روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء (بِغُرُورٍ) أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به ، فالباء للمصاحبة أو الملابسة. والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول. وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه ، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا. وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه.

وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا. وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال : ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية ، وقال القطب : يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله : (ما نَهاكُما) إلخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه (وَقاسَمَهُما) فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] وجعل العتاب الآتي عى ترك التحفظ فتدبر (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي أكلا منها أكلا يسيرا (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) قال الكلبي : تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا (وَطَفِقا) أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال (يَخْصِفانِ) أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بإلصاق بعضها ببعض. وقيل أصله الضم والجمع (عَلَيْهِما) أي على سوآتها أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر. وقيل : الضمير عائد على «سوءاتهما».

(مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة. وقيل : الموز وقرأ الزهري (يَخْصِفانِ) من أخصف ، وأصله خصف إلا أنه ـ كما قال الجاربردي ـ نقل إلى أخصف للتعدية ، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير. وجوز بعضهم كون خصف واخصف بمعنى. وقرأ الحسن «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال ، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ يعقوب بفتحها وقرئ «يخصّفان» من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق (وَناداهُما رَبُّهُما) بطريق العتاب والتوبيخ (أَلَمْ أَنْهَكُما) تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا : ألم أنهكما (عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها ، والتثنية لتثنية المخاطب.

(وَأَقُلْ لَكُما) عطف على «أنهكما» أي ألم أقل لكما (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ، وهذا ـ على ما قيل : عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي. ولم يحك هذا القول هاهنا ، وقد حكي في سورة بقوله سبحانه : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [طه : ١١٧] الآية و (لَكُما) متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه.

واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي. والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) أي ضررناها بالمعصية ، وقيل : نقصناها حظها

٣٤١

بالتعرض للإخراج من الجنة ، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر.

(وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) ذلك بعدم العقاب عليه (وَتَرْحَمْنا) بالرضا علينا ، وقيل : المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قبل. واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى. وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها ، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيئات وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما ، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه. وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة ، وكان قبل نبوة آدم عليه‌السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة ، والكلام في هذه المسألة مشهور (قالَ) استئناف كما مر مرارا (اهْبِطُوا) المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما‌السلام وإبليس عليه اللعنة ، وكرر الأمر له تبعا لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] وقيل : إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس.

واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم ، وقيل : إنه لهما فقط لقوله سبحانه : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه : ١٢٣] والقصة واحدة ، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال : إن مختار الفراء هو هذا ، وقيل : إنه لهما ولإبليس والحية. واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة ، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه‌السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء ، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه‌السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له : أي شيء تريد يا آدم؟ قال : أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له : في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى هاهنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة ، ومثله ما روي عن محمد بن قيس قال : إنه عليه‌السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال : أطعمتني حواء فقال سبحانه : يا حواء لم أطعمتيه؟ قالت أمرتني الحية فقال للحية : لم أمرتها؟ قالت : أمرني إبليس فقال الله تعالى : أما أنت يا حواء فلأدمينّك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك. وأما أنت يا إبليس فملعون.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال من فاعل «اهبطوا» وهي حال مقارنة أو مقدرة ، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا؟ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو ، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر ، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما‌السلام فقد قيل : إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفى بذكرهما عنهم ، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان. وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه. ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف

٣٤٢

والإيصال ، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه : (وَمَتاعٌ) أي بلغة (إِلى حِينٍ) يريد به وقت الموت ، وقيل : القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال : معنى «لكم» لجنسكم ولمجموعكم ، والظرف قيل : متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدرا ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع.

(قالَ) أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله. وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) عند البعث يوم القيامة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم (تُخْرَجُونَ) بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل (يا بَنِي آدَمَ) خطاب للناس كافة. واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام.

(قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن ، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول : رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو ، وقيل : المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ. وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز. ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد.

وقوله سبحانه : (يُوارِي) أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات. وعن الجبائي أن الكلام على حقيقة مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا. نعم أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أهبط آدم وحواء عليهما‌السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها : يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبرائيل عليه‌السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه.

وجاء في خبر آخر أنه عليه‌السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته.

وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه‌السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان. وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري (سَوْآتِكُمْ) أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روي غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية ، وقيل : إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام ، ولعل ذكر قصة آدم عليه‌السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم.

وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى (وَرِيشاً) أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له. وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة. ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره.

أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش. وتفسير الريش

٣٤٣

بالزينة مروي عن ابن زيد. وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر. وعن ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول ، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش ، وقال الطبرسي : إنه جميع ما ويحتاج إليه.

وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه «ورياشا» وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب.

(وَلِباسُ التَّقْوى) أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير. أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة. والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي. فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة ، ورفعه بالابتداء وخبره جملة (ذلِكَ خَيْرٌ) والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير.

وجوز أن يكون الخبر (خَيْرٌ) و (ذلِكَ) صفة لباس ، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما. واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه. ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل : إن «ذلك» بدل أو بيان لا نعت. وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل : إنه أنقص من ذي اللام ، وقيل : إنهما في مرتبة واحدة ، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير. وقرئ «ولباس» التقوى بالنصب عطفا على «لباسا» قال بعض المحققين : وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر (لِباسُ التَّقْوى) بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة ، وذكر على القراءة المشهورة أن «ذلك» إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة ، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل ـ لجين الماء ـ وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل.

(ذلِكَ) أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح (يا بَنِي آدَمَ) تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرئ «يفتننكم» بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة ، وقرئ «يفتنكم» بغير توكيد ، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب ، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم ، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه وكذا نسبه النزع إليه في قوله سبحانه. (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) والجملة حال من (أَبَوَيْكُمْ) أو من فاعل (أَخْرَجَ) ولفظ المضارع ـ على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقيا.

وقوله جل شأنه : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بأن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف ، والضمير في (إِنَّهُ) للشيطان.

وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في (يَراكُمْ) وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا

٣٤٤

يصلح للتأكيد. وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر و (مِنَ) لابتداء الغاية و (حَيْثُ) ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة (لا تَرَوْنَهُمْ) في محل جر بالإضافة : وعن أبي إسحاق أن (حَيْثُ) موصولة وما بعد صلة لها. ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة. والمراد بهم هنا جنوده من الجن. وقرأ اليزيدي «وقبيله» بالنصب وهو عطف على اسم إن ، ويتعين كون الضمير للشيطان ، ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع.

والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون.

ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمقدّمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه‌السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول ـ كما قال البعض ـ على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف. وفيه دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشئ من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة. وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبرائيل عليه‌السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته. ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان. واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة. وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الأنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم ، بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة. وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة. على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر.

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم ، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة. وقوله سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب. وجوز عطفها على الصلة. والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح. والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية. والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك.

٣٤٥

وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية ـ على ما قاله الطبرسي ـ حذف ، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها (قالُوا) جواب للناهين (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) محتجين بأمرين : تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه. وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير (أَمَرَنا) كما قيل لهم ولآبائهم. وحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف ، وقال الإمام : لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه ، وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ) إلخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه ، وقيل : إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم؟ قالوا وجدنا آباءنا فقيل : ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا : الله أمرنا بها والكلام حينئذ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا ؛ وقيل : لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا.

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تمام القول المأمور به ، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون ، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة ، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر ، وقيل : المراد بالعلم ما يشمل الظن (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها ؛ والقسط على ما قال غير واحد العدل ، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط.

وقال الراغب : هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. ويقال : القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والأقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال : قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل. وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فإن كان إلى جهة الحق فعدل. ومنه قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة : ٤٢ ، الحجرات : ٩ ، الممتحنة : ٨] وإن كان إلى جهة الباطل فجور ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] والمراد به هنا ـ على ما نقل عن أبي مسلم ـ جميع الطاعات والقرب.

وروي عن ابن عباس ، والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله ، ومجاهد ، والسدي ، وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي ، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة ، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله ، والسجود مجاز عن الصلاة. وقال غير واحد : المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة ، والأمر على القولين للوجوب.

٣٤٦

واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم ، والأمر على هذا للندب. والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد. ومثله ما قيل : إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند آخرين. والواو للعطف وما بعده قيل : معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا. والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر ، وقال الجرجاني : إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى. وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية.

وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره. و (أَقِيمُوا) مقول له. وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا (وَادْعُوهُ) أي اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له. والدين بالمعنى اللغوي. وقيل : إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين (كَما بَدَأَكُمْ) أي أنشأكم ابتداء (تَعُودُونَ) إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله. وقال الزجاج : إنه متصل بقوله تعالى : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ولا يخفى بعده. ولم يقل سبحانه : يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء. وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقال قتادة : المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) [طه : ٥٥] وقيل : المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة.

وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة. ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا الكتاب (١) من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل (٢) على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال أي أشار ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيديه فنبذهما ثم قال : فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير».

وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى : كما كتب عليكم تكونون. وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] وعليه يكون قوله سبحانه : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) بيانا وتفصيلا لذلك ، ونظيره قوله تعالى : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٩٥] بعد قوله عزّ شأنه : «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» قيل وهو الأنسب بالسياق.

__________________

(١) الظاهر ان هذا صادر عن طريق التمثيل اه منه.

(٢) هو من قولهم : أجمل الحساب إذا تم ورد من التفصيل الى الجملة فاثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته وقوله : «فرغ ربكم» فذلكة الكلام ونتيجته.

٣٤٧

وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال : إنه تعالى قدم في قوله سبحانه : «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشئون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول (هَدى) للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول : إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.

وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به ، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا) على هذا تعليل لقوله سبحانه : «وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرئ «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا ـ الحق أحق بالاتباع ـ مع القائل : إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون : إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع ، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه (وَفَرِيقاً حَقَ) خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.

واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان ، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير (تَعُودُونَ) بتقدير قد أو مستأنفتان ، وجوز نصب (فَرِيقاً) الأول و (فَرِيقاً) الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما ، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث ـ لحق ـ للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي ، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه : «ضلوا» (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.

ولعل الكلام من قبيل ـ بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه ، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك ، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة ، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل ، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي طواف أو صلاة ، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما ، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب

٣٤٨

يطوفون بالبيت عراة حتى كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله

فأنزل الله تعالى هذه الآية : وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه ، وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأحب أن ألبس أجمل ثيابي ، ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب ، وقيل : إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده ، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل : تمشطوا عند كل صلاة ، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر. ومثل ذلك ما أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذوا زينة الصلاة قالوا : وما زينة الصلاة؟ قال : البسوا نعالكم فصّلوا فيها».

وأخرج ابن عساكر. وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : في قوله سبحانه : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) إلخ «صلوا في نعالكم» (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما طاب لكم. قال الكلبي : كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : يا رسول الله من أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية ، ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا (وَلا تُسْرِفُوا) بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير ، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.

وقيل : المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين ، فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت» وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت : «رآني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف». وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص ، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع إليه سوى الشهوة ، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا ، وروي ذلك عن عكرمة ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل :

نصحته نصيحة قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبس ما تشتهيه الناس

فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي

٣٤٩

ابن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له : قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال : وما هي؟ قال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطب في ألفاظ يسيرة قال : وما هي؟ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طلبا انتهى. وما نسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الإحياء مرفوعا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جسد ما اعتاد». وتعقبه العراقي قائلا : لم أجد له أصلا.

وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالقسم».

وتعقبه الدارقطني قائلا : لا نعرف هذا من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر.

وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها : «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد» ولم أر من تعقبه ، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحارث بن كلدة ما الدواء؟ قال : الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض ، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل ، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم. والجملة في موضع التعليل للنهي ، وقد جمعت هذه الآية ـ كما قيل ـ أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا

٣٥٠

بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ(٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) من الثياب وكل ما يتجمل به (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن ، والكتان ، والحيوان كالحرير ، والصوف ، والمعادن كالخواتم والدروع (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي المستلذات ، وقيل : المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في «من» لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. ونقل عن ابن الفرس أنه قال : استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال. وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و «يقول» قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.

٣٥١

وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز. وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا : يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال : لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليه ذلك ، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم.

وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم ، وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك ، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول : إن لي نساء وجوار فأزين نفسي كيلا ينظرن إلى غيري. وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل لقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه ، وقيل لبعضهم : أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال : فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين. نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها.

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشاركهم فيها غيرهم. وعن الجبائي أن المعنى : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب (خالِصَةً) على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقه. وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر و (لِلَّذِينَ) متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر احكام (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.

وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ونظائره مما تقدم تحقيقه.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل : ما يتعلق بالفروج (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل من (الْفَواحِشَ) أي جهرها وسرها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا.

وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل : الأول طواف الرجال بالنساء. والثاني طواف النساء بالليل عاريات (وَالْإِثْمَ) أي ما يوجب الإثم. وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب. وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش. وقيل : إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس ، والحسن البصري. وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر :

نهانا رسول الله أن نقرب الزنا

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وقول الآخر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع. والمشهور أن ذلك

٣٥٢

من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم. وقال أبو حيان وغيره : إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر.

(وَالْبَغْيَ) الظلم والاستطالة على الناس. وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه (بِغَيْرِ الْحَقِ) متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك.

وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل : جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة وبرهانا. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله :

لا ترى الضب بها ينجحر

وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم المهلكة (أَجَلٌ) أي وقت معين مضروب لاستئصالهم ـ كما قال الحسن ـ : وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل ، وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض.

وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا. وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب ، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا : التقدير ولكل أحد من أمة ، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الضمير ـ كما قال بعض المحققين ـ إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة ، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل : إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها. وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير. والإضافة لإفادة أكمل التمييز. وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بصيغة الجمع ، واستظهرها ابن جني وجعل الأفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة والفاء قيل : فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك. والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (ساعَةً) قطعة من الزمن في غاية القلة. وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا. ويستعمل الأول أهل الحساب غالبا. والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم. وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا. سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا. ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار. والمراد لا يتأخرون أصلا. وصيغة الاستغفار للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي ولا يتقدمون عليه.

والظاهر أنه عطف على «لا يستأخرون» كما أعربه الحوفي وغيره. واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الأخبار بالضروري كقولك : إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فما مضى ،

٣٥٣

وقيل : إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط. فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه. وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى : «لا يستأخرون» فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم. وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [النساء : ١٨] الآية. ولعل هذا مراد من قال : إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى : (لا يَسْتَأْخِرُونَ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ) [الأنعام : ٥٩] وقولهم : كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل ، أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) والحق العطف على الجملة الشرطية ، وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية ، وعليه لا محذور في العطف على (لا يَسْتَأْخِرُونَ) لعدم المشاركة في القيد ؛ وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة ، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران : الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه. والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا ، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه ، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بني العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك ، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار ـ كما قيل ـ لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب ، وأما في قوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر : ٥ ، المؤمنون : ٤٣] من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله سبحانه : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٣] فالأهم هناك بيان انتفاء السبق (يا بَنِي آدَمَ) خطاب لكافة الناس. ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه. وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال : إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) ـ حتى بلغ. فاتقون ثم بثهم. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم. وقيل : المراد ببني آدم أمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خلاف الظاهر. ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل. و «أما» هي إن الشرطية ضمت إليها ـ ما ـ لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط ، وقيل : إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه.

ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة. ومن ذلك قوله :

فأما تريني ولي لمة

فإن الحوادث أودى بها

ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة. ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه ، وقيل : إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد. وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم. وفي الإتيان

٣٥٤

بأن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة وقالت المعتزلة : إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح.

وقوله سبحانه : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) صفة أخرى لرسل. وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جواب الشرط. ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط. والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ. وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) منكم (بِآياتِنا) التي تقص (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) ولم يقبلوها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لتكذيبهم واستكبارهم.

وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة. وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه. وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أو كذب ما قاله جل شأنه. والاستفهام للإنكار وقد مر تحقيق ذلك (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول. والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ. وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب (يَنالُهُمْ) أي يصيبهم (نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب. وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين. وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد.

وعن أبي صالح ما قدر من العذاب ، وعن الحسن مثله. وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية. وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من «نصيبهم» أي كائنا من الكتاب (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي ملك الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي حال كونهم متوفين لأزواجهم وحتى غاية نيلهم. وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله :

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

وقيل : إنها جارة. وقيل : لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء. وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر. وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى : (قالُوا) أي الرسل لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات (قالُوا ضَلُّوا) أي غابوا (عَنَّا) لا ندري أين مكانهم. فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقيق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي و (ما) وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلاة لاتصلت.

(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي اعترفوا على أنفسهم. وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف (أَنَّهُمْ كانُوا) في الدنيا (كافِرِينَ) عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا

٣٥٥

حيث اتضح لهم حاله ، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على (قالُوا) وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام ـ على ما ذهب إليه غير واحد ـ غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب. وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في الآية وقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى (قالَ) أي الله عزوجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي مع أمم ، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني كفار الأمم من النوعين ، وقدم الجن لمزيد شرّهم (فِي النَّارِ) متعلق بادخلوا ، وجوز أن يتعلق (فِي أُمَمٍ) به ويحمل (فِي النَّارِ) على البدلية أو على أنه صفة (أُمَمٍ) ؛ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) من الأمم تابعة أو متبوعة في النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها ، وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون : أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى.

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار. وأصل (ادَّارَكُوا) تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل.

وعن أبي عمرو أنه قرأ «اداركوا» بقطع ألف الوصل وهو ـ كما قيل : مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل ، وقرأ «إذا أدركوا» بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل (قالَتْ أُخْراهُمْ) منزلة وهم الاتباع والسفلة (لِأُولاهُمْ) منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك ، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل ، واللام في (لِأُولاهُمْ) للتعليل لا للتبليغ كما في قولك : قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أي مضاعفا كما روي عن مجاهد (مِنَ النَّارِ) والضعف ـ على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا ـ مثل الشيء مرة واحدة ، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد.

وقال الراغب : الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالثني والثني وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف ؛ وعلى ذلك قول الشاعر :

جزيتك ضعف الود لما اشتكيته

وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي

وإذا قيل : أعطه ضعفي واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه ، هذا إذا كان الضعف مضافا فإذا لم يكن مضافا فقلت : الضعفين فقد قيل : يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه.

٣٥٦

ونصب (ضِعْفاً) على أنه صفة لعذاب ، وجوز أن يكون بدلا منه و (مِنَ النَّارِ) صفة العذاب أو الضعف (قالَ) سبحانه وتعالى : (لِكُلٍ) منكم ومنهم عذاب (ضِعْفٌ) من النار ، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق ، وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض ، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) [الجن : ٦] ، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال : إنه مخصوص ببعضهم ؛ وقيل : الأحسن أن يقال : إن ضعف الاتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : و (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ : ٣٢] وفيه ما فيه. والأولى أن يقال : إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب ، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعفت ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن ، واختار أن المعنى لكن منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه.

(وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر.

وقيل : إنه على الأول للاتباع ، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم «لا يعلمون» بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدراجه في الجواب ، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال : إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب.

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) حين سمعوا جواب الله تعالى لهم ، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه ، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخباره سبحانه بقوله جل وعلا : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وقيل : إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم «فما كان» إلخ وليس بشيء.

وأيا ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب ، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى. وقيل : المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه ، وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والمضاعف (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه. والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي. وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور. وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على (فَضْلٍ) : وقيل : هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا إلخ وهو خلاف الظاهر جدا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها

٣٥٧

وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ) أي لأرواحهم إذا ماتوا (أَبْوابُ السَّماءِ) كما تفتح لأرواح المؤمنين. أخرج أحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوءا قالت اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان بن فلان. فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» والأخبار في ذلك كثيرة وقيل : لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء.

وروي ذلك عن الحسن ، ومجاهد ، وقيل : لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل : المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة. وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله. وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا. وظاهر كلام أهل الهيئة الجديد جواز الخرق والالتئام على الأفلاك. وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى. والتاء في (تُفَتَّحُ) لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف ، وحمزة ، والكسائي به وبالياء التحتية ، وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل.

وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك. وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) يوم القيامة (حَتَّى يَلِجَ) أي يدخل (الْجَمَلُ) هو البعير إذا بزل. وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : هو زوج الناقة.

وعن الحسن أنه قال : ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل : حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم (فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي ثقبة الإبرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يئوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا. وقرأ ابن عباس وابن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي (الْجَمَلُ) بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.

وقرأ عبد الكريم ، وحنظلة ، وابن عباس ، وابن جبير في رواية أخرى (الْجَمَلُ) بالضم والفتح مع التخفيف كنغر.

٣٥٨

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ (الْجَمَلُ) بضم الجيم وسكون الميم كالقفل و (الْجَمَلُ) بضمتين كالنصب ، وقرأ أبو السمال «الجمل» بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل ، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل : هو حبل السفينة. وقرئ «في سم» بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر ، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل : أصله ما كان في عضو كأنف وأذن ، وقرأ عبد الله «في سم الخياط» بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا ، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ، ويقال : أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر ، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه ، ولا يكاد يقال للكسب المحمود.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) أي فراش من تحتهم ، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ ، والجملة إما مستأنفة أو حالية ، ومن تجريدية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من (مِهادٌ) لتقدمه (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي أغطية جمع غاشية ، وعن ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية ـ على ما قيل ـ مثل قوله تعالى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] والمراد أن النار محيطة به من جميع الجوانب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية ثم قال : «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح» وتنوين (غَواشٍ) عوض عن الحرف المحذوف أو حركته ، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا ، ولذا قرئ «غواش» بالرفع كما في قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) [الرحمن : ٢٤] في قراءة عبد الله.

(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الجزاء الشديد (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام. ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بآياتنا ولم يكذبوا بها (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) ولم يستكبروا عنها (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعا ، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله.

وقيل : المعنى لا نكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السماوات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضا. وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف.

وجوز أيضا أن تكون جملة (لا نُكَلِّفُ) إلخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) حال من (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، وجوز كونه حالا من (الْجَنَّةِ) لاشتماله على ضميرها أيضا. والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة ، وقيل. خبر لأولئك على رأي من جوزه. و (فِيها) متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة.

٣٥٩

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدي قال : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل»

وقيل : المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.

وقيل : إن هذا النزع إنما كان في الدنيا ، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا ، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.

ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير منهم ، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبئ بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة و (مِنْ غِلٍ) على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) حال أيضا إما من الضمير في (صُدُورِهِمْ) لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف ، وإما من ضمير (نَزَعْنا) على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.

وقيل : المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) وفقنا له ، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لو لا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول (لِنَهْتَدِيَ) و (هَدانا) الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه ، والجملة حالية أو استئنافية ، وفي مصاحف أهل الشام (ما كُنَّا) بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى ، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك ؛ وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة ، وقوله سبحانه : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم‌السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء ، وقيل : تعليل لهدايتهم.

والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل ، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك ، ودونك

٣٦٠