روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه ، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة ، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر.

وقيل : الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على (لا رَيْبَ فِيهِ) فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل : فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان ، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي سماوات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم ، ويقال : الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ) أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك ، ويقال : الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام. وقال بعضهم : الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب. ثم بعد ظهور ذلك (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وهو طين المادة الهيولانية (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو البقاء بعد الفناء ، وقيل : الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية. ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس. والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر (ثُمَّ أَنْتُمْ) بعد ما علمتم ذلك (تَمْتَرُونَ) وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) في عالم الأرواح وهو عالم الغيب (وَجَهْرَكُمْ) في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها ، وقيل : المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) الأنفسية والآفاقية (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود (وَقالُوا) لضعف يقينهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) فنراه لتزول شبهتنا (وَ (١) لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ليمكنهم مشاهدته (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما في العالمين (قُلْ لِلَّهِ) إيجادا وإفناء (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره : إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق. وهي المرادة في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة. وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة ، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة.

وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة «شفعت الملائكة

١٠١

وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه» كما في الخبر فهي امام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه ، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد الحمد لله رب العالمين. فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت ، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء ، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما ، ويقول الشرع في حمد السراء : الحمد لله المنعم المتفضل ، ويقول في حمد الضراء : الحمد لله على كل حال فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى ، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله تعالى عقيب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] الرحمن الرحيم فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم ، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى.

وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات ؛ ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص ؛ ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه ، نعم تنقسم الرحمة من بعض الحيثيات إلى قسمين ، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] ، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن ، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال.

وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس‌سره أن الجلال أسبق من الجمال. فقد ورد في الحديث : «العظمة إزاري والكبرياء ردائي» ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال : ولا يناقض هذا قوله جل شأنه : «سبقت رحمتي غضبي» فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال ، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر.

وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار. وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة. نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى أو الكبرى (لا رَيْبَ فِيهِ) في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لذلك ، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

١٠٢

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٣٥)

(وَلَهُ) عطف على (لِلَّهِ) فهو داخل تحت (قُلْ) على أنه احتجاج ثان على المشركين وإليه ذهب غير واحد.

١٠٣

وقال أبو حيان : الظاهر أنه استئناف اخبار وليس مندرجا تحت الأمر أي ولله سبحانه وتعالى خاصة (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي الوقتين المخصوصين. وما موصولة. و (سَكَنَ) إما من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير تقدير ، وتعديتها بفي إلى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان ، وجوز أن يكون هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السماوات والأرض ما سكن فيهما واستقر ، والمراد وله ما اشتملا عليه ، وإما من السكون ضد الحركة كما قيل ، وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] والتقدير ما سكن فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون أكثر وجودا وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل :

إذا هبت رياحك فاغتنمها

فإن لكل خافقة سكون

ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة. ورد بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرم في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. وأجيب بأن هذا المحذوف في قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لا يستدعي الذكر وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل والنهار ، ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية عن جميع ذلك ناسب المقام.

وقيل : إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركا بناء على ما حقق في موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها ، وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة المشهورة كلام طويل يطلب من محله (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي المبالغ في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين (الْعَلِيمُ) أي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة ؛ والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقوالهم وأفعالهم ولذا خص السمع والعلم بالذكر ، وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن تكون من مقول الله تعالى : (قُلْ) للمشركين بعد توبيخهم بما سبق (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة. ونحوه (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد قيل : إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام : يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت. واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل : أأتخذ غير الله وليا. وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبودا لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل :

إذا صافى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

وقيل : الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة ، ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصرا أنه لا يتخذه معبودا من باب الأولى ، ويحتمل الكلام ـ على ما قيل ـ أن يكون من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى إمحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٢٢]. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وأخرج أبو عبيدة وابن جرير ، وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى عنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : أنا ابتدأتها ، وهو نعت للجلالة مؤكد

١٠٤

للإنكار ، وصح وقوعه نعتا للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاما من الله تعالى ابتداء أو محكيا عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم ، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري «فطر» ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف ، وقيل : بدل من الاسم الجليل ، ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل ، وقرئ بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو أمدح فاطر ، وجوز أن يكون النصب على البدلية من (وَلِيًّا) لا الوصفية لأنه معرفة ، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له.

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي ، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧] وعبر بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه ، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة ، والجملة في محل نصب على الحالية ، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرءوا «ولا يطعم» بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى ، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين ، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، والضمير حينئذ في الفعلين لغير الله تعالى أي اتخذ من هو مرزوق غير رازق وليا ، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى ، وقد يقال : الكلام كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسا ، وقرأ الأشهب (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) ببنائهما للفاعل ، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاما ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى (يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] والضميران لله تعالى ، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير (قُلْ) بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول (إِنِّي أُمِرْتُ) من جناب ولي جل شأنه (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصا له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولا بما أمر به ليكون أدعى للامتثال ، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].

وقيل : إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي في أمر من أمور الدين ، وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي : لا تكونن ، فالواو من الحكاية عاطفة للقول المقدر على (أُمِرْتُ) ، وحاصل المعنى إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ، وقيل : إنه معطوف على مقول (قُلْ) على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي ، وقيل : إنه عطف على (قُلْ) على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا ، وتعقب بأن سلاسلة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها ، وجوز أن يعطفه على (إِنِّي أُمِرْتُ) داخلا في حيز (قُلْ) والخطاب لكل من المشركين ، ولا يخفى تكلفه وتعسفه ، وعدم صحة عطف على (أَكُونَ) ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ، وقوله سبحانه وتعالى (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة. وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول

١٠٥

(أَخافُ) والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط محذوف وجوبا. وما تقدم على الأداة شبيه به فهو دليل عليه وليس إياه على الأصح خلافا للكوفيين. والمبرد ، والتقدير إن عصيت أخف أو أخاف عذاب إلخ ، وقيل : صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم. وفي الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير المتكلم ما هو معلوم الانتفاء وقرن بأن التي تفيد الشك وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض. ويؤول المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف على نفسه المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثا ثم قال ، وأجيب عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا فلا تدل إلا على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف ، وأنت تعلم أن فيما قدمنا غنى عن ذلك. ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد وأنه لا يجب عليه شيء ، وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال لموسى عليه‌السلام : يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.

وجاء في غير ما خبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عصفت الريح يصفر وجهه الشريف ويقول : أخاف أن تقوم الساعة مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي ، وعيسى عليهما‌السلام ، وخروج الدجال ، وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد. وصح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة والسلام لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها بقوله «خشيت أن تفرض عليكم» مع أن ما كان ليلة الإسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على أن لله تعالى أن يفعل ما شاء وقصارى ما يلزم في أمثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء الله تعالى.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب ، وضمير (عَنْهُ) يعود على (مَنْ) وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب. و (مَنْ) على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف ، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالا من الضمير.

وجوز أن يكون نائب الفاعل. وهل يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذ أم لا فيه خلاف فقيل : لا بد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف و (يَوْمَئِذٍ) له حكمه. وفي الدر المصون لا حاجة إليه لأن التنوين لكونه عوضا يجعل في قوة المذكور خلافا للأخفش. وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك ، والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب ؛ وجوز أن تكون صفة (عَذابَ). وقرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم «من يصرف» على أن الضمير فيه لله تعالى. وقرأ أبي «من يصرف الله» بإظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو «يومئذ» بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه ، و (مَنْ) في هذه القراءة أيضا مبتدأ.

وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرا للمحذوف ، وأن يجعل منصوبا بيصرف ويجعل ضمير (عَنْهُ) للعذاب أي أي إنسان يصرف الله تعالى عنه العذاب (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك : إن أطعمت زيدا من جوعة فقد أحسنت

١٠٦

إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه ، وعلى هذا يكون الكلام من قبيل ـ من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ـ «ومن كانت هجرته إلى الله تعالى» الخبر ، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل ، وقيل : المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب.

ونقض بأصحاب الأعراف. وأجيب بأن قوله تعالى : (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) حال مقيدة لما قبله ، والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وأنت تعلم أنه إذا قلنا : إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك ، وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده ، والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم.

وقال بعض الكاملين : إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» يعني بالشراء المذكور ، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب ، ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الأخبار. وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما معنى ، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال. وأما كون الجواب ماضيا لفظا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي اه فليفهم.

والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن (يُصْرَفْ) وإما إلى الرحمة ، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل. ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو ـ على ما في القاموس ـ بمعنى الرحمة. ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير إليه ، والفوز الظفر بالبغية ، وآل لقصره على المسند إليه.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي ببلية كمرض وحاجة (فَلا كاشِفَ) أي لا مزيل ولا مفرج (لَهُ) عنك (إِلَّا هُوَ) والمراد لا قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من صحة وغنى (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] ويظهر من هذا ارتباط الجزاء بالشرط. وقيل : إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى ، والمذكور تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر تؤكد أنه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها ، وزعم أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار ذلك مكابرة ، وأصل المس ـ كما قال أبو حيان ـ تلاقي الجسمين ، والمراد به هنا الإصابة. وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير للتعدية (١) وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل : وإن يمسسك الله الضر. وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وغيره وبالفتح بضد النفع ، وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر ـ على ما في البحر ـ لأن الشر أعم فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة ، وقال ابن عطية : إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨]

__________________

(١) كان في الأصل تحريف وأصلحناه من تفسير البحر المحيط.

١٠٧

فجيء بالجوع مع العري وبالظمإ مع الضحو وكان الظاهر خلافه. ومنه قول امرئ القيس :

كأني لم أركب جوادا للذة

ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسأل الزق الروي ولم أقل

لخيلي كري كرة بعد إجفال

وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر. وكذلك قرن امرئ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر. وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فإن انتقام العظيم عظيم. ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه ، والآية من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ) إلخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) إلخ. وهي على ما قيل داخلة في حيز (قُلْ) والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نافية للجنس ، و (كاشِفَ) اسمها و (لَهُ) خبرها والضمير المنفصل بدل من موضع (فَلا كاشِفَ) أو من الضمير في الظرف ، ولا يجوز ـ على ما قال أبو البقاء ـ أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته. وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل أحدا سواه.

وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال حوائجه بربه عزوجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال ، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عزوجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى؟ وتستند هذه الجملة إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «بينما أنا رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : يا غلام احفظ الله تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا» فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ويجد العزة برحمة الله عزوجل.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة ، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس ، وقيل : إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة ، وقيل : إن (فَوْقَ) زائدة. وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو كما ترى ، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود ، ويلزم أيضا من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى ، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي. وغيره واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل ، وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله» وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل الذي استشفع بالله

١٠٨

تعالى عليه : «ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب».

وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات» وروى ابن ماجة يرفعه قال : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه». وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي :

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسومينا

فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه ، وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله :

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم

رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم

يقوم بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أشهد. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] أنه قال : لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم ، والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر : ١ ، الجاثية : ٢ ، الأحقاف : ٢]. و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠]. و (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨]. و (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج : ٤]. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم : «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» كثيرة جدا ، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال : قد كفر لأن الله تعالى يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وعرشه فوق سبع سماوات فقال : قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه : هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر ، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل اه.

وأيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه

١٠٩

موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح ، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.

وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول : كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال : فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني ، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة ، ثم هو أيضا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض ، ولا يخفى أن هذا باطل ، أما أولا فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة. وقد استقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال : إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. وأما ثانيا فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلا لا يسمى قبلة أصلا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلا ، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد. ثم سمع عن بشر المريسي أنه يقول : سبحان ربي الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا.

وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال : الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائد ابتداء : الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله : الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضا تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، على أن في ذلك تنقيصا لله تعالى شأنه ففي المثل السائر :

ألم تر ان السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف خير من العصا

نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه‌السلام (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٥٩] (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ٧٣] فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن إليه ، والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة ، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا

١١٠

إثباتا لئلا يثبتوا معنى فاسدا أو ينفوا معنى صحيحا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه. وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ؛ ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فإذا قيل : إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم ، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات ، ونفاه لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال : إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك ، وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه. والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات ما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي أو المبالغ في الأحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير (الْخَبِيرُ) أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم. واللام هنا وفيما تقدم للقصر (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت.

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري ابن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها.

فأي مبتدأ و (أَكْبَرُ) خبره و (شَهادَةً) تمييز. والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال : شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن.

ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة الإطلاق محتجا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠] فقال : لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك ، وفي المواقف وشرحه الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء ، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل : والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ما ذا يطلق ، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول ، ولو قيل : ليس بشيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى.

١١١

وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظر إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا ثم قال : وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم. وعن الجهمية أنه اسم للحادث ، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى. وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه ، وقوله : إن أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء ، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء. وإنكار أهل اللغة على من يقول : الموجود ليس بشيء لكونه سلبا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين. وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣] وقال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠]

وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سأله رجل فقال : «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري يقول : لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ بن جبل. والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف. وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن سيبويه. ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة.

وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة بالمعدوم وليس كذلك. فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٢ ، النساء : ١٧٦ ، النور : ٣٥ ، ٦٤ ، الحجرات : ١٦ ، التغابن : ١١] جمعا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية. ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية ، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا.

وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عزوجل كإطلاق المعلوم مثلا ، ومعنى (أَكْبَرُ شَهادَةً) أعظم وأصدق (قُلِ اللهُ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى الجواب بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبا. والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة ، وجوز العكس.

ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة ، وقوله سبحانه : (شَهِيدٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو ابتداء كلام ، وجوز أن يكون خبر (اللهُ) والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عزوجل إذا كان هو الشهيد بينه

١١٢

وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له ، ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه : (اللهُ) فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أولا فليفهم (وَأُوحِيَ إِلَيَ) من قبله تعالى : (هذَا الْقُرْآنُ) العظيم الشاهد بصحة رسالتي (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) بما فيه من الوعيد. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب للمقام ، وقيل : إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر ، وفي الدر المصون أن الكلام على حد (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلغه القرآن فكأنما شافهته» واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية ، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال «أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا : لا فخلى سبيلهم ثم قرأ (وَأُوحِيَ إِلَيَ) الآية» وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية ، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع ، والحسن والقبح العقليان قد طوى بساط ردهما ، وجوز أن يكون (مَنْ) عطفا على الفاعل المستتر في (لِأُنْذِرَكُمْ) للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا ، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن. (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) جملة مستأنفة أو مندرجة في القول والاستفهام للتقرير أو للإنكار ، وقيل : لهما ، وفيه جمع بين المعاني المجازية و (أُخْرى) صفة لآلهة. وصفة جمع ما لا يعقل ـ كما قال أبو حيان ـ كصفة الواحدة المؤنثة نحو (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] ولله تعالى الأسماء الحسنى. ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا المجرى تحقيرا لها (قُلْ) لهم (لا أَشْهَدُ) بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف.

(قُلْ) تكرير للأمر للتأكيد (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو وما كافة.

وجوز أبو البقاء ـ وزعم أنه الأليق بما قبله ـ كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون (واحِدٌ) خبرا وهو خلاف الظاهر (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأصنام أو من إشراككم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) جواب عما سبق في الرواية الأولى من قولهم : سألنا اليهود والنصارى إلخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلى الجواب عن تحكمهم بقولهم : أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل ، وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحليته ونعوته المذكورة فيهما ، وفيه التفات ، وقيل : الضمير للكتاب ، واختاره أبو البقاء. والأول

١١٣

هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلا. روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام : إن الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة؟ فقال ابن سلام : نعرف نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وايم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : وفقت وصدقت.

وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إما إن يكون باقيا وقت نزول الآية أولا بل محرفا مغيرا والأول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال ؛ وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم.

وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها ، وبقولهم : إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤].

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من أهل الكتابين والمشركين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بما يجب الإيمان به ، وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بادعائه أن له جل شأنه شريكا وبقوله الملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه ، والاستفهام للاستعظام الادعائي. والمشهور أن المراد إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له ، والتركيب وإن لم يدل على إنكار المساواة وضعا كما قال العلامة الثاني في شرح المقاصد وحواشي الكشاف يدل عليه استعمالا فإذا قلت : لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف ، والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة.

وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على ما هو عليه فإن الافهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة. فإذا حكم بعض الناس مثلا بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا. كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من يساويه بل من يقاربه أيضا وهو المطلوب ، وبالجملة أن إثبات المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل ففي الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل.

وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه. قال ابن الصائغ في مسألة الكحل : إن ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده

١١٤

كالدابة انتهى. وأنت تعلم أن هذا مشعر باعتبار العرف أيضا (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كأن كذب بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن سماها سحرا ، وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي ذكرها الله تعالى فيه ، وإنما ذكر (أَوْ) وهم جمعوا بين الأمرين إيذانا بأن كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس ، وقيل : نبه بكلمة (أَوْ) على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت ، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا. أو يقال : إن من نفى الثابت بالبرهان يكون بنفي ما لم يثبت به أولى ، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جمع بين المتناقضين من هذا الوجه.

وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب أن يكون ملكا.

ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء ، وهذه التوجيهات لا ترفعه (إِنَّهُ) أي الشأن ، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو (لا يُفْلِحُ) أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه (الظَّالِمُونَ) من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخرا وضمير (نَحْشُرُهُمْ) للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم و (جَمِيعاً) خال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت. وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل. وقدر ماضيا ليدل على التحقيق ويحسن عطف (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) إلخ عليه ، وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم. واختاره أبو البقاء ، وقيل : التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم إلخ (ثُمَّ نَقُولُ) للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد (لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة و (أَيْنَ) للسؤال عن غير الحاضر ، وظاهر قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) [الصافات : ٢٢] وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فأما أن يقال : إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت

وإما أن يقال : إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد؟ فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضرا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم؟ ، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر لسؤال ، وقوله تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ) إلى قوله سبحانه : (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤]. وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم.

وقال شيخ الإسلام : إن هذا السؤال المنبئ عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب حسبما يحكيه قوله سبحانه : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] إلخ ونحوه إما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف ، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث هي شركاء كما

١١٥

يعرب عنه الوصف بالموصول ، ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو لا.

وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيروا مكان حزنهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد. وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ. وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة اه.

وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها. ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه. مع أن كون هذا واقعا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ. وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه.

وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان سبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله : لأن عذاب البرزخ لا يقتضي إلخ ليس في محله ، وكذا قوله : فكم من معذب في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد. وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر. وقرأ يعقوب «يحشرهم ثم يقول» بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى. وقوله سبحانه للمشركين : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) إما بالواسطة أو بغير واسطة. والتكليم المنفي في قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) إلخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا. فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم. والزعم يستعمل في الحق كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «زعم جبريل عليه‌السلام» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقول سيبويه في أشياء يرتضيها : زعم الخليل ، ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب. وكثيرا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمونهم شركاء.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة ، واختلف في المراد هنا فقيل : الشرك ، واختار هذا القول الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض ، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقا وأبعد مغزى. والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي.

وقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لو لم يكن عاقبة شركهم شيئا إلا تبرئهم منه ، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له : ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن

١١٦

صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب ، وقيل : المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له.

وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ، وأبي عبد الله ، وقتادة ، ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم ، وقيل: الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقا للمسبب على السبب ، ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة قيل : والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها ، و (تَكُنْ) بالتاء الفوقانية ، و (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع قراءة ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وقرأ حمزة ، والكسائي «يكن» بالياء التحتانية و «فتنتهم» بالنصب ، وكذا قرأ «ربنا» بالنصب على النداء أو المدح. وقرئ في الشواذ «ربنا» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو توطئة لنفي إشراكهم. وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى. وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب «فتنتهم» أيضا ، وخرجوا قراءة الأولين على أن «فتنتهم» اسم «تكن» وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث و (أَنْ قالُوا) خبره.

وقرأ حمزة والكسائي على أن «قالوا» هو الاسم ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر و (فِتْنَتُهُمْ) هو الخبر.

وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله :

وقد خاب من كانت سريرته العذر

ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة ، وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة ، وقيل : إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي. ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم ، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي : إن ذلك من قبيل من كانت أمك؟ ونوقش بما لا طائل فيه ، وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسما لأن (أَنْ قالُوا) يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما. وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع الأحكام ، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في يوم نحشرهم إلخ على ما مرت الإشارة إليه. وجعلها غير واحد عطفا على الجملة قبلها و (ثُمَ) إما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق.

وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم. فيمكن أن يقال : إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما تنبئ عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان. ومما ينبئ على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم.

وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي ، والقاضي ، ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا. وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك. واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) أي في قولهم (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وأجابوا بأنه ليس المراد أنهم

١١٧

كذبوا في الآخرة بل المراد انظر كيف كذبوا (عَلى أَنْفُسِهِمْ) في الدنيا. ورد بأن الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدا. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضا قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] بعد قوله سبحانه : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة: ١٤] حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ، ويشير إلى هذا التشبيه أيضا الأمر بالنظر كما لا يخفى على من نظر.

وذكر ابن المنير أن في الآية دليلا بينا على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل أخبارهم وتبرءوهم كذبا مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم ، وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر. والمروي عن الحسن أن ما موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] أو نحو ذلك. وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئا ، وقيل : إن (ما) مصدرية أي ضل افتراءهم كقوله سبحانه: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) [الكهف : ١٠٤] أي لم ينفعهم ذلك. والجملة قيل : مستأنفة ، وقيل : واختاره شيخ الإسلام أنها عطف على (كَذَبُوا) داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لا نظر لذلك. وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا بالمرة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) كلام مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه. وضمير (مِنْهُمْ) للذين أشركوا. والاستماع بمعنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة ، وقيل : إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح : إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر ابن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية وأبي بن خلف استمعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأفرد ضمير (مَنْ) في يستمع وجمعه في قوله سبحانه (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) نظرا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل : هنا (يَسْتَمِعُ) وفي (يَسْتَمِعُونَ) [يونس : ٤٢] لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع ، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن. والجعل بمعنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى لأن فعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة

١١٨

كأكنة وأخبية إلا نادرا. وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال : كنه وأكنه كما قال الطبرسي وغيره ، وفرق بينهما الراغب فقال : أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره. والتنوين للتفخيم والواو للعطف. والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية ، وقيل : الواو للحال أي وقد جعلنا. و (عَلى قُلُوبِهِمْ) متعلق بالفعل قبله.

وزعم أبو حيان أنه إن كان بمعنى ألقي فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني. والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يفهموا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه. وكذلك يفعلون في أمثاله ، وجوز أن يكون مفعولا به لما دل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه (أَكِنَّةً) وحده من ذلك (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما وثقلا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه. والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشئون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى ، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره.

وقرأ طلحة «وقرأ» بالكسر ـ وهو ـ على ما نص عليه الزجاج. حمل البغل ونحوه. ونصبه على القراءتين بالعطف على (أَكِنَّةً) كما قال أبو البقاء (وَإِنْ يَرَوْا) أي يشاهدوا ويبصروا (كُلَّ آيَةٍ) أي معجزة دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة. وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك (لا يُؤْمِنُوا بِها) لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم.

والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم ، ونقل عن بعضهم أنه لا بد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤]. واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية بما كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به ، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم.

(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي يخاصمونك وينازعونك. و (حَتَّى) هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها : حتى الابتدائية. ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافا للزجاج وابن درستويه زعما أنها في محل جر بحتى.

ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى : (إِذا جاؤُكَ) مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وما بينهما حال من فاعل جاءوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم. و (إِذا) منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك ، واعترض بأن جعل (يُجادِلُونَكَ) في موضع الحال و (يَقُولُ الَّذِينَ) جوابا مفض إلى جعل الكلام لغوا لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها.

ولا يخفى ما فيه فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقي صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك ، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد

١١٩

عدم الإيمان بل يقولون (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها ، وقال قتادة : كذبهم وباطلهم.

وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه. ونظير ذلك ـ مات الناس حتى الأنبياء ـ وجوز أن تكون (حَتَّى) هي الجارة و (إِذا جاؤُكَ) في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضا فلا جواب لها فيقول حينئذ : تفسير «ليجادلونك» وهو في موضع الحال أيضا. والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير ، وقال بعضهم : له مفرد. وفي القاموس إنه جمع أسطار وأسطير بكسرهما وإسطور وبالهاء في الكل ، وقيل : جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع وأصل السطر بمعنى الخط (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) الضمير المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي ، ولعل ذلك ـ كما قال شيخ الإسلام ـ هو السر في تأخير النأي عن النهي. وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه ، وقيل : الضمير المجرور للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى ينهون الناس عن الإيمان به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه ، وهو التفسير الذي أخرجه أبناء جرير ، والمنذر ، وأبي حاتم ، ومردويه من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج أيضا ابن جرير من طريق العوفي. وروي ذلك عن محمد ابن الحنفية ، والسدي ، والضحاك ، وقيل: الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه والمجرور للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به.

أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال : إن الآية نزلت في عمومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في السر ، وقيل : ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاما لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد ، وقيل : إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله : قفا عند المازني ، ولا يخفى بعده. وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا.

وروي عن مقاتل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال منشدا :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذاري سبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فنزلت هذه الآية. وفيها على هذا القول والذي قبله التفات ، ورد الإمام القول الأخير بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم. ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع. وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه.

١٢٠