.. إلى نحو ذلك ممّا هو بالهذيان أشبه! (١).
* * *
__________________
ـ بيت في قريش ، كان بزّازا يدور في السوق حاملا على رقبته أثوابا ليبيعها ، مضافا إلى إشفاقه من تقديم صدقة يسيرة بين يدي نجواه ؛ فدعوى كثرة إنفاقه تخرّص سقيم!
انظر : تاريخ دمشق ٣٠ / ٣٢١ و ٣٢٢ و ٣٢٤ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٩ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٤٥ ، الأعلاق النفيسة : ٢١٥.
(١) راجع كتاب تشييد المراجعات ٢ / ٥ ـ ٤٥ ، فقد فصّل السيّد عليّ الحسيني الميلاني البحث هناك حول السورة الكريمة واختصاصها بأهل البيت عليهمالسلام والرّد على الشبهات المثارة.
١٩ ـ آية : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ... )
قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ (١) :
التاسعة عشرة : قوله تعالى : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) (٢).
روى الجمهور ، عن مجاهد ، قال : هو عليّ بن أبي طالب عليهالسلام (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٥.
(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٣٣.
(٣) تفسير الحبري : ٣١٥ ح ٦٢ ، ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٢٤٠ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٣٥ ح ٣١٧ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٢٠ ـ ١٢٢ ح ٨١٠ ـ ٨١٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٥٩ و ٣٦٠ ، كفاية الطالب : ٢٣٣ ، تفسير القرطبي ١٥ / ١٦٧ ، تفسير البحر المحيط ٧ / ٤٢٨ ، فتح القدير ٤ / ٤٦٣ ، الدرّ المنثور ٧ / ٢٢٨.
وقال الفضل (١) :
جماهير أهل السنّة على أنّ الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق (٢) ، وإن صحّ نزوله في عليّ المرتضى فهو من فضائله ، ولا يدلّ على النصّ.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ١٧٩.
(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥ ح ٣٠١٤٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢٨٠ المسألة الأولى ، الدرّ المنثور ٧ / ٢٢٨.
وأقول :
حكى السيوطي في « الدرّ المنثور » عن ابن مردويه ، أنّه أخرج عن أبي هريرة : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ( وَصَدَّقَ بِهِ ) عليّ بن أبي طالب عليهالسلام (١).
ونحوه في « منهاج الكرامة » للمصنّف ، عن مجاهد ، من طريق ابن المغازلي (٢).
وفيه أيضا عن مجاهد ، من طريق أبي نعيم ، مثل ما هنا (٣)
فيكون الجميع متّحدا في المراد ، وأنّ المقصود بثاني الوصفين أمير المؤمنين عليهالسلام ، لا أنّه مقصود بهما معا كما يتوهّم ممّا نقله أبو نعيم ، كما أنّه ليس المقصود بالوصفين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحده ؛ لقوله تعالى في تتمّة الآية بصيغة الجمع : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٤).
فإذا أريد بمن صدّق به أمير المؤمنين ، دلّ على إمامته ؛ لأنّ ذكره خاصّة بالتصديق مع كثرة المصدّقين يدلّ على أنّه الكامل في التصديق ، وأنّه الصدّيق الأكبر.
ولا ريب أنّ الكامل فيه دون غيره هو الأفضل ، والأفضل أحقّ بالإمامة ، ولا سيّما أنّ كامل التصديق أرعى لما صدّق به ، وأمسّ في حفظ
__________________
(١) الدرّ المنثور ٧ / ٢٢٨.
(٢) منهاج الكرامة : ١٣٤ ، وانظر : مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٣٥ ح ٣١٧.
(٣) منهاج الكرامة : ١٣٤.
(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٣٣.
الدين والحوزة.
على أنّ الله سبحانه قد شهد لمن جاء بالصدق ، ولمن صدّق به ، بالتقوى على الإطلاق ، فقال في تتمّة الآية : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ، وهو يقتضي العصمة ، ولا معصوم مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم غير عليّ عليهالسلام بالإجماع ، فيكون هو الإمام ؛ لما سبق من اشتراط العصمة بالإمام (١).
ولا ينافي دلالته على العصمة قوله تعالى بعد هذه الآية : ( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَالَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) ؛ إذ ليس المراد ب ( أَسْوَأَالَّذِي عَمِلُوا ) هو المحرّمات ؛ لعصمة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم جزما ، بل المراد أسوأه عند قومهم ، فإنّ الله سبحانه يكفّره (٣) ؛ أي يغطّيه عنهم بنصرهم على الكافرين ، وإحسانهم إليهم ، وإظهار شرفهم وفضلهم ؛ ولذا قال تعالى في الآية التي بعدها : ( أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... ) (٤).
وأمّا ما نسبه الفضل إلى الجماهير ، فكذب عليهم ؛ ولذا لم يذكره الزمخشري في « الكشّاف » ، وهو حقيق بذكره لو كان قولا لجماهيرهم ، لا سيّما وهو في فضل أبي بكر ، ولم يذكره أيضا غيره ممّن اطّلعنا على تفسيره.
__________________
(١) راجع ج ٤ / ٢٠٥ وما بعدها من هذا الكتاب.
(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٣٤ و ٣٥.
(٣) كفر الشيء كفرا وكفّره : ستره ، وأصل الكفر : تغطية الشيء تغطية تستهلكه! ومنه سمّي الكافر كافرا ؛ لأنّه مغطّى على قلبه ؛ انظر : تاج العروس ٧ / ٤٥٠ مادّة « كفر ».
(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٣٦.
نعم ، نسبه الرازي إلى جماعة (١) ، وهو غير معنى الجماهير ، ولو سلّم فأيّ عبرة بقول جماهيرهم الناشئ من الهوى ، فإنّه كما ورد عندهم نزولها في أبي بكر ، ورد عندهم نزولها في أمير المؤمنين عليهالسلام ، فلم اختار الجماهير أو الجماعة نزولها في أبي بكر ، مع عدم صحّة الرواية الدالّة عليه كما اطّلعنا على سندها؟!
فإنّ الطبري رواها في تفسيره « جامع البيان » ، عن عمر بن إبراهيم بن خالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان (٢).
وقد نقل الذهبي في « ميزان الاعتدال » عن الدارقطني ، أنّ عمر بن إبراهيم كذّاب ؛ وعن الخطيب ، أنّه غير ثقة ؛ ثمّ ذكر بترجمة عمر أنّ أسيدا مجهول (٣).
ونقل بترجمة عبدالملك ، عن أحمد ، أنّه ضعّف عبد الملك جدّا ، وقال أيضا : ضعيف يغلط ، وقال ابن معين : مخلّط (٤).
مضافا إلى أنّ لفظ الرواية ، كما صرّح به السيوطي في « الدرّ المنثور » ( الذي جاء بالحقّ ) محمّد ، ( وصدّق به ) أبو بكر (٥) ، وهو غير لفظ الآية ؛ لأنّ لفظها : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ).
هذا ، ومن المضحك ما ذكره الرازي في المقام ، قال : « أجمعوا على أنّ الأسبق الأفضل ؛ إمّا أبو بكر ، وإمّا عليّ ، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر
__________________
(١) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢٨٠ المسألة الأولى.
(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥ ح ٣٠١٤٤.
(٣) ميزان الاعتدال ٥ / ٢١٦ ـ ٢١٧ رقم ٦٠٥٠ ، وانظر : تاريخ بغداد ١١ / ٢٠٢ رقم ٥٩٠٥.
(٤) ميزان الاعتدال ٤ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦ رقم ٥٢٤٠.
(٥) الدرّ المنثور ٧ / ٢٢٨.
أولى ؛ لأنّ عليّا عليهالسلام كان وقت البعثة صغيرا ، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ، ومعلوم أنّ إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوّة وشوكة.
أمّا أبو بكر فإنّه كان رجلا كبيرا في السنّ ، كبيرا في المنصب ، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوّة وشوكة في الإسلام ، فكان حمل اللفظ على أبي بكر أولى » (١).
فإنّ مزيد الشوكة لا ربط له بالأولوية المذكورة ؛ لأنّ التصديق فرع المعرفة والتقى لا الشوكة ؛ ولذا مدح الله سبحانه من جاء بالصدق وصدّق به : بالتقوى (٢) ، فقال : ( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٣).
ومن المعلوم أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام أقرب إلى المعرفة والتقوى من أبي بكر ، فإنّه لم يعبد صنما قطّ ، خلافا لقومه ، وعبدها أبو بكر مدّة من عمره ؛ وطهّره الله سبحانه من الرجس ، ولم يطهّر أبا بكر ؛ وصلّى مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سبع سنين قبل أبي بكر وغيره (٤).
ولا منافاة بين الصغر وبين المعرفة والكمال ؛ ولذا دعاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الإسلام وهو صبيّ ، فكان أخصّ الناس به وأطوعهم له ، وجعله خليفته ووزيره عند ما جمع عشيرته الأقربين في أوّل البعثة ودعاهم إلى الإسلام (٥) ، كما سيجيء.
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٢٨٠ المسألة الثانية.
(٢) انظر : تفسير الطبري ١١ / ٦.
(٣) سورة الزمر ٣٩ : ٣٣.
(٤) انظر : مسند أحمد ١ / ٩٩ ، المعجم الأوسط ٢ / ٢٤٠ ح ١٧٦٧ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢١ ح ٤٥٨٥.
(٥) انظر : مسند أحمد ١ / ١١١ و ١٥٩ و ٣٣١ ، مسند البزّار ٢ / ١٠٥ ـ ١٠٦ ح ٤٥٦ ، المعجم الأوسط ٣ / ٢٤١ ح ٢٨٣٦.
كما جعل الله يحيى نبيّا وآتاه الحكم صبيّا ، وكذلك عيسى ويوسف وسليمان ، وقد مدح الله الحسنين وهما طفلان بقوله سبحانه : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... * ... وَيَخافُونَ يَوْماً ... * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ... * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ... ) (١) الآيات.
ولو سلّم دخل الشوكة والقوّة والمنصب بأولوية الوصف بالتصديق ، فأيّ قوّة وشوكة لأبي بكر ، وهو من أرذل بيت في قريش ، كما قاله أبو سفيان (٢)؟!
وأيّ منصب له ، وهو كان خيّاطا ومعلّما للصبيان (٣)؟!
فأين هو من أسد الله ورسوله ، وابن سيّد البطحاء ، الذي إن لم يزد الإسلام بنفسه قوّة فباتّصاله بأبيه وتعلّقه به؟!
بل قد عرفت أنّ شهادة الله سبحانه بالتقوى لمن صدّق بالصدق تدلّ على عصمته ، ولا معصوم غير عليّ بالإجماع ، فتتعيّن إرادته بالآية.
* * *
__________________
(١) سورة الإنسان ٧٦ : ٥ و ٧ ـ ٩.
(٢) انظر : الاستيعاب ٣ / ٩٧٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٤٥.
(٣) انظر : الأعلاق النفيسة : ٢١٥ ، كنز العمّال ٤ / ٣٣ ح ٩٣٦٠ ، الصوارم المهرقة : ٣٢٤ ، الصراط المستقيم ٣ / ١٠٤.
٢٠ ـ آية : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ )
قال المصنّف ـ نوّر الله ضريحه ـ (١) :
العشرون : قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) (٢).
عن أبي هريرة ، قال : مكتوب على العرش : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، محمّد عبدي ورسولي ، أيّدته بعليّ بن أبي طالب (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٥.
(٢) سورة الأنفال ٨ : ٦٢.
(٣) انظر : المعجم الكبير ٢٢ / ٢٠٠ ح ٥٢٦ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٧ ضمن رقم ٢٠٢ ، تاريخ بغداد ١١ / ١٧٣ رقم ٥٨٧٦ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٢٣ ـ ٢٢٨ ح ٢٩٩ ـ ٣٠٤ ، الشفا ١ / ١٧٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٦٠ ، كفاية الطالب : ٢٣٤ ، الرياض النضرة ٣ / ١٣١ ، فرائد السمطين ١ / ٢٣٥ ـ ٢٣٧ ح ١٨٣ ـ ١٨٥ ، تهذيب الكمال ٢١ / ١٨٨ رقم ٧٩٢١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٢١ ، الدرّ المنثور ٤ / ١٠٠.
وقال الفضل (١) :
جاء في روايات أهل السنّة ـ ولا شكّ ـ أنّ عليّا من أفاضل المؤمنين ، ومن خلفائهم وأئمّتهم.
ولمّا كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مؤيّدا بالمؤمنين ، كان تأييده بعليّ من باب الأولى ، ولكن لا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ١٩٥.
وأقول :
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج ابن عساكر ، عن أبي هريرة : « مكتوب على العرش : لا إله إلّا أنا وحدي ، لا شريك لي ، محمّد عبدي ورسولي ، أيّدته بعليّ » (١).
ونقل في « كنز العمّال » نحوه ، عن ابن عساكر عن أبي الحمراء ، وعن الطبراني عن أبي الحمراء ، وعن العقيلي عن جابر (٢).
ونقل المصنّف الحديث في « منهاج الكرامة » ، عن أبي نعيم ، عن أبي هريرة ، ثمّ قال أبو هريرة : وذلك قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) يعني بعليّ (٣).
ونقل في « ينابيع المودّة » عن أبي نعيم ، بأسانيده عن أبي هريرة وابن عبّاس وإمامنا الصادق عليهالسلام ، أنّهم قالوا : نزلت هذه الآية في عليّ عليهالسلام ، وأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « رأيت مكتوبا على العرش .... » (٤) الحديث بعينه.
وذكر في « الينابيع » أيضا ، أنّ أبا نعيم روى نحوه عن أنس بن
__________________
(١) الدرّ المنثور ٤ / ١٠٠ ، وانظر : تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٦٠.
(٢) ص ١٥٨ من الجزء السادس [ ١١ / ٦٢٤ ح ٣٣٠٤٠ ـ ٣٣٠٤٢ ]. منه قدسسره.
وانظر : تاريخ دمشق ١٦ / ٤٥٦ ذيل الرقم ١٩٨٩ ، المعجم الكبير ٢٢ / ٢٠٠ ح ٥٢٦ ، الضعفاء الكبير ١ / ٣٣ رقم ١٥ وج ٢ / ٨٦ رقم ٥٤٠.
(٣) منهاج الكرامة : ١٣٤.
وانظر : ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٨٢.
(٤) ينابيع المودّة ١ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ ح ٣.
مالك (١)
فإذا كان أمير المؤمنين عليهالسلام هو المراد ب ( بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الآية ، دلّ على أنّه بمنزلة جميع المؤمنين في الإيمان والتأييد للنبيّ ؛ للتعبير عنه بصيغة الجمع العامّة ، فيكون أفضلهم وإمامهم ، خصوصا مع كتابة اسمه الشريف وتأييده على العرش ..
فقول الفضل : « لا شكّ أنّ عليّا من أفاضل المؤمنين ... » إلى آخره ، ظلم لأمير المؤمنين بجعله من الأفاضل ، والآية والرواية تدلّان على الأفضلية.
كما إنّ قوله : « ولمّا كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مؤيّدا بالمؤمنين ... » إلى آخره ، خلاف مقصود الآية والرواية ، من كونه بمنزلة جميع المؤمنين في التأييد ؛ لأنّه العمدة والمتّبع ؛ ولذا قرنه الله سبحانه بنصره ، وزيّن به عرشه.
ولا ينافي إرادة أمير المؤمنين من ( بِالْمُؤْمِنِينَ ) في الآية ، قوله تعالى بعدها : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ... ) (٢) الآية ؛ وذلك لأنّ الاستخدام (٣)
__________________
(١) ينابيع المودّة ١ / ٢٨٢ ذ ح ٣.
(٢) سور الأنفال ٨ : ٦٣.
(٣) الاستخدام : هو أن يذكر لفظ له معنيان ، فيراد به أحدهما ، ثمّ يراد بالضمير الراجع إلى ذلك اللفظ معناه الآخر ؛ أو يراد بأحد ضميريه أحد معنييه ، ثمّ بالآخر معناه الآخر ..
فالأوّل كقوله :
إذا نزل السماء
بأرض قوم |
|
رعيناه وإن كانوا
غضابا |
أراد بالسماء : الغيث ، وبالضمير الراجع إليه من « رعيناه » : النبت.
والثاني كقوله :
فسقى الغضى
والسّاكنيه وإن هم |
|
شبّوه بين جوانحي
وضلوعي |
باب واسع.
* * *
__________________
ـ أراد بأحد الضميرين الراجعين إلى « الغضى » ـ وهو المجرور في « الساكنيه » ـ : المكان ، وبالآخر ـ وهو المنصوب في « شبّوه » ـ : النار ؛ أي : أوقدوا بين جوانحي نار الغضى ؛ يعني نار الهوى التي تشبه نار الغضى.
والاستخدام الذي عناه الشيخ ١ ، المستعمل في الآية الكريمة ، من القسم الأوّل.
انظر : التعريفات ـ للجرجاني ـ : ٢١ ـ ٢٢.
٢١ ـ آية : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ )
قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :
الحادية والعشرون : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).
روى الجمهور أنّها نزلت في عليّ عليهالسلام (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٥.
(٢) سورة الأنفال ٨ : ٦٤.
(٣) انظر : ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٩٢ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٣٠ ح ٣٠٥ و ٣٠٦.
وقال الفضل (١) :
ظاهر الآية أنّها في كافّة المؤمنين ، ولو صحّ نزوله في عليّ يكون من فضائله ، ولا دلالة لها على النصّ المدّعى.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ١٩٦.
وأقول :
ـ مع أنّ الدليل مفسّر للمراد فيقدّم على الظهور ـ إنّا نمنع ظهورها بما ذكره ، بل ظاهرها الخصوص ؛ إذ ليس كلّ مؤمن متّبعا على الإطلاق ، فتكون « من » للتبعيض لا للبيان.
وحينئذ ، فينبغي إرادة أمير المؤمنين عليهالسلام خاصّة ، حتّى لو لم ترد الرواية بإرادته ؛ إذ لا اتّباع على الإطلاق من غيره.
وحينئذ ، فتدلّ الآية على إمامته ؛ لأنّ الاتّباع المطلق يقتضي العصمة ، وهي شرط الإمامة ، ولا عصمة لغيره بالإجماع.
على أنّ الله سبحانه لمّا قرنه بنفسه المقدّسة ، وأخبر عنه ـ لا غيره من المسلمين ـ بأنّه حسبه ، دلّنا على فضله وامتيازه على كلّ أحد ، فيكون هو الإمام.
والمراد : حسبك الله ناصرا (١) ، وعليّ متّبعا ، فلا تذهب نفسك حسرات على من لم يتّبعك.
ويحتمل ـ كما هو الأقرب ـ أن يكون المراد : إنّهما حسبه في النصرة ، ولا يلزم الشرك كما زعم ابن تيميّة (٢) ؛ لأنّه كقوله تعالى : ( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ... ) (٣) (٤).
__________________
(١) انظر : لسان العرب ٣ / ١٦٣ مادّة « حسب ».
(٢) منهاج السنّة ٧ / ٢٠١ ـ ٢١١.
(٣) سورة التحريم ٦٦ : ٤.
(٤) انظر : تفسير الدرّ المنثور ٨ / ٢٢٤.
وليست نصرة غير الله عزّ وجلّ إلّا بإقداره ، وكون عليّ حسب النبيّ في النصرة ، لا ينافي حاجة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى غيره ، ولا حاجة عليّ عليهالسلام إلى الناصر بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ هو ككون الله حسبه ، أريد به عدم الاعتداد بنصرة غيره ؛ لضعفها ، أو لعدم الخلوص التامّ بها ؛ ولذا فرّ المسلمون عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في عدّة مواطن (١) ، فلا يرد ما أشكله ابن تيميّة ، وقد أساء القول وجاهر بنصبه.
ثمّ إنّ الرواية التي ذكرها المصنّف رحمهالله هنا قد نقلها هو في « منهاج الكرامة » عن أبي نعيم (٢) ، ونقلها غيره ، كصاحب « كشف الغمّة » (٣) ، عن عزّ الدين عبد الرزّاق المحدّث الحنبلي (٤).
__________________
(١) السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ : ٣٣٢ ، المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٢٣٧ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٦٦ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٩ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٢ ، شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٩٣ وج ١٤ / ٢٧٦ وج ١٥ / ١٩ ـ ٢٥ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٣ ، السيرة النبويّة ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٢٤ ، السيرة الحلبية ٢ / ٥٠٤ وج ٣ / ٦٧.
(٢) منهاج الكرامة : ١٣٥ ، وانظر : ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٩٢.
(٣) كشف الغمّة ١ / ٣١٢.
(٤) هو : أبو محمّد عزّ الدين عبد الرزّاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الرّسعني الحنبلي ، ولد برأس عين الخابور سنة ٥٨٩ ، وتوفّي بسنجار سنة ٦٦١ ؛ محدّث ، مفسّر ، فقيه ، متكلّم ، أديب ، شاعر ، سمع الحديث ببلده وببغداد ودمشق وغيرها ، ولي مشيخة دار الحديث بالموصل ، من تصانيفه : رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز ، مقتل الشهيد الحسين ، درّة القاري ، مطالع أنوار التنزيل ومفاتح أسرار التأويل ، مختصر الفرق بين الفرق.
انظر : تذكرة الحفّاظ ٤ / ١٤٥٢ رقم ١١٥٢ ، العبر ٣ / ٣٠٢ ، البداية والنهاية ١٣ / ٢٠٠ ، الذيل على طبقات الحنابلة ٤ / ٢٢٢ رقم ٣٨٦ ، طبقات المفسّرين ـ للسيوطي ـ : ٥٥ رقم ٥٦ ، طبقات المفسّرين ـ للداوودي ـ ١ / ٣٠٠ رقم ٢٧٧ ، شذرات الذهب ٥ / ٣٠٥ ، كشف الظنون ١ / ٤٥٢ و ٧٤٣ و ٩١٣ وج ٢ / ١٧١٥.
٢٢ ـ آية : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ )
قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ (١) :
الثانية والعشرون : قوله تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (٢).
قال الثعلبي : نزلت في عليّ عليهالسلام (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٦.
(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٤.
(٣) عمدة عيون صحاح الأخبار : ٣٥١ ح ٤٩٣ عن الثعلبي ، وانظر : تفسير البحر المحيط ٣ / ٥١١.
وقال الفضل (١) :
ذهب المفسّرون إلى أنّها نزلت في أهل اليمن (٢).
وقيل : لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن هذا القوم ، فضرب بيده على ظهر سلمان فقال : « هذا وقومه » (٣).
والظاهر أنّها كانت نازلة لقوم لم يؤمنوا بعد ؛ لدلالة : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ ) على هذا ، وعليّ كان ممّن آتاه الله من أوّل الإسلام ، فكيف يصحّ نزوله فيه؟!
وإن سلّمنا ، فهو من فضائله ، ولا يدلّ على النصّ المدّعى.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ١٩٩.
(٢) انظر : تفسير الطبري ٤ / ٦٢٤ و ٦٢٥ ح ١٢١٩٨ و ١٢٢٠٠ ـ ١٢٢٠٤ ، تفسير الثعلبي ٤ / ٧٨ ، تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٢٢ ، تفسير البيضاوي ١ / ٢٧١.
(٣) تفسير الثعلبي ٤ / ٧٩ ، تفسير الكشّاف ١ / ٦٢١ ، تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٢٢ ، تفسير البيضاوي ١ / ٢٧١.
وأقول :
ينبغي هنا بيان أمرين :
الأوّل : معنى الارتداد ؛ والظاهر أنّ له معنيين :
حقيقيا : وهو الانقلاب عن الدين بمخالفة بعض أصوله ؛ كالشهادتين عند الجميع ، والإمامة عند الإماميّة.
ومجازيا : وهو مخالفة بعض أحكام الدين المهمّة.
ويحتمل أن يراد بالآية : الأوّل ؛ لأنّه الأصل في الاستعمال .. والثاني ؛ بدعوى القرينة ، بأن يراد بالارتداد تولّي الكافرين والتقاعد عن الجهاد ، بقرينة حكم الآية التي قبلها بأنّ من تولّاهم منهم.
الثاني : مورد نزولها ؛ وقد اختصّت أخبارنا في نزولها بأمير المؤمنين عليهالسلام ، أو المهديّ عجّل الله فرجه (١) ، ولا يبعد إرادتهما معا.
وأمّا روايات القوم ، فقد جاءت بنزولها بعليّ ، كما نقله المصنّف رحمهالله عن الثعلبي (٢) ، وبنزولها في أهل اليمن (٣) ، ونزولها في الفرس (٤) ، وقيل
__________________
(١) تفسير القمّي ١ / ١٧٧ ـ ١٧٨ ، تفسير فرات الكوفي ١ / ١٢٣ ح ١٣٣ ، مجمع البيان ٣ / ٣٤٣ و ٣٤٤.
(٢) منهاج الكرامة : ١٣٥.
(٣) مرّ تخريج ذلك في الصفحة السابقة ه ٢.
(٤) مرّ تخريج ذلك في الصفحة السابقة ه ٣.