الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-204-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٨

١
٢

٣
٤

الفصل السابع :

سورة المائدة متى نزلت وكيف؟!

٥
٦

لماذا تأخرت آية البلاغ عن آية إكمال الدين؟!

إن ثمة سؤالا يفرض نفسه هنا مفاده : أن الروايات قد صرحت بأن قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) .. قد نزل بعد نصب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» إماما فى يوم الغدير ..

وإن آية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢) .. قد نزلت قبل يوم الغدير ..

مع أن آية الإكمال قد وردت في أول سورة المائدة ، وآية الأمر بإبلاغ إمامة الإمام «عليه‌السلام» قد جاءت في وسط السورة. والمفروض هو أن يكون العكس ، لا سيما وأن القرآن كان ينزل نجوما ، وبالتدريج .. فكيف تفسرون ذلك؟! ..

ونجيب عن ذلك بما يلي :

مرتكزات الإيمان :

إن الإيمان بنبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يرتكز إلى أمرين :

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٧

أحدهما : الإيمان المستند إلى إدراك العقل ، وقضاء الفطرة بصحة الحقائق التي جاء بها ..

وهذا هو ما كان إيمان أبي طالب ، وحمزة وجعفر ، وخديجة .. و.. و.. مرتكزا إليه وعليه ، فإنهم قد أدركوا صحة ما جاء به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعقولهم ، وقضت به فطرتهم ، ولم يحتاجوا إلى إظهار معجزة ، ولا طلبوا من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، خصوصا مع ما صاحب ذلك من معرفة قريبة ، واطلاع مباشر على حياة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومزاياه ، وصدقه ، ثم رؤية كرامات الله له ، وألطافه به ، ثم ما حباه به من رعاية وتسديد ، ومن نصر وتأييد ..

وهذا هو إيمان أهل البصائر ، الذين يزنون الأمور بموازين العدل ، ويعطون النصفة من أنفسهم ، وهو ما يفترض بالناس كلهم أن يكونوا عليه ، أو أن يسعوا للوصول إليه ، وأن يلتزموا به ولا يتجاوزوه ..

ولو أن الناس سلكوا هذا النهج لاستغنوا عن طلب الآيات والمعجزات ، خصوصا في ما يرتبط بأمر التوحيد والانقياد لله ، والطاعة ، والعبادة له ، وما يتبع ذلك من تفاصيل تفيد في التعريف بصفات ذاته ، وصفات فعله تبارك وتعالى .. فضلا عن كل ما حدثهم به الله ورسوله مما يرتبط بالعلاقة والرابطة بين الخالق ، ومخلوقاته .. وتدبير شؤون الحياة وفق الحكمة .. وهداية الكائنات كلها ، ورعايتها وتربيتها .. فإن ذلك كله مما تفرض الفطرة السليمة والعقول المستقيمة الخضوع له ، والإيمان به ، وعقد القلب عليه.

فإذا قال لهم الله سبحانه وتعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا

٨

لا تُرْجَعُونَ) (١) .. فهو إنما يخاطب عقولهم ، ويتحدث عن أمر يمكنهم أن يدركوه ، وأن يؤمنوا به .. وكذلك حين يقول لهم : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢). وغير ذلك مما تحكم به العقول ، وتؤيده الفطرة البشرية الصافية والمستقيمة ..

والأمر الثاني : الإيمان المستند إلى ظهور المعجزة القاهرة ، والقاطعة للعذر ، والتي تضطر العقل إلى الإقرار بالعجز ، والبخوع والخضوع والاستسلام. وهذا ما يحتاج إليه أو يطلبه نوعان من الناس :

النوع الأول :

الذين يرغبون في إبقاء الأمور على ما كانت عليه .. ممن يثقل عليهم الانقياد إلى دعوات الأنبياء ، ويأنفون من الالتزام بأحكام الله.

وهؤلاء هم الذين كانوا يقترحون على الأنبياء أن يأتوهم بالآيات ، وأن يظهروا المعجزات ، ثم يكونون هم أول الجاحدين بها ، والمكذبين لها ..

النوع الثاني :

أولئك الذين يرغبون في معرفة الحق ، ولا يأبون عن الالتزام به لو ظهر لهم .. ولكنهم ليسوا مثل جعفر ، وحمزة ، وخديجة و.. في وعيهم ، وفي نظرتهم إلى الأمور ، وإدراكهم للحقائق. فيحتاجون إلى عوامل تساعدهم على تحصيل اليقين بحقانية الدعوة ، وواقع ارتباطها بالله سبحانه. من خلال

__________________

(١) الآية ١١٥ من سورة المؤمنون.

(٢) الآيتان ٧٨ و ٧٩ من سورة يس.

٩

المعجزة التي تقهر عقولهم ، وتسوقهم إلى التسليم ، لأن بها يتم إخضاع وجدانهم للغيب الإلهي ..

وبما أن هذا القرآن هو معجزة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يكن بإمكان كل هؤلاء أن ينالوا معانيه ، ولا أن يدركوا حقائقه ودقائقه ومراميه .. لأن فيهم الكبير والصغير ، وفيهم الذكي والغبي ، وكانوا في أسوأ حالات الأمية والجهل ، والبداوة .. فكان لا بد من الرفق بهم ، وتيسير الإيمان لهم ، وفتح أبواب الهداية أمامهم ..

فاحتاج الأمر إلى وسيلة إقناع ، يفهمها هذا النوع من الناس ـ الذين لا يمكنهم إدراك حقائق القرآن ، والوقوف على مستوى إعجازه التشريعي ، أو العلمي ، أو البلاغي ، أو غير ذلك ..

ولم يكن يمكن تأجيل إيمانهم وإسلامهم إلى حين تحقق بعض الإخبارات الغيبية المستقبلية ، الأمر الذي قد يمتد إلى سنوات كثيرة ، كالإخبار عن غلبة الروم في قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (١) .. ولا .. ولا .. الخ ..

ولا بد أن تكون وسيلة الإقناع هذه بحيث يدركها ، ويفهمها جميع الناس ، بمختلف فئاتهم ، وطبقاتهم ، وأن تكون في متناول يد أعلم الناس ، وأعقلهم ، كما هي في متناول يد أكثر الناس سطحية وسذاجة ، ولو كان بعمر تسع سنوات للفتاة ، وبعمر خمس عشرة سنة للفتى ..

وقد اختار الله سبحانه أن تكون هذه الوسيلة هي أن تنزل السورة في

__________________

(١) الآيتان ٢ و ٣ من سورة الروم.

١٠

بادئ الأمر بتمامها ، فيقرؤها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الناس ، ثم تبدأ الأحداث بالتحقق في متن الواقع ، فكلما حدث أمر ، ينزل جبرئيل «عليه‌السلام» ، بالآيات التي ترتبط بذلك الحدث ، فيرى الناس : أن هذه الآيات هي نفسها التي كانت قد نزلت في ضمن تلك السورة قبل ساعة ، أو يوم ، أو شهر مثلا .. فيدرك الذكي والغبي ، وكل من يملك أدنى مستوى من العقل ، بأن هذا القرآن لا بد أن يكون من عند الله ، لأن الله وحده هو الذي يعلم بما يكون في المستقبل. وها هو قد أنزل الآيات المرتبطة بأحداث بعينها قبل أن تحدث ..

وهم يعرفون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن قرب ، ويعيشون معه ، ويرون أنه مثلهم ، ويملك الوسائل التي يملكونها ، ويعيش نفس الحياة التي يعيشونها.

وبعد ما تقدم نقول :

إننا من أجل توضيح هذه الإجابة ، نشير إلى العديد من القضايا ضمن الفقرات التالية :

سورة المائدة نزلت دفعة واحدة :

إن سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة ، كما يظهر مما رواه :

١ ـ عبد الله بن عمرو ، قال : أنزلت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سورة المائدة ، وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها (١) ..

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أحمد ، ومجمع الزوائد ج ٧ ص ١٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣ وفتح القدير ج ٢ ص ٣ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣١ والسيرة

١١

٢ ـ عن أسماء بنت يزيد ، قالت : إني لآخذة بزمام العضباء ، ناقة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إذ نزلت المائدة كلها ، فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة (١) ..

٣ ـ عن أم عمرو بنت عبس ، عن عمها : أنه كان في مسير مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندق كتف راحلته العضباء ، من ثقل السورة (٢) ..

٤ ـ عن محمد بن كعب القرظي ، قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حجة الوداع ، فيما بين مكة والمدينة ، وهو على ناقته ، فانصدعت كتفها ، فنزل عنها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣) ..

٥ ـ عن الربيع بن أنس قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في المسير من حجة الوداع ، وهو راكب راحلته ، فبركت به

__________________

النبوية لابن كثير ج ١ ص ٤٢٤ وإمتاع الأسماع ج ٣ ص ٤٩ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٤١٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٢٥٨.

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر في الصلاة ، والطبراني ، وأبي نعيم في الدلائل ، والبيهقي في شعب الإيمان ، ومجمع الزوائد ج ٧ ص ١٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٤٢٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٤٢٤.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن ابن أبي شيبة في مسنده ، والبغوي في معجمه ، وابن مردويه ، والبيهقي في دلائل النبوة ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٤١٥.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أبي عبيد ، وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٤٧.

١٢

راحلته من ثقلها (١).

تاريخ نزول سورة المائدة :

وقد اختلفوا في تاريخ نزول سورة المائدة ، وقد تقدم وسيأتي أيضا ما يدل على أنها قد نزلت في حجة الوداع إما في الطريق ، أو في يوم عرفة. وهذا هو المعتمد ، وقد صرح عدد من النصوص بأنها آخر السور نزولا.

وهناك قولان آخران :

الأول : ما روي من أن سورة المائدة قد نزلت منصرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من الحديبية (٢).

ولكن الروايات المصرحة بأن سورة المائدة كانت آخر ما نزل تدفع هذا القول ، كما أشرنا إليه في موضعه من هذا الكتاب.

الثاني : قال القرطبي : «من هذه السورة ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح» (٣).

فالجمع بين هذا القول ، وبين روايات نزولها دفعة واحدة ، هو أن يقال : إنها نزلت مرتين :

إحداهما : دفعة واحدة.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن ابن جرير ، وجامع البيان ج ٦ ص ١١٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٣٠ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للأندلسي ج ٢ ص ١٤٣ وتفسير البحر المحيط ج ٣ ص ٤٢٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٣٠ ، والغدير ج ١ ص ٢٢٧ وراجع : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٢ ص ١٤٣ وتفسير البحر المحيط ج ٣ ص ٤٢٧.

١٣

والأخرى : أن آياتها نزلت نجوما (١).

ضعوا هذه الآية في سورة كذا :

ومن جهة أخرى ، فإنهم قالوا : «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي ، لا شبهة في ذلك» (٢) ..

وقد رووا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كان يقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا ..

وقد روي ذلك عن ابن عباس (٣) ..

وعن عثمان بن عفان أيضا (٤) ..

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٦١.

(٢) الإتقان ج ١ ص ٢٤ و (ط دار الفكر) ج ١ ص ١٦٧ والغدير ج ١ ص ٢٢٧ وراجع : تحفة الأحوذي ج ٨ ص ٣٨٠ وإعجاز القرآن الباقلاني (مقدمة المحقق) ص ٦٠ وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ص ٦١.

(٣) راجع : الدر المنثور ج ١ ص ٧ عن الحاكم وصححه ، وعن أبي داود ، والبزار ، والطبراني ، والبيهقي في المعرفة وفي شعب الإيمان والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٢٧٢ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٣ والإتقان ج ١ ص ٦٢ والبرهان للزركشي (ط دار إحياء الكتب العربية) ج ١ ص ٢٣٤ و ٢٤١ عن الترمذي والحاكم ، والتمهيد ج ١ ص ٢١٣ وتاريخ القرآن للصغير ص ٨١ عن : مدخل إلى القرآن الكريم لدراز ص ٣٤ ، لكن في غرائب القرآن للنيسابوري ، بهامش جامع البيان للطبري ج ١ ص ٢٤ ومناهل العرفان ج ١ ص ٢٤٠ هكذا : «ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا».

(٤) مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٣٠ و ٢٢١ وتلخيصه للذهبي بهامشه وغريب الحديث

١٤

وفي نص آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شخص ببصره ثم صوبه ثم

__________________

ج ٤ ص ١٠٤ ، والبرهان للزركشي ج ١ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٣٣٦ وراجع ص ٦١ وغرائب القرآن بهامش جامع البيان ج ١ ص ٢٤ وفتح الباري ج ٩ ص ١٩ و ٢٠ و ٣٩ و ٣٨ ، وكنز العمال ج ٢ ص ٣٦٧ عن أبي عبيد في فضائله ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي داود ، وابن الأنباري معا في المصاحف ، والنحاس في ناسخه ، وابن حبان ، وأبي نعيم في المعرفة ، والحاكم وسعيد بن منصور ، والنسائي ، والبيهقي ، وفواتح الرحموت بهامش المستصفى ج ٢ ص ١٢ عن بعض من ذكر ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٠٧ و ٢٠٨ عن بعض من ذكر ، وعن أبي الشيخ ، وابن مردويه ومشكل الآثار ج ٢ ص ١٥٢ والبيان ص ٢٦٨ عن بعض من تقدم ، وإمتاع الأسماع ج ٤ ص ٢٤١ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ٣ ص ١٠١٥ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٣١ وعن الضياء في المختارة ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٢ ص ٤٨ وراجع : بحوث في تاريخ القرآن وعلومه ص ١٠٣ ومناهل العرفان ج ١ ص ٣٤٧ ومباحث في علوم القرآن ص ١٤٢ عن بعض من تقدم ، وتاريخ القرآن للصغير ص ٩٢ عن أبي شامة في المرشد الوجيز .. وجواهر الأخبار والآثار بهامش البحر الزخار ج ٢ ص ٢٤٥ عن أبي داود ، والترمذي ، وسنن أبي داود ج ١ ص ٢٠٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٤٤ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٤٢ والإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ١٦٧ وأحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ١٠ ومسند أحمد ج ١ ص ٥٧ و ٦٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٠ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٢ ص ١١٢ وجامع البيان ج ١ ص ٦٩ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٦٢ وإمتاع الأسماع ج ٤ ص ٢٤١ وتهذيب الكمال ج ٣٢ ص ٢٨٨ وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ص ٦٣.

١٥

قال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة (١).

وفي رواية عن ابن عباس : كان المسلمون لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فإذا نزلت عرفوا أن السورة قد انقضت (٢) ..

وروي ذلك عن سعيد بن جبير (٣) ، وعن ابن مسعود (٤) ..

قال أبو شامة : يحتمل أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان لا يزال يقرأ في السورة إلى أن يأمره جبريل بالتسمية فيعلم أن السورة قد انقضت (٥).

ولكننا لا نجد إلا موارد يسيرة تحدثت عن أن النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) مسند أحمد ج ٤ ص ٢١٨ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٦٠٥ وكنز العمال ج ٢ ص ١٦ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٤٨ وتفسير الآلوسي ج ١٤ ص ٢٢٠ وفتح القدير ج ٣ ص ١٨٩ والدر المنثور ج ٤ ص ١٢٨ والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ١٦٨ وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ص ٦٢ و ٦٨.

(٢) الدر المنثور ج ١ ص ٧ عن الحاكم وصححه ، والبيهقي في السنن ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٤.

(٣) راجع الدر المنثور ج ١ ص ٧ عن أبي عبيد ، والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٠ ص ٢١٠ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٢٣٢ وفتح الباري ج ٩ ص ٣٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٤٣ ومسائل فقهية للسيد شرف الدين ص ٢٣ والإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢١١ والبيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي ص ٤٤٢.

(٤) الدر المنثور ج ١ ص ٧ عن الواحدي والبيهقي في شعب الإيمان ، والإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢١١.

(٥) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢١.

١٦

وآله» فعل ذلك في آيات بعينها (١) ..

الدوافع والأهداف :

وهذا معناه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي لا ينطق عن الهوى ، ولا يفعل شيئا من تلقاء نفسه قد قدم آية الإكمال على آية التبليغ بأمر من الله تبارك وتعالى ، أو أن جبرئيل «عليه‌السلام» قد كان يأمر بذلك تنفيذا لأمر الله تعالى ، انطلاقا من مصلحة اقتضت وضع الآية في خصوص ذلك الموضع ، وتكون النتيجة هي أن وضع آية الإكمال قبل آية الأمر بالتبليغ قد روعيت فيه المصلحة أيضا ..

لماذا قدم آية الإكمال :

وإذ قد عرفنا : أن هذا التفريق بين آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) .. وآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .. قد جاء وفق سياسة إلهية ، ورعاية لمصالح بعينها.

فهل يمكن معرفة شيء عن هذه المصلحة التي اقتضت تقديم إحدى الآيتين في الذكر على الأخرى على عكس ما جرى عليه الحال في الواقع العملي؟!

فقد يقال : لعل المصلحة في هذا التقديم هي حفظ الإمامة ، وحفظ إيمان الناس .. وتيسير سبل الهداية لهم ..

يضاف إلى ذلك : إرادة حفظ القرآن عن امتداد يد التحريف إليه ، فإن

__________________

(١) راجع : حقائق هامة حول القرآن الكريم ص ٧٨.

١٧

الإسلام يحتاج إلى صيانة حقائقه ومقدساته ، كما كان يحتاج أيضا إلى جهاد الإمام علي «عليه‌السلام» وتضحياته ..

هذا الجهاد الذي حمل معه الخزي والعار والذل ، لأهل الطغيان والجحود ، فأورثهم الحقد والضغينة ، حتى ظهرت فيهم حسيكة النفاق هذه بأبشع صورها بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا حاجة إلى البيان أكثر من هذا ..

استطراد وتوضيح :

غير أننا نقول :

إن الخيارات التي يمكن أن نتصورها كانت هي التالية :

١ ـ أن يباشر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بنفسه قتل المعتدين ، ويرد بسيفه كيد الطغاة والجبارين ، فيقتلهم ويستأصل شأفتهم ، ويبيد خضراءهم ..

وهذا يعني أن لا تصفو نفوس ذويهم له ، وأن لا يتمكن حبه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قلوبهم ، فضلا عن أن يكون أحب إليهم من كل شيء حتى من أنفسهم!! .. كما يفرضه الإلتزام بالإسلام ، والدخول في دائرة الإيمان ..

وسوف تتهيأ الفرصة أمام شياطين الإنس والجن لدعوة هؤلاء الموتورين إلى خيانته والكيد له ، والتآمر عليه ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ..

كما أنهم إذا ما اتخذوا ذلك ذريعة للعزوف عن إعلان إسلامهم واستسلامهم .. فإنهم سوف يمنعون الكثيرين ممن له اتصال بهم ، من أبناء وأرحام ، وأقوام وحلفاء وأصدقاء ، من التعاطي بحرية وبعفوية مع أهل الإيمان ، ثم حرمانهم وحرمان من يلوذ بهم من الدخول الجدي في المجتمع

١٨

الإسلامي ، والتفاعل معه ، والذوبان فيه.

٢ ـ أن يتولى هذا الأمر الآخرون من رجال القبائل المختلفة ، فيقاتلون وحدهم الناس لأجل الإسلام ، ودفاعا عن المسلمين ، وهذا خيار غير مرضي أيضا ، فإن احتفاظه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بأهل بيته وذوي قرابته سيكون مثارا لتساؤلات كثيرة ، من شأنها أن تضعف عامل الثقة ، وتؤثر سلبا على حقيقة الإعتقاد بالنبوة ، ودرجة الإنقياد لها ، ومستوى صفاء النية والإستبسال في المواقف الحرجة ، حين تفرض الحاجة خوض اللجج ، وبذل المهج ..

ثم هو يهيء لزيادة حدة التمزق داخل الكيان الإسلامي ، الذي لم يزل كثير من الناس فيه يعيش روح الجاهلية ، ومفاهيمها. وتتحكم به العصبيات العشائرية والقبلية ، ولم يقطع مراحل كبيرة في مسيرة السمو الروحي ، وتزكية النفوس ، وإخلاصها لله في ما تحجم عنه ، أو تقدم عليه ..

وقد يؤسس ذلك لحروب ، وتعديات ، ومآس لا تنتهي ، ولأحقاد لا تزول ، بل تتضاعف باطراد ، حيث ستدفعهم عصبياتهم للانتقام المتبادل .. وستكون النتيجة هي قتل الأبرياء ، والتمزق والتشرذم ، وضعف أهل الدين ، والسقوط في مستنقع الجريمة .. ثم الرذيلة بأبشع الصور ، وأكثرها إثارة للإشمئزاز والتقزز ..

وقد لا حظنا : أن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» يصر في حرب صفين ـ مثلا ـ على أن يقابل كل قبيلة بمثلها ، فيقابل تميم الشام بتميم العراق ،

١٩

وربيعة الشام ، بربيعة العراق (١). وهكذا بالنسبة لسائر القبائل ، لا لأجل أنه يتعامل «عليه‌السلام» بالمنطق القبلي ـ حاشاه ـ بل لأنه يريد :

أولا : أن لا يمعن الناس في قتل بعضهم البعض ، لأن المهم عنده هو وأد الفتنة بأقل قدر من الخسائر ..

ثانيا : أن لا يكون هناك حرص من القبائل على إدراك ما تعتبره ثارات لها عند القبائل الأخرى ، الأمر الذي سيهيء للمزيد من التمزق والصراع داخل المجتمع الإسلامي ..

٣ ـ وقد كان الخيار الأقل ضررا ، هو أن يدفع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأهل بيته الأبرار ، ليكونوا هم حماة هذا الدين ، والمدافعين عنه ، وأن لا يحرم الآخرين من فرصة للجهاد في سبيل الله تعالى .. ضمن الحدود المقبولة والمعقولة. فكان يقدم أهل بيته ، وعلى رأسهم الإمام علي «عليه‌السلام» ، ليكونوا هم أنصار دين الله .. وقتلة أعداء الله ، ثم ليكونوا هم الشهداء على هذه الأمة ، والحافظين لوحدتها ، والمحافظين على عزتها وكرامتها.

وإذا ما سعى الناس للانتقام من علي وأهل بيته «عليهم‌السلام» ، وذريته ، وتآمروا عليهم ، فإنهم «عليهم‌السلام» ، لن يعاملوهم بغير الرفق ، لأن همهم ليس هو الإنتقام لأنفسهم ، بل حفظ الدين ، ونشر أعلامه ..

وبذلك يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد حفظ الناس من الجحود

__________________

(١) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٢٢٩ ، وراجع : أنساب الأشراف ج ٢ ص ٣٠٥ ، والفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ١٤١ ، وراجع : ج ٢ ص ٢٢٩ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ٩ وفيه : أن عليا «عليه‌السلام» سأل أولا عن قبائل الشام ، فلما أخبروه اتخذ قراره ذاك.

٢٠