كتاب العين - ج ١

الخليل بن أحمد الفراهيدي

كتاب العين - ج ١

المؤلف:

الخليل بن أحمد الفراهيدي


المحقق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور ابراهيم السامرّائي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة دار الهجرة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

١

٢

٣
٤

منزلة كتاب العين في تاريخ علم الفقه

تقدم علم اللغة في النصف الثاني من القرن العشرين خطوات واسعة بحيث غدا علما جديدا له طرائقه العلمية التي ابتعدت عن التأمل الذاتي كما كان علم اللغة عند قدماء اللغويين.

لقد أصبح علم اللغة في الدراسات الحديثة مادة منهجية يدرسها الطلاب في مرحلتهم الجامعية في الأقسام اللغوية كما يدرسها غيرهم من طلاب علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة في سني تخصصهم واعدادهم.

إن علم اللغة في هذا الحيز من الدراسات اللغوية الحديثة علم قائم على الملاحظة والتجربة العلمية. وهو من أجل ذلك مادة جديدة. غير أن هذا العلم الجديد مما يجهله طالب اللغة في جامعاتنا العربية. انه ليس مادة «انشائية» تملى على الطلاب ، بل هو بحث وتجربة علمية

أقول : «انه ليس مادة انشائية» لأصرف النظر الى حقيقته العلمية التي تبتعد عن السرد القصصي في كثير من المواد التي تفيد من التأمل والاستقراء والاستنتاج.

إن علم اللغة في عصرنا كسائر العلوم الإنسانية التي أفادت من التقدم العلمي ومما يدعى ب «التكنولوجيا» الحديثة. إن الآلة الجديدة الدّقيقة قد غزت ميدان هذا العلم ، لا سيما ما كان منه متصلا ب «الأصوات». ثم إنّنا واجدون كل يوم نمطا جديدا من هذا الغزو العلمي الذي استعان به علماء اللغة في عصرنا الحاضر.

غير أن شيئا من ذلك ما زال بعيدا عن عالمنا العربي ، مجهولا كل الجهل ، فلم تدرس اللغة بوجه عام ولم تدرس العربية بوجه خاص الدراسة الموضوعية ، ولم يستعن بشيء من مبتكرات العلم الحديث على فهم أصواتنا فهما جيدا تحليليا وتركيبيا دقيقا. ثم إنّنا ما زلنا غير شاعرين بحاجتنا الى الأخذ بشيء يسير في أساليب البحث الجديد.

٥

ما زلنا ننكر أن اللغة التي يعرب بها الناس شيء يستحق القليل من العناية ، وأنها نتيجة لذلك ، لغة مرذولة في حين أنها مادة الحياة اليومية ، وكأن صنيعنا هذا انتصار للفصيحة التي لم نحسن الوصول إليها وفهمها بل افهامها الى ناشئة المتعلمين منا.

إننا نعاني صعابا حين نعرب بلغتنا الفصيحة ، ومن أجل ذلك لا نقيم اعرابها ولا نحسن أن نأتي بالأبنية الفصيحة على نحو ما هو معروف في «صرف» العربية ، ثم لا نجيد صوغ جملها على نحو يكفل الاعراب عن مقاصدنا اعرابا مفيدا صحيحا.

لقد نسي أصحابنا الغيارى على الفصيحة المعربة أن السلف من علماء اللغة الثقات كانوا يعنون بلغات القبائل ولغات الناس وأنهم سجلوا في رسائلهم شيئا من ذلك.

إن البحث في تاريخ العربية يدلنا على أن العلم اللغوي القديم قد اتبع في تقييده وضبطه وسائل علمية ما زالت مقبولة. لقد اهتموا بالفصيحة لاهتمامهم بلغة التنزيل ولغة الحديث ، كما اهتموا بلغات العامّة.

إن الخليل بن أحمد مثل من الامثال اضربه لأدلل على جهلنا بتاريخ هذه اللغة. لعل الكثيرين من الدارسين وذوي الاختصاص لا يعرفون سوى أنّ الخليل من النحاة المتقدمين الكبار. ثم نبّه فريق من المتخصصين الى «الكتاب» كتاب سيبويه ومكانة الخليل في هذا «الكتاب» النفيس. ولا يعدو علم اخرين بالخليل سوى أنه صاحب كتاب العين ، ويذهب فريق آخر في علمه الى أبعد من ذلك قليلا فيعرف قاصدا أم غير قاصد الى هذه المعرفة أن «العين» ليس من صنع الخليل.

وما زلنا نردد أحيانا هذه المقولة المكذوبة المختلقة التي روّجها الأقدمون وفي مقدمتهم الأزهري صاحب «التهذيب». أن نفرا آخر من أهل العلم لا تعدو معرفته بالخليل سوى كونه مبتدعا لعلم موازين الشعر.

ومن العجيب أن الخليل بن أحمد لم يعرف على حقيقته في مختلف العصور على الرغم من أن معاصريه ومن خلفهم قد أفادوا من علمه الشيء الكثير.

٦

كان النضر بن شميل من علماء اللغة المتقدمين يقول : «أكلت الدنيا بعلم الخليل بن أحمد وكتبه وهو في خص لا يشعر به» (١)

ولعل شيئا واحدا قد بقي معروفا عن الخليل هو أنه من علماء النحو المتقدمين ، وأن كتاب سيبويه قد حفل بعلمه وآرائه في النحو واللغة.

ان اشياء كثيرة تتصل بعلم الخليل قد خفيت على جمهرة من الدارسين. أقول : ان الخليل أحد الكبار العباقرة الذين هم مفخرة الحضارة العربية ، وانه مبدع مبتكر ، والا بداع عند الخليل متمثل في عناصر عدة منها :

أنّ الخليل قد وضع أول معجم للعربية فلم يستطع أحد ممن تقدمه أو ممن عاصره أن يهتدي الى شيء من ذلك.

ولا بد لنا من أن نشير الى أن علماء اللغة ممن تقدم الخليل وممن عاصره لم يستطيعوا استيفاء العربية بصنعة محكمة قائمة على الاستقراء الوافي.

وبسبب من ذلك قصروا عملهم على تصنيف الرسائل الموجزة والمصنفات المختصرة التي تناولوا فيها موضوعا من الموضوعات كالابل والوحوش والخيل والجراد والحشرات وخلق الانسان وخلق الفرس والبئر والسرج واللجام ونحو ذلك من هذه المواد.

غير أن الخليل بن أحمد لم يصنع شيئا من ذلك فلم يعرض لهذه الابواب التي أشرنا إليها ، ولكنه استقرى العربية استقراء أقرب الى ما يدعى ب «الاحصاء» في عصرنا الحاضر ، فقيض له أن ينتهي الى «كتاب العين» فكان أول معجم في العربية ، وهو عمل جد كبير إذا عرفنا أنه من المعجمات الأولى في تاريخ اللغات الانسانية.

ومن غير شك أن أصحاب المصنفات الموجزة التي أشرنا إليها قد أفادوا من «كتاب العين» لقد استقروه استقراء وافيا فجردوا منه مصنفاتهم كما استقروا كتبا أخرى لا نعرفها ولم يفصحوا عنها.

__________________

(١) الأنباري ، نزهة الالباء ص ٤٨.

٧

إن صنعة أول معجم في أية لغة من اللغات على نحو وترتيب جديدين لا سابق لهما ، لهو من أعمال الصفوة العباقرة الخالدين.

ولا أريد أن اعرض للرأى القائل إن الخليل قد اهتدى الى شىء من علمه اللغوي والنحوي بسبب ما أفاده مما ترجم من العلم الاغريقي. ذكر هذا جماعة من المستشرقين ثم خلف من بعدهم اخرون من المشارقة فأعادوا هذه المقولة التى تفتقر كل الافتقار الى الدليل التاريخي.

قلت : إن الخليل قد احصى العربية احصاء تاما ، وبذلك هيأ مادة مصنفة معروفة لمن جاء بعده من اللغويين الذين صنفوا معجمات لقد اهتدى الخليل الى طريقة «التقليب» التي استطاع بها أن يعرف المستعمل من العربية والمهمل فعقد الكتاب على المستعمل وأهمل ما عداه.

حتى إذا تم احصاء اللغة من الثنائي الى الثلاثي فالرباعي فالخماسي كان ذلك ايذانا ببدء مرحلة التدوين العلمي للعربية.

ومع ذلك لم يستطع معاصروه أن يضيفوا شيئا أو يقوموا بما قام به كما لم يستطع من خلفه أن يأتي بما أتى. كان كل جهد الذين خلفوا الخليل أن يفيدوا من نظام العين فيصنفوا معجمات اتخذ أصحابها منه أساسا لها كما فعل ابن دريد في الجمهرة والازهري في «التهذيب».

ان عملية احصاء العربية وحدها تعد العملية الكبرى التي هيأت لجميع أصحاب المعجمات المطولة المادة التي عقدوا عليها أبوابهم وفصولهم.

ونستطيع أن نؤكد أن ما أضافه هؤلاء الى ما جاء به الخليل لا تتناول المواد الأساسية بل هي اضافات ثانوية كزيادة في الشواهد من شعر وقرآن وحديث أو نسبة أبيات الى أصحابها لم تنسب في «العين».

ولعلنا نجد في المعجمات المطولة كلسان العرب وتاج العروس أشياء لا نجدها في

٨

«العين» ، وذلك لان ابن منظور صاحب اللسان والزبيدي صاحب التاج وأمثالهما من المتأخرين قد سجلوا مواد لم تكن معروفة بفصاحتها في عصر الخليل مثلا أو عصر الجوهري صاحب الصحاح المتوفى سنة ٣٨٣ ه‍ ، ومعاصره ابن فارس المتوفى سنة ٣٩٥ ه‍.

وهذا يعني أن معيار الفصاحة في خلال القرون الثاني والثالث والرابع للهجرة غيره في القرون المتأخرة.

إذا عدنا الى «العين» اهتدينا الى أن الخليل كان قد فطن الى شيء في التطور التاريخي للعربية. لقد بدأ الخليل بذكر المضعف الثلاثي وهو يشعرنا بهذا البدء أن المضاعف الثلاثي قائم على الثنائي الذي يصار منه الى الثلاثي. وهو من أجل ذلك يدعوه ب «الثنائي».

ومعنى هذا أن طريقة تضعيف عين الكلمة هي الطريقة الأولى في نقل الثنائي الى الثلاثي ، حتى إذا تم الثنائي على هذا النحو انتقل الى الثلاثي فيستوفيه ثم يعرض لما زاد على الثلاثي في هذا البناء المرتّب على الثنائي ثم نقل الى المضعف ، ثم إلى غير المضعف. ومن هنا ندرك أن الخليل كان على علم واضح بأبنية العربية وتطورها التاريخي.

لقد ذهب الخليل الى «أن العرب تشتق في كثير من كلامها أبنية المضعف في بناء الثلاثي المثقّل بحرف التضعيف» (مقدمة التهذيب).

لقد سمى الخليل كتابه «العين» وهذا يعني أنه ابتدأ بصوت العين واتبع نظاما خاصّا ابتدعه فلم يتبع النظام الابجدي ولم يتبع نظام الالفباء الهجائي.

إن الأصوات اللغوية عند الخليل على النحو الآتي :

ع ح ه خ ع ، ق ك ، ج ش ض ، ص س ز ، ط د ت ، ظ ث ذ ، ر د ن ، ف ب م ، وا ي همزة.

وقد أشار الخليل في مقدمة العين الى اهتدائه الى عمله الكبير. وهو في هذا العمل يضع البداية الأولى لعلم الأصوات في العربية. نعم لقد حفل كتاب سيبويه بمادة مهمة في هذا الموضوع ، وأكبر الظن أن سيبويه قد أفاد من الخليل كثيرا ذلك أنه في «الكتاب» قد

٩

اعتمد على الخليل فهو ينقل عنه ويثبت أقواله وآراءه.

إن مقدمة «العين» على ايجازها ، أول مادة في علم الأصوات دلت على أصالة علم الخليل وأنه صاحب هذا العلم ورائده الأول.

في هذه المقدمة بواكير معلومات صوتية لم يدركها العلم فيما خلا العربية من اللغات الا بعد قرون عدة من عصر الخليل. لقد جاء في المقدمة قوله :

«هذا ما ألفه الخليل بن أحمد البصري من حروف : ا ب ت ث مع ما تكملت به فكان مدار كلام العرب وألفاظهم ، ولا يخرج منها عنه شيء.

أراد أن يعرف بها العرب في أشعارها وأمثالها ومخاطبتها ، وألا يشذ عنه شيء من ذلك ، فأعمل فكره فيه فلم يمكنه أن يبتدىء التأليف من أول ا ب ت ث ، وهو الألف ، لأن الألف حرف معتل ، فلما فاته الحرف الأول كره أن يبتدىء بالثاني وهو الباء إلا بعد حجة واستقصاء النظر ، فدبّر ونظر الى الحروف كلها وذاقها فصير أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق.

وانما كان ذواقه اياها أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو : أب ، أع ، أغ ، فوجد العين ادخل الحروف في الحلق فجعلها أول الكتاب ثم ما قرب منها الأرفع فالارفع حتى أتى على اخرها وهو الميم.

في هذه المادة الأولى فائدة لغوية هي أن الخليل مبتدع طريقة علمية قائمة على تحليل أصوات الكلمة ومشاهدتها في طريقة اخراجها في حيز الفم.

وانت تحس أن الخليل كان على علم بالجهاز الصوتي وتركيبه واجزائه وما اشتمل عليه من احياز ومدارج فاستطاع أن يحدد مخارج الأصوات.

ومن المفيد أن نلاحظ أن مصطلح «صوت» لم يرد في مادة الخليل الصوتية ، ولم يكن من مصطلح العلم اللغوي إلا في القرن الرابع الهجري فقد ورد في مصطلح ابن جني «التصريف الملوكي».

١٠

ان كلمة «حرف» تعني في مصطلح الخليل ما نعنيه باستعمالنا كلمة صوت في عصرنا الحاضر ولنسمعه يقول :

«فاذا سئلت عن كلمة وأردت أن تعرف موضعها فانظر الى حروف الكلمة فمهما وجدت منها واحدا في الكتاب المقدم فهو في ذلك الكتاب».

ان قوله «حروف الكلمة» يعني أصواتها وهو يشير الى أنه ضمن مقدمته التي دعاها «الكتاب المقدم» هذه المواد الصوتية واللغوية.

قلت : ان هذه المقدمة تشتمل على مادة صوتية وأخرى لغوية وهو يخلط بين هذه وتلك لحاجته الى ذلك ، فهو يقول بعد تلك الاشارات الصوتية :

«كلام العرب مبني على أربعة اصناف : على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي» ثم يعرض لكل واحد من هذه الأصناف ويمثل له.

قال بعد أن تكلم على الخماسي :

«والألف التي في» اسحنكك واقشعر واسحنفر واسبكّر ليست من أصل البناء وإنما دخلت هذه الالفات في الافعال وامثالها من الكلام لتكون الالف عمادا وسلما للسان الى حرف البناء ، لان حرف اللسان لا ينطلق بالساكن من الحروف فيحتاج الى ألف الوصل. إلا أنّ دحرج وهملج وقرطس لم يحتج فيهن الى الألف لتكون السلم فافهم ...».

أقول : لم يرد الخليل بقوله : «والالف في ....... ليست من أصل البناء .........» إنها من أحرف الزيادة فقد كان بوسعه أن يصرح بذلك ، وإنما أراد أنها وسيلة لاخراج الصوت فكأن أي صوت لا يمكن للمعرب أن ينطقه ويأخذ الصوت مادته وصفته إلا بعد اعتماده على صوت الالف الأولى (الهمزة) قبله. ومن أجل ذلك دعاها عمادا أو سلما ، وقوله : «لان حرف اللسان لا ينطلق بالساكن من الحروف فيحتاج الى الف

١١

الوصل» يشير الى أن إخراج الصوت وهو ساكن بصفته محتاج الى وسيلة الى اخراجه.

ويذهب الخليل بعيدا في هذه المقدمة فيحلل الأصوات ويكتب في مادتها وصفاتها فيقول :

فاعلم أن الحروف الذلق والشفوية ستة وهي : ر ل ن ، ف ب م ، وإنما سميت هذه الحروف ذلقا لأن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان والشفتين وهما مدرجتا هذه الاحرف الستة ، منها ثلاثة ذليقة : ر ل ن تخرج من ذلق اللسان من طرف غار الفم ، وثلاثة شفوية : ف ب م ، مخرجها ما بين الشفتين خاصة.

لا تعمل الشفتين في شيء من الحروف الصحاح إلا في هذه الاحرف الثلاثة فقط ، ولا ينطلق طرف اللسان إلا بالراء واللام والنون».

في هذه المادة الصوتية ندرك أن الخليل استطاع أن ينشىء في العربية معجما في المصطلح اللغوي الصوتي لا نعرفه قبل الخليل بهذه السعة وهذا العمق. ولقد تهيأ له أن يلم بالكلم في العربية فيميز بينها وبين الأعجمي الذي يتصف بصفات خاصة.

يقول :

«فان وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معراة من الحروف الذلق أو الشفوية ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم ان تلك الكلمة محدثة مبتدعة ، ليست في كلام العرب ، لأنك لست واجدا من يسمع في كلام العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا وفيها من الحروف الذلق أو الشفوية واحد أو اثنان أو أكثر».

وأما البناء الرباعي المنبسط فان الجمهور الأعظم منه لا يعرى من الحروف الذلق أو من بعضها ، إلا كلمات نحو عشر جئن شواذّ.

وقد أسهب الخليل في شرح صفات الكلم الدخيل غير العربي من الناحية الصوتية. ولم يقتصر الخليل على وصف الأصوات مفردة بل عرض لها وهي مجموعة في كلمات لتوفر شيء

١٢

أو أشياء فيها فمن ذلك مثلا قوله :

...... ولكن العين والقاف لا تدخلان في بناء الا حسنتاه لانهما أطلق الحروف وأضخمها جرسا».

ثم يقول :

فاذا اجتمعا أو أحدهما في بناء حسن البناء لنصاعتهما ، فان كان البناء اسما لزمته السين أو الدال مع لزوم العين أو القاف ، لأن الدال لانت عن صلابة الطاء وكزازتها ، وارتقت عن خفوت التاء فحسنت. وصارت حال السين بين مخرج الصاد والزاي كذلك ..........».

ثم يقول :

واما ما كان من رباعي منبسط معرّى من الحروف الذلق حكاية مؤلفة نحو «دهداق» واشباهه فإن الهاء والدال المتشابهتين مع لزوم العين أو القاف مستحسن ، وإنما استحسنوا الهاء في الضرب للينها وهشاشتها وإنما هي نفس لا اعتياص فيها».

أقول : كأنّ الخليل وقد ملك اللغة وعرف دقائقها وكيف تتم أبنية الكلام فيها ومم تتألف مادة تلك الأبنية ، استطاع أن يقطع بصورة الكلمة وهندستها إن جاز لي أن استعبر هذا اللفظ ، فهو يبتدع الكلمة التي لا يمكن أن تكون في العربية لأنها عريت عن صفات الكلمة العربية.

وكأنّ الخليل اصطنع (دهداق) واشار الى ذلك بقوله «حكاية مؤلفة» ليقول مقولته التي أشرنا إليها. وقد أهمل الجوهري في «الصحاح» هذه المادة ، والجوهري قد خلف الخليل بنحو أكثر من قرنين كاملين. غير أن المتأخرين ومنهم الصاحب بن عباد في «المحيط» ذكر : دهدقت البضعة دهدقة» أي دارت في القدر إذا غلت. وقال : دابة دهداق بالفتح وتكسر أي هملاج. وفي «الجمهرة» : دهدق اللحم دهدقة ودهداقا كسره وقطع عظامه.

أقول : وهذا يشير الى أن الكلمة مولدة استحدثت فضمت الى العربية المعجمية بعد الخليل لشيوعها.

١٣

ويتكلم الخليل على البناء المضاعف الثلاثي والرباعي فتلمح في كلامه ما اهتدى إليه الباحثون في عصرنا من أن الفعل الثلاثي قائم على الثنائي. وأن هذا الثنائي يصار به الى الثلاثي أما عن طريق التضعيف ، وأما عن طريق زيادة صوت اخر.

وهذا الصوت الاخر قد يأتي صدرا في أول الفعل وهو ما يدعى باللغات الأعجمية «» ، وقد يأتي حشوا في وسط الفعل الثلاثي ويدعى «exifnI» ، وقد يأتي كسعا في اخر الفعل ويدعي «exiffus».

ومثل هذا قوله في الاسم الثلاثي : «حرف يبتدأ به وحرف يخشي به وحرف يوقف عليه».

وإذا كان علي أن أوجز أقول : ان مقدمة العين مادة غزيرة في علم الأصوات العربية وعلم وظائف الأصوات eigolonohP. وهي بهذا تعد من أهم الوثائق في علم اللغة التاريخي وذلك لتقدمها ولان صاحبها مبتدع مؤسس لم يأخذ علمه هذا عن معاصر له أو سابق عليه.

١٤

منزلة «العين» في المعجمات العربية

كان الخليل فكّر ، وأطال التفكير في صنع كتاب في اللّغة يحصر لغة العرب كلّها ، لا تفلت منه كلمة ، ولا يشذّ منها لفظ ، وهداه عقله الناقد الفاحص إليه ، وخطا في ذلك خطوات علمية محكمة ، وأقام خطته على نظام رياضي دقيق.

بني الخطّة على أساس من عدّة الأصول التي تتألف منها للكلمة ، ولم يعبأ بالزوائد ، وقد توافرت لديه أبواب منتظمة محبوكة حبكا رياضيا متقنا.

عدّة أبواب كتاب العين هي عدة الحروف السواكن يضاف إليها باب خاص بأحرف العلّة ، وأول أبواب الكتاب باب العين الذي اتخذ منه اسم هذا المعجم ، وينطوي فيه الكلمات المستعملة التي تتألف من العين مع ما يليها.

ويليه باب الحاء ، وينطوي فيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الحاء مع ما يليها.

ويليه باب الهاء وينطوي فيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الهاء مع ما يليها.

ثم باب الخاء ، وفيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الهاء مع ما يليها.

ثم باب الغين وفيه الكلمات المستعملة التي تتألف من الغين مع ما يليها ، وبالغين تنتهي مجموعة حروف الحلق ، وهي تعادل نصف الكتاب.

فإذا انتهى من مجموعة أصوات الحلق بدأ بمجموعة اللهاة وفيها حرفان هما القاف والكاف وباب القاف يحتوي الكلمات التي تتألف من القاف مع ما يليها ، وكذلك باب الكاف.

وهكذا ينتقل من مدرجة إلى ما يليها حتى ينتهي إلى مدرجة الشفتين ، وفي صفحة الشفتين عنده ثلاثة أحرف صحاح هي الفاء والباء والميم ، وأبواب هذه الحروف صغيرة جدا ، لأنها إنما تحتوي الكلمات التي تتألف منها مع ما يليها ، ولا يلي الفاء إلّا الباء والميم ولا يلي

١٥

الباء إلّا الميم ، ولا يلي الميم حرف ساكن فلم يبق منها إلّا الكلمات التي تتألف منها مع أحرف العلة.

قال الخليل في باب الفاء : «لم يبق للفاء إلّا اللفيف وشيء من المعتل».

وقال في باب الباء : «منزلة الباء مثل منزلة الفاء لأنها شفهية ، وكذلك الميم في حيّز واحد ، وهو اخر الحروف الصّحاح ، ولذلك لم يكن له في شيء من الأبواب تأليف لا في الثنائي ولا في الثلاثي و [لا في] الرباعيّ و [لا في] الخماسيّ ، ولم يبق منها إلّا اللفيف».

وقال في باب الميم : «الميم اخر الحروف الصحاح ، وقد مضت مع ما مضى من الحروف ، فلم يبق للميم إلّا اللفيف».

فإذا انتهى من الحروف الصحاح عقد بابا للأحرف المعتلّة ، وهو اخر أبواب كتاب العين ، واخر كلمة ترجمت فيه هي كلمة (آية).

وكل باب من تلك الأبواب يتناول بالدرس الكلم مرتبة بحسب عدة أصولها ، والكلم من حيث عدة أصولها تندرج في ستة أبواب :

١) باب الثّنائيّ المشدّد ثانيه.

٢) باب الثلاثيّ الصحيح.

٣) باب الثلاثيّ المعتلّ.

٤) باب اللفيف.

٥) باب الرباعيّ.

٦) باب الخماسيّ.

وليس بعد الخماسيّ باب ، لأنّه «ليس للعرب بناء في الأسماء والأفعال أكثر من خمسة أحرف ، فمهما وجدت زيادة على خمسة أحرف في فعل أو اسم فاعلم أنّها زائدة على البناء ، نحو قرعبلانة ، إنما هو قرعبل ، ومثل عنكبوت ، إنّما هو : عنكب». (١)

__________________

(١) تهذيب اللغة ١ / ٤٢.

١٦

وطريقته في ترتيب الكلام في داخل الباب الواحد أن يأخذ من الثنائي مثلا عق فيترجم لها ثم يترجم لمقلوبها قعّ قبل أن ينتقل إلى الكلمة التي تلي عق وهي عكّ.

وإذا وصل إلى باب الثلاثي الصحيح كانت المادّة الأولى عنده هي المؤلفة من العين والهاء والقاف ولم يستعمل من وجوه هذه المادة إلّا عهق وهقع فأثبتها وأهمل الأوجه الأخرى. فإذا انتهى من الكلمة وتقليباتها انتقل إلى الكلمة التي تليها وهي المؤلفة من العين والهاء والكاف : عهك ، ولم يستعمل غيرها فأثبتها وأهمل ما سواها من التقليبات.

وهكذا إلى أن تنتهي الكلمات المبدوءة بالعين مع ما يليها من الحروف فيعقد بابا جديدا وهو باب الحاء مع ما يليه ويفعل فيه ما فعل في باب العين إلى أن تنتهي أبواب الكتاب كلها.

وكان قد بدأ بالعين ، لا لأنّها أول الحروف مخرجا ، ولكنها أول الحروف نصاعة وثباتا ، والهمزة عنده هي أول الحروف مخرجا ، لأنها نبرة في الصدر تخرج باجتهاد على حد تعبيره في الكتاب ، ولم يبدأ بها «لأنها حرف مضغوط مهتوت إذا رفّه عنه انقلب ألفا أو واوا أو ياء». ولم يجعل البدء بالألف لأنها ساكنة ابدا ولا بالهاء لهتتها وخفائها فهي كالألف ، ولكنها أقوى منها في التأليف ، لأنها تقبل الحركة ، ويبدأ بها ، ومن أجل ذلك أخرها عن العين ، لأن العين عنده أنصع الحروف (١).

قال ابن كيسان فيما حكى السيوطيّ : «سمعت من يذكر عن الخليل أنّه قال : لم أبدأ بالهمزة : لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف ، ولا بالألف لأنّها لا تكون في ابتداء كلمة لا في اسم ولا فعل إلّا زائدة أو مبدلة ، ولا بالهاء لأنّها مهموسة خفيّة لا صوت لها ، فنزلت الى الحيّز الثّاني وفيه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف» (٢)

__________________

(١) المقدمة.

(٢) المزهر ١ / ٩٠.

١٧

وما قاله أبو طالب المفضل بن سلمة ، فيما زعم السيوطي ، أنّ صاحب العين ذكر «أنه بدأ كتابه بحرف العين ، لأنّها أقصي الحروف مخرجا» (٣) وهم محض ، لأنه لم يقل ذاك ، ولا شيئا قريبا منه.

وكان وهما أيضا ما جعله الزّبيديّ أساسا لنفي نسبة «العين» إلى الخليل. وكان قد استند إلى أمرين كلاهما ضعيف لا يصحّ الاستناد إليه.

الأول : ما لاحظه من خلاف في الظاهر بين ترتيب الأصوات في العين وترتيبها في الكتاب ، ولو كان العين له ، «لم يكن ليختلف قوله ، ولا ليتناقض مذهبه».

والثاني : ما لاحظه من إدخال الرّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف ، وهو مذهب الكوفيين خاصّة ، فيما زعم (١).

أمّا الأول فالجواب عنه هو ما قدمناه من بيان ، ومن نقل عن ابن كيسان.

وأمّا الثاني فالجواب عنه أنّ الزبيديّ لم يقع له مذهب الخليل على حقيقته ، لأن الثلاثيّ المضاعف عند الخليل إنما هو من الثنائيات ، وأن الرباعيّ المضاعف إنّما ينشأ من تكرار الثنائيّ فهو منه وليس من باب اخر ، وإذا أخذ الكوفيون بهذا الرأي فيما بعد فلن يعني هذا أنه من مذهبهم وأنه خاص بهم.

* * *

* والعين بهذا أول معجم في العربية ولعله معجم موعب ، وقد أنجز في زمن لم تكن أذهان الدارسين ممهّدة لتقبّل مثله ، مثله مثل أيّ عمل يبتكر كان الخليل قد انفرد في انجازه ، ولذلك بقي بعيدا عن متناول رواة اللّغة السلفيين ، ولم يخطر على بال أحدهم إذ ذاك أن يصنف كتابا يكون «مدار كلام العرب وألفاظهم ، ولا يخرج منها عنه شيء». كما جاء في مقدمة «العين» ولم يكن ليكون مما اتجهت أذهانهم إليه ، وانصبت عنايتهم عليه.

__________________

(٣) المزهر ١ / ٩٠.

(١) انظر ما اقتبسه السيوطي من كلام الزبيدي في كتابة «استدراك الغلط الواقع في كتاب العين» المزهر ١ / ٧٩ ـ ٧١

١٨

وكان ابن دريد على حق إذ قال : «وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهوديّ رضوان الله عليه كتاب العين ، فأتعب من تصدّى لغايته ، وعنّى من سما إلى نهايته ، فالمنصف له بالغلب معترف ، والمعاند متكلّف ، وكلّ من بعده له تبع ، أقرّ بذلك أم جحد ، ولكنّه رحمه‌الله ألف كتابا مشاكلا لثقوب فهمه ، وذكاء فطنته» (١).

ولذلك أنكره حملة الرواية «المحافظون» مثل أبي حاتم السّجستانيّ واصحابه أشدّ الإنكار ، ودفعوه بأبلغ الدفع (٢). بحجة أنّ أصحاب الخليل غبروا مدّة طويلة «لا يعرفون هذا الكتاب ، ولا يسمعون به ، ومنهم النضر بن شميل ، ومؤرّج ونصر بن عليّ وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم ، ولو أنّ الخليل ألّف الكتاب لحمله هؤلاء عنه» (٣).

لأن أكثر من سمّوا لم يكن بالمتلقّي المستوعب لكل ما هو جديد ، ولأن أبا الحسن الأخفش خاصّة كان قد عاصر الخليل ولكنّه لم يأخذ عنه ، ولم يحك عنه حرفا واحدا ، فكيف يحمل عنه علمه في العين وغيره.

ولأن عدم علمهم ، وعلم أشياخهم لا يعني عدم وجوده ، ولم ينقدوه ولم يفحصوه ليعرفوا أنّه من عمل الخليل أو من عمل غيره ، بل تمسكوا بأوهى الأسباب ليملأوا الدنيا صخبا. ويوجّهوا الأذهان إلى إنكاره ورفضه.

وقد اتخذوا من انكاره وسيلة إلى نهب ما احتواه ليقيموا عليه كتبا زعموا أنّها لهم أمثال الأزهريّ والقالي وغيرهما.

وكان الأزهريّ أشدّ المنكرين إنكارا له ، وأكثر أصحاب المعجمات إفادة منه. زعم أنّ الكتاب ليس للخليل ، وإنّما هو للّيث بن المظفّر ، نحله الخليل «لينفّقه باسمه ويرغب فيه من حوله» (٤)

__________________

(١) مقدمة الجمهرة ص ٣.

(٢) المزهر ١ / ٨٤.

(٣) المزهر ١ / ٨٤.

(٤) مقدمة التهذيب ٢٨.

١٩

وقد عقد الأزهريّ في مقدّمته بابا ذكر فيه الأئمة الذين اعتمد عليهم فيما جمع في كتابه «تهذيب اللّغة» ، ذكر أكثر الدارسين الذين صنفوا الكتب في اللغات ، وفي علم القرآن وفي القراءات ، بدأهم بأبي عمرو بن العلاء ، وختمهم بأبي عبد الله نفطويه ، ولم يكن الخليل بن أحمد واحدا من هؤلاء الأثبات فقد تجاهل مكانته في الدراسات اللغوية ، ولم يذكره إلّا على أنه أستاذ سيبويه ، وأنّه «رجل من الأزد من فراهيد» وأن ابن سلّام كان يقول : «استخرج من العروض واستنبط منه ومن علله ما لم يستخرجه أحد ، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم» (١).

ولم يكن الخليل ليساوى عند الأزهرى حتى أصغر تلاميذه الذين سلكهم في مصادره المعتمدة حتى كأن الخليل لا علاقة له باللغة ولا بالنحو ولا بالتأليف المعجميّ ، مع أنه اقتبس مقدمة لعين بكل تفصيلاتها ، وجعلها مقدمة لمعجمه ، نقل منها رأي الخليل في عدة حروف العربية ، وأحيازها ومخارجها وصفاتها ، وتأثير بعضها في بعض ، حين تتألف وتتجاور في كلمات ، وأخذ عنه تصنيف الكلم من حيث عدة أصولها ، وأخذ عنه ما يأتلف من الأصوات وما لا يأتلف.

ولم يجعل الليث من مصادره ، لأن الليث ، فيما زعم ، من أولئك الذين ألفوا «كتبا أودعوها الصحيح والسقيم ، وحشوها بالمزال والمصحّف المغيّر» (٢).

ولكننا حين نتصفّح «تهذيب اللغة» ونقابله بما في كتاب العين نعجب من أمر الرجل الذي حاول في غير ذكاء أن يجمع بين تحامله على الليث وغضّه من شأنه ، ونهب ما في كتابه ، على حدّ زعمه ، ليبني كتابه عليه. لقد كان «العين» بكل ما فيه من ترجمات وبيانات وتفسيرات أساس كتابه الذي لم يزد عليه إلّا روايات ونقولا عن غير الخليل ، ولم يضف شيئا على ما فعله الخليل الذي يسميه بالليث أو بابن المظفر إلّا مفردات أهملها الخليل.

__________________

(١) مقدمة التهذيب ١٠.

(٢) مقدمة التهذيب ص ٢٨.

٢٠