الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

وأشمل ما يطلق على المسافر من مكان إلى آخر ، فالرحال صفة مشتقة من الفعل الذي قام به وهو الرحلة.

ورحلات المسلمين منذ بدايتها كانت كاملة. متوفر بها جميع الأسباب والوسائل. فمنهم من رحل لأخذ العلم ، ومنهم من رحل لاكتشاف الأقطار المراد فتحها وهناك رحلات منتظمة ربطت أقطار الدولة الإسلامية بعضها ببعض ، مثل البريد المعروف في الدولة الإسلامية.

وعرفت الدولة الإسلامية نظام الجواسيس لمعرفة خطط المشركين ضدها.

وأول من أوكل له القيام بهذا العمل هو عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنهما ، فقد أمره أبو بكر بالتحري عن أقوال قريش فيه وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهارا ويأتيه بالأخبار ليلا في غار ثور عند هجرتهما إلى المدينة (١).

وكانت الناحية الاقتصادية ذات أهمية في الدولة الإسلامية فرافق نشوءها تنظيمات إدارية تتطلب الرحلة لوصف البلدان المفتوحة ، وتقدير الأموال المفروضة على أهلها من جزية أو خراج (٢) ، ويضاف أيضا رحلات المسلمين التجارية ووصولهم لأماكن لم تكن معروفة لهم سابقا (٣) إلى جانب الرحلة لأداء فريضة الحج وزيارة المسجد النبوي في المدينة المنورة.

ومن خلال رحلات الحج لمعت أسماء بعض من قام بها لتسجيلهم مشاهداتهم بأسلوب جميل وسهل الوضوح لكل مامر بهم منذ خروجهم من مدنهم إلى وصولهم لمكة المكرمة والمدينة المنورة. وشمل الوصف الطرق التي قطعها الرحالة ، والحياة الاجتماعية والعمرانية لكل المدن التي وصلوا إليها.

ومن أمثلة هؤلاء الرحالة ابن جبير ، والقاسم بن يوسف التجيبي السبتي ، وابن بطوطة ، وخالد بن عيسى البلوي.

__________________

(١) ابن هشام : السيرة النبوية ، ج ٢ ، ص ٤٨٥.

(٢) أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ١١.

(٣) المرجع السابق ، ص ١٣.

٤١

رابعا : بداية الرحلات في الإسلام وأشهرها

: ١ ـ رحلة الإسراء والمعراج :

قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١). وأسرى بعبده معناه سير عبده ، وأسريت إذا سرت ليلا (٢).

إن حادثة الإسراء ثابتة متواترة منذ حدوثها. فقد سيره سبحانه وتعالى ، ليلا إلى المسجد الأقصى. وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام ، فهو لا يبلغ إلّا برحلة وراحلة. وقال المفسرون إنما قال ليلا بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء ؛ وإنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزء من الليل. وكانت مسيرة أربعين ليلة (٣). وهذه رحلة كما في سياق الآية لرؤية آيات الله تعالى والوقوف عليها.

٢ ـ رحلة أبي ذر الغفاري لفهم تعاليم وقواعد الإسلام :

من أولى الرحلات في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء وجوده بمكة المكرمة أول مبعثه ، وغرضها معرفة مبادىء الدعوة الإسلامية. وهي رحلة أبي ذر الغفاري إلى مكة المكرمة إبان مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتثبيت مما يدعو إليه (٤).

٣ ـ رحلات لتعليم مبادىء الإسلام وهجرة الصحابة من أرض الشرك :

وهذه الرحلات حدثت في وقت مبكر من الدعوة ، فمنها رحلة مصعب ابن عمير عقب بيعة العقبة الأولى إلى المدينة المنورة مع وفد العقبة ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين (٥).

__________________

(١) القرآن الكريم : سورة الإسراء ، ١٧ / ١.

(٢) ابن منظور : لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٣٨٢.

(٣) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ١ ، ص ٢٠٤ ـ ٢١٢ ؛ الصابوني : صفوة التفاسير ، ج ٢ ، ص ١٥١.

(٤) مسلم : صحيح مسلم بشرح النووي ، ج ١٦ ، ص ٢٧ ـ ٣١ ؛ ابن الأثير : أسد الغابة ، ج ٥ ، ص. ١٠ ـ ١٠١ ؛ ابن حجر : الإصابة ، ج ٤ ، ص ٦٢ ـ ٦٣.

(٥) ابن هشام : السيرة النبوية ، ج ١ ، ص ٤٣٤.

٤٢

وكانت رحلات الصحابة بأمر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترك أرض الشرك عقب معاناتهم من أذى المشركين. فأشار عليهم بالتوجه إلى الحبشة فأستجابوا لذلك فرارا بالدين وخوفا على أنفسهم من الفتنة. وتتابعت هجرة المسلمين إلى الحبشة ؛ فمنهم من خرج بأهله ومنهم من خرج وحيدا. ثم تلتها هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة ، وقد سبقه إليها بعض أصحابه (١). ثم تتابعت البقية لحاقا به.

٤ ـ رحلات تجسس :

وجد هذا النوع من الرحلات منذ بدء الإسلام ، وتنوعت أغراضها أثناء حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنها ما كان بغرض التجسس على الأعداء مثلما حدث في غزوة بدر حين" بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر" (٢).

واستمر هذا النوع من الرحلات الاستكشافية في عهد الخلفاء الراشدين ومن تلاهم من الخلفاء ومثال ذلك. ما حدث في معركة القادسية حيث بعث سعد كاشفا إلى الحيرة (٣) ، فأتاه الخبر بأن الملك قد أمّر على الحرب رستم ابن الفرخزاد الأرمني وأمده بالعسكر (٤).

٥ ـ رحلات الوفود لاعتناق الإسلام :

بعد استقرار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة المنورة وانتشار دعوته بين القبائل العربية ، قدمت عليه الوفود راغبة في اعتناق الإسلام. ومنها وفد عبد القيس حيث أرشدهم لتعاليم الدين الإسلامي الصحيح وكانوا يجدون المشقة في القدوم

__________________

(١) ابن هشام : السيرة النبوية ، ج ١ ، ص ٣٣٢ ـ ٣٢٣ ، ٤٦٨ ، ٤٨٥.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٦١٦.

(٣) (الحيرة) مدينة تبعد ثلاثة أميال عن الكوفة على موضع يقال له النجف وبالحيرة الخورنق بقرب منها مما يلي الشرق على نحو ميل والسدير وسط البرية التي بينها وبين الشام وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من زمن نصر ثم من لخم النعمان وآبائه. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٣٢٨.

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ، ج ٧ ، ص ٣٧.

٤٣

عليه لحيلولة قوم من الكفار بين ديارهم والمدينة ، فأجابهم إلى ما سألوه في الشئون الدينية ليكونوا دعاة الدين الإسلامي لقبيلتهم والقبائل المجاورة لهم. (١) ومنهم من يأتي وحيدا ويكون سببا في إسلام قومه مثل ضمام بن ثعلبة (٢).

٦ ـ رحلات الرسل لتبليغ الدعوة الإسلامية :

بعد إرساء قواعد الدولة الإسلامية وقع عبء تبليغ الدعوة للجهات النائية على الرسل الذين انطلقوا لنشر تعاليم الإسلام. ومنهم معاذ بن جبل الذي توجه بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن (٣).

وقد أحسن الرسل أداء مهمتهم على أكمل وجه ، وخاصة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرشدهم إلى الطرق الصحيحة لذلك.

٧ ـ رحلات لفهم أحكام الشريعة :

بعد فتح مكة المكرمة وجد نوع جديد من الرحلات للاستعلام عن بعض أحكام الشريعة الإسلامية ومراجعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك مثل رحيل عقبة ابن الحارث إلى المدينة للاستعلام عن حكم الرضاعة (٤) ، ونلاحظ من أمثلة الرحلات التي قامت في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إما لتبليغ دعوة الإسلام إلى مناطق لم يصلها ، وإما لمعرفة تعاليم الدين الجديد ، أو للتجسس ، وإما لمعرفة حكم من أحكام الإسلام.

٨ ـ الرحلة لمراجعة الأحاديث النبوية :

عقب وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تنقطع الرحلات نظرا لتفرق الصحابة في البلدان المفتوحة واستقرارهم بها. فكثرت أسفار بعضهم للبعض الآخر لمراجعة الأحاديث النبوية خشية نسيانها وحفاظا عليها. ومن أمثلة هذه الرحلات رحلة

__________________

(١) مسلم : صحيح مسلم ، ج ١ ، ص ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٢) البخاري : صحيح البخاري بحاشية السندي ، ج ١ ، ص ٢٢ ؛ ابن الأثير : أسد الغابة ، ج ٢ ، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ؛ ابن حجر : الإصابة ، ج ٢ ، ص ٢١٠ ـ ٢١١.

(٣) ابن هشام : السيرة النبوية ، ج ٤ ، ص ٥٩٠.

(٤) البخاري : صحيح البخاري بحاشية السندي ، ج ١ ، ص ٢٨.

٤٤

جابر بن عبد الله لعبد الله بن أنيس ، ورحلة أبي أيوب لعقبة بن عامر (١).

ويمكننا أن نعزو كثرة الرحلات العلمية في ذلك الوقت إلى عدم تدوين الحديث الذي لم يتم تدوينه بصورة رسمية في مصنفاته إلا في النصف الأول من القرن الثاني الهجري (٢).

وقد رحل التابعيون أيضا لطلب الحديث الواحد ؛ بل وحتى لضبط حرف منه (٣).

ومن فوائد رحلات طلاب الحديث وتنقلاتهم بين الأقطار الإسلامية الاطلاع على الروايات المتعددة أحيانا للحديث الواحد. ومن هذا ما حدث عند ما قدم البخاري للبصرة فطلبوا منه أن يعقد لهم مجلسا للإملاء فأجابهم وحدد لهم موعد المجلس الذي حضره جمع غفير من الفقهاء والمحدثين والحفاظ والنظار. حدثهم فيه بأحاديث ليست عندهم بالأسانيد التي ذكرها (٤).

ومن فوائد الرحلات ما يقام من مناظرات. والامتحانات التي تعقد لاختبار كفاءة وعلم العلماء. ومنها على سبيل المثال ما حدث للإمام البخاري في بغداد حيث اجتمع العلماء لامتحان علمه وحفظه ، وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لآخر ودفعوها لعشرة أشخاص لإلقائها على البخاري. وبعد إلقاء كل شخص بما عهد إليه من أحاديث ، وهو لا يزيد على قوله بعد سماع كل حديث لا أعرفه. وكان العلماء الذين حضروا المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون فهم الرجل ومن لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ وبعد انتهاء إلقاء الأحاديث المائة ، أعاد البخاري تصحيحها. فأقر له الناس

__________________

(١) ابن عبد البر : جامع بيان العلم ، ج ١ ، ص ١١١ ـ ١١٢ ؛ محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ص ١٧٧.

(٢) محمد عجاج الخطيب : السنة قبل التدوين ، ص ٣٣٧.

(٣) ابن عبد البر : جامع بيان العلم ، ج ١ ، ص ١١٣.

(٤) البغدادي : تاريخ بغداد ، ج ٢ ، ص ١٥ ـ ١٦ ؛ الذهبي : سير أعلام النبلاء ، ج ١٢ ، ص ٤٠٩ ، ٤١٠ ؛ ابن حجر : هدية الساري ، ص ٤٨٧ ، المقدمة.

٤٥

بالحفظ ، وأذعنوا له بالفضل ، خاصة وأنه صححها على الترتيب الذي سمعه (١).

وأدى انتشار العلماء إلى تعدد المراكز العلمية ، والتي أسهمت بدورها في النشاط العلمي على أيدي العلماء الموجودين بها أو العلماء المتنقلين بينها الحريصين على الاستزادة ونشر العلم بين الناس. ومثال ذلك تنقلات البخاري بين الأمصار الإسلامية فكانت أولى رحلاته سنة ٢١٠ ه‍ / ٨٢٥ م لطلب الحديث والحج (٢). وقال البخاري عن نفسه معبرا عن رحلاته الكثيرة قائلا : " دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين ، وإلى البصرة أربع مرات ، وأقمت بالحجاز ستة أعوام ، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع المحدثين" (٣).

٩ ـ رحلات التجار :

لم تكن رحلات المسلمين مقتصرة على الناحية العلمية التي حظيت بالنصيب الوافر ؛ بل كان للتجارة دور كبير ، وخاصة أن أساطيل المسلمين التجارية أخذت تجوب جميع البحار ، فليست رحلاتها قاصرة على المناطق الإسلامية ؛ بل وصلت إلى مناطق شاسعة في الهند والصين والبلدان الأوربية وغدا المسلمون بفضل نشاطهم البحري ذوي شهرة كبيرة وأصحاب ثروات هائلة (٤).

وقد أسهمت رحلات التجار إلى تلك المناطق النائية في معرفة الكثير من أحوالها. ومن أشهر التجار في هذا المجال سليمان السيرافي ، وابن وهب القرشي. وقد أفاض المسعودي في سرد رحلة ابن وهب القرشي التي نقلها عن أبي زيد الحسن السيرافي (٥).

__________________

(١) البغدادي : تاريخ بغداد ، ج ٢ ، ص ٢٠ ـ ٢١ ؛ الذهبي : سير أعلام النبلاء ، ١٢ ، ص ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) ابن حجر : هداية الساري ، ص ٤٨٦ ، المقدمة.

(٣) المصدر السابق ، ص ٤٧٨ ، المقدمة.

(٤) محمد محمود الصياد : رحلة ابن بطوطة ، ص ٧ ـ ٨.

(٥) المسعودي : مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١٤٤.

٤٦

ومع الأسف لم يكن شائعا في ذلك الوقت تدوين تلك المعلومات في كتب معروفة ؛ بل عرفت عن طريق أصدقاء الرحالة من معاصريه ، أو من خلال الأجيال التي تناقلتها بعد ذلك. وقد شكلت تلك المعلومات مادة علمية غزيرة استطاع المؤرخون الأوائل الاستفادة منها في كتاباتهم عن تلك البلدان سواء في النواحي السياسية أو الحضارية. وللدلالة على ذلك ما أورده المسعودي من خبر رحلة أحد تجار سمرقند إلى الصين ، وما لحقه من ظلم في مدينة خانقوا (١) من جابي الضرائب فما كان منه إلا أن رفع مظلمته إلى ملك الصين فأنصفه (٢).

تبع تلك الخطوة من قبل التجار ، قيام نوع جديد من الرحلات. وهي الرحلات الجغرافية لوصف الطرق المؤدية إلى البلدان المفتوحة. ووصف أحوالها حيث اقتضت مصلحة الدولة ذلك (٣). فقدموا وصفا جغرافيا دقيقا لها.

ومن أمثلة هؤلاء ابن خرداذبه الذي تولى منصب صاحب البريد في الدولة العباسية (٤).

وقد اعتمد الجغرافيون في تصانيفهم على الوصف والمشاهدة والملاحظة.

فنمت معارفهم الجغرافية ، وأصبحت مؤلفاتهم ذات أهمية كبيرة ؛ مما حدا بالخلفاء تكليف عمال اقتصرت مهمتهم على كتابة التقارير الجغرافية عن الأمصار المفتوحة (٥).

__________________

(١) (خانقوا) مدينة على نهر عظيم أكبر من دجلة يصب في بحر الصين. وتبعد هذه المدينة عن البحر مسيرة ستة أيام أو سبعة. ويدخل إلى هذا النهر سفن التجار الواردة من بلاد البصرة وسيراف وعمان ومدن الهند وجزائر الزابج والصنف وغيرها من الممالك ؛ بالأمتعة والجهاز. وبالمدينة خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس وغير ذلك من أهل الصين. انظر المسعودي : مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١٣٨.

(٢) المصدر السابق والجزء ، ص ١٤٠ ـ ١٤٢.

(٣) عبد الرحمن حميدة : أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم ، ص ٤١.

(٤) كراتشكوفسكي : تاريخ الأدب الجغرافي العربي ، ج ١ ، ص ١٥٦.

(٥) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٨٦.

٤٧

بالإضافة إلى ما سبق يبدو أنه قد توفرت لدى المسلمين الكثير من المعلومات عن الأقطار المراد فتحها. ومثال ذلك ما رواه اليعقوبي عن طلب عمرو بن العاص فتح مصر من الخليفة عمر بن الخطاب وترغيبه في ذلك بقوله : «يا أمير المؤمنين تأذن لي أن أصير إلى مصر فإنا إن فتحناها كانت للمسلمين وهي من أكثر الأرض أموالا ، وأعجزه عن القتال» (١).

ونرى هنا أن عمرا بن العاص كان يعرف الشيء الكثير عن مصر وربما كان هذا بسبب اشتغاله بالتجارة قبل الإسلام ؛ ولذلك شجع الخليفة على فتحها وضمها لبلاد الإسلام.

بالإضافة إلى علم حكام الدولة الإسلامية بالبلدان المراد فتحها. فقد أرسل عمر بن الخطاب رسالة إلى سعد بن أبي وقاص يأمره فيها أن يصف له منازل المسلمين قبل معركة القادسية كأنه ينظر إلى أرض المعركة" (٢).

وربما يمكننا إرجاع العناية بالأقاليم ووصفها إلى بداية التأليف لأخبار الفتح والمغازي. يضاف إليه أن اتساع الدولة الإسلامية تطلب الوصف والدراسة ؛ تمهيدا لتطبيق أحكام الشريعة ؛ وتسهيلا لمهمة الولاة (٣).

ومما سبق يتضح لنا اختلاف أغراض الرحلة والارتحال. والتي في جملتها أفرزت لنا أدبا مميزا يمكن أن نطلق عليه أدب الرحلة. ولا شك أن أمتع كتب الرحلات وأرفعها قيمة علمية وأدبية : هي تلك التي قام أصحابها بتأليفها بسبب خروجهم للحج أو طلب العلم أو الاثنين معا." فكانت حواضر العالم الإسلامي مراكز علم وإشعاع ، خاصة مكة المكرمة والمدينة المنورة. فكان العلماء يقصدونهما بغية التزود بالعلم والمعرفة يفد إليهما الوافد من أقصى المشرق أو المغرب فيلتقي بعالم آخر من بلاد بعيدة عن بلاده فيحصل من هذا الالتقاء

__________________

(١) اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج ٢ ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) الطبري : تاريخ الأمم والملوك ، ج ٤ ، ص ٩٠.

(٣) أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ١٠ ـ ١١.

٤٨

تقارب وتفاهم واستزادة علم وامتداد المعرفة وانتشار الأفكار بين مختلف الأقطار الإسلامية" (١).

ولقد كان للخلفاء دور كبير في بروز رحلات لها طابع خاص ؛ ولعل أشهرها رحلة سلام الترجمان (٢).

رحلة سلام الترجمان :

نالت رحلة سلام الترجمان انتشارا وشهرة واسعة. حيث نجد الجغرافيين المسلمين يصفونها بالأخبار المشهورة (٣) أو مشهور الأخبار (٤) مما يدل على انتشارها ولكن ؛ بالرغم من شهرتها إلا أنها عرضة للشك المتركز على ما ورد فيها من أخبار حتى أن من تطرق لذكرها من المؤرخين الجغرافيين كانوا على حذر شديد في الإشارة إليها حتى أن ابن خرداذبه معاصر سلام الترجمان في حديثه عن الرحلة قال : إنه سمعها أولا من سلام ثم نقلها من الكتاب الذي كتبه سلام للواثق بالله (٥) زيادة في الاستيثاق مما ورد فيها.

وقد نقل ابن رستة قول ابن خرداذبه حول الرحلة فقال" : فحدثني سلام الترجمان بجملة هذا الخبر ثم أملاه علي من كتاب كان كتبه بذلك إلى الواثق وكتبناه نحن لنقف على ما فيه من التخليط والتزييد لأن مثل هذا لا يقبل صحته فوجدته موافقا" (٦).

__________________

(١) الدرعي : ملخص رحلتي ابن عبد السلام الدرعي المغربي ، ص ١١ ـ ١٢.

(٢) سلام الترجمان يجيد عدة لغات وربما كان يعمل في ديوان الترجمة. أنظر ابن خرداذبه : المسالك والممالك ، ص ١٦٣.

(٣) القزويني : آثار البلاد وأخبار العباد ، ص ٥٩٧.

(٤) ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ١٩٩.

(٥) هارون الواثق بالله ابن محمد المعتصم بالله ابن هارون الرشيد العباسي أبو جعفر من خلفاء الدولة العباسية بالعراق ولد ببغداد وولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٢٢٧ ه‍ / ٨٤١ م وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة. انظر ابن خرداذبه : المسالك والممالك ، ص ١٦٢ ـ ١٧٠ ؛ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ، ج ١٤ ، ص ١٥ ـ ٢٠.

(٦) ابن رستة : الأعلاق النفيسة ، ج ٧ ، ص ١٤٩.

٤٩

كما أن ياقوت الحموي بعد أن سرد رحلة سلام قال" : قد كتبت من خبر السد ما وجدته في الكتب ولست أقطع بصحة ما أوردته لاختلاف الروايات فيه والله أعلم بصحته فليس من صحة أمر السد ريب وقد جاء ذكره في الكتاب العزيز" (١).

ولا ريب أن كثرة الروايات واختلافها جعلها مثار شك لدى ياقوت. وإن كان ما أورده عن رحلة سلام موافقا في معظمه لما ذكره ابن خرداذبه.

ومجمل الرحلة كما أوردها ابن خرداذبه أن الخليفة الواثق رأى في منامه كأنّ السد الذي يحجز يأجوج ومأجوج قد انفتح. ووقع اختياره على سلام الترجمان كرجل يصلح لمهمة الاستطلاع فهو كما يقال : " يتكلم بثلاثين لسانا" فجهزه بكل ما يحتاجه وأمره بالخروج بعد أن زوده بكتب توصية لكل الملوك والأمراء الذين تقع مماليكهم في طريقه لتسهيل مهمته. وقد وصف سلام جميع ما مر به في رحلته إلى أن وصل إلى مكان السد وأتم مهمته وتأكد أن السد لا يزال سليما ، فعاد إلى سر من رأى. وكان من وقت خروجه إلى وقت عودته ثمانية عشر شهرا (٢).

وقد حفل وصف سلام بالكثير من الغرائب التي اختلط بها الكثير من الأساطير المنتشرة هناك ، وأوردها على أنها حقيقة مما جعلها مثار شك كبير لدى من تعرض لذكرها. ولكن مجيء ذكر الرحلة بألفاظ سلام في كتاب ابن خرداذبه يوحي بأن الرحلة قد حصلت فعلا لاعتماده على ما ورد في الكتاب المقدم للواثق بالله.

__________________

(١) ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٢٠٠.

(٢) ابن خرداذبه : المسالك والممالك ، ص ١٦٢ ـ ١٦٩ ؛ القزويني : آثار البلاد وأخبار العباد ، ص ٥٩٧ ـ ٥٩٩ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٠ ؛ زكي محمد حسن : الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ، ص ١٥ ـ ١٨ ؛ على محسن عيسى مال الله : أدب الرحالة عند العرب في المشرق ، ص ٣١ ـ ٣٤ ؛ أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ٣٨ ـ ٤٠.

٥٠

وكما كان للمؤرخين وجهة نظر في هذه الرحلة ، فقد حفلت كتابات المؤلفين المحدثين أيضا بالعديد من الآراء حولها. فمن ذلك ما أورده كراتشكوفسكي KRACHOVSKI من آراء : منها المعارض في حدوثها أصلا ، ومنها المؤيد لحدوثها. فمن المعترضين اشبرنجرSPRENGER الذي اعتبرها عام ١٢٨١ ه‍ / ١٨٦٤ ه‍ أنها تضليل مقصود. وايده في موقفه غريفوريف GRIGORIEV وميتورسكى MINORSKY فيما بعد ١٣٥٦ ه‍ / ١٩٣٧ م. وأضاف الأخير أنها مجموعة حكايات خرافية انتثرت فيها بضع أسماء جغرافية.

أما من أيد حدوثها فهودي خويه DEGEJE عام ١٣٠٦ ه‍ / ١٨٨٨ م وتوماشك TOMASCHEK ). ولا يستبعد أن يكون السبب الحقيقي للرحلة ليس الحلم كما زعم الرواة وإنما اتخذ الحلم ذريعة لغرض سياسي دل عليه اهتمام ملوك وأمراء تلك المناطق بكتب التوصية التي كان يحملها سلام من قبل الخليفة لتسهيل مهمته (٢). والتي دلت على مدى اتساع سلطة الخليفة.

ولا شك أن وجود السد حقيقة مسلم بها لورود ذكره بالقرآن الكريم سواء وصل سلام فعلا إلى السد أم لم يصل ، فالذى يعنينا هنا اهتمام خلفاء المسلمين بأمر الرحلات لاكتشاف المناطق المجهولة من العالم ؛ وخاصة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ، وصرف الأموال اللازمة في سبيل المعرفة.

كما أن قيام مثل هذه الرحلات يدل على ارتفاع شأن الخليفة العباسي ، واتساع سلطته وهيمنته على الأماكن التي مر بها سلام وتعاون الملوك والأمراء على تسهيل مهمته.

وهناك نوع آخر من الرحلات تم تحت رعاية الخلفاء. وهي رحلات البعوث ، ومنها رحلة ابن فضلان (٣).

__________________

(١) كراتشكوفسكي : تاريخ الأدب الجغرافي العربي ، ج ١ ، ص ١٤١.

(٢) على محسن عيسى مال الله : أدب الرحلة عند العرب في المشرق ، ص ٣١.

(٣) أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان رسول المقتدر بالله إلى مالك الصقالبة ، انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٨٦.

٥١

رحلة ابن فضلان :

ويبدو أن سبب هذه الرحلة هو رغبة ملك الصقالبة (١) وقومه في فهم التعاليم الإسلامية الصحيحة. فبعث إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله (٢) طالبا انتداب بعض من رجاله لتلك المهمة إلى جانب العناية بتشييد مسجد ومنبر وحصن يمتنع به ضد أعدائه المشركين (٣). فلبى الخليفة العباسي دعوته وبعث إليه بعثة عباسية كان من ضمنها ابن فضلان الذى أحسن القيام بالمهمة الموكلة إليه على أكمل وجه (٤).

ومما يدل على ما للخليفة من مكانة روحية لدى الملوك ، طلب ملك الصقالبة منه بناء مسجد وإقامة منبر للدعوة وتشييد حصن لحمايته من أعدائه مع تزويده ببعض الأدوية (٥).

ولم تسعفنا المصادر بالكثير من المعلومات عن الأحوال السياسية لتلك المملكة ، وإن كان ابن فضلان قد أشار إلى طرف من ذلك ذاكرا أن اليهود كانوا يشكلون خطرا عليهم ويثقلون كاهل الشعب بالضرائب الباهظة مع إلزام الأمراء والملوك المسلمين بتزويج بناتهم لأبناء اليهود (٦).

__________________

(١) (الصقالبة) بلاد بين البلغار والقسطنطينية وهم أجناس مختلفة ولهم ملوك فمنهم من ينقاد إلى دين النصرانية اليعقوبية ومنهم من لا كتاب له ولا شريعة وهم جاهلون وفي بلاد الخزر صنف كثير منهم ومن ملوك الصقالبة ملك الفرنج ويليه في المكانة ملك الترك وكانوا قبلا ينقادون جميعا لملك واحد وعند ما اختلفت كلمتهم صار كل ملك برأيه. انظر المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ٤١٦.

(٢) جعفر بن أحمد بن طلحه أبو الفضل المقتدر بالله ابن المعتضد ابن الموفق خليفة عباسي ولد ببغداد سنة ٢٨٢ ه‍ / ٨٩٤ م وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه المكتفي سنة ٢٩٥ ه‍ / ٩٠٧ م فأستصغره الناس وخلعوه سنة ٢٩٦ ه‍ / ٩٠٨ م ونصبوا عبد الله بن المعتز ثم قتلوه وأعادوا المقتدر بعد يومين وطالت أيامه وكثرت فيها الفتن وخلع مرة ثانية وبايعوا القاهر ثم أعادوه وكان ضعيفا مبذرا أستولى على الملك في عهده خدمه ونساؤه وخاصته وفي أيامه خلع أبو طاهر القرمطي الحجر الأسود وقتل المقتدر في ثورة سنة ٣٢٠ ه‍ / ٩٣٢ م. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٧٢.

(٣) أحمد بن فضلان : رحلة ابن فضلان في وصف بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة سنة ٢٠٩ ه‍ / ٩٢١ م ، ص ٦٧ ـ ٦٨ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٨٦.

(٤) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ٦٧ ـ ٦٨.

(٥) المصدر السابق والصفحة.

(٦) المصدر السابق ، ص ١٤٥ ؛ عبد الرحمن حميدة : أعلام الجغرافيين العرب ، ص ١٩٩.

٥٢

«وكان خروج هذه البعثة من بغداد يوم الخميس إحدى عشر من شهر صفر / واحد وعشرين حزيران سنة ٣٠٩ ه‍ / ٩٢١ م ووصلت إلى بلغار في ثمانية عشر محرم / أثنا عشر أيار سنة ٣١٠ ه‍ / ٩٢٢ م» (١).

ومنذ خروج الرحلة نجد أن ابن فضلان كان يسجل انطباعاته ومشاهداته ساعة بساعة ، في أسلوب سهل مفهوم تطرق فيها إلى الأحوال السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية. ولم يقتصر وصفه على مملكة الصقالبة ؛ بل تعداه إلى جميع ما مر به. فمن ذلك وصفه لأهل خوارزم (٢) حيث وصفهم بأنهم أوحش الناس كلاما ، وشبهه بنقيق الضفادع. واستنكر تبرأهم من علي ابن أبي طالب مع ملاحظته لظاهرة النقود المزيفة فيها (٣).

وقد صادف وقت رحلة ابن فضلان فصل الشتاء في تلك الأماكن. حيث أشار إلى ما تميزت به من برودة شديدة وريح قوية. بالإضافة إلى تجمد الأنهار ومنها نهر جيحون (٤). وقيام أهل خوارزم بالحفر فيه لاستخراج حاجتهم من الماء (٥).

__________________

(١) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ٢٥ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٨٦ ؛ عبد الرحمن حميدة : أعلام الجغرافيين العرب ، ص ٢٠٠ ؛ علي محسن مال الله : أدب الرحلة عند العرب في المشرق ، ص ٨٤ ؛ زكي محمد حسن : الرحالة المسلمون في العصور الوسطي ، ص ٢٧ ؛ أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ٤٥.

(٢) (خوارزم) اسم للناحية بجملتها وقصبتها جرجانية وهي ولاية عامرة تميزت بشتاء شديد البرودة يؤدى إلى تجمد نهر جيحون وصف أهلها بعدم اهتمامهم بالنظافة وابنيتها مشيدة من الخشب واللبن ومن صفات أهلها الجسمية الطول والضخامة وعرض الرأس وإتساع الجبهة مدحهم ياقوت بالذكاء والعلم والغنى ورخاء المعيشة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٨.

(٣) كان رئيس البعثة سوسن الرسى مولى نذير الحرمي بالإضافة إلى أعضاء أخرين منهم تكين التركي ويبدو من اسمه أنه كان دليلهم في أرض الترك لمعرفته باللسان التركي ومعهم أيضا بارس الصقلاب ويبدو أن أصله من بلاد الصقالبة أما من أوصل رسالة ملك الصقالبة إلى المقتدر بالله فهو عبد الله ابن باشتو الخزرجي. أنظر ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ٦٧ ـ ٦٨ ، ٨٢.

(٤) (جيحون) أصل الاسم بالفارسية هرون وهو اسم وادي خراسان الواقع في وسط مدينة جيهان فنسب إليها وقيل جيجون وينبع من ريوساران جبل بناحية السند والهند وكابل. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٥) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ٨٣ ـ ٨٥.

٥٣

وتطرق ابن فضلان لوصف عادات أهل خوارزم في الكرم وحسن الضيافة وإيواء الأغراب ، خصوصا في أوقات الشتاء ومساعدة المحتاجين بايوائهم وتدفئتهم وإطعامهم. وهو أمر شائع في القرى. كما تميزت طرقاتها بتجمدها شتاء وعقب انتهائه يصيبها الوحل ويتعذر السير فيها (١).

وتناولت الرحلة أيضا وصف قطر آخر من بلاد الترك وهي باشغرد (٢) فقال : بأنهم شر الأتراك وأقذرهم وأشدهم إقداما على القتل مما يستوجب الحذر منهم. كما تميزوا بأكلهم للقمل. وأما آلهتهم فمتعددة : منها الحيات والأسماك والكراكى (٣). وقد استغرب ابن فضلان من عبادتهم له ، فلما استفسر عن ذلك قيل أن هذا الطائر كان سببا في انتصارهم ضد أعدائهم في إحدى المعارك مما جعله موضع التقدير والعبادة لديهم.

وحرص ابن فضلان في رحلته هذه على تدوين كل ما مر به ، وخاصة استقبال البعثة العباسية والنواب المكلفين بذلك. في حين قام ملك الصقالبة بلقائهم خارج المدينة على بعد فرسخين (٤) منها (٥).

وقد نقل إلينا ابن فضلان صورة لما كان عليه مجلس ملك الصقالبة ، حيث كان الملك يتصدر المجلس وإلى جواره زوجته ثم الملوك والأمراء عن يمينه وأولاده بين يديه. وعند ما حانت ساعة الطعام خصت مائدة لكل شخص احتوت على اللحم المشوى. أما شرابهم عقب الأكل فهو العسل. ومن عادة حضور مجلس الملك خلع قلنسواتهم من فوق رؤوسهم ، كما امتدت هذه العادة إلى العامة أيضا عند مشاهدتهم له.

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٨٣ ـ ٨٥.

(٢) (باشغرد) تنطق بالغين والقاف وهي بين القسطنطينية وبلغار وقد ذكر رجل من أهلها لياقوت عند ما سأله عن المسافة بين بغداد وبينها قال من هنا إلى القسطنطينية شهرين ونصف ومن القسطنطينية نحو ذلك وهم يعبدون آلهة شتى. أنظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٣) (الكركي) نوع من الطيور والجمع كراكي. انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ١٠ ، ص ٤٨١.

(٤) (الفرسخ) : يساوى ثلاثة أميال ـ ١٨٤٠ مترا والميل ٦١٥ مترا. انظر أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ٦٠ ـ ٦١ ، هامش ١.

(٥) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ١٠٨ ـ ١٠٩ ، ١١٣.

٥٤

وقد أسهم ابن فضلان في حث أهل تلك المناطق على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ؛ وتمثل ذلك في محاولته القضاء على عادة اختلاط العامة من رجال ونساء عند الاستحمام في الأنهار ، كما نهى عن إقامة الدعوة على المنابر للملك بقولهم" اللهم أصلح الملك بلطوار ملك البلغار" إذ الملك هو الله ولا يجوز الدعوة به لأحد على المنابر فانصاع حاكم البلغار لذلك وأطلق على نفسه اسم جعفر تيمنا باسم الخليفة العباسي المقتدر بالله (١).

ويدل تسمي ملك البلغار بجعفر تقليدا لاسم الخليفة المقتدر بالله على نظرة الإكبار والإجلال للخليفة العباسي وتأكيد على اعتناقه الإسلام عن اقتناع وفهم لكل ما يتعلق به. ومما يدل على ذلك ما رواه ابن فضلان عن لسان ملك الصقالبة عند سؤاله عن سبب طلباته من الخليفة العباسي مع ما عليه مملكته من الاتساع وكثرة الأموال فقال" رأيت دولة الإسلام مقبلة وأموالهم يؤخذ من حلها فالتمست ذلك لهذه العلة ولو أني نويت أن أبني حصنا من أموالي من فضة أو ذهب لما تعذر ذلك علي وإنما تبركت بمال أمير المؤمنين فسألته ذلك" (٢) ومن مميزات الحياة الاجتماعية في بلاد البلغار عدم وجود ظاهرة الزنى أو السرقة ففاعلها عقابه الموت (٣). أما عاداتهم في الزواج فالمشهور عندهم هو خروج البنات الأبكار حاسرات الرأس ومن كانت له رغبة في إحداهن ألقى على رأسها خمارا ولا يمنع منها ، وقد يتزوج الشخص الواحد أكثر من عشرين امرأة (٤).

وقد حفلت الرحلة بوصف دقيق لمظاهر الدفن ومنها مراسيم دفن زعيم روسي ، وعلى ضوء ذلك استطاع أحد رسامي القرن التاسع عشر رسم صورة حية لتلك المظاهر اعتمادا على وصف ابن فضلان (٥) كما تطرق أيضا للناحية

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١١٥ ـ ١١٨ ، ١٣١ ، ١٣٤.

(٢) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ١٤٦.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٥٥.

(٤) القزويني : أثار البلاد وأخبار العباد ، ص ٦١٦.

(٥) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ١٥٧ ـ ١٦٣ ؛ أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ٤٦ ـ ٤٧ ؛ زكي محمد حسن : الرحالة المسلمون في العصور الوسطي ، ص ٣٠ ـ ٣١.

٥٥

الاقصادية هناك وقال : إن قوام تجارتهم جلد السمور (١) وإن لديهم الكثير منه وهو يعيش في النهر. كما اشتهرت بلادهم بكثرة نوع معين من الزواحف وهو الحيات (٢).

وتميزت بلاد البلغار بكثرة الصواعق ، فأدت لوجود بعض الخرافات تتمثل في أنه إذا وقعت صاعقة على منزل أحدهم تركوا المنزل ولم يقربوا منه حتى يتلف مع الزمن. ويعللون ذلك بأنه موضع مغضوب عليه (٣).

إن رحلة ابن فضلان كانت تسجيلا حيا لما كان عليه أهل تلك المملكة في جميع نواحي حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية. وهي بذلك وصف متكامل ولم يعتمد فيه على الذاكرة.

بالإضافة إلى أن أسلوبه في الوصف مترابط سهل مفهوم ويمكن أن يعد من النثر العلمي. ويمكن أن يقال عنها أيضا رسالة رائدة في أدب الرحلات (٤).

وهي بهذا تقرب من خصائص كتابات الرحالة المغاربة والأندلسيين في نواح كثيرة.

وهناك نوع آخر من الرحلات كان الدافع لها شخصي وهو حب الترحال مثل رحلة ابن وهب القرشي.

رحلة ابن وهب القرشي إلى الصين :

كل ما نعرفه عن ابن وهب القرشي أنه من أصحاب الجاه والثروة من ولد

__________________

(١) (السمور) دابه معروفة تصنع من جلودها فراء غالية الثمن وهو حيوان يكثر في بلاد الروس وراء الترك يشبه النمس ومنه أسود لا مع وأشقر. أنظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٣٨٠.

(٢) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ١٢٧ ؛ القزويني : آثار البلاد وأخبار العباد ، ص ٦١٦ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٨٨.

(٣) ابن فضلان : رحلة ابن فضلان ، ص ١٢٧ ، ١٣٢.

(٤) على محسن عيسى مال الله : أدب الرحلة عند العرب في المشرق ، ص ١٠٧.

٥٦

هبار بن الأسود (١). وكان خروجه إلى الصين في أيام ثورة صاحب الزنج (٢) بالبصرة.

ومما ورد في فحوى رحلة ابن وهب القرشي إلى الصين وجود المسلمين بها وحسن معاملتهم وسعة علم ملك الصين بأحوال الممالك والبلدان الأخرى في ذلك الوقت. وقد وصلت إلينا رحلة ابن وهب القرشي عن طريق قصاص هو أبو زيد حسن ويظهر أنه كان مغرما بجمع القصص والحكايات الغريبة من المسافرين ؛ فابن وهب لم يدون رحلته وإنما حفظت لنا برواية أبي زيد حسن التي رواها عنه المسعودي (٣). وقد ذكر المسعودي اتصال ابن وهب بملك الصين وإنعامه عليه ورؤيته لصور الأنبياء السابقين وخاصة" صورة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جمل وأصحابه محدقون به في أرجلهم نعال عربية من جلود الإبل وفي أوساطهم الحبال قد علقوا فيها المساويك" (٤).

والواقع أن هذا الأمر غير مقبول من الناحية العلمية. ويمكن تعليل ذلك بأن تكون هذه الرقاع مكتوب عليها صفات الأنبياء ، وصفة أقوامهم ، ولمن أرسلوا ، فزيدت عليها بعض الروايات ، خاصة وأن صاحب الرحلة لم يدون رحلته.

كما نجد أن الأمر كان موضع شك لدى المسعودي نفسه. فقد ذكر في بدايه كلامه عن مشاهدة ابن وهب لصور الأنبياء بقوله : " ويزعم هذا القرشي"

__________________

(١) هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي القرشي أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه وصحب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر أبن الأثير : أسد الغابة ، ج ٤ ، ص ٦٠٨.

(٢) يدعى صاحب الزنج إنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب وهو نسب غير صحيح استمال قلوب العبيد من الزنج بالبصرة ونواحيها فاجتمع إليه منهم خلق كثير وعظم شأنه فعاث فسادا بالبلاد العراقية والبحرين وهجر ودامت الحرب بينه وبين الدولة العباسية سنين كثيرة إلى أن تغلب عليه الجيش العباسي حيث أبيد جيش صاحب الزنج وقتل وحمل رأسه إلى بغداد. انظر ابن الطقطقا : الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية ، ص ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٣) المسعودي : مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٥ ؛ أحمد رمضان أحمد : الرحلة والرحالة المسلمون ، ص ٤٢ ـ ٤٣ ؛ علي محسن عيسى مال الله : أدب الرحلة عند العرب في المشرق ، ص ٥٠ ؛ زكي محمد حسن : الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ، ص ١٩ ـ ٢٠.

(٤) المسعودي : مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١٤٤.

٥٧

ولكن لا يمنع هذا من أن رحلة ابن وهب ذات أهمية من وصف الصين. وليس أدل على ذلك من نقل المسعودي عنه في معرض كلامه عن وصف الصين ، وخاصة مدينة خانقوا.

ومن الملاحظ أن الدينوري أشار إلى أحداث القصة السابقة ونسبها إلى عبادة ابن الصامت (١) وأنها وقعت في القسطنطينية (٢).

فهذه القصة اختلفت تفاصيلها ورواياتها وأماكن حدوثها. فقصة عبادة وهي الأقدم حدثت في القسطنطينية. أما قصة ابن وهب وهي الأحدث حدثت في الصين ؛ مما يضعنا في شك من حدوث هذه الواقعة المتعلقة برواية صور الأنبياء. أما ما عداها فلا نستبعد حدوثها ، خاصة وأنها قد شملت وصفا للصين وأهله وهذا يدفعنا إلى القول : أن روايات الرحالة الأوائل تقترن غالبا بالأساطير والخيالات التي لا ترقى إلى درجة اليقين.

وعلى كل فعبادة بن الصامت لم يحدث أن ذهب إلى القسطنطينية ؛ لأن هرقل لم يكن موجودا آنذاك بها ؛ بل كان يقيم بسوريا ولم يرحل عنها إلا بعد فتح قنسرين ؛ وذلك في سنة ١٥ ه‍ / ٦٣٦ م أو ١٦ ه‍ / ٦٣٧ م في خلافة عمر ابن الخطاب حيث غادرها وقال مقولته المشهورة" السلام عليك يا سورية سلام لا اجتماع بعده" (٣). وأبو بكر كما هو معروف توفي قبل ذلك.

ومن الرحلات التى انطلقت من غرب العالم الإسلامي ومن أفريقيا خاصة رحلة سلطان مملكة مالي السلطان محمد بن قو وقد أخذت رحلته طابعها

__________________

(١) عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن قوقل واسمه غنم بن عوف بن عمرو ابن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي شهد العقبة الأولى والثانية وبدرا واحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض الصدقات وجمع القرآن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يعلم أهل الصفة القرآن وأرسله عمر بن الخطاب بعد فتح الشام لتعليم الناس القرآن وتفقيههم الدين وهو أول من ولي قضاء فلسطين توفي سنة ٣٤ ه‍ / ٦٥٤ م. بالرملة وقيل في بيت المقدس وهو ابن اثنتين وسبعين سنه. انظر ابن الأثير : أسد الغابة ، ج ٣ ، ص ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) الدينوري : الأخبار الطوال ، ص ١٨ ـ ١٩.

(٣) ابن الأثير : الكامل ، ج ٢ ، ص ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٥٨

الشخصي من السلطان نفسه للاستكشاف والاتجاه غربا في المحيط الأطلسي ، إلا أنها تظل من الرحلات المجهولة ؛ لأن روادها لم يعودوا. وبهذا انقطعت أخبارهم وربما هلكوا أثناء رحلتهم.

رحلة سلطان مالي محمد بن قو :

حدث أثناء حكم السلطان الناصر محمد بن قلاوون (١) سنة ٧٢٤ ه‍ / ١٣٢٣ م لمصر أن زارها سلطان مملكة مالي (٢) منساموسي (٣) في طريقه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وقد أفاض القلقشندي في ذكر أخبار مملكة مالي وما بها من خيرات اعتمادا على ما ذكره السلطان منساموسي ومن جملة ما ذكره هذا السلطان كيفية انتقال الملك إليه فأشار إلى رحلة لم تعرف تفاصيلها وما حدث لروادها لأنهم فقدوا ولم يعودوا ثانية إلى وطنهم وبالتالي ظلت أخبار رحلتهم مجهولة بالنسبة لنا. ولكن مجيء هذا السلطان وسؤاله عن كيفية

__________________

(١) محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي أبو الفتح من كبار ملوك الدولة القلاوونية له آثار عمرانية ضخمة وتاريخ حافل بجلائل الأعمال ولد سنة ٦٨٤ ه‍ / ١٢٨٥ م. ولي السلطة وهو صبي سنة ٦٩٣ ه‍ / ١٢٩٣ م وخلع سنة ٦٩٤ ه‍ / ١٢٩٤ م وأعيد إلى السلطنة سنة ٦٩٨ ه‍ / ١٢٩٨ م وكان كالمحجور عليه قرابة عشرين سنة وكان يدبر أمر السلطنة الأستادار الأمير بيبرس الجاشنكير ونائب السلطنة الأمير سلار عزم على الحج وعرج على الكرنك فأعلن الإقامة فيها وترك السلطنة فنودي بالأمير بيبرس سلطانا ولقب بالمظفر سنة ٧٠٨ ه‍ / ١٣٠٨ م ولكن الناصر لم يلبث أن وثب على دمشق بعد ذلك بسنة. ودخل مصر واستعاد السلطنة وقتل بيبرس سنة ٧٠٩ ه‍ / ١٣٠٩ م واستمر في الحكم ٣٢ سنة وشهرين و ٢٥ يوما وتوفي بالقاهرة سنة ٧٤١ ه‍ / ١٣٤٠ م. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ٢ ، ص ١١٤ ـ ١١٧ ؛ الزركلي : الأعلام ، ج ٧ ، ص ١١.

(٢) (مملكة مالي) بفتح الميم المعروفة عند العامة ببلاد التكرور وهي جنوب المغرب متصلة بالبحر المحيط يحدها من الغرب البحر المحيط ومن الشرق بلاد البرنو وفي الشمال جبال البربر وفي الجنوب الهمج أهلها طوال في غاية السواد مجعدي الشعر وهي مملكة مربعة طولها أربعة أشهر أو أزيد وعرضها مثل ذلك وجميعها مسكونة إلا ما قل وهي من أعظم ممالك السودان المسلمين وتشمل خمس أقاليم كل أقليم مملكة بذاتها وهي مالي وصوصو وبلاد غانه وبلاد كوكو وبلاد تكرور وأكبرها مالى وقد دخل ملوك مالي في الإسلام منذ القدم. انظر إبن خلدون : العبر ، ج ١ ؛ القلقشندي : صبح الأعشى في صناعة الأنشا ، ج ٥ ، ص ٢٧١ ـ ٢٨١.

(٣) منسا موسي بن أبي بكر كان رجلا صالحا وملكا عظيما له أخبار في العدل تؤثر عنه عظمت المملكة في أيامه إلى الغاية وافتتح الكثير من البلاد. انظر المصدر السابق والجزء ، ص ٢٨٣.

٥٩

انتقال الملك إليه جعلنا نعرف القليل من المعلومات عن هذه الرحلة. وهي كما ذكرها السلطان منسا موسي" إن الذى قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك فجهز مائتي سفينة وشحنها بالرجال والازواد التي تكفيهم سنين وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته أو تنفذ أزوادهم فغابوا مدة طويلة ثم عادت منهم سفينة واحدة وحضر مقدمها فسأله عن أمرهم فقال : سارت السفن زمانا طويلا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم فرجعت بسفينتي فلم يصدقه فجهز ألفي سفينة ألفا للرجال وألفا للأزواد واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك فكان آخر العهد به وبمن معه" (١).

فهذا السلطان آثر الترحال والتنقل مضحيا بسلطانه في سبيل الاستكشاف. ويرى أهل المغرب أن الإبحار غربا مخاطرة غير محمودة العواقب حيث ساد الاعتقاد أن الساحل الغربي للمغرب والأندلس هو نهاية الأرض المعمورة ويدلل على ذلك ما أشار إليه سلطان مملكة مالي منسا موسي في قوله" إن الذى قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك". ويفهم مما سبق عدم اقتناعه باعتقادات السلطان السابق.

ونلاحظ أنه من بين المؤيدين لهذه الفكرة المؤرخ المسعودي. إذ أشار إليها في كتابه مروج الذهب. أما تفاصيل ذلك فقد أوردها في كتابه أخبار الزمان ولكن لم يصلنا. وقد وصف المسعودي القائمين بتلك الرحلات في البحر المحيط قائلا : " من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه" (٢).

وعقب المسعودي بعد هذا بإضافات مقتضبة مفادها هلاك بعض الرحالة فيه ونجاة آخرين استطاعوا وصف ما شاهدوه ومنهم :

__________________

(١) ابن خلدون : العبر ، ج ٦ ، ص ٢٠٠ ، ٥ ، ص ٤٣٤ ؛ القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٥ ، ص ٢٨٣

(٢) المسعودي : مروج الذهب ، ج ١ ، ص ١١٩.

٦٠