السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-204-8
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٨
المدينة ، هم أهل الطموحات ، وأصحاب النفوذ من قريش ، صاحبة الطول والحول في المنطقة العربية بأسرها. بالإضافة إلى أفراد معدودين من غير قريش أيضا.
فكان هؤلاء هم الذين يدبرون الأمور ، ويوجهونها بالإتجاه الذي يصب في مصلحتهم ، ويؤكد هيمنتهم ، ويحركون الجماهير بأساليب متنوعة ، اتقنوا الاستفادة منها بما لديهم من خبرات سياسية طويلة.
فكانوا يستفيدون من نقاط الضعف الكثيرة لدى السذّج والبسطاء ، أو لدى غيرهم ممن لم يستحكم الإيمان في قلوبهم بعد ، ممن كانت تسيّرهم الروح القبلية ، وتهيمن على عقلياتهم وروحياتهم المفاهيم والرواسب الجاهلية.
وكان أولئك الذين وترهم الإسلام ـ أو قضى على الإمتيازات التي لا يستحقونها ، وقد استأثروا بها لأنفسهم ظلما وعلوا ـ كانوا ـ يسارعون إلى الاستجابة إلى أي عمل يتوافق مع أحقادهم ، وينسجم مع مشاعرهم وأحاسيسهم الثائرة ضد كل ما هو حق وخير ، ودين وإسلام.
وهذا هو ما عبر عنه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» حينما ذكر : أن تأخيره إبلاغ أمر الإمامة بسبب أنه كان يخشى قومه ، لأنهم قريبو عهد بجاهلية ، بغيضة ومقيتة ، لا يزال كثيرون منهم يعيشون بعض مفاهيمها ، وتهيمن عليهم بعض أعرافها.
وهكذا يتضح : أن الأخيار الواعين من الصحابة ، كانوا قلة قليلة. وحتى لو كثر عددهم ، فإن الآخرين هم الذين كانوا يقودون التيار ، بما تهيأ لهم من عوامل وظروف ، في المدينة التي كانت بمثابة قرية صغيرة ، لا يصل عدد سكانها إلى بضعة ألوف من الناس ، لا تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة ، قد
عرفنا بعض حالاتهم ، فكان أن تمكنوا من صرف أمر الخلافة بعد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن أصحابها الشرعيين ، إلى غيرهم ، حسبما هو مذكور ومسطور في كتب الحديث والتاريخ.
محاولة قتل رسول الله صلىاللهعليهوآله :
هذا .. وقد تقدم : أن بعض النصوص يقول : إن التنفير برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليلة العقبة ، ليسقط في ذلك الوادي السحيق قد كان بعد حجة الوداع ، وبعد البيعة لعلي «عليهالسلام» في يوم الغدير (١).
ولعله يمكن ترجيح هذا القول لكثير من الإعتبارات التي اتضح جانب كبير منها.
خلاصة وبيان :
وبعد ما تقدم ، فإنه يصبح واضحا أن الرسول الأكرم «صلىاللهعليهوآله» كان يواجه عاصفة من التحدي ، والإصرار على إفشال الخطط الإلهية ، بأي ثمن كان ، وبأي وسيلة كانت!
وأن التدخل الإلهي ، والتهديد القرآني إنما هو موجه إلى العناصر التي أثارت تلك العاصفة ، لإفهامهم : أن إصرارهم على التحدي ، يوازي في خطورته وفي زيف نتائجه ، وقوفهم في وجه الدعوة الإلهية من الأساس.
__________________
(١) البحار ج ٢٨ ص ٩٩ وإرشاد القلوب للديلمي ص ٣٣١ وكتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ص ٢٧٢ والعقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي ص ١١٤ والمحتضر ص ١٠٩ والبحار ج ٢٨ ص ١٢٨.
وقد حسم هذا التدخل الموقف ، ولجم التيار ، لا سيما بعد أن صرح القرآن بكفر من يتصدى ، ويتحدى ، وتعهد بالحماية والعصمة له «صلىاللهعليهوآله» : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١).
وإذا كان الله سبحانه هو الذي سيتصدى لكل معاند وجاحد ، فمن الواضح : أنه ليس بمقدور أحد أن يقف في وجه الإرادة الإلهية ، فما عليهم إلا أن ينسحبوا من ساحة التحدي ، من أجل أن يقيم الله حجته ، ويبلغ الرسول «صلىاللهعليهوآله» دينه ورسالته.
وليبوؤوا بإثم المكر والبغي ، وليحملوا وزر النكث والخيانة ..
__________________
(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.
الباب الثاني عشر
مرض النبي صلىاللهعليهوآله وإستشهاده ..
أحداث وسياسات
الفصل الأول : مرض النبي ووصاياه
الفصل الثاني : سرية أسامه بن زيد
الفصل الثالث : الكتاب الذي لم يكتب
الفصل الرابع : تمحلات بالية وأعذار واهية
الفصل الخامس : عزل أبي بكر عن الصلاة
الفصل السادس : أحداث الوفاة في النصوص والآثار
الفصل السابع : تغسيل رسول الله صلىاللهعليهوآله
الفصل الثامن : تكفين النبي صلىاللهعليهوآله والصلاة عليه
الفصل الأول :
مرض النبي صلىاللهعليهوآله ووصاياه
مدة مرض رسول الله صلىاللهعليهوآله :
قال الحافظ : اختلف في مدة مرضه «صلىاللهعليهوآله» ، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوما.
وقيل : بزيادة يوم.
وقيل : بنقصه.
وقيل : تسعة أيام. رواه البلاذري عن علي «عليهالسلام».
وقيل : عشرة ، وفيه جزم سليمان التيمي.
وكان يخرج إلى الصلاة إلا أنه انقطع ثلاثة أيام.
قال في العيون : أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يصلي بالناس ، فصلى بهم فيما روينا سبع عشرة صلاة ، ورواه البلاذري عن أبي بكر بن أبي سبرة (١).
__________________
(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٤ وفتح الباري ج ٨ ص ٩٨ وراجع :
إمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٣٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٠٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٧٦ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٦٠ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ٢٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٩٨ وسير أعلام النبلاء ج ٨ ص ٥٠٦.
حديث لد النبي صلىاللهعليهوآله خرافة :
وقد ذكروا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد لدّ في مرض موته (١) ، (أي أنهم داووه باللدود ، وهو من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم) (٢) ، في اليوم الذي ثقل فيه ، واشتد ما يجده حتى أغمي عليه ، وذلك في يوم الأحد (٣) ، قبل وفاته «صلىاللهعليهوآله» بيوم واحد.
فمن النصوص والآثار التي حكت لنا ذلك :
١ ـ ما رواه البخاري وغيره عن عائشة قالت : لددناه في مرضه ، فجعل يشير إلينا : أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني؟
قلنا : كراهية المريض للدواء.
فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر ، إلا العباس فإنه لم
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١ وج ١٠ ص ٢٦٦ و ٢٦٧ وذخائر العقبى ص ١٩٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٣٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٣٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٦٥ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٢٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٥ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٣٢٨ وج ١٤ ص ٤٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٤٦.
(٢) وفي لسان العرب ج ٣ ص ٣٩٠ عن الفراء ، قال : اللد أن يؤخذ بلسان الصبي فيمد إلى أحد شفتيه ، ويوجر في الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق.
(٣) كنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٣.
يشهدكم (١).
٢ ـ ولفظ محمد بن سعيد : كانت تأخذ رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الخاصرة ، فاشتدت به فأغمي عليه ، فلددناه ، فلما أفاق قال : هذا من فعل نساء جئن من هنا ، وأشار إلى الحبشة ، وإن كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب ، ما كان الله ليجعل لها علي سلطانا ، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد ، فما بقي أحد في البيت إلى لد ، ولددنا ميمونة وهي صائمة (٢).
٣ ـ ومن طريق أبي بكر بن عبد الرحمن : أن أم سلمة وأسماء بنت عميس أشارتا بأن يلدوه (٣).
وفي رواية رواها عبد الرزاق بسند صحيح : أن قضية اللد قد جرت في
__________________
(١) صحيح البخاري ج ٣ ص ٥٤ و (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٤٣ وج ٧ ص ١٧ وج ٨ ص ٤٠ و ٤٢ وصحيح مسلم ج ٧ ص ٢٤ وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٩٩ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧٣ وج ٢١ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ وج ٢٤ ص ٤٨ و ٥٧ وتغليق التعليق ج ٤ ص ١٦٤ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٥٥٤ وكتاب الوفاة للنسائي ص ٢٩ وتحفة الأحوذي ج ٦ ص ١٧٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٣٧ ومسند ابن راهويه ج ٥ ص ٤٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٤ ص ٢٥٥ و ٣٧٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٢ ، ومسند أحمد ج ١ ص ٥٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٤٩.
(٢) فتح الباري ج ٨ ص ١١٢ و ١١٣ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٢٨.
(٣) راجع : فتح الباري ج ٨ ص ١١٣ وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٣٦ :
أنهما لدتاه ..
بيت ميمونة ، وأن نساءه تشاورن في ذلك ، فلما أفاق قال : هذا من فعل نساء جئن من ها هنا وأشار إلى الحبشة (١).
٤ ـ قال المعتزلي : «وإن أهل داره ظنوا : أن به ذات الجنب فلدوه وهو مغمى عليه ، وكانت العرب تداوي باللدود من ذات الجنب ، فلما أفاق علم أنهم قد لدّوه ، فقال : «لم يكن الله ليسلطها عليّ ، لدوا كل من في الدار» ،
فجعل بعضهم يلد بعضا» (٢).
٥ ـ وفي رواية عن العباس : أنه دخل على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وعنده نساؤه فاستترن مني إلا ميمونة ، فقال : لا يبقى في البيت أحد شهد اللد إلا لد الخ .. (٣).
٦ ـ وفي رواية مطولة عن عائشة ، قالت : وفزع الناس إليه ، فظننا أن به
__________________
(١) راجع : المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٢٩ ومسند ابن راهويه ج ٥ ص ٤٢ وموارد الظمآن ج ٧ ص ٥٧ وكنز العمال ج ٧ ص ٢٦٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٣٣٣ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٣١ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ١٤٠ وفتح الباري ج ٨ ص ١١٢ ، والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٢٠٢ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٥٥٣ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٣ ومسند أحمد ج ١ ص ٤٣٨ ، لكن فيه : أن الذي اتهم نساء الحبشة هو غير النبي «صلىاللهعليهوآله».
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٦ ومسند أبي يعلى ج ١٢ ص ٦٢ وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٣٦.
(٣) مسند أحمد ج ١ ص ٢٠٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٣٣٣ وراجع : مجمع الزوائد ج ٥ ص ١٨١ ومسند أبي يعلى ج ١٢ ص ٦٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٥٢.
ذات الجنب ، فلددناه ثم سرّي عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأفاق فعرف أنه قد لد ، ووجد أثر اللدود ، فقال : ظننتم أن الله عزوجل سلطها علي؟ ما كان الله يسلطها علي ، والذي نفسي بيده ، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي ، فرأيتهم يلدونهم رجلا رجلا.
وقالت عائشة ، ومن في البيت يومئذ فتذكر فضلهم ، فلد الرجال أجمعون ، وبلغ اللدود أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فلددن امرأة امرأة ، حتى بلغ اللدود امرأة منا ـ قال ابن أبي الزناد : لا أعلمها إلا ميمونة قال : وقال بعض الناس : أم سلمة ـ قالت : إني والله صائمة.
فقلنا : بئسما ظننت أن نتركك وقد أقسم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فلددناها ، والله يابن أختي ، وإنها لصائمة (١).
٧ ـ عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : إن خير ما تداويهم به السعوط ، واللدود ، والحجامة ، والمشي.
فلما اشتكى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لده أصحابه ، فلما فرغوا قال : لدوهم ، قال : فلدوا كلهم غير العباس .. (٢).
وعنه أيضا : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لدّه العباس وأصحابه ،
__________________
(١) مسند أحمد ج ٦ ص ١١٨ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٢٠٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٣٣٢ وتغليق التعليق ج ٤ ص ١٦٦ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٣٥٤ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٢٧.
(٢) سنن الترمذي ج ٣ ص ٢٦٢ و ٢٦٤ والطب النبوي لابن القيم الجوزي ص ٤١ والعهود المحمدية للشعراني ص ٥٨٦ والفائق ج ٣ ص ٣١٣ والنهاية ج ٤ ص ٢٤٥ ، وزاد : أنه فعل ذلك عقوبة لهم.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : من لدّني؟ فكلهم أمسكوا.
فقال : لا يبقى أحد في البيت إلا لد غير عمه العباس.
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عباد بن منصور (١).
٨ ـ وأخيرا .. فقد روت عائشة قالت : أغمي على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، والدار مملوءة من النساء : أم سلمة ، وميمونة ، وأسماء بنت عميس ، وعندنا عمه العباس بن عبد المطلب ، فأجمعوا على أن يلدّوه ، فقال العباس : لا ألده ، فلدوه.
فلما أفاق قال : من صنع بي هذا؟
قالوا : عمك.
قال لنا : هذا دواء جاء من نحو هذه الأرض ـ وأشار إلى أرض الحبشة ـ قال : فلم فعلتم ذلك؟
فقال العباس : خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب.
فقال : إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به ، لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا عمي.
قال : فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، عقوبة لهم بما صنعوا .. (٢).
__________________
(١) سنن الترمذي ج ٣ ص ٢٦٥.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣١ و ٣٢ وذخائر العقبى ص ١٩٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٣٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٦٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٧١ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٣٣٣ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ١٤٠.
ونحن بدورنا لا نصدق هذه الروايات ، وذلك لما يلي :
أولا : عدا عن المناقشة في أسانيدها. فإن في هذه الروايات تناقضا واختلافا ، ونحن نكتفي بذكر موارد خمسة لهذه التناقضات ، ونترك الباقي لنظر القارئ وملاحظته ، فنقول :
١ ـ رواية تذكر : أن العباس قد لدّه.
وأخرى تقول : إنه رفض أن يلدّه ، واكتفى بالإشارة بذلك ..
وثالثة تقول : لم يشارك لا في لدّه ولا في المشورة به (١).
٢ ـ واحدة تقول : إن صحابته قد لدّوا رجلا رجلا حتى بلغ اللدود نساءه «صلىاللهعليهوآله».
وأخرى تذكر : أن اللد كان للنساء فقط ..
وثالثة تذكر : أن اللد كان لصحابته ، ولا تشير إلى النساء أصلا ..
٣ ـ ثم هناك الخلاف في من التدت وهي صائمة ، هل هي : أسماء بنت عميس ، أو هي ميمونة ..
٤ ـ واحدة تذكر : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يعرف باللد إلا عندما أفاق ، حيث وجد أثره في فمه ، وأخرى تذكر أنه نهاهم عن ذلك صراحة أو بالإشارة ، ولكنهم لم يمتثلوا لأنهم اعتبروا أن ذلك منه كراهة المريض للدواء ..
٥ ـ رواية تذكر : أن اللدود دواء جاءهم من قبل الحبشة .. وأخرى تقول : «كانت العرب تداوي باللدود من به ذات الجنب».
__________________
(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٢ و ٣٣ وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابفة.
إلا أن يقال : لا منافاة بينهما ، فلعله كان يأتي من الحبشة ، فتأخذه العرب ، فتداوي به مرضاها.
ثانيا : لقد صرحت رواية المعتزلي ، والزمخشري ، وابن الأثير (١) : بأن الرسول «صلىاللهعليهوآله» أراد أن يلدهم جميعا عقوبة لهم .. وهذا «فيه نظر ، لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك» (٢) فلماذا يعاقب غير الجناة؟! ..
ولو سلم أنهم جميعا استحقوا العقوبة لتركهم الإنكار على الفاعلين ، ولا سيما مع نهيه «صلىاللهعليهوآله» لهم عن ذلك ..
فيرد عليه : أنهم إذا كانوا قد ظنوا أنه «صلىاللهعليهوآله» نهاهم عن ذلك كراهية المريض للدواء كما يدّعون ، فهم معذورون في ذلك لأنهم قد انساقوا مع تأويلهم وفهمهم ..
هذا كله ، عدا عن أن بعض الروايات تنكر أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد نهاهم عن ذلك ، بل تصرح : بأنه لم يعرف بالأمر إلا بعد إفاقته من إغمائه ..
ولو سلم .. فإنهم في فعلهم ذلك كانوا يحسبون أنهم يحسنون له «صلىاللهعليهوآله» ، ويبّرونه ، ويحافظون عليه ، فهل هم مع هذا يستحقون عقابا أو تأديبا كما يزعمه العسقلاني؟! (٣).
وهل ذلك منه «صلىاللهعليهوآله» لهم إلا كجزاء سنمار؟! ..
ثم أليس يقولون : إنه «صلىاللهعليهوآله» لم يكن ينتقم لنفسه من
__________________
(١) الفائق ج ٣ ص ٣١٣ ، والنهاية ج ٤ ص ٢٤٥ ، وفيهما : فعل ذلك عقوبة لهم ، لأنهم لدوه بغير إذنه. وراجع المصادر في الهوامش السابقة.
(٢) فتح الباري ج ٨ ص ١١٢.
(٣) نفس المصدر السابق.
أحد؟! (١) ، فلماذا غيّر عادته في هذا الوقت بالذات؟! ..
ولو سلم أنهم يستحقون العقاب ، فهل عقابهم يكون على هذه الصورة؟!.
وهل كل من لدّ شخصا مع عدم رضاه تكون عقوبته اللّد في المقابل؟!.
وكيف صار عقاب المرتكب للجريمة هو نفس عقاب الراضي بالفعل ، وهل كل من رضي بفعل قوم لا بد وأن يتعرض لنفس العقاب الذي يتعرّضون له؟! فلو قتل رجل رجلا ورضي به آخر ، فهل يقتلان معا : الراضي والقاتل على حد سواء؟! ..
إلى غير ذلك من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة مقنعة ومفيدة ..
ثالثا : الرواية تصرح : بأن الله لم يكن ليبتليه «صلىاللهعليهوآله» بذات الجنب .. ولكن أبا يعلى روى لنا بسند فيه ابن لهيعة ، عن عائشة نفسها : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» مات من ذات الجنب (٢).
قال المعتزلي : «واحتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب بما روي من انتصابه وتعذر الإضطجاع والنوم عليه.
قال سلمان الفارسي : دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه ، فقال لي : يا سلمان ، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي؟
فقلت : يا رسول الله ، ألا أسهر الليلة معك بدله؟
__________________
(١) نفس المصدر السابق.
(٢) تهذيب التهذيب ج ٥ ص ٣٣١ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٢٧ والمعجم الأوسط ج ٩ ص ٦ وفتح الباري ج ٨ ص ١١٣ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٧ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٢٥٨ وعمدة القاري ج ٢١ ص ٢٥٣ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٤٠٥.
فقال : لا ، هو أحق بذلك منك» (١).
وقال من شرح قول علي «عليهالسلام» في نهج البلاغة : (وفاضت بين نحري وصدري نفسك) «يروى : أنه «صلىاللهعليهوآله» قذف دما يسيرا وقت موته ، ومن قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب ، وأن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للإضلاع انفرجت في تلك الحال ، وكانت فيها نفسه «صلىاللهعليهوآله» ..» (٢).
رابعا : لو سلمنا : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يمت من ذات الجنب ، وإنما مات بالحمى والسرسام الحار .. فإننا لا يمكن أن نقبل أنهم ظنوا : أن به ذات الجنب ، وذلك لأن الحاكم قد روى في المستدرك أن : «ذات الجنب من الشيطان ..» (٣).
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٧ و ٢٦٦ على الترتيب ، وراجع : كتاب الأربعين للشيرازي ص ١٢٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٣٨١ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٦ ص ٥٣٣.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٧ و ٢٦٦ على الترتيب.
(٣) المستدرك ج ٤ ص ٤٠٥ ومسند ابن راهويه ج ٢ ص ٥٧٧ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٧٤ وفتح الباري ج ٨ ص ١١٣ وعمدة القاري ج ٢١ ص ٢٥٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٤٥٩ وج ١٢ ص ٢٢٨ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٦٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٣٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٥ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٣٢٨ وج ١١ ص ٢٢٨ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٣٣ و ٤٣٥ والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ج ٢ ص ١٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٤٦.
فإذا كانت من الشيطان فلا يصح أن يتوهموا أن به ذات الجنب ، لأن الشيطان ليس له سلطان على عباد الله الصالحين من المؤمنين ، فكيف بسيد الأنبياء والمرسلين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١) وقال تعالى حكاية لكلام الشيطان : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).
وقول ابن حجر العسقلاني : إن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين : الورم الحار الذي يعرض للغشاء المستبطن ، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع ، والأول هو المنفي له «صلىاللهعليهوآله» عن نفسه (٣).
لا يحل الإشكال ، لأنه لو كان كذلك .. فقد كان عليه «صلىاللهعليهوآله» : أن يبين أيهما هو المعني بكلامه نفيا وإثباتا .. وكان على الباحثين ذكر ذلك عنه ، وإذا كان كذلك ولم يبين فلا بد أن يحمل كلامه على ما هو المتعارف ، والتفكيك في كلامه يحتاج إلى دليل.
ثم كيف يكون هذا هو المنفي في كلامه مع أنه هو الذي يقولون : إنه مات به كما تقدّم نقله عن المعتزلي؟! ..
خامسا : إذا كان «صلىاللهعليهوآله» مغمى عليه حينما لدّوه كما تقول رواية البخاري ، فما معنى تصريح نفس تلك الرواية بأنه «صلىاللهعليهوآله» يشير إلينا أن لا تلدّوني؟!.
فقلنا : كراهة المريض للدواء.
__________________
(١) الآية ٤٢ من سورة الحجر.
(٢) الآية ٨٣ من سورة ص ، والآية ٤٠ من سورة الحجر.
(٣) فتح الباري ج ٨ ص ١١٢ وج ١٠ ص ١٤٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٢٨.
وروايات أخرى تصرح : بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد علم بأنهم لدّوه بعد إفاقته من الإغماء. وهذا يتنافى مع رواية البخاري : إنه أشار إليهم أن لا يلدّوه ، فقالوا : كراهة المريض للدواء.
سادسا : قول بعض الروايات : إن جميع أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» قد احتجبن من العباس سوى ميمونة غريب ، فإن العباس وإن كان زوج أخت ميمونة ، ولكن ذلك لا يخرجه عن كونه رجلا أجنبيا عنها كسائر الرجال الأجانب ، فلماذا لا تحتجب منه ميمونة زوج النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله»؟!!.
وأخيرا .. فقد قال المعتزلي : «وسألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد البصري عن حديث اللدود ، فقلت : ألدّ علي بن أبي طالب ذلك اليوم؟ فقال : معاذ الله ، لو كان لدّ لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره وتنعاه عليه.
قال : وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار ، وابناها معها ، أفتراها لدّت أيضا؟ ولدّ الحسن والحسين؟! كلّا ، وهذا أمر لم يكن ، وإنما هو حديث ولّده من ولّده تقريبا إلى بعض الناس الخ ..».
ثم يذكر : أن من لدّ هو فقط أسماء بنت عميس وميمونة ، وأن الدواء جاء به جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة (١).
ولكن كيف ذلك ونحن نرى ابن أبي الحديد نفسه يصّرح : بأن اللدود كانت تستعمله العرب لذات الجنب؟! (٢) كما تقدم.
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٣٢.
(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢٦٦.