سئلنا ، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب.

وقال بعض أهل التأويل : يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ) للأحباب والمريدين (نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة ، وقيل : المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي مهد البدن أو في المهد المعلوم. والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية (وَكَهْلاً) أي في حال كبرك ، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) وهو كتاب الحقائق والمعارف (وَالْحِكْمَةَ)

٧٠

وهي حكمة السلوك في الله عزوجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد (وَالتَّوْراةَ) أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها (وَالْإِنْجِيلَ) العلوم الباطنة ومنها تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته (وَإِذْ تَخْلُقُ) بالتربية أو بالتصوير (مِنَ الطِّينِ) وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور (فَتَنْفُخُ فِيها) من الروح الظاهرة فيك (فَتَكُونُ طَيْراً) نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة (بِإِذْنِي) حيث صرت مظهرا لي (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي المحجوب عن نور الحق (وَالْأَبْرَصَ) أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى (بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) بداء الجهل من قبور الطبيعة (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات (عَنْكَ) فلم ينقصك كيدهم شيئا (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) بطريق الإلهام (إِلَى الْحَوارِيِّينَ) وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع (أَنْ آمِنُوا بِي) إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات (وَبِرَسُولِي) برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل.

وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك ، والروح ، والقلب ، والعقل ، والسر ، وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء. ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام (مِنَ السَّماءِ) أي من جهة سماء الأرواح (قالَ اتَّقُوا اللهَ) أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ولا تسألوا شريعة مجددة (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) بأن نعمل بها (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) فإن العلم غذاء (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في الاخبار عن ربك وعن نفسك (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ) بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين (بَعْدُ) أي بعد الإنزال (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) إلخ كلام الشيخ الأكبرقدس‌سره. وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي فيه شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في كل مبدأ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.

٧١

سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

كما أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن مردويه ، والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة. وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين أتل (تَعالَوْا أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] والتي بعدها. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا : نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) [الأنعام : ١١١] فإنها مدنية ، وقال غير واحد : كلها مكية إلا ست آيات (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] إلى تمام ثلاث آيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلى آخر الثلاث. وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمس وستون. وعند البصريين والشاميين ست وستون. وعند الحجازيين سبع وستون. وقد كثرت الأخبار بفضلها فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال عليه الصلاة والسلام : «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق» وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه ، وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله تعالى به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة».

وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال : من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام إلى قوله تعالى (تَكْسِبُونَ) بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة أدخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال : أنا ربك حقا وأنت عبدي إلى غير ذلك من الأخبار ، وغالبها في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها. ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك. وحكى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه. والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه. والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه.

٧٢

ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا ، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه مناسبتها لآخر المائدة على ـ ما قال بعض الفضلاء ـ إنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر : ٧٥].

وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) [المائدة : ١٢٠] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ) [الأنعام : ١٢] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عزّ من قائل : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عزوجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن ، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٨٧] إلخ ، وذكر جل شأنه بعده (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا ، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] وقوله عزّ اسمه (الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا : (وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران : ١٤] وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ، الأنبياء : ٣٥ ، العنكبوت: ٥٧] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال : إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني : إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا ، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع ، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول ، وفي الكهف إلى

٧٣

الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عزوجل من قائل :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) جملة خبرية أو إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد أخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم. ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال : بعت بائع.

واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل : ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر ، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلّا من المحذور. نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه ، وقيل : إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها. ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على

٧٤

الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظاهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عزوجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة. ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي.

وقد صرح الإمام في شرح الإشارة عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر. والثانية وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقا للعبادة. والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه. ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه ـ كما قال الشهاب ـ لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات. ولذا قال أهل الظاهر :

صفاته لم تزد معرفة

لكنها لذة ذكرناها

فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم. والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل. وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات.

وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام.

وحاصله أن اللام الجارة في «لله» لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد : إن التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما بقي فرق بين «الحمد لله» وله الحمد غير كون الثاني أوكد من الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر دون الآخر وإن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عزوجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقا بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب. ويعضد ما أشير إليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب ، نعم في

٧٥

ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه مقصورا عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف. ثم قال : وبالجملة إن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مدعى ومدلول.

وقوله سبحانه وتعالى : (الَّذِي خَلَقَ) إلخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولا على ما قيل وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد ، ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها ، وأيضا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ما ذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل. وأما ما يقال : إنما قيل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودا عليه.

وقد يقال : إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم مقامه فكأنهم قالوا : الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل : الإله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السماوات والأرض ولكونه كذا وكذا. وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى.

فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات ـ على ما قيل ـ : هل له وجه أم لا؟ قلت : أما كون الذات الصرف محمودا عليه ، وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له.

وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء ، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح

٧٦

بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى ، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد.

وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم ، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ١] وبين (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) [سبأ : ١] مما محصله أن جملة (لَهُ الْحَمْدُ) جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به تعالى بخلاف جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ) إلخ فإنها لم يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه ، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ) إلخ بخلاف جملة (لَهُ الْحَمْدُ) ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير ، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك. وجمع سبحانه السماوات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم. ولذا عيب على أبي نواس قوله :

وما لك فاعلمن فينا مقالا

إذا استكملت آجالا ورزقا

حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل ، وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف. وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك. والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتبليغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة القدس لأنها ليست بدار قرار ، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها ، وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد ، وكذا كون الله تعالى وصف بقاعا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا ، ولهذا الشرف أيضا قدمت على الأرض في الذكر ، وقيل : إن جمع السماوات وافراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم ، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول.

وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض.

٧٧

واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس ، وقال بعضهم : إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض ، ولهذا لم تجمع ، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين» فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة ، وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال : أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام» والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية ، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته ، والمراد من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام» ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي ، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أو أم كل صاد ، وحمل المماثلة في الآية أيضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر.

ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السماوات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم.

وعن الشيخ الأكبر قدس‌سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض ، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام ، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد.

والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السماوات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) عطف على (خَلَقَ السَّماواتِ) داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل ، والجعل ـ كما قال شيخ الإسلام ـ الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني ، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] وأيّا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه ، وقيل : الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية.

واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفساد يبطل بمجرد هذا ، وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه ، وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ

٧٨

بُيُوتاً ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) [الفرقان : ٥٢ ، ٥٣] إلى غير ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر ، وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أو لما قدمناه في البقرة.

وقيل. لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد ، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسماوات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده ، وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل.

وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر ، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وهو باطل ، أما أولا فلأن كونها أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم ، وأما إن قيل : إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس ، وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة ، وأما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أولا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل : إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل : إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها. وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم ، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم «بيان الصغرى بثلاثة أوجه» ، الأول أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة. والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء. والثالث أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة «والجواب» أن قولهم : الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل. وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل ، وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم. ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء ، والخفاء المطلق هو الظلمة ، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لا يجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور. الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية ، والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل

٧٩

النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده. والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى ، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا. وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية. الثاني أن البياض قد يكون مضيئا ومشرقا وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال إذا الضوء لا يقابله إلا الظلمة.

الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلا قد لا يكون مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذ يرى ضوءه فذلك ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلا بد من التغاير.

الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا ، وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لما ذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوءه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة ، وفرق الإمام بين النور ، والضوء ، والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال : إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة ، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءا والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نورا ، والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا. والذي يكون للشيء من غيره كما للمرأة يسمى بريقا.

وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضا ، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور ، والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة ، ولهذا قدمت الظلمات على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على الملكات.

وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فيهما العدم والملكة المشهوران ، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب ، فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما ينشأ من المادة المهيأة قبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها ، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل. وقال المولى ميرزاجان : لا بد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلا للوجودي ، ولا يكفى نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له ، ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب.

قال في الشفاء : العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة ، وهذا مما لا بد منه في معناه المشهور انتهى ، وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام ، وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود : إن عدم

٨٠