الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-204-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٨

ورواه البخاري بلفظ : لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه ، فأعهد ، أن يقول قائلون ، أو يتمني المتمنون ، ثم قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون ، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون.

ورواه مسلم بلفظ : قال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مرضه : ادع لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ، أو يقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.

وقد ورد : أنه أراد أن يكتب كتابا ، ولم يذكر أبا بكر (١).

وعن عائشة : لما ثقل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال : ائتني بكتف حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه.

فذهب عبد الرحمن ليقوم. فقال : اجلس ، أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر (٢).

__________________

وبلوغ الأماني ج ١ ص ٢٣٥ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٤. وراجع البحار ج ٢٨ ص ٣٥١ وتشييد المطاعن (ط هند) ج ١ ص ٤١١ و ٤٣١ والوثائق السياسية المقدمة الثالثة ص ١٨ وابن أبي الحديد ج ٦ ص ١٣ عن البخاري ، ومسلم ، وأنكره وج ١١ ص ٤٩ وقال : فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه «ائتوني بدواة وبياض اكتب لكم ما لا تضلوا بعده أبدا فاختلفوا عنده وقال قوم منهم قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله» وفي تشييد المطاعن ج ١ ص ٤٣١ نقل الإنكار عنه وعن جامع الأصول.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٧.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٧ والأربعين البلدانية ص ١٢٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٦٩ و ٢٧٠ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧١١ وفي ـ

٢٤١

ونقول :

أولا : إنه لا معنى للحديث عن الكتابة لأبي بكر ، بعد أن صرح عمر بأنه عرف أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد أن يصرح باسم علي «عليه‌السلام» فمنعه ..

ثانيا : إن عمر كان من أشد المتحمسين لولاية أبي بكر ، والواضعين لأركانها ، والمشيدين لبنيانها ، ولو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد

__________________

هامشه عن المصادر التالية : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ق ٢ ص ٢٤ وج ٣ ق ١ ص ١٢٧ و ١٢٨ و (ط دار صادر) ج ٣ ص ١٨٠ والبخاري ج ٩ ص ١٠٠ باب الإستخلاف ، وفتح الباري ج ١ ص ١٨٦ وج ١٣ ص ١٧٧ وعمدة القاري ج ٢ ص ١٧١ وج ٢٤ ص ٢٧٨ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ٥٤١ والدرر لابن عبد البر ص ١٢٥ و ٢٠٤ والمنتظم لابن الجوزي ج ٤ ص ٣٢ ومسلم ج ٤ ص ٨٥٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨١ وكنز العمال ج ١١ ص ١٦٢ وج ١٢ ص ١٦٢ وج ١٤ ص ١٥٢ ومسند أحمد ج ٦ ص ٤٧ و ١٠٦ و ١٤٤ و ١٤٦ والكامل لابن عدي ج ٦ ص ٢١٤٠ وج ٢ ص ٧٠٥ ومنحة المعبود ج ٢ ص ١٦٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٨ وج ٦ ص ١٩٨ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٦٣ وج ٥ ص ١٨١ وبلوغ الأماني ج ١ ص ٢٣٥ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٤. وراجع البحار ج ٢٨ ص ٣٥١ وتشييد المطاعن (ط هند) ج ١ ص ٤١١ و ٤٣١ والوثائق السياسية المقدمة الثالثة ص ١٨ وابن أبي الحديد ج ٦ ص ١٣ عن البخاري ، ومسلم وأنكره وج ١١ ص ٤٩ وقال : فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه «ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلوا بعده أبدا ، فاختلفوا عنده ، وقال قوم منهم قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله» وفي تشييد المطاعن ج ١ ص ٤٣١ نقل الأنكار عنه وعن جامع الأصول.

٢٤٢

ذلك لجهد عمر بن الخطاب في تلبية طلبه ، وإنفاذ أمره ، ولم يرمه بما رماه به من أنه قد غلب عليه الوجع ، يدلنا على ذلك قول علي «عليه‌السلام» له : إحلب حلبا لك شطره (١).

قال شارح المقاصد تعليقا على كون بيعة أبي بكر فلتة : «كيف يتصور من عمر القدح في إمامة أبي بكر ، مع ما علم من مبالغته في تعظيمه ، وانعقاد البيعة له؟ ومن صيرورته خليفة باستخلافه؟! (٢).

وروي : أنه لما كتب أبو بكر وصيته في عمر ، وأرسلها بيد رجلين ليقرآها على الناس ، قالا للناس : هذا ما كتبه أبو بكر ، فإن قبلتموه نقرؤه ، وإلا نرده ، فقال طلحة : اقرأه وإن كان فيه عمر.

__________________

(١) الإحتجاج ج ١ ص ٩٦ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٢٢٥ و ٣٠٢ وج ٣ ص ١١ و ١١١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٥٣ و ١٧٣ والبحار ج ٢٨ ص ١٨٥ و ٣٤٨ و ٣٨٨ وج ٢٩ ص ٥٢٢ و ٦٢٦ ومناقب أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيرواني ص ٤٠٠ والسقيفة للمظفر ص ٨٩ والغدير ج ٥ ص ٣٧١ وج ٧ ص ٨٠ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٠٨ ونهج السعادة ج ١ ص ٤٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١١ والوضاعون وأحاديثهم ص ٤٩٣ والإمامة والسياسة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ١٨ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٢٩ والشافي للمرتضى ج ٣ ص ٢٤٠ وسفينة النجاة للسرابي التنكابني ص ٣٤٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢ ص ٣٥١.

(٢) البحار ج ٣٠ ص ٥٥٨ وشرح المقاصد في علم الكلام للتفتازاني ج ٥ ص ٢٨١ و (ط دار المعارف النعمانية) ج ٢ ص ٢٩٣ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٣٨ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧١١.

٢٤٣

فقال له عمر : من أين عرفت ذكري فيه؟

فقال طلحة : وليته بالأمس وولاك اليوم (١).

قال المعتزلي : «وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ، ورغّم المخالفين فيها ، فكسر سيف الزبير لما جرده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطأ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال : اقتلوا سعدا قتل الله سعدا ، وحطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : انا جديلها المحلك ، وتوعد من لجأ إلى دار فاطمة من الهاشميين ، وأخرجهم منها. ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (٢).

ثالثا : لو كان المقصود هو كتابة اسم أبي بكر ، فلماذا يبكي ابن عباس حتى يبل الحصى لرزية يوم الخميس؟! فإن المفروض أن تكون الأمور قد جرت وفق ما يريده رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بتولّي أبي بكر!!

رابعا : إن ألفاظ هذا الحديث مختلفة ، فهل قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعائشة : ادعي لي أباك؟!

أو قال : لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبيك ، أو أنه دعا عبد الرحمن بن أبي بكر.

فقال : ائتني بكتف ودواة؟!

وهل قال : أبى الله إلا أبا بكر ، أم قال : أبى الله والمؤمنون أن يختلف على

__________________

(١) البحار ج ٣٠ ص ٥٥٨ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧١٢ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٣٧.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١ ص ١٧٤ وج ٢ ص ٢٧.

٢٤٤

أبي بكر.

أو قال : يأبى الله ويدفع المؤمنون .. أو العكس.

خامسا : لماذا أرسل أولا إلى عبد الرحمن وأمره أن يأتيه بكتف ودواة .. ثم عدل عن ذلك ، وأمره بالجلوس ، وقال : أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر ، فما هذا التقلب بالرأي ، والتردد في التصرفات؟!.

وهل يصح ذلك من نبي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى؟!.

سادسا : ما معنى قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إجلس ، أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر ، فهل كان يريد أن يكتب في كتابه ما يخالف هذا الأمر ، فأبى الله ذلك ، ومنعه منه؟!.

سابعا : لا معنى لأن يقال : يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ، فإن عليا والزهراء «عليهما‌السلام» كانا من المؤمنين ، وكذلك بنو هاشم ، وكثير من صحابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وقد أبوا خلافة أبي بكر ، وامتنعوا من البيعة له حتى استشهد بعضهم ، كالزهراء «عليها‌السلام» ، وبايع آخرون قهرا .. وجميعهم كانوا من المؤمنين.

كما أنهم يعتبرون سعد بن عبادة من أهل الإيمان أيضا ، وقد قتل ولم يبايع أبا بكر ..

ثامنا : بالنسبة للنص الذي يقول : أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر .. لم يطابق الواقع ، فإن الإختلاف على أبي بكر ما زال قائما منذ اللحظة الأولى ، وإلى يومنا هذا ..

تاسعا : قال المعتزلي عن هذا الحديث : إنه مصنوع مع ما فيه من

٢٤٥

المخالفة والمباينة (١).

عاشرا : قال العلامة المجلسي «قدس الله نفسه الزكية» : إنه حتى لو كان يريد أن يكتب اسم أبي بكر ، فإن «ظن الصواب في خلاف ما قضى به في معنى الشرك بالله ، ولو كان في استخلاف أبي بكر أو عمر» (٢).

والإيراد الحادي عشر والأخير : أنه لم يترتب على ولاية أبي بكر صيانة للأمة من الضلال إلى يوم القيامة ، بل تمزقت بذلك أوصالها ، وظهرت الفتن فيها ، وسفكت الدماء ، وفشت الضلالات ، والشبهات ، وتحكم فيها فجارها ، وقهر بل قتل خيارها ، وأبرارها ، وعلى رأسهم علي والحسنان ، وأبناؤهم الطاهرون «عليهم‌السلام» ..

مفارقة .. لا مجال لتبريرها :

والشيء الذي لا يمكن تبريره ، ولا الإعتذار عنه هو : أن عمر بن الخطاب ، قد واجه النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك الموقف الجريء والقوي والحاسم ، في أمر لم يصرح النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأحد بكنهه ، ولكن عمر بن الخطاب قد علم به وتيقنه ، فبادر إلى منعه منه.

وقد صرح بذلك لابن عباس ، فقال : «ولقد أراد أن يصرح باسمه (يعني باسم علي «عليه‌السلام») فمنعت من ذلك ..» (٣).

__________________

(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٣ وج ١١ ص ٤٩.

(٢) البحار ج ٣٠ ص ٥٥٨.

(٣) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٢١ و ٧٩ ومواقف الشيعة ج ١ ص ١٥٠ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦٠٩ وج ٣ ص ٧٠٦ و ٧٠٧ والمراجعات ص ٣٩٥

٢٤٦

ولكنه منعه بصورة مؤذية ، ومهينة ، وغير متوقعة. حيث وصفه بأنه غلبه الوجع ، أو إنه ليهجر .. رغم أن هذا الكتاب كان سيحفظ الأمة من الضلال إلى يوم القيامة ، كما صرح به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذات.

يقابل ذلك : أن أبا بكر حين مرض مرض الوفاة استدعى عثمان بن عفان ، وكتب كتابا يعين فيه الخليفة من بعده ، فلما بلغ إلى ذكر اسم الخليفة أغمي عليه ، فكتب عثمان اسم عمر في حال إغماء أبي بكر ، فلما أفاق سأل عثمان ، فأخبره أنه كتب اسم عمر ، فأمضاه ، وقال له أيضا : لو كتبت نفسك لكنت لذلك أهلا (١).

فلماذا لم يحكم عمر على أبي بكر بأنه قد كتب ذلك الكتاب وهو يهجر ، أو غلبه الوجع؟! والحال أنه لا شك في أن الوجع قد غلب أبا بكر حتى أغمي عليه فعلا!! ومع أن أبا بكر لم يكن مسددا بالوحي ولا بغيره ، ولم يخبرهم بأن كتابه سوف يعصم الأمة من الضلال إلى يوم القيامة.

وحتى لو أخبرهم بذلك ، فإن أبا بكر يخطئ ويصيب ، ولم يكن معصوما ، ولا حجية لقوله ، ولا كان من الأنبياء ولا الأوصياء!! ..

__________________

والبحار ج ٣٠ ص ٢٤٤ و ٥٥٥ و ٥٥٦ وج ٣١ ص ٧٥ وج ٣٨ ص ١٥٧ وج ١٠٩ ص ٢٣ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٣٢١. وراجع : غاية المرام (المقصد الثاني) فصل الفضائل ، باب ٧٣ ص ٥٩٦.

(١) راجع : تاريخ المدينة لابن شبة ج ٢ ص ٦٦٧ وتمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ص ٤٩٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ١٨٥ و ١٨٦ و ١٨٧ وج ٤٤ ص ٢٤٨ و ٢٥٢ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٧٨ و ٦٨٠ وإفحام الأعداء والخصوم ص ١٠١.

٢٤٧

حسبنا كتاب الله دليل آخر :

ومما يشير إلى أن عمر قد فهم أن المراد هو كتابة أمر الإمامة والعترة ، والإلزام بها قولا وعملا : أن عمر قال : حسبنا كتاب الله ، أي أنه يريد أن يدفع الثقل الآخر المعادل لكتاب الله ، حسبما قرره حديث الثقلين ، اللذين لن يضل من تمسك بهما ، وقد صرح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هنا أيضا بما يشير إلى ذلك بقوله : لن تضلوا بعده ..

ولنفترض أن عمر قد فهم أن أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم بالإتيان بالدواة ، والكتف كان استحبابيا ، فلماذا يبادر إلى اتهام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عقله ، ويوجه إليه الكلمات القارصة ككونه يهجر ، أو غلب عليه الوجع ، أو نحو ذلك ..

لا دليل على إرادة الوصية لعلي عليه‌السلام؟! :

وقد يقال : يدّعي الشيعة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أراد في مرض موته أن يصرح بالوصية للإمام علي «عليه‌السلام» ، وأن يكتب ذلك في كتاب ، لكن عمر منعه من ذلك ، وقال : إن النبي ليهجر ، أو غلبه الوجع ، أو ما يقرب من ذلك ..

مع أنه ليس في الحديث أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد أراد أن يكتب خلافة أحد ، ولا يعدو كونه مجرد تخرص ورجم بالغيب منهم ، رغبة في التنويه بأمر الإمامة ، من غير دليل ..

أضف إلى ذلك : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد ترك سنة غير مكتوبة ، فلا حاجة إلى كتابة هذا الكتاب؟! ..

٢٤٨

والجواب :

أولا : إن هناك تصريحات من قبل الخليفة الثاني ، بأنه كان يعلم بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أراد في مرض موته أن يصرح باسم الإمام علي «عليه‌السلام» فمنعه ..

وقد روى ذلك أهل السنة أنفسهم (١) .. وقد تقدمت طائفة من هذه النصوص ، فلا حاجة للإعادة ..

ثانيا : لنفترض أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لم يرد أن يكتب في الكتاب إمامة الإمام علي «عليه‌السلام» ، ولكن لا شك في أن قول عمر : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليهجر ، أو غلبه الوجع .. أو أنه قال كلمة معناها غلبه الوجع ، يعتبر جرأة عظيمة وخطرة جدا على مقام النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وهو يظهر بصورة لا تقبل الترديد والشك ، عدم صلاحية عمر بن الخطاب لمقام الخلافة ، وهذا كاف فيما يرمي إليه الشيعة من إثبات بطلان خلافة عمر بن الخطاب ..

وليس ثمة ما يثبت أنه قد أصبح أهلا لهذا المقام ، لا سيما وأنه لم ينقل عنه توبة عما صدر منه في حق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

بل الثابت أنه قد واصل جرأته على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين هاجم بيت السيدة الزهراء «عليها‌السلام» ، التي قال فيها الرسول الكريم ، «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : من أغضبها أغضبني ، أو نحو ذلك ..

__________________

(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٢١ وقاموس الرجال ج ٦ ترجمة عبد الله بن عباس ..

٢٤٩

ثالثا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد ترك سنة مكتوبة ، وأمر عبد الله بن عمرو بن العاص ، بأن يكتب كل ما يخرج من بين شفتيه ، قائلا :

أكتب فو الله ، لا يخرج من بين هاتين إلا حق. أو نحو ذلك ..

وقال : أكتبوا لأبي شاه.

وقال للناس : قيدوا العلم بالكتاب ..

وكتب عنه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، الجفر والجامعة ، وكتب أيضا الكتاب الذي كان في ذؤابة سيفه ، وفيه أمور من السنة .. وغير ذلك كثير .. ذكرنا شطرا وافيا منه ، في الجزء الأول هذا الكتاب.

فما معنى قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يترك سنة مكتوبة؟! ..

رابعا : لنفترض أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد أمضى حياته دون أن يكتب أي شيء ، وأراد في آخر لحظة أن يكتب أمرا بعينه ، فما هو المانع من ذلك؟

وهل يصح قياس هذه الفترة على الفترات السابقة ، بحيث لا بد أن تأخذ حكمها؟! ..

خامسا : لنفترض جدلا أنه كان يحق لعمر بن الخطاب ، أن يمنع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من كتابة الكتاب ، فهل يحق له أن يعلل ذلك بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهجر ، أو غلبه الوجع .. أو أن يقول كلمة هذا معناها؟! ..

سادسا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يقول للناس : إنه إذا كتب الكتاب ، فلن يضلوا بعده ..

فكيف يقول له عمر : حسبنا كتاب الله؟! ..

٢٥٠

فهل هو أعرف من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيما يكون به الهداية والضلال؟! ..

ألا يدل قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لن تضلوا بعدي .. على أن القرآن لا يغني عن كتابة الكتاب ، باعتبار أن الكتاب هو تدبير نبوي ، تنفيذي وإجرائي ، من شأنه أن يمنع من ادعاء الناس أمورا تخالف الواقع .. أما القرآن فإنما يتحدث عن الأصول ، والمباني ، والقواعد والضوابط!!

سابعا : وأخيرا ، نقول لأجل التذكير فقط : إن من يتجرأ على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ألا يتجرأ على السيدة الزهراء «عليها‌السلام» ، وعلى الإمام علي «عليه‌السلام» ، فضلا عمن سواهما؟!

وهل يمكن جعل دماء الناس وأعراضهم ، وأموالهم تحت سلطته؟!

إستدلال عمر بالجبر الإلهي :

وعن قول عمر المتقدم لابن عباس : إن الله تعالى أراد أمرا ، وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ، ولم ينفذ مراد رسوله الخ ..

وعن قوله عن هذا الموضوع أيضا : «وأبى الله إلا إمضاء ما حتم» نقول :

١ ـ إن الذي أراده الله ورسوله هو الخير والهدى ، وصيانة الأمة من الضلال ، إلى يوم القيامة ، وأراد أن يكون ذلك بواسطة الولاية لعلي «عليه‌السلام» وأن يكف المناوؤون لعلي «عليه‌السلام» والأئمة الاثني عشر الهداة المهديين الطاهرين عن مناوءته من بعده .. ولكن الذين أرادوا الأمر لأنفسهم ، لم يمتثلوا أمر الله ورسوله فيه وعدوا عليه وعلى زوجته ، وأوردوا

٢٥١

عليهما من الظلم والحيف ما هو معروف ..

٢ ـ يضاف إلى ذلك : أن في النص المشار إليه عن عمر بن الخطاب نوعا من الإستهتار والإستخفاف برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، خصوصا قوله : «فكان ماذا»؟!

وقوله : «أو كلما أراد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان»؟!

٣ ـ لو صح ما قاله عمر ، لكان معناه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خالف إرادة الله تعالى ، وأن عمر هو الذي وافقها ، ومعه قريش أيضا.

وقد ادّعى أيضا : أنه إنما منع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الكتابة ، إشفاقا منه على الأمة من الفتنة ، وحياطة على الإسلام ، فهل كان عمر أشفق على الأمة ، وأكثر حياطة على الإسلام من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

أم أنه كان أعرف من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بموجبات الفتنة ، وبما يحفظ الدين ، مع أن الله تعالى يقول في حق نبيه العظيم : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

أبو جعفر النقيب يقول :

قال أبو جعفر النقيب عن اختلاف المسلمين في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

«فرجّح قوم هذا ، وقوم هذا ، أفليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه وبين عمر؟! وجعلوا القولين مسألة خلاف ، ذهب كل فريق إلى نصرة

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

٢٥٢

واحد منهما ، كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام ، فينصر قوم هذا وينصر ذاك آخرون؟! فمن بلغت قوته وهمته إلى هذا كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها ، ويعدل عن النص»؟! (١). انتهى.

وأبو جعفر النقيب هو : يحيى بن محمد بن أبي زيد. قال عنه ابن أبي الحديد : «ولم يكن إمامي المذهب ، ولا كان يبرأ من السلف ، ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة. ولكنه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه» (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٨٧ وغاية المرام ج ٦ ص ٩٤ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٢٥٣ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦١١ وج ٣ ص ٧٢٥.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٩٠.

٢٥٣
٢٥٤

الفصل الرابع :

تمحلات بالية وأعذار واهية

٢٥٥
٢٥٦

تصويب عمر وتخطئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!! :

قال البيهقي والذهبي : وإنما أراد عمر التخفيف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين رآه شديد الوجع ، لعلمه أن الله تبارك وتعالى قد أكمل ديننا ، ولو كان ذلك الكتاب وحيا لكتبه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولما أخل به لاختلافهم ولغطهم ، لقول الله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١).

كما لم يترك تبليغ غيره لمخالفة من خالفه ، ومعاداة من عاداه ، وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله ، أن يكتب استخلاف أبي بكر ، ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى ، كما همّ به في ابتداء مرضه حين قال : «وا رأساه».

ثم بدا له أن لا يكتب ، ثم قال : «يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها.

ويتابع البيهقي ، فيقول :

«وإن كان المراد به رفع الخلاف في الدين ، فإن عمر بن الخطاب علم أن

__________________

(١) الآية ٦٧ سورة المائدة.

٢٥٧

الله تعالى قد أكمل دينه بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) ، وعلم أنه لا تحدث واقعة إلى يوم القيامة ، إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيانها ، نصا أو دلالة.

وفي نص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جميع ذلك في مرض موته ، مع شدة وعكه ، ما يشق عليه ، فرأى عمر بن الخطاب الإقتصار على ما سبق بيانه نصا ، أو دلالة ، تخفيفا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولكي لا تزول فضيلة أهل العلم بالإجتهاد في الإستنباط ، وإلحاق الفروع بالأصول ، بما دل الكتاب والسنة عليه.

وفيما سبق من قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ ، فله أجر واحد» دليل على أنه وكل بيان بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء ، وأنه أحرز من أصاب منهم الأجرين الموعودين ، أحدهما : بالإجتهاد ، والآخر : بإصابة العين المطلوبة بما عليها من الدلالة في الكتاب أو السنة.

وأنه أحرز من اجتهد فأخطأ أجرا واحدا باجتهاده ، ورفع إثم الخطأ عنه ، وذلك في أحكام الشريعة التي لم يأت بيانها نصا ، وإنما ورد خفيا.

فأما مسائل الأصول ، فقد ورد بيانها جليا ، فلا عذر لمن خالف بيانه لما فيه من فضيلة العلماء بالإجتهاد ، وإلحاق الفروع بالأصول ، بالدلالة ، مع طلب التخفيف على صاحب الشريعة ، وفي ترك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الإنكار عليه فيما قال واضح على استصوابه رأيه ، وبالله التوفيق».

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة المائدة.

٢٥٨

وقال المازري : إنما جاز للصحابة الإختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره بذلك ، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب ، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الإختيار ، فاختلف اجتهادهم ، وصمم عمر على الإمتناع لما قام عنده من القرائن بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال ذلك عن غير قصد جازم.

[وعزمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد ، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي ، وإلا فبالاجتهاد أيضا].

وقال النووي : اتفق العلماء على أن قول عمر «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ، ودقيق نظره ، لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها ، فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة.

وأراد أن لا يسد باب الإجتهاد من العلماء.

وفي تركه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الإنكار على عمر الإشارة إلى تصويبه. وأشار بقوله : «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١).

ولا يعارض ذلك قول ابن عباس : إن الرزية الخ .. لأن عمر كان أفقه منه قطعا.

ولا يقال : إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن ، وأعلم الناس بتفسيره ، ولكنه أسف على ما فاته من البيان ، وبالتنصيص عليه

__________________

(١) الآية ٣٨ من سورة الأنعام.

٢٥٩

لكونه أولى من الإستنباط (١).

ونقول :

إن ما ذكر آنفا لا يحتاج إلى بذل أي جهد لإظهار بطلانه وفساده ، حيث إن سقوطه وخطله ظاهر للعيان ، ولا يحتاج إلى بيان ، ولا إلى إقامة برهان ..

ولكننا نكرر على مسامع القارئ الكريم بعض اللمحات والإشارات إلى بعض الشبهات والمغالطات والأباطيل من دون تطويل لثقتنا بحسن تقديره ، وبسلامة وصحة تفكيره ، فنقول :

ألف : عمر أراد التخفيف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إن ما زعموه : من أن عمر أراد التخفيف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين رآه شديد الوجع .. يضحك الثكلى ، فهل التخفيف على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستدعي اتهامه بالهذيان؟!

وهل التخفيف يكون بإيذائه بقوارع القول ، وقواذع الكلم؟!

وهل التخفيف عنه بعصيان أوامره ، أم بطاعته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمبادرة إلى فعل ما يرضيه ، ويطمئنه؟!

ألا يدل قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أكتب كتابا لكم لن تضلوا بعده» ، أو نحو ذلك على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يخشى عليهم من الضلال عن الصراط المستقيم ، والوقوع في الفتن والمهالك ، والإبتلاء بالضلالات؟!

وهل مجرد كمال الدين يمنع من الضلال؟! ويحصن من الإختلاف؟!

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ وفتح الباري ج ٨ ص ١٠٢.

٢٦٠