الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-204-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٨

الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو موقع المسؤول بعد موت الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن كل ما كان الرسول مسؤولا عنه في حياته.

ولعل مما يدل على ذلك دلالة واضحة الحديث المتقدم عن أنه حين دنا أجل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت لديه سبعة دنانير ، فخاف أن يقبضه الله وهي عنده ، فأمر أهله بالتصدق بإرسالها إلى علي «عليه‌السلام» ليتصدق بها ، فلم يفعلوا ، فأرسلها إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفسه وتصدق بها.

فلو كان عليه دين ، فالأولى أن يقضي بها دينه ، لا أن يتصدق بها.

١٦١
١٦٢

الفصل الثاني :

سرية أسامة بن زيد

١٦٣
١٦٤

حديث سرية أسامة :

قال الصالحي الشامي :

إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أقام بعد حجته بالمدينة بقية ذي الحجة ، والمحرم ، وما زال يذكر مقتل زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب وأصحابه ، ووجد عليهم وجدا شديدا.

فلما كان يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر. سنة إحدى عشرة أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالتهيؤ لغزو الروم ، وأمرهم بالجد ، ثم دعا من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر أسامة بن زيد فقال : «يا أسامة ، سر على اسم الله وبركته ، حتى تنتهي إلى (موضع) مقتل أبيك ، فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك هذا الجيش ، فأغر صباحا على أهل أبنى (١) وحرّق عليهم. وأسرع السير تسبق الأخبار ، فإن أظفرك الله ، فأقلل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء ، وقدم العيون والطلائع أمامك» (٢).

__________________

(١) أبنى : ناحية بالبلقاء بين عسقلان والرملة ، وهي قرب مؤتة.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٨ وراجع : المغازي للواقدي ج ٣ ص ١١١٧ والسيرة الحلبية (ط مصطفى محمد) ج ٣ ص ٢٣٤ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٣٣٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢

١٦٥

فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدئ برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجعه ، فحمّ وصدع. فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده.

ثم قال : «اغز بسم الله في سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ، ولا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم ، ولكن قولوا : اللهم اكفناهم بما شئت ، واكفف بأسهم عنا.

فإن لقوكم قد جلبوا وضجوا ، فعليكم بالسكينة والصمت ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وقولوا : اللهم إنا نحن عبيدك وهم عبادك ، نواصينا ونواصيهم بيدك ، وإنما تغنيهم أنت ، واعلموا أن الجنة تحت البارقة».

فخرج أسامة بلوائه [معقودا] ، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وعسكر بالجرف ، فلم يبق أحد من [وجوه] المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، في رجال آخرين من الأنصار عدة ، مثل قتادة بن النعمان ،

__________________

ص ١٩٠ وراجع : سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٤١٢ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٣١ وسنن أبي داود ج ٣ ص ٣٨ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٩ ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٠٥ و ٢٠٩ ونهج السعادة للمحمودي ج ٥ ص ٢٦٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥٤ وج ٢٢ ص ٤ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٢٣ وج ١٤ ص ٥١٩.

١٦٦

وسلمة بن أسلم بن حريش (١).

فاشتكى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو على ذلك ، ثم وجد من نفسه راحة فخرج عاصبا رأسه فقال : «أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة».

ثم دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال رجل من المهاجرين ـ كان أشدهم في ذلك قولا ـ عياش بن أبي ربيعة [المخزومي] : «يستعمل هذا الغلام على المهاجرين»؟.

فكثرت المقالة ، وسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك فرده على من تكلم به ، وأخبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فغضب غضبا شديدا.

وخرج يوم السبت عاشر المحرم سنة إحدى عشرة.

وقد عصب رأسه بعصابة وعليه قطيفة ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال :

«أما بعد ، أيها الناس ، فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله ، كان للإمارة لخليقا ، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإنهما لمخيلان لكل خير ، فاستوصوا به خيرا ، فإنه من خياركم» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٨ والبحار ج ٢١ ص ٤١٠ وج ٣٠ ص ٤٢٨ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧٦ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٥٢.

(٢) راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩٠ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢٤٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج ٤ ص ١٨٢ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٢ و ٥٧٣ والمغازي للواقدي

١٦٧

ثم نزل فدخل بيته ، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيهم عمر بن الخطاب ، ويمضون إلى العسكر بالجرف.

ودخلت أم أيمن فقالت : «يا رسول الله ، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل ، فإن أسامة خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه».

فقال : «أنفذوا بعث أسامة».

فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد.

وفي نص آخر : ثم ثقل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مرضه ، فجعل يقول : «جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة ، أرسلوا بعث أسامة» يكرر ذلك (١).

ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثقيل مغمور ، وهو اليوم الذي لدوه فيه ، فدخل عليه وعيناه تهملان ، وعنده الناس والنساء حوله ، فطأطأ عليه أسامة فقبله ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يتكلم ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة ، كأنه يدعو له.

ورجع أسامة إلى معسكره.

__________________

ج ٣ ص ١١٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٥٩ والسيرة الحلبية (ط مصطفى محمد) ج ٣ ص ٢٣٤ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٣٣٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥٥ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٥٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٢٠.

(١) راجع : كنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٣ ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج ٤ ص ١٨٢.

١٦٨

ثم دخل يوم الإثنين ، وأصبح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مفيقا ، وجاءه أسامة فقال له : «اغد على بركة الله» (١).

فودعه أسامة ، وخرج إلى معسكره لما رأى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مفيقا.

ودخل أبو بكر فقال : «يا رسول الله ، أصبحت مفيقا بحمد الله واليوم يوم ابنة خارجة فأذن لي». فأذن له ، فذهب إلى السنح.

وركب أسامة إلى العسكر ، وصاح في أصحابه باللحوق بالعسكر ، فانتهى إلى معسكره ، وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار.

فبينا هو يريد أن يركب أتاه رسول أمه أم أيمن يخبره أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يموت.

فأقبل إلى المدينة ، وأقبل معه عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، فانتهوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يجود بنفسه ، فتوفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك اليوم.

ودخل المسلمون الذي عسكروا بالجرف إلى المدينة ، ودخل بريدة بن الحصيب باللواء معقودا ، فغرزه عند باب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٩ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١١٢٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩١ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٤ و (ط مؤسسة الرسالة) ج ١٠ ص ٥٧٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٢٥ وج ١٤ ص ٥٢٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٦٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٥ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٣٤٠ والمسترشد للطبري (الشيعي) ص ١١٢.

١٦٩

وحسب نص الجوهري : «فتثاقل أسامة ، وتثاقل الجيش بتثاقله ، وجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مرضه يثقل ويخف ، ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث ، حتى قال له أسامة : بأبي أنت وأمي ، تأذن أن أمكث أياما حتى يشفيك الله؟

قال : اخرج ، وسر على بركة الله.

قال : يا رسول الله ، إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة.

فقال : سر على النصر والعافية.

قال : يا رسول الله ، إني أكره أن أسأل عنك الركبان.

قال : انفذ لما أمرتك به.

ثم أغمي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثم تذكر الرواية : أنه خرج حتى نزل بالجرف ، ومعه أبو بكر ، وعمر ، وأكثر المهاجرين الخ ..

ثم أتاه رسول أم أيمن تخبره بأن النبي يموت (١).

فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ، ليمضي لوجهه ، وألا يحله حتى يغزوهم.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٥٢ عن كتاب السقيفة لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري وراجع : المراجعات ص ٣٧٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٧١ و ٥٧٤ والبحار ج ٣٠ ص ٤٣٠ والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ٤٢ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٥٢٧ ونهج السعادة للمحمودي ج ٥ ص ٢٥٩ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٧٧ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٢١.

١٧٠

وقال لأسامة : أنفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وأمر الناس بالخروج ، فعسكروا في موضعهم الأول ، وخرج بريدة باللواء.

فلما ارتدت العرب ، كلّم أبو بكر في حبس أسامة ، فأبى (١).

ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك عمر ، وأن يأذن له في التخلف ، ففعل.

وخرج ونادى مناديه عزمت لا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشيا. فلم يتخلف عن البعث أحد.

وخرج أبو بكر يشيع أسامة.

فركب من الجرف لهلال ربيع الآخر في ثلاثة آلاف ، فيهم ألف فارس ، وسار أبو بكر إلى جنبه ساعة وقال :

«أستودع الله دينك ، وأمانتك ، وخواتيم عملك. إني سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوصيك ، فانفذ لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه ، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٥ ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج ٤ ص ١٨٣ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣٤ و ٣٣٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩١ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٥٣ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٢٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥٧.

١٧١

فخرج سريعا ، فوطئ بلادا هادية ، لم يرجعوا عن الإسلام ، جهينة وغيرها من قضاعة. حتى نزل وادي القرى ، فسار إلى أبنى في عشرين ليلة.

فقدم له عين له من بني عذرة يدعى حريثا ، فانتهى إلى أبنى ، ثم عاد فلقي أسامة على ليلتين من أبنى ، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم ، وحثهم على السير قبل اجتماعهم.

فسار إلى أبنى وعبأ أصحابه ، ثم شن عليهم الغارة ، فقتل من أشرف له ، وسبى من قدر عليهم ، وحرق بالنار منازلهم ، وحرثهم ، ونخلهم ، فصارت أعاصير من الدواخين ، وأجال الخيل في عرصاتهم ، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة على فرس أبيه سبحة ، وقتل قاتل أبيه في الغارة ، وأسهم للفرس سهمين ، وللفارس سهما ، وأخذ لنفسه مثل ذلك.

فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ثم أغذ السير ، فورد وادي القرى في تسع ليال ، ثم بعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم. ثم قصد بعد في السير ، فسار إلى المدينة ، ستا حتى رجع إلى المدينة ولم يصب أحد من المسلمين.

وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورا بسلامتهم ، ودخل على فرس أبيه سبحة ، واللواء أمامه ، يحمله بريدة بن الحصيب حتى انتهى إلى باب المسجد ، فدخل فصلى ركعتين. ثم انصرف إلى بيته.

وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة ، فبعث رابطة يكونون بالبلقاء ، فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٥٠ وراجع : عمدة القاري ج ١٨ ص ٧٧ والطبقات ـ

١٧٢

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم الوقفات التالية :

تناقض ظاهر في كلام الشامي :

لقد ذكر الصالحي الشامي :

أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر بالتهيؤ لغزو الروم يوم الإثنين ، لأربع ليال بقين من شهر صفر ، سنة إحدى عشرة ، وفي يوم الثلاثاء أمر أسامة بتولي هذه المهمة ، وفي يوم الأربعاء بدئ برسول الله وجعه ، فحمّ وصدع ، وفي يوم الخميس عقد لأسامة لواءا بيده.

ولكنه يعود فيقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما سمع طعن الطاعنين في تأمير أسامة على المهاجرين ، «خرج يوم السبت عاشر المحرم سنة إحدى عشرة ، وقد عصب رأسه بعصابة ، ثم صعد المنبر ، فخطبهم ، وفند مقالتهم وردها» (١). وهذا تناقض واضح ..

إلا أن يدعى : أن ثمة غلطا في هذا النص الأخير ، وأن الصحيح هو : أنه خطبهم في العاشر من شهر ربيع الأول ، لا شهر محرم.

ولكنها دعوى موهونة أيضا ، فإن الصحيح هو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد توفي في الثامن والعشرين من شهر صفر ..

__________________

الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٨٩ ـ ١٩٢ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤.

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٨ و ٢٤٩.

١٧٣

يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟! :

ولا ندري كيف يمكن أن نحكم على عياش بن أبي ربيعة وعلى القوم الذين تكلموا بمثل كلامه ، بصحة الإيمان ونحن نرى أنه يعترض على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تأميره أسامة ، ويخطئه ، ويطعن في عصمته؟! (١).

ويزيد الأمر إشكالا : تبرير اعتراضه هذا بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمّر أسامة على المهاجرين ، مع أنه أمّره على المهاجرين والأنصار معا.

وكأنه يرمي إلى الإيحاء بأن المهاجرين طبقة مميزة عن غيرهم من سائر المسلمين بما في ذلك الأنصار.

فهو ينطلق من شعور عنصري ، أو مفهوم طبقي ، أدانه الإسلام ورفضه ، ولا يعترف به ، بل يعتبره من الدعوات المنتنة والبغيضة.

ويلاحظ : أن ابن أبي الحديد المعتزلي وتبعه الحلبي قد زادا كلمة والأنصار على النص من عند أنفسهما ، مع عدم وجود هذه الكلمة في المصادر الأولية كما يعلم بالمراجعة ، فلماذا هذا التصرف يا ترى؟!!

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢١ ص ٤١٠ وج ٣٠ ص ٤٢٩ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٧٦ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٢ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٧١٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٩٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٥٩ وج ١٠ ص ١٨٤ وج ١٧ ص ١٨٢ و ١٩٤ وفتح الباري (المقدمة) ص ٢٩٨ وج ٧ ص ٦٩ وج ٨ ص ١١٥ والعثمانية للجاحظ ص ١٤٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٢٤ وج ١٤ ص ٥٢٠ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٥٢ السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٤.

١٧٤

لعن الله من تخلف عن جيش أسامة :

ولا نستطيع أن نتجاهل ما ورد في النصوص التي رواها السنة والشيعة ، من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أمّر أسامة بن زيد على ذلك الجيش الذي جمع فيه المهاجرين والأنصار ، ومن بينهم الطامعون بالخلافة ، وقال : جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة (١). أو نحو ذلك.

فلم يطيعوا أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسوّفوا وتعللوا بالعلل ، وبالمعاذير الواهية.

فكيف ولماذا عرضوا أنفسهم للعن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

هل كانوا يرونه مخطئا في تجهيزه لذلك الجيش؟

أم اتكلوا على حديث رواه الكذابون عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يدّعون فيه أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : اللهم من سببته أو لعنته ،

__________________

(١) راجع : الملل والنحل (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٢٣ و (بهامش الفصل لابن حزم) ج ١ ص ٢٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٥٢ عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري وراجع : المسترشد للطبري ص ١١٢ والبحار ج ٣٠ ص ٤٣١ و ٤٣٢ ونفحات اللاهوت ص ١١٣ وتشييد المطاعن ج ١ ص ٤٧ ومعالم المدرستين ج ٢ ص ٧٧ ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار لوالد البهائي العاملي ص ٦٨ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٤١ و ٥٢٧ وقاموس الرجال ج ١٢ ص ٢١ والسقيفة وفدك للجوهري ص ٧٧ ونهج السعادة للمحمودي ج ٥ ص ٢٥٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٢٠٩ والنص والإجتهاد ص ٤٢ والمراجعات للسيد شرف الدين ص ٣٧٤ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢١٨.

١٧٥

فاجعل ذلك زكاة ورحمة له؟! (١).

وقد ذكرنا هذا الحديث أكثر من مرة في هذا الكتاب ، وبينا خطله وفساده ..

استعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأمرني أن أنزعه؟! :

وذكروا : أن عمر بن الخطاب جاء إلى أبي بكر يلتمس منه بلسان الأنصار عزل أسامة ، وتولية غيره ، فوثب أبو بكر إلى عمر ، فأخذ بلحيته ، فقال : ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب ، استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه؟! (٢).

__________________

(١) راجع : صحيح مسلم ج ٨ ص ٢٤ و ٢٥ و ٢٦ و ٢٧ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٣١٥ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣١٧ و ٣٩٠ و ٤٤٩ و ٤٨٨ و ٤٩٣ و ٤٩٦ وج ٣ ص ٣٣ و ٣٩١ و ٤٠٠ وج ٥ ص ٤٣٧ و ٤٣٩ وج ٦ ص ٤٥ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١١٩ عن صحيح البخاري (كتاب الدعوات) ج ٤ ص ٧ إضافة إلى مصادر أخرى تقدمت.

(٢) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٢٦ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٤٦٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣٥ والسيرة الحلبية (ط مصطفى محمد) ج ٣ ص ٢٣٦ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٣٠ وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٣٤٠

وراجع : التمهيد للباقلاني ص ١٩٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٥٠ ومختصر تاريخ دمشق ج ١ ص ١٧١ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٥٦ وعن الروض الأنف ج ٢ ص ٣٧٥ وجواهر الكلام ج ٣٠ ص ١٤٢ والبحار ج ٣٠ ص ٥٠٢ وج ٣٤ ص ٣٨٣ والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ٣٥ والغدير ج ٧ ص ٢٢٤

١٧٦

ونقول :

أولا : إنه إذا مات النبي أو الوصي ، يستطيع وصيه أو الولي من بعده أن يعزل قواد الجند ، والأمراء والعمال على البلاد ، لأن الظروف قد تتغير ، وتمسّ الحاجة إلى صرف النظر عن بعض الإجراءات ، أو استبدال بعض القادة على الجند أو العمال والولاة ..

لكن الذي لا يعزل هو فقط الإمام وولي الأمر المنصوص عليه من الله ورسوله ..

فما معنى أن يحتج الخليفة على عدم عزل أسامة بأن النبي قد نصبه؟! (١).

ثانيا : إن أبا بكر نفسه قد عزل عددا ممن نصبهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حياته ، واستمروا على عملهم إلى ما بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقد ذكر العلامة الأميني : أن أبا بكر جعل خالد بن سعيد بن العاص على مشارق الشام في الردة ، وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمله على ما بين زمع زبيد إلى حد نجران. أو على صدقات مذحج ، ومات وهو على عمله (٢).

__________________

وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ١٨٣ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٧٩ والفصول المهمة في تأليف الأمة للسيد شرف الدين ص ١٠٣.

(١) راجع : الغدير ج ٧ ص ٢٢٤ و ٢٢٥.

(٢) راجع : الغدير ج ٧ ص ٢٢٤ و ٢٢٥ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ١٤ وفي هامشه عن : الإصابة ج ٢ ص ٢٢٢ (٤٢٣٤) في ترجمة طاهر بن أبي هالة وص ٥٣٩ (٥٨٤٦) في ترجمة عمرو وج ١ ص ٤٠٧ (٢١٦٧) في ترجمة خالد ، والإستيعاب ج ٣ ص ٣٥٧ في ترجمة معاذ وج ١ ص ٤٠٠ في ترجمة خالد ، واليعقوبي ج ٢ ـ

١٧٧

واستعمل أبو بكر يعلى بن أمية على حلوان. مع أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد استعمله على الجند. وتوفي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو على عمله (١).

وكان عمرو بن العاص على عمان ، وتوفي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو أميرها (٢).

وكان عكرمة على صدقات هوازن عام وفاته. فاستعمل أبو بكر

__________________

ص ٦٥ و ١١٢ وفتوح البلاذري ص ١٤٢ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٠٧ وابن خلدون ج ٢ ق ٢ ص ٥٩ وابن أبي الحديد ج ٦ ص ٣١ و ٤١ وج ٢ ص ٥٨ والبحار ج ٢١ ص ٤٠٧ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٤٥ و ٣٩٧ وصحبة النبي «عليه‌السلام» ص ١٢٠ والطبري ج ٣ ص ١٣٦ و ١٨٥ و ٢٢٨ و ٣١٨. والإرشاد للمفيد ص ٨٠ و ٨١ (وفي أسد الغابة ج ٢ ص ٨٣ أرسل عليا «عليه‌السلام» وخالد بن سعيد إلى اليمن ، وقال : إذا اجتمعتما فعلي الأمير.

(١) راجع : الغدير ج ٧ ص ٢٢٤ و ٢٢٥. وراجع : مكاتيب الرسول ج ١ ص ٤٧ وفي هامشه عن : البحار ج ٢١ ص ٤٠٧ والطبري ج ٣ ص ٢٢٨ و ٣١٨ وابن خلدون ج ٢ ق ٢ ص ٥٩ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٠٧ واليعقوبي ج ٢ ص ١١٣.

وراجع : أسد الغابة ج ٥ ص ١٢٨ وقاموس الرجال ج ١١ ص ١٤٣.

(٢) راجع : سبل السلام للكحلاني ج ١ ص ١٢٧ والبحار ج ٢٢ ص ٢٤٩ والغدير ج ٧ ص ٢٢٥ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ١١٦ وفي هامشه عن : الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٨٧ وأسد الغابة ، والسيرة النبوية لزيني دحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٧٥ والطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٦٢ والإصابة ، وابن أبي الحديد ج ٢ ص ١١٢. وراجع : الإستيعاب لابن عبد البر ج ٣ ص ١١٨٧.

١٧٨

عكرمة على عمان ثم عزله ، واستعمل عليها حذيفة بن محصن (١).

ثم ذكر أن عمر نفسه قد عزل بعض من كانوا في عهد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكذلك عثمان ، فاستعمل عثمان بن أبي العاص على عمان والبحرين سنة ١٥ ، وكان على الطائف من زمن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وغير ذلك (٢).

ثالثا : إن المعترضين على تأمير أسامة إنما أخذوا مبررات الإعتراض مما جرى في السقيفة ، حيث استدلوا على أحقية أبي بكر للخلافة بكبر سنه ، فلا غضاضة على الأنصار إذا طالبوه بعزل صغير السن عنهم ، وتولية من هو أسن منه.

بل إن هذا الإعتراض قد صدر من بعض المهاجرين والأنصار في عهد النبي على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه بالنسبة لزيد بن حارثة ، أبي أسامة ، فاضطر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أن يخطب الناس ، ويؤكد أهليته للإمارة كأبيه ، ويشير إلى أن اعتراضهم لم يكن لأجل سنه ، وإنما لأمور أخرى يخفونها ، ولو كان السبب هو مجرد السن ، فلماذا يطعنون بإمارة أبيه من قبل.

رابعا : لماذا يتكلم عمر بلسان الأنصار ، ونحن نعرف أنه لم يكن يكنّ لهم الكثير من الود والصفاء ، ولا سيما بعد قصة السقيفة؟!

__________________

(١) راجع : الغدير ج ٧ ص ٢٢٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٧ ص ٤٠٤ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٣١ وفي هامشه عن : الإصابة ج ٢ ص ٤٩٦ (٥٦٣٨) والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٩٧ وأسد الغابة ج ٤ ص ٥ والإستيعاب ج ٣ ص ١٤٩.

(٢) راجع : الغدير ج ٧ ص ٢٢٥.

١٧٩

خامسا : قد برّروا الإعتراض على تأمير أسامة بأنه لا يجوز أن يتأمر على المهاجرين ، كما تقدم عن عياش بن أبي ربيعة ، ولم نسمع للأنصار اعتراضا على تأمير أسامة ..

سادسا : إذا كان أبو بكر متقيدا إلى هذا الحد بتوجيهات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلماذا طلب من أسامة أن يتخلى له عن عمر بن الخطاب ، ويبقيه عنده؟!

سابعا : إذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرر ذلك ، فهل يحق لأسامة أن يبطل قرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه؟!

هذا كله عدا عن تخلف أبي بكر نفسه عن ذلك الجيش ، بعد أن كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ندبه ليكون فيه كسائر الناس؟! ..

أبو بكر في جيش أسامة :

قال الصالحي الشامي :

ذكر محمد بن عمر ، وابن سعد : أن أبا بكر كان ممن أمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالخروج مع أسامة إلى أبنى ، وجرى عليه في المورد ، وجزم به في العيون ، والإشارة ، والفتح في مناقب زيد بن حارثة.

وأنكر ذلك الحافظ أبو العباس بن تيمية ، فقال في كتابه الذي رد فيه على ابن المطهر الرافضي :

«لم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل أبا بكر وعثمان في جيش أسامة ، فقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه إلى أن مات. وكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة

١٨٠