روح المعاني - ج ٤

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٤

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وهكذا غالب كلام المعتزلة (وَنَذَرُهُمْ) أي ندعهم : (فِي طُغْيانِهِمْ) أي تجاوزهم الحد في العصيان (يَعْمَهُونَ) أي يترددون متحيرين وهذا عطف على «لا يؤمنون» مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة (يَعْمَهُونَ) في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم. وقرئ «يقلب. ويذر» على الغيبة والضمير لله عزوجل. وقرأ الأعمش «وتقلّب» على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال الجنيدقدس‌سره : أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي (وَلَوْ أَشْرَكُوا) بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس‌سره بقوله :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري سهوا حكمت بردتي

(لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لعظم ما أتوا به إن الشرك لظلم عظيم (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) وهم المحجوبون (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم العارفون بالله عزوجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان.

وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك» (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ) وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة (اقْتَدِهْ) أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك ـ على ما قيل ـ في منازل الوسائط ، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٠٣] مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي». وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣] حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوه حق معرفته (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون.

(مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي القلب (وَمَنْ حَوْلَها) من القوى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عزوجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كمن تفرعن وادعى الألوهية (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الطبيعي (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) تغليظا وتعنيفا عليهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)

٢٤١

والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيئاتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عند أخذ الميثاق.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف (وَالنَّوى) أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي العالم به من الجاهل (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الربا وقال الإمام فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات ، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها وجاعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت (سَكَناً) تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم :

زدني بفرط الحب فيك تحيرا

وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحيانا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل (وَالشَّمْسَ) أي شمس تجلي الصفات (وَالْقَمَرَ) أي قمر تجلي الأفعال «حسبانا» أي على حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدا بهما. أو علمي حساب الأوقات والأحوال (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) أي المرشدين أو نجوم الحواس (لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ) وهو علم الآداب (وَالْبَحْرِ) وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي أظهركم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي النفس الكلية (فَمُسْتَقَرٌّ) في أرض البدن حال الظهور (وَمُسْتَوْدَعٌ) في عين جمع الذات (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي من سماء الروح ماء العلم (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي كل صنف من الأخلاق والفضائل (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي النبات (خَضِراً) زينة النفس وبهجة لها (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها (وَمِنَ النَّخْلِ) أي نخل العقل (مِنْ طَلْعِها) أي من ظهور تعلقها (قِنْوانٌ) معارف وحقائق (دانِيَةٌ) قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة

وفي سكرة منها ولو عمر ساعة

ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم

(وَالزَّيْتُونَ) أي زيتون التفكر (وَالرُّمَّانَ) أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة (مُشْتَبِهاً) كما في أفراد نوع واحد (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) كنوعين وفردين منهما مثلا (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال (وَيَنْعِهِ) وهو كماله عند الوصول بالحضور (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم وانقادوا لهم (وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا) افتروا (لَهُ بَنِينَ) من العقول (وَبَناتٍ) من النفوس

٢٤٢

يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) من تقيده بما قيدوه به جل شأنه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة : يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها ، وورد في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر ، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال ، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد :

من رأى الحق كفاحا علنا

إنما أبصره خلف حجاب

وهو لا يعرفه وهو به

إن هذا لهو الأمر العجاب

كل راء لا يرى غير الذي

هو فيه من نعيم وعذاب

صورة الرائي تجلت عنده

وهو عين الراء بل عين الحجاب

فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحا فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجميع القوى إلخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد :

قد استوى الميت والحي

في كونهم ما عندهم شيء

مني فلا نور ولا ظلمة

فيهم ولا ظل ولا في

رؤيتهم لي معدومة

فنشرهم في كونهم طي

وفهمهم إن كان معناهم

عنه إذا حققته غي

إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رأى إلا نفسه ولو لا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلي الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول : قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول : رأينا من مضي من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم

٢٤٣

إنسانا لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأينا وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال. وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لغاية ظهوره سبحانه (وَهُوَ اللَّطِيفُ) إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس‌سره من هوية تكون عين بصر العبد (الْخَبِيرُ) أي العليم خبرة أنه بصر العبد (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠]. و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] وعن الجنيد قدس‌سره للطيف من نور قلبك بالهدى وربب جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى. ويدخلك جنة المأوى. وقال غيره : اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته أواك ، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافأك. وإن أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين : إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية (فَمَنْ أَبْصَرَ) واهتدى (فَلِنَفْسِهِ) ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه (وَمَنْ عَمِيَ) واحتجب عن الهدى (فَعَلَيْها) عماه واحتجابه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شئونكم به موجودون (١)(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه ، وقال آخر : المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قيل : وهو إشارة إلى وحي خاص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ثم قال جل شأنه (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) المحجوبين بالكثرة عن الوحدة (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي من شأننا أن لا نرد طالبا (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) لسبق الشقاء عليهم (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) لاقتضاء استعدادهم ذلك (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم (يَعْمَهُونَ) يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣]

تم طبع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي بحول الله وقوته ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن منه وأول قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا) الآية

__________________

(١) قوله (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) كذا بخطه وأسقط المصنف كلمات من هذه الآية كما أنه أسقط بعض ألفاظ ـ من هذه الصحيفة كما هو عادته في نظائر ما هنا

٢٤٤

روح المعاني

الجزء الثامن

٢٤٥
٢٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ

٢٤٧

أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١٢٨)

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) تصريح بما أشعر به قوله عزوجل : (وَما يُشْعِرُكُمْ) إلخ من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه هاهنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) [الفرقان : ٢١] وقولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [الحجر : ٧] (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم : (فَأْتُوا بِآبائِنا) [الدخان : ٣٦] (وَحَشَرْنا) أي جمعنا وسوقنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة ، وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد ، وعنه : يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله بمعنى واحد وهو المواجهة. ونقل الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم ، وقيل : هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك : قبلت الرجل وتقبلت به إذا تكفلت به ، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك. وروي ذلك عن الفراء. وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب. ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء: ٩٢] أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منهم (١) الكفالة والشهادة بحقية الإيمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان ، وانتصاب (قُبُلاً) على هذه الأقوال على أنه حال من «كل» وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة :

جادت عليه كل عين ثرة

فتركن كل حديقة كالدرهم

إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل : إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي : وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة ، ونصبه على الحال كما قال الفراء ، والزجاج ، وكثير ، وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم : لي قبل فلان كذا. وقرئ «قبلا» بضم فسكون. و (ما كانُوا) إلخ جواب لو وهو إذا كان منفيا لا تدخله اللام خلافا لمن وهم فقدرها.

وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس

__________________

(١) قوله كل شيء تتأتى منهم كذا بخطه والأمر في دلك سهل.

٢٤٨

الأمر وعلله البعض لسبق القضاء عليهم بالكفر. واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده ، وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم ، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وتعقب ذلك الشهاب قائلا : إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده ، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول. ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه ، وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي ، وتحقيقه كما قيل : إن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] انتهى. وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول : إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد ، وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها ، فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة. ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى ، ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلا وإن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر. ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلا ، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى ، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم ، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين ، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثّرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية. كما يقوله الجبرية ، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير ، وليس غرضنا هنا سوى

٢٤٩

تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من أعم الأحوال فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعا أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده أبو حيان ، وقيل : هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظاهر ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم ، والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على استحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحاق (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) استثناء من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء ، وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين ، والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون أو ولكن المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد أيمانهم على ما لا يكاد يوجد أصلا. فالجملة على الأول ـ كما قال بعض المحققين ـ مقررة لمضمون قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) إلخ على القراءة المشهورة ، وعلى الثاني بيان لمنشإ خطأ المقسمين ومناط أقسامهم على تلك القراءة أيضا وتقرير له على قراءة «لا تؤمنون» بالفوقانية ، وكذا على قراءة «وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى إيمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء ايمانهم بل كفرهم.

وأجاب عنه المعتزلة بأن المراد إلا أن يشاء مشيئة قسر وإكراه ، وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقا. واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى وإلا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه. وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة فتأمل جميع ذلك : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يشاهده من عداوة قريش وما بنوا عليها من الأقاويل والأفاعيل ، وذلك إشارة إلى ما يفهم مما تقدم ، والكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده ، والتقديم للقصر المفيد للمبالغة ، و (عَدُوًّا) بمعنى أعداء كما في قوله :

إذا أنا لم أنفع صديقي بوده

فإن عدوي لم يضرهم بغضي

أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء أيضا دونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويجهدون في إبطال أمرك جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلا أنقص منه.

وجعله الإمام على هذا الوجه عطفا على معنى ما تقدم من الكلام ، ولعله ليس المراد منه العطف الاصطلاحي ، وجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه : و (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي كما فعلنا ذلك جعلنا لكل نبي عدوا وفيه بعد.

وأيا ما كان فالآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة من أنه تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير ، وحملها على أن المراد بها وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر. ومثله قول أبي بكر الأصم إن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الأنبياء عليهم‌السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سببا للعداوة القوية ، ونظير ذلك قول المتنبي :

٢٥٠

فأنت الذي صيرتهم حسدا

وقيل : المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الأنبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء ، وهكذا غالب تأويلات المعتزلة.

(شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أي مردة النوعين كما روي عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد على أن الإضافة يعني من البيانية ؛ وقيل : هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين ، وقيل : هي بمعنى اللام أي الشياطين للإنس والجن. وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده فإنه روي عنه أنه قال : إن إبليس عليه اللعنة جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا آخر إلى الجن. وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين الشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر ، وهو نصب على البدلية من (عَدُوًّا) والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة ، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالا من (عَدُوًّا) قدم عليه لنكارته ، وجوز أن يكون متعلقا به وقدم عليه للاهتمام ، وأن يكون نصب (شَياطِينَ) بفعل مقدر.

وقوله سبحانه : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من شياطين أو صفة لعدو ، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق ، وأصل الوحي ـ كما قال الراغب ـ الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة أيضا ، والمعنى هنا يلقي ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي المزوق من الكلام الباطل منه. وأصل الزخرف الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، وقال بعضهم : أصل معنى الزخرف الذهب ، ولما كان حسنا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة ، وقد يخص بالباطل (غُرُوراً) مفعول له أي ليغروهم ، أو مصدر في موقع الحال أي غارين ، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل (يُوحِي) أي يغرون غرورا ، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة ، ونسب للراغب أنه قال : يقال غره غرورا كأنما طواه على غره ـ بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء ـ وهو طيه الأول.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) رجوع كما قيل إلى بيان الشئون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم‌السلام وبين أممهم كما ينبئ عنه الالتفات ، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية ، والضمير المنصوب في (فَعَلُوهُ) عائد إلى عداوتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمره عليه الصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الإفراد سهل ، وقيل : إنه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم‌السلام ، وإيحاء الزخرف أعم من أن تكون في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمور إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيه أن قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هو عائد إلى الإيحاء أو الزخرف أو الغرور ، وفي أخذ ذلك عاما أو خاصا احتمالان لا يخفى الأولى منهما ، ومفعول المشيئة محذوف أي عدم ما ذكر ولا إشكال في جعل العدم الخاص متعلق المشيئة ، وقدره بعضهم إيمانهم.

واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطا يكون مضمون الجزاء كما في علم المعاني وهو هنا (ما فَعَلُوهُ) وتعقب بأنه هاهنا المشيئة فيما تقدم متعلقا بشيء وهو الإيمان كما أشير إليه ثم ذكر في

٢٥١

حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقه مضمون الجزاء وأن يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقا ، ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال. والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فإنه بديع ، والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقا ، وإنما قال سبحانه هنا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) وفيما يأتي (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١٣٧] فغاير بين الاسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلا يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته ، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل هاهنا : إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكائد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة البتة.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي إلى زخرف القول ، وقيل : الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى التعادي ، والواو للعطف وما بعدها عطف على (غُرُوراً) بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للإيحاء وما في البين اعتراض ، وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إذ الغرور فعل الموحي وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه. وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا. وأصل الصغو ـ كما قال الراغب ـ الميل يقال : صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغت الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه ، وحكي صغوت إليه أصغو وأصغي صغوا وصغيا ، وقيل : صغيت أصغي وأصغيت أصغي. وفي القاموس صغا يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل : يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل : يصغو ويصغي ؛ ويقال : في مصدره صغيا بالفتح والكسر. وزاد الفراء صغيا وصغوا بالياء والواو مشددتين ، ويقال : إن أصغى مثله.

والمراد هنا ولتميل إليه (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي على الوجه الواجب. وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون ـ قال مولانا شيخ الإسلام ـ إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل ، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها اه. والآية حجة على المعتزلة في وجه. وأجاب الكعبي بأن الكلام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر. وقال غيره : إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون ، واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحها كقوله :

لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم

ليعلم ربي أن بيتي واسع

بفتح لام ليعلم ، نعم حكي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله :

لتغني عني ذا إنائك أجمعا

٢٥٢

وهو غير مجمع عليه أيضا فإن أناسا أنكروا ورود ذلك ، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني. واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي.

وقال الرضي : لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة. وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر ، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير.

واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة. وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)(١)(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ)(٢) فليكن هذا كذلك. ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرئ بحذف حرف العلة.

وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده. فدعوى أن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة. واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطا للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة ، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم ، وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء ، والإسناد هنا مجازي (وَلِيَرْضَوْهُ) لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم (وَلِيَقْتَرِفُوا) أي ليكتسبوا ، قال الراغب : أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قرف ، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنى أو سوأى وفي الإساءة أكثر استعمالا ، ولهذا يقال : الاعتراف يزيل الاقتراف ، ويقال : قرفت فلانا بكذا إذا عبته به واتهمته ؛ وقد حمل على ذلك ما هنا وفيه بعد. ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي الذي هم مقترفون من القبائح التي لا يليق ذكرها. وجوز أن تكون (ما) موصوفة ، والعائد محذوف أيضا. وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) كلام مستأنف على إرادة القول. والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل لهم يا محمد : أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل. وقيل : إن مشركي قريش قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت. وإسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) [آل عمران : ٨٣] مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما ، و «غير» مفعول (أَبْتَغِي) و (حَكَماً) حال منه ، وقيل : تمييز لما في «غير» من الإبهام كقولهم : إن لنا إبلا غيرها ، وقيل : مفعول له ، وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الإنكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم ، وقيل : تقديمه للتخصيص. وحمل على أن المراد تخصيص الإنكار لا إنكار التخصيص ، وقيل : في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما.

وجوز أن يكون «غير» حالا من (حَكَماً) وحكما مفعول (أَبْتَغِي) والتقديم لكونه مصب الإنكار ، والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب ، وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة ، وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم.

__________________

(١) سورة : يوسف ، الآية : ١٢.

(٢) سورة : يوسف ، الآية : ٩٠.

٢٥٣

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) جملة حالية مؤكدة للإنكار ، ونسبة الإنزال إليه خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإيهام قوة نسبته إليهم وقيل : لأن ذلك أوفق بصدر الآية بناء على أن المراد بها الإنكار عليهم وإن عبر بما عبر إظهارا للنصفة ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٢٢].

ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب.

(مُفَصَّلاً) أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم ، ثم قال : وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله ؛ وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى.

ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) الآية ، وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه ، ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين ، الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته ، فمعنى الآية قل يا محمد : إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما؟ فإن كل أحد يقول : إن ذلك غير جائز ثم قل : إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز. الثاني اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى. ووجه بعضهم مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغني عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال : إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال : الجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه ، وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكما في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك ، وهو إنما يحكم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدق مدعاه بالإعجاز ، فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ) إلخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحكم وألزمكم الحجة فكفى به سبحانه حاكما بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم ، ويؤول هذا إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب ، وعلى هذا فكونه معجزا مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه ، وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) إلخ لا يخلو عن حسن إلا أن

٢٥٤

دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي ، ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء ، وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر. ومن الناس من قال : يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى ، والحق ما تقدم.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عزوجل ، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يلوح من كلام الإمام ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز ، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا ، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة ، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم ، وقيل : المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب.

وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية. و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمنزل ، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في (مُنَزَّلٌ) أي متلبسا بالحق. وقرأ غالب السبعة «منزل» بالتخفيف من الإنزال. والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري ، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق ، وليس إشارة إلى المغنين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المترددين في أنهم يعملون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة ، فالفاء لترتيب النهي على الاخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الامتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤ ، يونس : ١٠٥ ، القصص : ٨٧] ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة ، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) [السجدة : ١٢] والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عزوجل بكونه منزلا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به ، وتمام الشيء ـ كما قال الراغب ـ انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه. والمراد بالكلمة الكلام وأريد به ـ كما قال قتادة وغيره ـ القرآن ، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق ، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر. وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم. وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) [التوبة : ٤٠].

٢٥٥

وقيل : المراد بها حجته عزوجل على خلقه والأول هو الظاهر وقرأ بالتوحيد عاصم ، وحمزة ، وعلي ، وخلف ، وسهل ، ويعقوب ، وقرأ الباقون «كلمات ربك» : (صِدْقاً وَعَدْلاً) مصدران نصبا على الحال من (رَبِّكَ) أو من (كَلِمَةُ) كما ذهب إليه أبو علي الفارسي. وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة ؛ والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والأحكام (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها. وقال بعض المحققين : إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالبا كما قيل :

إذا تم أمر بدا نقصه

توقع زوالا إذا قيل تم

ذكر هذا احتراسا وبيانا لأن تمامها ليس كتمام غيرها. وجوز أن يكون حالا من فاعل (تَمَّتْ) على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حالا من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو (صِدْقاً وَعَدْلاً) إلا أن يجعلا حالين منه أيضا. والمعنى لا أحد يبدل شيئا من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى. والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقا فلا يراد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق وإلا فكذب.

وذكر الكرماني في حديث «أصدق الحديث» إلخ أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك ، وقيل : المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعا كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضمانا منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] أو لا نبي ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها. وعيسى عليه‌السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئا كما حقق في محله.

وقيل : المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول. وزعم الإمام أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر ، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيدا فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأنا أقول : لا يخفى أن الشقي في العلم لا يكون سعيدا والسعيد فيه لا يكون شقيا أصلا لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم. وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم. ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير إليه قوله سبحانه : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) [طه : ٥٠] نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئا وأفاض عليها عز شأنه ضده والله سبحانه أجل وأعلى من ذلك (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل ما يتعلق به السميع (الْعَلِيمُ) بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا أوليا.

ثم إنه تعالى ـ على ما ذكر الإمام ـ لما أجاب عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة النبوة أرشد إلى أنه بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال فقال سبحانه : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وقال شيخ الإسلام : إنه لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجب ذلك من إنزال الكتاب الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدله في أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده سبحانه بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون

٢٥٦

بنقائض تلك الكمالات من النقائض التي هي الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشئ من الجهل والكذب على الله تعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرمونه وتحذيرا عن الركون إليهم والعمل بآرائهم فقال سبحانه ما قال. ويحتمل أن يكون هذا من باب الإرشاد إلى اتباع القرآن والتمسك به بعد بيان كماله على أكمل وجه خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته.

وقيل : خوطب عليه الصلاة والسلام وأريد غيره. والمراد بمن في الأرض : الناس ، وبأكثرهم الكفار وقيل: ما يعمهم وغيرهم من الجهال واتباع الهوى. وقيل : أهل مكة والأرض أرضها وأكثر أهلها كانوا حينئذ كفارا.

ومن الناس من زعم أن هذا نهي في المعنى عن متابعة غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم والكرام قليل أقل الناس عددا. وقد قال سبحانه : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] وهو كما ترى. ومثله احتمال أنه نهى عن متابعة غير الله سبحانه لأنه لو أطيع أكثر من في الأرض لأضلوا فضلا عن إطاعة قليل أو واحد منهم. والمعنى إن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرع لك وأودعه كلماته المنزلة من عنده إليك يضلوك عن الحق أو إن تطع الكفار بأن جعلت منهم حكما يضلوك عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال (إِلَّا الظَّنَ) وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئا ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به. وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلا فإنه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية ، والفرق بينهما على ـ ما قاله العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى ـ أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فإذا ظن صفة من صفات الإله عز شأنه فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز النقص عليه سبحانه بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراما أو الحرام حلالا لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا عليه عزوجل فدار تجويزه بين أمرين كل منهما كمال بخلاف الصفات. وقال غير واحد : المراد ما يتبعون إلا ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق وجهالاتهم وآراءهم الباطلة ، ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقا فلا متمسك لنفاة القياس بها ، والإمام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال : والجواب لم يجوز أن يقال : الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل ظن الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إليها فلا يسمى ظنا وهو كما ترى (وَإِنْ هُمْ) أي وما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون. وأصل الخرص القول بالظن وقول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري ، ومنه خرص النخل خرصا بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة ، والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه.

وقال الإمام : المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خرّاصون كاذبون في ادعاء القطع ، ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع. وقال غير واحد : المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه سبحانه وتحليل الميتة والبحائر ونظير ذلك. ولعل ما ذهبنا إليه أولى وأبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وأن شأنهم أنفسهم الظن أيضا ، وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جدا.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تقرير ـ كما قال بعض المحققين ـ لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين.

٢٥٧

و (مَنْ) موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه (أَعْلَمُ) ـ كما ذهب إليه الفارسي ـ أي يعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافا لبعض الكوفيين لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله ، وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل ، فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في التسهيل ، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجرورا بالباء أو اللام. ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية. ولا يجوز أن يكون أفعل مضافا إلى من لفساد المعنى.

وجوز أن تكون استفهامية مبتدأ والخبر (يَضِلُ) والجملة معلق عنها الفعل المقدر ، وإلى هذا ذهب الزجاج ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا إليه من الاعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الأولين. وقرئ «من يضلّ» بضم الياء على أن (مَنْ) مفعول لما أشير إليه من الفعل المقدر وفاعل (يَضِلُ) ضمير راجع إليه ومفعوله محذوف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيدا للتحذير عن طاعة الكفرة ، وجوز أن تكون مجرورة بالإضافة أي أعلم المضلين من قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) [النساء : ٨٨ وغيرها] أو من قولك : أضللته إذا وجدته ضالا كأحمدته إذا وجدته محمودا ، وأن تكون استفهامية معلقا عنها الفعل أيضا ، وأن يكون فاعل (يَضِلُ) ضمير الله تعالى ، ومن منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أي يعلم من يضله الله تعالى ، قيل : وكان الظاهر أن يقال : بالمهديين. وكأن وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل لقوله «عليه الصلاة والسلام» كل مولود يولد على الفطرة : بخلاف الضلال فإنه أمر طار أوجده فيهم فتأمل.

والتفضيل في العلم إما بالنظر إلى المعلومات فإنها غير متناهية أو إلى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها ، وإما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فقد ذكر الواحدي أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قبلها فقال عليه الصلاة والسلام : الله تعالى قتلها قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة : إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل سبحانه الآية.

وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية ، والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف أنفه ، والحصر ـ كما قيل ـ مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط ولو لا ذلك لكان هذا الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ساكتا عما يحتاج إليه ، وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم أعني قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا) إلخ وهو مخالف لما عليه الجمهور (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ) التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن (مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى واجتناب ما حرم ، وقيل : المعنى إن صرتم عالمين حقائق الأمور التي هذا الأمر من جملتها بسبب إيمانكم ، وقيل : المراد إن كنتم متصفين بالإيمان وعلى

٢٥٨

يقين منه فإن التصديق يختلف ظنا وتقليدا وتحقيقا ، والجار والمجرور متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل ؛ وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه ، فما للاستفهام الإنكاري وليست نافية كما قيل وهي مبتدأ و (لَكُمْ) الخبر وأن تأكلوا بتقدير حرف الجر أي في أن تأكلوا ، والخلاف في محل المنسبك بعد الحذف مشهور.

وجوز أن يكون ذلك حالا ، ورد بأن المصدر المؤول من أن والفعل لا يقع حالا كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة حرف الاستقبال المنافية للحالية إلا أن يؤول بنكرة أو يقدر مضاف أي ذوي أن لا تأكلوا ومفعول (تَأْكُلُوا) كما قال أبو البقاء : محذوف أي شيئا مما إلخ ، قيل : وظاهر الآية مشعر بأنه يجوز الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وغيره معا وليست من التبعيضية لإخراجه بل لإخراج ما لم يؤكل كالروث والدم وهو خارج بالحصر السابق فلا تغفل ، وسبب نزول الآية ـ على ما قاله الإمام أبو منصور ـ أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات تقشفا وتزهدا فنزلت وقد فضّل لكم ما حرّم عليكم بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل ، وقيل بقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة : ٣] واعترضه الإمام بأن سورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه مكية كما علمت فلا يتأتى ذلك وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول فلا يضر تأخر (قُلْ لا أَجِدُ) إلخ عن هذه الآية في هذه السورة ، وقيل : التفصيل بوحي غير متلو ، والجملة حالية مؤكدة للإنكار السابق.

وقرأ أهل الكوفة غير حفص «فصل ما حرم» ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقرأ أهل المدينة ، وحفص ، ويعقوب ، وسهل «فصل وحرم» كليهما بالبناء للفاعل. وقرأهما الباقون بالبناء للمفعول.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة ، وظاهر تقرير الزمخشري ـ كما قال العلامة الثاني ـ يقتضي أن ما موصولة فلا يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعا أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو حرام عليكم حلال لكم حال الضرورة ، وجوز عليه الرحمة جعله استثناء من ضمير (حَرَّمَ) وما مصدرية في معنى المدة أي فصّل لكم الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها ، واعترض بأنه لا يصح حينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر كأنه قيل : حرمت عليكم كل وقت إلا وقت إلخ ، ومن الناس من أورد هنا شيئا لا أظنه مما يضطر إليه حيث قال بعد كلام : والمهم في هذا المقام بيان فائدة (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) وقد أعني عنه قوله سبحانه : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) لأن تفصيل ما حرم يتضمن قوله تعالى. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وكأن الفائدة فيه والله تعالى أعلم المبالغة في النهي عن الامتناع عن الأكل بأن ما حرم يصير مما لا يؤكل بخلاف ما حل فإنه لا يصير مما لا يؤكل فكيف يجتنب عما يؤكل فتأمل (وَإِنَّ كَثِيراً) من الكفار (لَيُضِلُّونَ) الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحي وأضرابه الذين اتخذوا البحائر والسوائب وأحلوا أكل الميتة ، وعن الزجاج أن المراد بهذا الكثير الذين ناظروا في الميتة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلّون» بفتح الياء (بِأَهْوائِهِمْ) الزائغة وشهواتهم الباطلة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مقتبس من الشريعة مستند إلى الوحي أو بغير علم أصلا ـ كما قيل ـ وذكر ذلك للإيذان بأن ما هم عليه محض هوى وشهوة ، وجوز أن يكون من قبيل قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢].

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام فيجازيهم على ذلك،

٢٥٩

ولعل المراد بهم هذا الكثير ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم لو سمحهم بصفة الاعتداء (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب ـ كما قاله الجبائي ـ أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالأجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا من الحوانيت واتخاذ الأخدان كما روي عن الضحاك ، والسدي ، وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثما وإذا استسر به صاحبه فلا إثم فيه.

قال الطيبي : وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الاتباع ، وعلى الأول معترض توكيدا لقوله سبحانه : (فَكُلُوا) أولا (وَلا تَأْكُلُوا) ثانيا وهو الوجه ، ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يعملون المعاصي التي فيها الإثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي يكسبون من الإثم كائنا ما كان فلا بد من اجتناب ذلك ، والجملة تعليل للأمر (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي من الحيوان كما هو المتبادر ، والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا وإليه ذهب داود.

وعن أحمد ، والحسن ، وابن سيرين ، والجبائي مثله ، وقال الشافعي بخلافه لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر. وعن مالك وهي الرواية المعول عليها عند أئمة مذهبه أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونا أو غير تهاون ، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه. وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي ، وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه ، وما ذكرناه هو الموجود في كتب المالكية وأهل مكة أدرى بشعابها. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك ، قال العلامة الثاني : إن الناسي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن متروك التسمية ناسيا فقال عليه الصلاة والسلام : كلوه فإن تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة ، وإما لأنه ترك التسمية عمدا فكأنه نفي ما في قلبه ، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقا وبأنا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره ، ثم قال : فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون (لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وهو الترك لكونه الأقرب ، ومعلوم أن الترك نسيانا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد.

واعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقا لا سيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب إليه أحد ولا يلائم قوله تعالى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥] مع أن القرآن يفسر بعضه بعضا سيما في حكم واحد وبأن ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن ترك التسمية عليها ليس بفسق ، وبعضهم أرجع الضمير إلى ما بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لا بد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمدا إذ لا فسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضا ومما تقدم يعلم ما فيه. وذكر العلامة للشافعية في دعوى حل متروك التسمية عمدا أو نسيانا وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوها الأول أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمنا فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهلّ به لغير الله تعالى.

الثاني أن قوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا كان أو سهوا إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد. الثالث أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا

٢٦٠