روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام ، وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.

فإن قيل : فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لا تشركوا ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم ، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم ، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا : ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع في الكلام مثل (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فإن أبيت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقا بمحذوف والمذكور بالفاء عطفا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه.

وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل : اتلوا ما حرم أن لا تسيئوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد ، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف ، وأما جعل الوقف على قوله تعالى : (رَبُّكُمْ) وانتصاب (أَلَّا تُشْرِكُوا) بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي. وقال أبو حيان : لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فإنه لا يصح عطف «وبالوالدين إحسانا» على «تعالوا» ويكون ما بعده عطف عليه.

واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، ثم قال : وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ان التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه : (أَتْلُ ما حَرَّمَ) أمرهم أولا بأمر ترتب عليه ذكر مناه ، ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح ، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم أن التفسيرية ، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه ، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ما نهاكم ربكم عنه ، فالمعنى قل تعالوا اتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما ، ويجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرئ القيس :

لا تهلك أسى وتجمل

ولا نعلم في هذا خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا مشهورا اه. وأنت تعلم أن العطف على (تَعالَوْا) في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه ، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن ، ونقل الطبرسي جواز كون (أَلَّا تُشْرِكُوا) بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين ، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك (ثُمَّ آتَيْنا) إلخ. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس‌سره ، وقيل : عطف على (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة

٣٠١

كأنه قيل : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه‌السلام ، وقيل : عطف على (قُلْ) وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب.

وعن أبي مسلم ، واستحسنه المغربي ، أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه‌السلام : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم‌السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه‌السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته ، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن. وثم ـ كما قال الفراء ـ للترتيب الأخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب. وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلا بد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله : أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة ، وبعضهم وجه الترتيب الأخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد. وقيل : إنه باعتبار توسط جملة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بين المتعاطفين.

وقال بعضهم : إن (ثُمَ) هنا بمعنى الواو ، وقد جاء ذلك كثيرا في الكتاب (تَماماً) للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له ، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماما ، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا لقول (آتَيْنا) من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل : أتممنا النعمة إتماما فهو كنباتا في قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وأن يكون حالا من الكتاب أي تاما (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي من أحسن القيام به كائنا من كان فالذي للجنس. ويؤيده قراءة عبد الله «على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين». وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله :

إن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كل القوم يا أم خالد

وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه‌السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه‌السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم. وعن ابن زيد أن المراد تماما على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم‌السلام ، وظاهره أن (الَّذِي) موصول حرفي ، وقد قيل به في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] وضمير أحسن حينئذ لله تعالى ، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه‌السلام من النبوة وغيرها ، وكلاهما خلاف الظاهر. وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه‌السلام ، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيمعليه‌السلام.

وقرأ يحيى بن يعمر «أحسن» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و (الَّذِي) وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تاما كاملا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب ، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه‌السلام خلافا لمن زعم ذلك ، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة [يوسف: ١١١] عليه‌السلام : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا (وَهُدىً) أي دلالة إلى الحق (وَرَحْمَةً) بالمكلفين. والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية

٣٠٢

والمصدرية والحالية والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لما ألقى موسى عليه‌السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل (لَعَلَّهُمْ) أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه‌السلام وإيتاء الكتاب ، ولا يجوز عود الضمير على الذي بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه : (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) بل كان المناسب حينئذ أن يقال : لعلهم يرحمون مثلا ، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل ، والمراد من اللقاء قيل الجزاء ، وقيل : الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا. وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

(وَهذا) الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن (كِتابٌ) عظيم الشأن لا يقادر قدره (أَنْزَلْناهُ) بواسطة الروح الأمين مشتملا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها ، والجملة صفة (كِتابٌ) وقوله سبحانه : (مُبارَكٌ) أي كثير الخير دينا ودنيا صفة أخرى ، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال ، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضا ؛ والفاء في قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره (وَاتَّقُوا) مخالفته أو نواهيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لترحموا جزاء ذلك ، وقيل : المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى.

(أَنْ تَقُولُوا) علة لمقدر دل عليه (أَنْزَلْناهُ) المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافا للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا. وقيل : يحتمل أن يكون مفعول (اتَّقُوا) وعليه الفراء ، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخا لهم على بعدهم عن السعادة ، والمتبادر ما ذكر أولا أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) الناطق بالأحكام القاطع للحجة (عَلى طائِفَتَيْنِ) جماعتين كائنتين (مِنْ قَبْلِنا) وهما ـ كما قال ابن عباس ، وغيره : اليهود ، والنصارى. وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.

(وَإِنْ كُنَّا) إن هي المخففة من أن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر ، لا ثابت ولا محذوف أي وانه كنا (عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي قراءتهم (لَغافِلِينَ) غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكننا أن نتلقى منها ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد ، وقيل : تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا) إلخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار. وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال : وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.

(أَوْ تَقُولُوا) عطف على (تَقُولُوا). وقرئ كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب «فاتبعوه واتقوا» ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتا أيضا ولا يخفى موقعه. قال القطب : إنه تعالى خاطبهم أولا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو

٣٠٣

التفات في غاية الحسن (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) كما أنزل عليهم (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانا وأثقب فهما (فَقَدْ جاءَكُمْ) متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم إلخ أو إن صدقتم فيما تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم (بَيِّنَةٌ) حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة (مِنْ رَبِّكُمْ) على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة (بَيِّنَةٌ) ويصح تعلقه بجاءكم.

وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) عطف على (بَيِّنَةٌ) وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم ، والمراد بجميع ذلك القرآن ، وعبر عنه بالبينة أولا إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة. ثانيا تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة وفي التفسير الكبير فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير؟ قلنا : القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف ولا يخفى ما فيه.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه ، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون ، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب ، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلا للأمر. وقرئ «كذب» بالتخفيف ، والجار الأول متعلق بما عنده ، والثاني يحتمل ذلك وهو الظاهر.

ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا ، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال ، والفعل على الأول لازم وعلى الثاني متعد وهو الأكثر استعمالا (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا) وعيد لهم ببيان جزاء إعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم ، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ الشديد (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف على التجدد والاستمرار ، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له (هَلْ يَنْظُرُونَ) استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار ، و (هَلْ) للاستفهام الإنكاري ، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال : إنها للتقرير في الإثبات ، والجمهور على الأول ، والضمير لكفار أهل مكة.

وزعم الجبائي أنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود : وقتادة ، ومقاتل ، وقيل : إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل ، وقيل : المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث ، وحاصل ذلك

٣٠٤

أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد ، وأين التراب من رب الأرباب.

وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس ، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم ، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل. والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة ، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة ، وصح من طرق عن حذيفة بن أسيد قال : «أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علية ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون؟ قلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، والدجال ، وعيسى ابن مريم ، ويأجوج وماجوج ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا» وببعضها على ما قيل : الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضا في قوله سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) وروى مسلم ، وأحمد ، والترمذي ، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعا ما هو صريح في ذلك. واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه‌السلام بعد الدجال عليه اللعنة وهو عليه‌السلام يدعو الناس إلى الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي ، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر. والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده : طلوع الشمس من مغربها.

فقد روى الشيخان «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية» بل قد روي هذا التعيين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير ما خبر صحيح ، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لا يخفى على المتأمل ، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة ، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه.

وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه. وقول العراقي : إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة ، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث ، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها : ارجعي من مطلعك ، والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قبل. وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير.

وروى البخاري في تاريخه ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها ، وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون : إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه ، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار. وقال الكرماني : إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع في ذلك أيضا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا انتهى. وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول : قال في

٣٠٥

التذكرة وشرحها للسيد السند : الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئا واحدا بل كان مما وجده القدماء أكثر ما وجده المحدثون ، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءا ونصف جزء.

ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقا يجب أن يثبت فلكا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك أما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله ، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قبل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها ، وعلى التقديرات الخمس الأول يتبادل نصفا سطح البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل ، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور ، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئا واحدا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة ، وعلى التقدير الثاني لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لا جزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصا.

ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشئ عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك ، وليس صيرورة المشرق مغربا والمغرب مشرقا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلا ، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر. والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبعض

٣٠٦

الآخر إلى بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه. وقيل : المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] وبقولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٢] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم ، وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إن صح الحديث فهو مذهبي ، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك ، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف. وتنكير (نَفْساً) للتعميم. وجملة «لم تكن آمنت» في موضع النصب صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل ، وجوز كونها استئنافية و «يوم» منصوب بلا ينفع. وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنما هو عند وقوعها جواب القسم.

وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي. وقرئ «يوم» بالرفع على الابتداء. والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه. وقرأ أبو العالية. وابن سيرين «لا تنفع» بالتاء الفوقانية ، وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه لكونه شبيها بما يستغنى عنه ، وقال أبو حيان : إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة.

وقوله سبحانه : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على (آمَنَتْ) والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة. والمعتزلة يقولون : إن الترديد بين النفيين ، والمراد نفي العموم لا عموم النفي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا. وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه. ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغي ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام أيضا.

وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال : لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما

٣٠٧

في ضمن التحذير من تركهما ؛ ولا سبيل إلى أن يقال : كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل. وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كما وكيفا.

ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا إرشادا إلى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة عن أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة. ثم قال : ولك أن تقول : المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله سبحانه : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣٠ ، ٣١] تسجيلا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] انتهى.

وقيل في دفع اللغوية غير ذلك ، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل : لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى ، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل ، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام ، وقال مولانا ابن الكمال : إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة لا تنفع بالتاء وبكسب الخير الإذعان ؛ ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر ، ولو سلم فنقول : الإيمان النافع لا بد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه : (آمَنَتْ) وعن الثاني بقوله تعالى : (أَوْ كَسَبَتْ) فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى.

ولا يخفى عليك أن الألفاظ المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرينة ، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر ، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي إن هذا الحكم ـ أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه ـ مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أن لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات ، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل ، ولا يلزم من عدم نفع ما حدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه. ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في

٣٠٨

ذلك اليوم به أيضا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالاتفاق. ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصا في الحكم والمحكوم به فتأمل ، وبأن له أيضا صرف قوله سبحانه : (كَسَبَتْ) عن أن يكون معطوفا على (آمَنَتْ) إلى عطفه إلى (لَمْ تَكُنْ) لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الإيمان في (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد ، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب (أَنْ) أو بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة : فو الله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي ـ والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون ، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢]. (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] في رأي. وقول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعا ، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر ، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيّا والتي ، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد الخير ولو واحدا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم.

(قُلِ) لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد (انْتَظِرُوا) ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون ، وقيل : في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بمعاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب ، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) استئناف لسان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين بناء على ما روي عن ابن عباس وقتادة أن الآية نزلت في اليهود والنصارى أي بددوا دينهم وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ، وحمزة ، والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض آخر منه ترك الكل أو مفارقة له (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا تشيع كل فرقة إماما وتتبعه أو تقويه وتظهر أمره. أخرج أبو داود. والترمذي وصححه. وابن ماجة. وابن حبان وصححه الحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم. ومن

٣٠٩

غريب ما وقع أن بعض متعصبي الشيعة الإمامية من أهل زماننا واسمه حمد روى بدل إلا واحدة في هذا الخبر إلا فرقة وقال : إن فيه إشارة إلى نجاة الشيعة فإن عدد لفظ فرقة بالجمل وعدد لفظ شيعة سواء فكأنه قال عليه الصلاة والسلام : إلا شيعة ، والمشهور بهذا العنوان هم الشيعة الإمامية فقلت له بعد عدة تزييفات لكلامه : يلزم هذا النوع من الإشارة أن تكون كلبا لأن عدد كلب وعدد حمد سواء فألقم الكلب حجرا.

(لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي من السؤال عنهم والبحث عن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم ، وقيل : يحتمل أن يكون هذا وعدا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعصمة عنهم أي لست منهم في شيء من الضرر ، وعن السدي أنه نهى عن التعرض لقتالهم ثم نسخ بما في سورة براءة ، و (مِنْهُمْ) في موضع الحال لأنه صفة نكرة قدمت عليها (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وآخرتهم ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة ، وقيل : المفرقون أهل البدع من هذه الأمة ، فقد أخرج الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، والطبراني ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا) إلخ «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة».

وأخرج الترمذي ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها : «يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليس لهم توبة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء فإنهم ليس لهم توبة وأنا منهم بريء وهم مني برآء» فيكون الكلام استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين إشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد ، ولعل جملة (إِنَّما أَمْرُهُمْ) إلخ على هذا ليست للتعليل وإنما هي للوعيد على ما فعلوا أي إن رجوعهم إليه سبحانه (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) يوم القيامة (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) في الدنيا على الاستمرار بالعقاب عليه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم أي من جاء من المؤمنين بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة أي خصلة كانت ، وقيل : التوحيد ونسب إلى الحسن وليس بالحسن (فَلَهُ عَشْرُ) حسنات (أَمْثالِها) فضلا من الله تعالى.

وقرأ يعقوب «عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع على الوصف ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر الكثرة لا الحصر في العدد الخاص.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة. وأبو الشيخ عن ابن عباس ، وعبد بن حميد ، وغيره عن ابن عمر أن الآية نزلت في الأعراب خاصة ، وأما المهاجرون فالحسنة مضاعفة لهم بسبعمائة ضعف ، والظاهر العموم.

وتجريد (عَشْرُ) من التاء لكون المعدود مؤنثا كما أشرنا إليه لكنه حذف وأقيمت صفته مقامه ، وقيل : إنه المذكور إلا أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) كائنا من كان من العالمين (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) بحكم الوعد واحدة بواحدة ، وإيجاب كفر ساعة عقاب الأبد لأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ذلك منه تعالى لا يعد ظلما إذ له سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي ، وقيل : المعنى لا ينقصون في الحسنات من عشر أمثالها وفي السيئة من مثلها في مقام الجزاء.

ومن المعتزلة من استدل بهذه الآية على إثبات الحسن والقبح العقليين ، واختلف في تقريره فقيل : إنهم لما رأوا

٣١٠

أن أحد أدلة الأشاعرة على النفي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله كما بين في محله فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليه قالوا : إن قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلخ صريح في أن العبد مستبد مختار في فعله الحسن والقبيح ، وإذا ثبت ذلك يثبت الحسن والقبح العقليان. وأجيب عنه بأن الآية لا تدل على استبداد العبد غاية ما فيها أنها تدل على المباشرة وهم لا ينكرونها ، وقيل : إن الآية دلت على أن لله تعالى فعلا حسنا ولو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة أو مأذونا فيها لما كان فعل الله تعالى حسنا إذ هو غير مأمور ولا مأذون ، وأيضا لو توقف معرفة الحسن والقبح على ورود الشرع لما كانت أفعاله تعالى حسنة قبل الورود وهو خروج عن الدين.

وأجيب أما عن الأول فبأنا لا ندعي أنه لا حسن إلا ما أمر به أو أذن في فعله حتى يقال : يلزم أن تكون أفعال الله تعالى غير حسنة إذ يستحيل أن يكون مأمورا بها أو مأذونا فيها بل ما أمر الشارع بفعله أو أذن فيه فهو حسن ولا ينعكس كنفسه بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقة الغرض أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله ، وبهذا الاعتبار كان فعل الله تعالى حسنا سواء وافق الغرض أو خالف ، وأما عن الثاني فبأن الحسن والقبح وإن فسرا بورود الشرع بالمنع والإطلاق لكن لا نسلم أنه لا حسن ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ذلك بل الحسن والقبح أعم مما ذكر كما عرف في موضعه ، ولا يلزم من تحقق معنى الحسن والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال ، ولا يخفى على المطلع أن قولهم : لو كان حسن الأفعال إلخ. وقولهم : لو توقف معرفة الحسن والقبح إلخ شبهتان مستقلتان من شبه عشر إلزامية ذكرها الآمدي في إبكار الأفكار وأن كلا من التقريرين السابقين لا يخلو عن بعد نظر فتدبر.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية ، وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة : أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الحق.

وقوله سبحانه : (دِيناً) بدل من محل (صِراطٍ) إذ المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا ، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور. وقوله سبحانه : (قِيَماً) مصدر كالصغر والكبر نعت به مبالغة. وجوز أن يكون التقدير ذا قيم ، والقياس قوما كعوض وحول فاعل تبعا لإعلال فعله أعني قام كالقيام. وقرأ كثير «قيما» وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد ـ وهو على ما قيل ـ أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة ، وقيل : أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه ، ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير ، وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد ، وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر ، وقيل : المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا (حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من إبراهيم ، وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه. والعامل في هذه الحال هو العامل في المضاف. وقيل : معنى الإضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر ، وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها.

وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما عليه المبطلون ، وقيل : عطف على ما تقدم. وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة

٣١١

والسلام من أهل مكة القائلين : الملائكة بنات الله واليهود القائلين : عزير ابن الله والنصارى القائلين : عيسى ابن الله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها. وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء ، وقيل : لأن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها (وَنُسُكِي) أي عبادتي كلها كما قال الزجاج ، والجبائي ، وهو من عطف العام على الخاص. وعن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة. وعن قتادة الأضحية ، وجمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] على المشهور. وقيل : المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان والعمل الصالح.

وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهر والأول هو المناسب لقوله تعالى : (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر. وقيل : المراد به نظرا لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكا وقدرة (لا شَرِيكَ لَهُ) أي في عبادتي أو فيها وفي الإحياء والإماتة. وقرأ نافع «محياي» بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف ، وفي رواية أنه كسر الياء ، وعلى الرواية الأولى إنما جاز التقاء الساكنين لنية الوقف وفيه يجوز ذلك فطعن بعضهم في ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين وهو لا يجوز ليس في محله ، وقد روى هذه القراءة عن نافع جماعة ، وما قيل : إنه رجع عنها وأنه لا يحل لأحد نقلها عنه ليس بشيء.

(وَبِذلِكَ) أي القول أو الإخلاص (أُمِرْتُ) لا بشيء غيره (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أو المنقادين إلى امتثال ما أمر الله تعالى به ، وقيل : المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره ، والمراد مسلمي أمته كما قيل ، وهذا شأن كل نبي بالنسبة إلى أمته ، وقيل : هذا إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام «أول ما خلق الله تعالى نوري» (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) إنكار لبغية غيره تعالى ربا لا لبغية الرب ولهذا قدم المفعول ، وليس التقديم للاختصاص إذ المقصود أغير الله أطلب ربا وأجعله شريكا له ، وعلى تقدير الاختصاص لا يكون إشراكا للغير بل توحيد ، وقال بعض المحققين : لا يبعد أن يقال التقديم للاختصاص. وذكر في رد دعوته إلى الغير رد الاختصاص تنبيها على أن إشراك الغير بغية غير الله تعالى إذ لا بغية له سبحانه إلا بتوحيده عزوجل ، وما في النظم الكريم أبلغ من أغير الله أعبد ونحوه كما لا يخفى (وَهُوَ) سبحانه (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) جملة حالية مؤكدة للإنكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب فكيف يتصور أن يكون شريكا له (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) يروى أنهم كانوا يقولون للمسلمين : «اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم» فرد عليهم بما ذكر أي إن ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها حتى يصح قولكم ، وعلى هذا يكون قوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي نفس آثمة (وِزْرَ أُخْرى) تأكيدا لما قبله ، وقيل : إن قولهم ذلك يحتمل معنيين : الأول ، اتبعوا سبيلنا وليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم. والثاني اتبعوا لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا.

وقوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ) إلخ رد له بالمعنى الأول ، وقوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ) إلخ رد له بالمعنى الثاني ، وقيل : إن جواب قولهم هو الثاني ، وأن الأول من جملة الجواب عن دعواهم إلى عبادة آلهتهم يعني لو أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه لم أكن معذورا بأنكم سبقتموني إليه وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله تعالى لأن كسب كل أحد وعمله عائد عليه ، ورجحه بعضهم على الأول بأن التأسيس خير من التأكيد (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ببيان الرشد من الغي وتمييز الحي من اللي.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة

٣١٢

ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر ، وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها ـ كما قيل ـ والخطاب عليهما عام ، وقيل : الخطاب لهذه الأمة ، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل (دَرَجاتٍ) كثيرة متفاوتة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ما ذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه (إِنَّ رَبَّكَ) تجريد الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَرِيعُ الْعِقابِ) أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات.

وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي.

وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك ، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الإنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام.

ومن باب الإشارة في الآيات : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده (لَوْ شاءَ اللهُ) تعالى (ما أَشْرَكْنا) به سبحانه شيئا (وَلا) أشرك (آباؤُنا) من قبلنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهم‌السلام (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وقالوا مثل قولهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) فتخرجوه لنا بالبيان (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) لأنكم محجوبون في مقام النفس (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك.

وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي الروح والقلب أحسنوا (إِحْساناً) برعاية حقوقهما (وَلا تَقْتُلُوا) أي تهلكوا (أَوْلادَكُمْ) قواكم باستعمالها في غير ما هي له (مِنْ إِمْلاقٍ) أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم إلينا (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) الأعمال الشنيعة (ما ظَهَرَ مِنْها) كأفعال الجوارح (وَما بَطَنَ) كأفعال القلب (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) تعالى قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهي التصديق بذلك إجمالا وعدم إنكاره (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فيقوى على قبول أنواع التجليات ، وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم.

٣١٣

ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي كيل الشرع بمراعاة الحقوق الظاهرة (وَالْمِيزانَ) أي ميزان الحقيقة بمراعاة الحقوق الباطنة (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي لا تقولوا إلا الحق (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) وهو التوحيد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) غير مائل إلى اليمين والشمال (فَاتَّبِعُوهُ) لتصلوا إلى الله تعالى ولا تتبعوا السبل التي وصفها أهل الاحتجاب «فتفرق بكم عن سبيله» فتضلوا ولا تصلوا إليه سبحانه (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لتوفي أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو الكشف عن ساق (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو الكشف المذكور (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) حينئذ لانقطاع التكليف.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي جعلوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) في جزاء تفرقهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من السيئات واتباع الهوى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة ، وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذ كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير إليه النصوص (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو طريق التوحيد الذاتي (دِيناً قِيَماً) ثابتا لا تنسخه الملل والنحل (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) التي أعرض بها عن السوي (حَنِيفاً) مائلا عن كل دين فيه شرك (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) حضوري وشهودي بالروح (وَنُسُكِي) تقربي بالقلب (وَمَحْيايَ) بالحق (وَمَماتِي) بالنفس (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لا نصيب لأحد مني في ذلك (لا شَرِيكَ لَهُ) في شيء أصلا إذ لا وجود سواه (وَبِذلِكَ) الإخلاص وعدم رؤية الغير (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين للفناء فيه سبحانه (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) فاطلب مستحيلا (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) إلا عليها إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) بأن جعلكم له مظهر أسمائه ورفع بعضكم فوق بعض درجات في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه وبمن لا يقوم (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن لم يراع (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن يراعي ذلك ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه. (١)

٣١٤

سورة الأعراف

أخرج أبو الشيخ ، وابن حبان ، عن قتادة قال : هي مكية إلا آية (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) [الأعراف: ١٦٣] ، وقال غيره : إن هذا إلى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) [الأعراف : ١٧٢] مدني : وأخرج غير واحد عن ابن عباس. وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا ، وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي ـ فالمص. وبدأكم تعودون ـ كوفي و (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف : ٢٩] بصري شامي و (ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] و (الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الأعراف : ١٣٧] مدني وكلها محكم ، وقيل : إلا موضعين ، الأول (وَأُمْلِي لَهُمْ) [الأعراف : ١٨٣] فإنه نسخ بآية السيف والثاني (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد ، وادعى أيضا أن (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] كذلك وفيما ذكر نظر ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢] وقال سبحانه في بيان القرون (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦ ، ص : ٣] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام: ١٦٥] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة ، وقال سبحانه في قصة عاد : (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] وفي قصة ثمود (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الأعراف : ٧٤] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] إلخ ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٥] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب ، وأيضا لما تقدم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام : ١٠٨] قال جل شأنه في مفتتح هذه : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) [الأعراف : ٦] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عزّ من قائل : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)

__________________

(١) في اصل المؤلف رحمه‌الله تعالى من الجزء الثاني من تقسيمه دعاء لسلطان وقته وزمانه فحذفناه لعدم الحاجة اليه الآن واسأل الله تعالى ان يقوي شوكة المسلمين وان يوفقهم للعمل بالشرع ويهديهم.

٣١٥

[الأعراف : ٨] ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاته.

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. المص) سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الإعادة خلا أنه قيل هنا : إن معنى المصور وروي ذلك عن السدي ، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير ، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق ، وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد ، وقيل : المراد به (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت ـ بالم ـ إلا وهي مشتملة على ثلاثة أمور : بدء الخلق. والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش وإليها الإشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين. وزيد في هذه الصورة على ذلك الصاد لما فيها مع ما ذكر من شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم بمراده.

وقوله سبحانه : (كِتابٌ) على بعض الاحتمالات خبر لمبتدإ محذوف أي هو أو ذلك كتاب ، وقوله سبحانه : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي من عنده تعالى صفة له مشرّفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال ، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر. وإن كان المجموع فلتحققه جعل

٣١٦

كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا : إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قوله : ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل (كِتابٌ) مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هدا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز ـ كما في الأساس ـ علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين.

وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) [هود : ١٢] الآية. وللأول قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٧ ، الأنعام : ١١٤ ، يونس : ٩٤] وقد يقال : إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه.

وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل : إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له بالمرة كما في قوله سبحانه : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢ ، ٨] وليس هذا من قبيل ـ لا أرينك هاهنا ـ فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى.

والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل ـ لا أرينك هاهنا ـ في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه. ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.

والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة ـ كما يفهمه كلام الكشاف ـ كناية عن عدم المبالاة بالأعداء. وأيّا ما كان فالتنوين في (حَرَجٌ) للتحقير ، ومن متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أو لا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل : إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ.

وقال الفراء إنها اعتراضية ، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا ، ولترتيب ما ذكر على الأخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابا منزلا إليك. وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في

٣١٧

القيام بحقه فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول. ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر.

(لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بالكتاب المنزل. والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم ، وقد يقال : إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه. واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير قيل : وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبا. ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك ـ على ما قيل ـ من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج. أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب. وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلا عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم‌السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله ، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرا في صدرك لأجل الإنذار. وقيل : إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح ، وقيل : يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون. وقال العلامة الثاني : إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي ـ كما قيل ـ لفساد المعنى. وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي ، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشعر بأن المنهي عنه ليس بمحذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده ، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه ؛ وأنت خبير بأن كون المنهي عنه محذورا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه. والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناء على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرا للتفسير الثاني ، سلمنا أنها نص لكنا نقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الفتح : ١ ، ٢] الآية (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) نصب بإضمار فعله عطفا على «تنذر» أي وتذكر المؤمنين تذكيرا. ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل (لِتُنْذِرَ) معللا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحد حتى يجوز حذف اللام منه.

ويمكن ـ كما في الكشف ـ أن يقال : لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير. نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير. ويحتمل الرفع على أنه معطوف على «كتاب» أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى ، والفرق بين الوجهين ـ على ما في الكشف ـ أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابا كاملا في شأنه بالغا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى لفظا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

٣١٨

خطاب لكافة المكلفين ، والمراد بالموصول الكتاب المنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلا إليهم لتأكيد وجوب الاتباع ؛ وقيل : المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر. وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الأنمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فإنه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون ادعى لانشراح صدره عليه الصلاة والسلام ورحب ذراعه.

ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد. نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة ، ومن متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) الضمير المجرور عائد إلى (رَبِّكُمْ) والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة.

ويجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من (أَوْلِياءَ) قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى ، وأن يكون متعلقا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره. ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي ، وقيل : الضمير لما أنزل على حذف مضاف في (أَوْلِياءَ) أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء ، وكأنه قيل : ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء ، وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم ، وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء أتباعا من دون اتباعكم ما أنزل إليكم وفيه بعد.

وقرأ مجاهد «تبتغوا» بالغين المعجمة من الابتغاء (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره. فقليلا نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر ، و «ما» مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي هاهنا قلة على قلة ، والظاهر من القلة معناها ، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] وأجيز أن يكون (قَلِيلاً) نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعا قليلا ، قيل : ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه : (تَذَكَّرُونَ) وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني ، وأن يكون حالا من فاعل (لا تَتَّبِعُوا) وما مصدرية أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) [الذاريات : ١٧] والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه ، وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ ، و (قَلِيلاً) على معنى زمانا قليلا خبره ، وقيل : إن ما نافية و (قَلِيلاً) معمول لما بعده ، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها ، والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص «تذكرون» بحذف إحدى التاءين وذال مخففة. وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة ، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين. وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة ، والجملة ـ على ما قاله غير واحد ـ اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين ، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم ، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى (وَكَمْ

٣١٩

مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم ، و (كَمْ) خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء ؛ والجملة بعدها خبرها و (مِنْ) سيف خطيب و (قَرْيَةٍ) تمييز.

ويجوز أن يكون محل (كَمْ) نصبا على الاشتغال ، وضمير (أَهْلَكْناها) راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها ، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازا كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه : (فَجاءَها بَأْسُنا) أي عذابنا ، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالا أصوليا ، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها ، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم.

وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر ، وقيل : إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب ، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال : معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا ، وقيل : المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها ، وقيل : الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه إلخ. وقيل : إن الفاء للترتيب الذكري. وقال ابن عصفور : إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال ، وقال الفراء : الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر ، وقيل : الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها (بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجيء البأس في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين ، ويأباه ما بعد إباء ظاهرا فإنه يدل على أن العذاب في الدنيا ، وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافا أي فجاء أهلها.

وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازا ، ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضا مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب. والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيته وبياتا وبيتوتة ، وذكر الراغب : أن البينات وكذا التبييت قصد العدو ليلا. وقال الليث : البيتوتة الدخول في الليل ، ونصبه على الحال بتأويله ببائتين.

وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر ، واحتمال النصب على المفعولية له ـ كما زعم أبو البقاء ـ مما لا يلتفت إليه. وأو للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضا وأضمرت فيه الواو ـ كما قال ابن الأنباري ـ لوضوح المعنى ومن أجل أن أو حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني ، ونقل ذلك عن الفراء أيضا. وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالا وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال. وقال ابن المنير : إن هذه الواو لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الاسمية بعد الفعلية ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين أو لكان الأفصح خلافه وحيث رأيناها تتوسط والكلام هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما. وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية فإما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه وتجامع أو كما تجامع الواو لكن في الفصيح لما فيها من زيادة معنى الاستدراك وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية ، فلو قلت : سبح الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة خلافا لأبي حيان

٣٢٠