الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

قتادة على الحكم عقب قتال مع غانم ، وظّل في مكة المكرمة إلى شهر ذي القعدة. ثم قام المظفّر صاحب اليمن بالسيطرة على مكة المكرمة ، وعيّن عليها مبارز الدين ابن برطاس (١). ولم يستقم له الأمر إذ استطاع أبو نمي وإدريس وجماز بن شيحة (٢) أمير المدينة استعادة مكة المكرمة من صاحب اليمن ، عقب حصار شديد وقتال عنيف وسط مكة المكرمة في سنة ٦٥٤ ه‍ / ١٢٥٦ م.

أحكم أبو نمي سيطرته على الأمور في مكة المكرمة ، ويبدو أن إدريس كانت له تطلّعات لمشاركة أبي نمي في حكم البلاد ، فلما استبّد أبو نمي بالأمور أصابت إدريس خيبة أمل فتوجّه إلى أخيه راجح الذي قام بتقريب وجهات النظر بين إدريس وأبي نمي نتج عنها اشتراكهما في إدارة شؤون البلاد.

وفي سنة ٦٥٦ ه‍ / ١٢٥٨ م استطاع أولاد حسن بن قتادة السيطرة على مكة المكرمة لمدة ستة أيام ، ولكن أبا نمي نجح في استعادتها منهم دون قتال.

وفي سنة ٦٦٩ ه‍ / ١٢٧٠ م ، وعلى إثر مقتل ابن الشريف أبي نمي وقع الخلاف بينه وبين عمه إدريس فقام أبو نمي بالفرار إلى ينبع مستنجدا بصاحبها حيث جمع جيشا كبيرا قصد به مكة المكرمة عقب أربعين يوما من مقتل ابنه ، فالتقى بعّمه إدريس بخليص (٣) وتحاربا ، فطعن أبو نمي إدريس وألقاه عن جواده ، ونزل إليه وجزّ رأسه واستبّد بالإمرة في مكة المكرمة (٤). وقد

__________________

(١) علي بن الحسين بن برطاس ، الأمير مبارز الدين أمير مكة وليها للملك المظفّر صاحب اليمن ، وأخذها من الشريفين أبي نمي وإدريس بن قتادة في شوال سنة ٦٥٢ ه‍ / ١٢٥٤ م. عاد إلى اليمن بعد أن هزمه الأشراف. أنظر عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنّا الشريف عز الدين الحسيني أمير المدينة ثم أمير مكة ، أخذها من أبي نمي محمد ثم رحل عنها بعد ما حكمها في سنة ٦٨٧ ه‍ / ١٢٨٨ م وعاد إلى المدينة واستمرّ بها إلي أن توفي سنة ٧٠٤ ه‍ / ١٣٠٤ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٢٥٠. ويظهر أن أمراء مكة وأمراء المدينة يقوم بينهما تعاون إذا ما ألمّ بهم خطب أو تعدّى عليهم أحد ، وهذا مثال لما كان يحدث.

(٣) (خليص) حصن بين مكة المكرمة والمدينة المنورة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٤) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ١٦٠ ـ ١٦٣ ، ج ٣ ، ص ٤٣٥ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ٧٤ ـ ٩٩ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢٢٠.

١٦١

أشار ابن خلدون والقلقشندي والجزيري إلى مقتل إدريس بالحرم (١). ولعلّ المقصود هنا أن القتل تمّ داخل مكة المكرمة.

وقد ذهب الخزرجي ويحيى بن الحسين إلى أن أبا سعد قتل في داره وقاتله حماد بن حسن (٢).

أما ابن ظهيرة فذكر أن جماز أحد قتلة أبي سعد ، ولكن دون إيراد تفاصيل في ذلك (٣). ويبدو من تعدد الروايات أن جماز بن حسن قد استنجد بالناصر الذي أمّده بقوّة طامعا في ذكر اسمه على منابر الحرم ، ولكن لا نستطيع الجزم بكبر حجم المساعدة كما ذكر التجيبي خاصة وأن أوضاع العالم الإسلامي وبلاد الشام لا تسمح بإرسال مثل هذا المدد الكبير نظرا لكثرة تهديدات التتار لمقرّ الخلافة العباسية في بغداد.

وفي روايات تشير إلى أن الشريف أبا نمي استنجد بعّمه إدريس حيث استعاد مكة المكرمة من غانم بن راجح بالقوّة سنة ٦٥٢ ه‍ / ١٢٥٤ م (٤). بينما تشير روايات أخرى إلى عدم حدوث ذلك (٥).

وأغلب الظن أن المقصود هنا ليست هذه الحادثة خاصة وأن التجيبي ذكرها في سنة ٦٥٣ ه‍ / ١٢٥٥ م في ذي الحجة ، ولكن المراد هنا هو دخول الشريف أبي نمي وعمه إدريس إلى مكة بعد قتالهم للأمير مبارز الدين ابن برطاس وإخراجه منها (٦).

__________________

(١) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ؛ القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٢٧٨ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٩٨.

(٢) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ١٠٢ ؛ يحيى بن الحسين : غاية الأماني ، ج ١ ، ص ٤٣٩ ، ولعل ذلك تصحيف الكاتب من جماز إلى حماد.

(٣) ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ، ص ١٩٣.

(٤) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ص ٤ ؛ ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ٢ ، ص ٥١٨ ؛ عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ١٠ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٩٨ ؛ ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ؛ القلقشندي : صبح الأعشي ، ج ٤ ، ص ٢٧٨.

(٦) عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٤٤ ـ ٤٥.

١٦٢

وقد أكدت المصادر هذه الحادثة إذ أثبتت ولاية المبارز علي بن الحسين ابن برطاس من قبل المظفر بن المنصور صاحب اليمن ، إذ جهزه على رأس جيش كبير ومائتي فارس وسيره إلى مكة المكرمة فالتقى مع الشريف أبى نمي وإدريس في معركة كان الظفر فيها لابن برطاس الذي أحكم سيطرته على مقاليد السلطة بمكة المكرمة سنة ٦٥٣ ه‍ / ١٢٥٥ م ثم لم تلبث أن وقعت الحرب مّرة أخرى بين الشريف وابن برطاس فتمكّن الشريف من أسر عّدوه ، ولكنه استطاع افتداء نفسه وترك مكة بمن معه (١).

أما ما كان من أمر أبي نمي وعمه إدريس وقتل ابن أبي نمي زيدا ، فقد أشارت المصادر في حوادث سنة ٦٦٩ ه‍ / ١٢٧٠ م قتل أبي نمي لعّمه إدريس عقب خروجه من مكة المكرمة بأربعين يوما بعد انفراده بالإمرة (٢).

أمّا عن سيرة أبي نمي وسنة وفاته التي ذكرها التجيبي ، فقد أجمعت عليها المصادر التي أرّخت لوفاته وكانت سنة ٧٠١ ه‍ / ١٢٠١ م (٣).

ومما سبق نلاحظ انفراد التجيبي بايراده لبعض الأحداث دون غيره من المصادر. منها ذكره لاسم صاحب ينبع الذي استنجد به الشريف ، واسم العبد الذي كان لأبيه ، وما أعطاه له من أموال ساعدته على استرداد إمارة مكة وغيرها من الأمور. ولعل ذلك راجع إلى قرب التجيبي من الأحداث أو أنّه سمعها ممّن عاصر تلك الوقائع فدونها عنه بأدق تفاصيلها بشكل لم يرد لدى غيره من الكتاب.

__________________

(١) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ١١٢ ؛ ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ، ص ١٩٥ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢٢١ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٩٩. وذكر الجزيري أن أبا نمي طعن عمه يحيى ، وهذا خطأ منه فهو إدريس وليس يحيى.

(٢) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ص ١٥٩ ؛ ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢٢٣ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٦٠٣.

(٣) الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ ؛ ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ٢ ، ص ٦١٢ ؛ عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٣٨ ـ ٣٩.

١٦٣

ولا يعني أن كل ما ورد ذكره في رحلته عن حالة مكة المكرمة السياسية يمكن الأخذ به ، بل وجدنا معلومات احتاجت منا إلى بيان ورد إيضاحه في مكانه. ولا يتنافى ذلك مع إيراده لأحداث ووقائع لم ترد في كافة المصادر التاريخية أشار إليها أصحابها دون تفصيل ووضحت الصورة أكثر بما أورده التجيبي حولها ؛ إذ أفاض في كيفية وصول الحكم لأبي نمي. ولم يكتف بنقله لما سمعه من أحداث. ؛ بل ذكر ما شاهده وسمعه هو أيضا ، فساعد في إكمال صورة الحالة السياسية في تلك الفترة. وهنا تبرز أهميته كمصدر معاصر لبعض الأحداث السياسية في مكة المكرمة.

ولا شك أن حرص التجيبي على تقصيّ أوضاع مكة المكرمة السياسية في رحلته استمّر حتى عقب عودته إلى وطنه ، عند ما أعاد تنقيح وكتابة مؤلّفه.

ومما قاله لإكمال هذه الناحية بعد أن أشار إلى ولاية العهد لرميثة (١).

ذاكرا أنه بعد وفاة الشريف أبي نمي بعث ملك مصر والشام الملقّب بالناصر ابن المنصور جملة من العسكر في القافلة المصرية فقبضوا على رميثة وحميضة (٢) وقّيدهما وأنزلوهما إلى مصر ، فاعتقلهما بالقاهرة المعّزية ، وولّى أمر مكة المشرّفة وجهاتها لأخيهما أبي الغيث (٣) فسرّ الناس بذلك لحسن سيرته وخوفا من أن يصيبه مثل ما أصاب أخويه.

__________________

(١) رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة بن إدريس الشريف أبو عرادة أمير مكة المكرمة وليها نحو ثلاثين سنة وأزيد في سبع مرات وكانت وفاته يوم الجمعة ثامن ذي القعدة سنة ٧٤٦ ه‍ / ١٣٤٥ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٢) حميضة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن الشريف عز الدين المكي الحسني أمير مكة ولي إمرتها إحدى عشرة سنة ونصف في أربع مرات إلى أن قتل بمكة في جمادى الآخرة سنة ٧١٠ ه‍ / ١٣١٠ م. انظر المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٧٩.

(٣) ابو الغيث بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الأمير عماد الدين الشريف الحسني المكي أمير مكة وليها في موسم سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م شريكا لأخيه عطيفة ثم عزل في موسم سنة ٧٠٤ ه‍ / ١٣٠٤ م بأخويه رميثة وحميضة ثم وليها في سنة ٧١٣ ه‍ / ١٣١٣ م ووصل مكة بجيش كبير وخرج أخواه رميثة وحميضة منها ثم عجز عن مؤونة الجيش فسرّحهم ، فتوجّه إليه حميضة وانهزم أبو الغيث إلى وادي نخلة وكان ذلك في رابع ذي الحجة سنة ٧١٤ ه‍ / ١٣١٤ م. انظر المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٧٩ ـ ٨٠.

١٦٤

كما أشار إلى أن أهل مكة المكرمة كانوا يثنون على رميثة في ذلك الوقت ، أي قبل تولّيه إمارة مكة المكرمة ، ويبدو أنها سياسة سار عليها في سبيل الوصول للإمرة ، وما أن تحقّق له ذلك حتى انقلبت الأمور وأساء السيرة في الناس.

وتميز حميضة بالشجاعة والإقدام والكرم إلا أنه كان ميّالا للثورة ، حتى هابه المجاورون بسبب قوّته وقوة أعوانه من شرار الناس وسّراق الحجيج وكانوا يرون أنّ الأمر لا يتمّ معه لرميثه (١).

ويتبين لنا أن ما أورده التجيبي قد وقع فعلا بسبب اختلاف السيرة بين الأخوين ، لذا عمل الناصر على القبض عليهما ، ثم أعادهما إلى مكة المكرمة ، وقام حميضة بتولّي أمورها والإحسان إلى الرعّية (٢).

وقد أيّد العصامي ما ذكر من تولية حميضة ورميثة الحكم بعد وفاة أبيهما واستمرارهما شريكين في الإمرة إلى أن وصل الحجّاج وكان بصحبتهم ثلاثون أميرا فتوجّه أبو الغيث وعطيفة (٣) بالشكوى إليهم من حميضة ورميثة وأنهما أحق بالملك منهما ، فمال الأمراء إلى جانبيهما وعقب انتهاء موسم الحج قام الأمراء بتولية أبي الغيث وعطيفة شؤون البلاد وحملوا رميثة وحميضة أسيرين إلى مصر فظلا بها إلى سنة ٧٠٣ ه‍ / ١٣٠٣ م ولكنّهما لم يلبثا أن عادا إلى حكم البلاد عام ٧٠٤ ه‍ / ١٣٠٤ م بالعدل وحسن السيرة وقاما بإسقاط بعض المكوس عن الناس (٤).

وأشار التجيبي إلى ذلك ولكنه لم يذكر مشاركة عطيفة لأبي الغيث في الحكم ، وكذلك اشتراك رميثة وحميضة ، بل نستنتج ذلك من خلال أقواله بالمقارنة مع أقوال المؤرخين.

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٠٦.

(٣) عطيفة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الأمير سيف الدين الشريف الحسني المكي أمير مكة وليها مدة طويلة شريكا لأخيه رميثة ثم مستقلا بها ، مات خارج القاهرة بالقبيبات ودفن فيها في سنة ٧٤٣ ه‍ / ١٣٤٢ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٤٤٣.

(٤) العصامي : سمط النجوم العوالي ، ج ٤ ، ص ٢٢٧.

١٦٥

وقد وافق عز الدين بن فهد التجيبى ولكن بتفصيل أوسع في أسباب القبض على حميضة ورميثة وأنه كان تأديبا لهما على ما صدر منهما في حقّ أخويهما عطيفة وأبي الغيث ، وتمّ ذلك سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م واستمرّا في السجن إلى سنة ٧٠٤ ه‍ / ١٣٠٤ م. فلما عادا مّرة أخرى أظهرا العدل وحسن السيرة وقاما بإعفاء الناس من بعض المكوس (١).

وقد أشارت روايات إلى هذه الحادثة ولكن دونما تفصيل في أسباب القبض على الشريفين (٢). وأورد أبو الفدا خبر اختلاف أولاد أبي نمي بعد وفاته ، وتغلّب رميثة وحميضة على مكة المكرمة ، ثم القبض عليهما وإطلاقهما وعودتهما إلى مكة المكرمة مّرة أخرى ، ثم هروب أبي الغيث منها (٣). وأيد المؤرخون المعاصرون ما سبق (٤).

ومما سبق يتضح أن التجيبي ركّز على أحوال مكة المكرمة السياسية في عهد الناصر دون الإشارة إلى فترة حكم السلطان حسام الدين أبي الفتح لاجين المنصوري (٥) سلطان مصر سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م (٦). وعلاقاته مع أشراف مكة المكرمة ، ولكن الواضح أن تلك العلاقة كانت أظهر وأوضح في عهد الملك الناصر. والذي بدأ تدخّله في شؤون مكة المكرمة السياسية ظاهرا للعيان ، وغدا الأشراف يخشون سلطة المماليك في مصر ، الحريصين على

__________________

(١) عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٥٣ ـ ٥٦ ، ٧٩ ـ ٨٢.

(٢) القلقشندي : صبح الأعشي ، ج ٤ ، ص ٢٧٨ ؛ ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ، ج ٨ ، ص ٢٠٠.

(٣) أبو الفدا : تاريخ أبي الفدا ، ج ٤ ، ص ٤٧.

(٤) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٧ ؛ الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، ٢٩٩ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٤ ، ٤٠٤ ، ٥٠٦ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ١٣٤ ـ ١٣٥ ، ١٤٠ ـ ١٤٢ ؛ ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ، ص ١٩٥ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٩١٤ ـ ٩١٧ ؛ ريتشارد مورتيل : الأحوال السياسية والاقتصادية بمكة في العصر المملوكي ، ص ٦٥ ـ ٦٧.

(٥) الملك المنصور لاجين المنصوري بويع أوائل صفر سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م وكان موصوفا بالشجاعة والحكمة استمرت دولته سنتين وثلاثة أشهر قتل يوم الخميس عاشر ربيع الآخر سنة ٦٩٨ ه‍ / ١٢٩٨ م. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ٢ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٨.

(٦) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٨.

١٦٦

بسط نفوذهم وسيطرتهم على الحجاز لعوامل دينية وسياسية وحملهم لقب خادم الحرمين الشريفين أو حامي الحرمين الشريفين (١). وإحياء الخلافة العباسية بمصر عقب سقوطها في بغداد على يد التتار سنة ٦٥٦ ه‍ / ١٢٥٨ م (٢).

كما تتضح أيضا بداية الإنهيار لاستقلال الأشراف بمكة بسبب تدخّل الناصر تدخّلا مباشرا في شؤونها الداخلية ، وعبّر ريتشارد مورتيل عن أسباب التدخّل قائلا : " فلم يكن يرمي من هذا التدخل الاستيلاء على البلد الحرام وضمّها إلى الدولة المملوكية ، أو النفع المادي ، لكنه قام ببسط نفوذه على إمارة مكة المكرمة والتدخل بين أولاد الشريف أبي نمي ليعيد الأمن إلى مكة المكرمة في سبيل حماية الحجاج" (٣).

وارتبطت مكة بعلاقات مع الدولة الرسولية في اليمن ، وقام حكامها بالدعاء للملك داود المؤيّد بالله (٤) كما أشار إلى ذلك التجيبي (٥). والواقع أنه بمجرد انشغال سلاطين مصر بامورهم الداخليه يسارع بنو رسول (٦) ملوك اليمن إلى التدخل السياسي وبسط نفوذهم على مكة ابتداء من سنة ٦٢٨ ه

__________________

(١) انظر فيما بعد ، ص ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٢) انظر الذهبي : دول الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٦٥ ؛ ابن كثير : البداية والنهاية ، ج ١٣ ، ص ٢٠٠ ـ ٢٠٢ ؛ السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ص ٤٣٨ ـ ٤٣٩.

(٣) ريتشارد مورتيل : الأحوال السياسية والاقتصادية بمكة في العصر المملوكي ، ص ٧١.

(٤) داود بن يوسف بن عمر بن رسول التركماني الأصل اليمني الملك المؤيد عزيز الدين صاحب اليمن ابن المظفر صاحب اليمن ولي بعد أخيه الأشرف في المحرم سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م وكان ملكا فاضلا مشاركا في الفنون مات في ذي الحجة سنة ٧٢١ ه‍ / ١٣٢١ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٢٩٧.

(٥) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٢.

(٦) اسم رسول محمد بن هارون بن أبي الفتح بن نوحي بن رستم وهو من ذرية جبلة ابن الأيهم فلما هلك أقام ولده في بلاد الروم مع قبائل التركمان وتكلموا لغتهم وبعدوا عن العرب ، فلما خرج أهل هذا البيت إلى العراق نسبهم من يعرفهم إلى غّسان ومن لا يعرفهم نسبهم إلى التركمان ، وكانوا بيت شجاعة ورئاسة ومحمد بن هارون هذا جليل القدر فيهم فأدناه الخليفة العباسي وأنس به واختصّه برسالته إلى الشام وإلى مصر ، ورفع الحجاب فيما بينهما فأطلق عليه اسم رسول واشتهر به وترك اسمه الحقيقي حتى جهل ثم انتقل من العراق إلى الشام ومنها إلى مصر فيمن معه من أولاده ثم صحبوا الملك المعظم توران شاه إلى اليمن. انظر الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٣٦ ـ ٣٩.

١٦٧

/ ١٢٣٠ م (١) عقب توطيد سلطانهم باليمن. ويشهد على عظم صلتهم بمكة المكرمة ما وجد لملوك اليمن من بعض آثار حميدة وصدقات جارية تصل لأهل مكة المكرمة كما أوضح ذلك التجيبي (٢).

وتطابقت أقوال المؤرخين مع قول التجيبي عند تحدّثهم عن ذلك خلال حوادث سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م (٣). وقد أشار الفاسي إلى هذه الناحية بقوله :

إن الدافع لأبي نمي ، في الدعاء لصاحب اليمن على منابر المسجد الحرام عظم صلته ، وهو أمر لا يقدم عليه أمير لمكة المكرمة إلا بعد معرفة عميقة بمدى الفائدة العائدة عليه من ذلك (٤). وهو أمر" ليس بجديد في علاقاتهم مع الدول المجاورة لهم وخصوصا أن مكة المكرمة عانت من تنافس الدولتين العباسية والفاطمية في بسط نفوذهما على الحجاز لصبغ حكمها بالصبغة الشرعية (٥).

فنرى أن ولاء أشراف مكة المكرمة تبع صاحب أكبر صلة. وهو المقدم لذلك في الخطبة والدعاء على المنابر.

وقد ترجم التجيبي لملك اليمن داود قائلا : إنه أحد العلماء المشهود لهم تولّى بعد موت أخيه الأشرف (٦) سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م وكان عند موت أخيه معتقلا فأخرج من سجنه وولي الحكم.

__________________

(١) يحيى بن الحسين : غاية الأماني ، ج ١ ، ص ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٢.

(٣) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٢٧٩ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ١٢٨ ـ ١٢٩ ؛ عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٢٠ ـ ٢٢ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٦١٢ ـ ٦١٣.

(٤) الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ٢٦٤.

(٥) بندر بن رشيد الهمزاني : علاقات مكة المكرمة الخارجية في عهد أسرة الهواشم ، ص ١٣٨ ، رسالة ماجستير.

(٦) عمر بن يوسف بن عمر بن رسول أبو حفص ممهد الدين الملك الأشرف ثالث ملوك الدولة الرسولية في اليمن كان عالما فاضلا ، حسن السيرة ، كثير الاطلاع على كتب الأنساب والطب والفلك ، انتدبه أبوه الملك المظفر للمهمّات ، ثم تنازل له عن الملك قبيل وفاته سنة ٦٩٤ ه‍ / ١٢٩٤ فاستمّر قرابة السنتين وتوفي بتعز سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م. انظر الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٢٣٩ ـ ٢٥٠ ؛ الزركلي : الأعلام ، ج ٥ ، ص ٦٩.

١٦٨

وأشار التجيبي إلى ولاية أبيهما المظفّر سنة ٦٤٨ ه‍ / ١٢٥٠ م والموصوف بالخير والفضل والعلم والإيثار خاصة لأهل الحرمين الشريفين ، فله فيهما آثار حميدة ، وصدقات جارية ، ولي بعد مقتل أبيه الملك المنصور (١) عمر ابن علي ابن رسول ، الذي وصل اليمن مع السلطان المسعود أبي المظّفر يوسف ابن الملك الكامل أبي المظّفر محمد بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب ، وكان ذا حظوة لديه فلما مات المسعود في الثالث عشر من جمادى الأولى سنة ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٨ م ترك ابنا صغيرا هو الناصر صلاح الدين يوسف ، وأوصى له بالملك من بعده تحت وصاية الأمير نور الدين عمر (٢) ، فشكرت سيرته وحمدت طريقته وأظهر عنايته بالحرم الشريف وبنى به المدرسة المنصورية وامتدت ولايته إلى سنة ٦٤٨ ه‍ / ١٢٥٠ م (٣).

وأشار ابن بطوطة إلى أن مكة المكرمة كانت تتبع السلطان يوسف ابن رسول ملك اليمن المعروف بالمظفر ، حيث عمل على إرسال الكسوة للكعبة المشرفة إلى أن حلّ محلّه في ذلك المنصور قلاوون (٤).

أما ما ذكره التجيبي من تولية داود بعد الأشرف ، وما قاله من صفاته فقد جاء موافقا لما ذكره الخزرجي (٥).

وجاء في غاية المرام أن بني رسول وصلوا اليمن بصحبة الملك المعظّم توران شاه بن أيوب (٦) ، وحظي نور الدين بمكانة كبيرة لدى الملك المسعود حتى

__________________

(١) عمر بن على بن رسول محمد بن هارون بن أبي الفتح بن نوحي بن رستم الغساني التركماني من ذرية جبلة ابن الأيهم وهو الملك المنصور نور الدين أبو الفتح صاحب اليمن ، ملكها بعد أن وقعت له أمور وحوادث ، قتل في ليلة السبت تاسع ذي القعدة سنة ٦٤٧ ه‍ / ١٢٤٩ م ، قتله مماليكه. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٥٠١ ـ ٥٠٢.

(٢) الملك المنصور.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٢.

(٤) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٩.

(٥) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٨١ ـ ٨٢ ، ٢٤٩ ، ٢٥٣.

(٦) الملك المعظم توران شاه بن أيوب بن شاذي شمس الدولة فخر الدين شقيق صلاح الدين وأكبر إخوانه ، وكان يرى أنه أحق بالملك من أخيه سيّره صلاح الدين لفتح النوبة سنة ٥٦٨ ه‍ / ١١٧٢ م ثم سيّره إلى اليمن سنة ٥٦٩ ه‍ / ١١٧٣ م فأخضعها ومات بمصر سنة ٥٧٦ ه‍ / ١١٨٠ م وكان شجاعا كريما حسن الأخلاق حازما. انظر أحمد بن إبراهيم الحنبلي : شفاء القلوب في مناقب بني أيوب ، ص ٥٠ ـ ٥٥ ؛ الزركلي : الأعلام ، ج ٢ ، ص ٩٠.

١٦٩

أنابه بمكة المكرمة مّرة واستنابه نيابة عامة باليمن مرتين ، وأوصى له بالملك من بعده حتى أنه قال له : " قد جعلتك نائبي في اليمن ، فإن مّت فأنت أولى بملك اليمن من إخوتي لأنك خدمتني ، وعرفت منك النصيحة والاجتهاد ، وإن عشت فأنت على حالك ، وإياك أن تترك أحدا يدخل اليمن من أهلي ولو جاءك الملك الكامل (١) والدي مطويا في كتاب" (٢) وقد أيّد كلّ ذلك الخزرجي (٣).

ولم تقتصر علاقه أشراف مكة المكرمة بسلاطين مصر واليمن بل تعدّتها إلى بلاد البجة (٤) ، وللدلالة على تلك العلاقة أورد التجيبي أن الشريف أبا نمي أمير مكة له ابن يسمّى زيد المعروف بابن السواكنية ، وأمّه بنت ملك البجة ، صاحب جزيرة سواكن (٥). ويؤيّد ذلك قول ابن بطوطة عند ما وصل إلى سواكن قال : إن سلطانها الشريف زيد بن أبي نمي (٦). ويعضد ذلك ما جاء في ترجمة زيد لدى الفاسي فبالرغم من أنه لم يذكر غير اسمه كاملا وقصيدة ورد فيها ما يؤيّد أن زيدا كان ملكا بها :

__________________

(١) محمد بن أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي السلطان الملك الكامل ابن العادل ، ولد سنة ٥٧٣ ه‍ / ١١٧٧ م تولّى بعد وفاة والده سنة ٦١٥ ه‍ / ١٢١٨ م كان شجاعا مهيبا ذكيا فطنا يحب العلماء ، وفي أيامه أخذ الفرنج دمياط وملوكها سنة ٦١٦ ه‍ / ١٢١٩ م وأخذ الفرنج بيت المقدس مرّة ثانية سنة ٦٣٥ ه‍ / ١٢٣٧ م ومات الكامل يوم الأربعاء حادي عشر رجب سنة ٦٣٥ ه‍ / ١٢٣٧ م بقلعة دمشق ودفن فيها ومّدة ملكه عشرون سنة وخمسة وأربعون يوما. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ٢ ، ص ٢٨ ـ ٣١ ؛ الحنبلي : شفاء القلوب ، ص ٢٩٩ ـ ٣٢١.

(٢) عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٩٦ ـ ٥٩٨.

(٣) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٤٧.

(٤) (أرض البجة) أسفل مصر والبجاة هم جنس من الحبشة وبلادهم بين البحر الأحمر ونيل مصر يسكن عندهم جماعة من العرب من ربيعة بسبب معدن الذهب والبجة من مدن الحبشة ، وليس للبجة قرى ولا خصب ، وهم بادية يقنون النجب ورقيقهم ونجبهم وسائر ما بأرضهم يقع إلى مصر في جملة التجار المصريين أو ما قدم به بعضهم. انظر ابن حوقل : صورة الأرض ، ص ١٥١ ؛ مؤلف مجهول : الاستبصار ، ص ٨٥ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٣٤٠.

(٥) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٥ ؛ (سواكن) ميناء سوداني على ساحل بحر الجار قرب عيذاب ترفأ إليه سفن الذين يقدمون من جدة وأهله بجاة سود نصارى. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٢٧٦.

(٦) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ٢٤٥ ؛ زيد بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة ابن إدريس بن مطاعن الحسني يكنى أبا الحارث. انظر الفاسي. العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

١٧٠

سواكن أنت ياذا الجود مالكها

أحييت بالعدل من فيها فما ندموا

جبرتهم بعد كسر واعتنيت بهم

فالناس بالعدل فيها كلهم علموا

سواكن مالها في الناس يملكها

إلا أبو حارث بالعدل يحتكم (١)

وورد في ترجمة مبارك بن عطيفة (٢) لدى الفاسي أنه ملك سواكن ومات به في سنة ٧٥١ ه‍ / ١٣٥٠ م (٣) ولعل سبب ملكه لها أنّ عمه زيد تولّى حكمها ، وإلا لصعب عليه امتلاكها خاصة وأن البحر الأحمر يفصل بينها وبين الحجاز ، فوجود ملك لعّمه وبعض اتباعهم سهّل له أمر امتلاكها. ويظهر مما سبق أنها في ذلك الوقت كانت تتبع أمراء مكة المكرمة وهذا ما لم يذكره أحد من المؤرخين ، ولعل سبب ذلك أنها تبعّيه فردية لأحد الأشراف. كما امتدت علاقة أمراء مكة المكرمة إلى العراق أيضا فقد تّم الدعاء على قبة زمزم في سنة ٧٢٩ ه‍ / ١٣٢٨ م لسلطان العراق أبي سعيد (٤) في عهد الشريفين رميثة وعطيفة فقد ذكر اسمه في الخطبة أيضا بعد ذكر الملك الناصر ودعي له بأعلى قّبة زمزم بعد سلطان اليمن الملك المجاهد نور الدين (٥).

__________________

(١) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

(٢) مبارك بن عطيفة بن أبي نمي الحسني المكي كان ذا شهامة وإجادة في الرمي ، وكان نائبا عن أبيه بمكة سنة ٧٣٧ ه‍ / ١٣٣٦ م مات سنة ٧٥١ ه‍ / ١٣٥٠ م شهيدا. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ص ١٢٣.

(٣) المصدر السابق والجزء والصفحة.

(٤) أبو سعيد بن خرنبد بن أرغون بغا بن هلاوو المغلي ، ملك التتار وصاحب العراق والجزيرة وخراسان والردم ، كان مسلما حسن الإسلام ، جيد الخط ، جوادا عارفا بالموسيقا ، مبغضا للخمور ، وهو آخر بيت هلاوو ، انقضوا بهلاكه ، أقام في الملك عشرين سنة وقبل موته بسنة أرسل الركب العراقي إلى مكة فّسلّم وفي السنة التالية جّهزهم فنهبهم العربان ، فسأل عن السبب ، فقالوا له إنهم يقيمون في البراري ولا رزق لهم فجعل لهم مقدارا من بيت المال يكفيهم ، ومات في تلك السنة في ربيع الآخر سنة ٧٣٦ ه‍ / ١٣٣٥ م وتأسف عليه الناصر لما بلغه موته لأنه هادنه وعمرت البلاد في عهده. انظر ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ٢ ، ص ١٣٧ ، ج ١ ، ص ٥٠١.

(٥) على بن داود المؤيد بن يوسف المظفر من ملوك الدولة الرسولية في اليمن ، ولد بزبيد وولي الملك بعد وفاة أبيه سنة ٧٢١ ه‍ / ١٣٢١ م فأقام سنة ، وخلعه الأمراء والمماليك ، وولوا المنصور فمكث أشهرا وثار بعضهم فاعادوا المجاهد ، وحجّ سنة ٧٥١ ه‍ / ١٣٥٠ م ، وذهب إلى مصر وأقام أربعة عشر شهرا ، وعاد فانتظم أمره إلى أن توفي بعدن وكان عاقلا محمود السيرة شاعرا عالما بالأدب ، مقرّبا للعلماء والأدباء ، محسنا إليهم. ومن آثاره مدرسة بمكة ملاصقة للحرم. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٦ ، ص ١٥٨ ـ ١٧٤ ؛ الزركلي : الأعلام ، ج ٤ ، ص ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

١٧١

ويبدو أن سبب الدعاء لسلطان العراق في ذلك العام عائد إلى كثرة صدقات أهل العراق وسلطانها المبعوثة إلى مكة المكرمة. فقد ذكر ابن بطوطة وقت وجوده بمكة المكرمة في سنة ٧٢٨ ه‍ / ١٣٢٧ م و ٧٢٩ ه‍ / ١٣٢٨ م وصول أحمد (١) ابن الأمير رميثة ومبارك ابن الأمير عطيفة من العراق حاملين صدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكة المكرمة من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق ، وفي هذه السنة ذكر اسم السلطان أبي سعيد في الخطبة ودعي له بأعلى قبّة زمزم. ويذكر ابن بطوطة أن الدعاء لصاحب العراق لم يتكرّر عقب تلك السنة (٢).

ولعل هذا الإجراء تعبير عن الشكر والتقدير من أمير مكة المكرمة رميثة لسلطان العراق مع ملاحظة أنه لم يلق قبولا لدى الأمير عطيفة المشارك له في الحكم. حيث بعث شقيقه منصور (٣) لإطلاع الملك الناصر على حقيقة الأمر. وقد حاول رميثة إعاقة وصول الخبر إليه ، إلّا أنّ عطيفة استطاع إيصاله عن طريق جدّة (٤).

ونجد هنا أن ابن بطوطة قد خالف المصادر في تحديد سنة الدعاء لسلطان العراق ، حيث ذكروا أن السنة التي تم فيها الدعاء لصاحب العراق إنما هي سنة ٧١٧ ه‍ / ١٣١٧ م ، ووصل الخبر إلى الناصر بمصر سنة ٧١٨ ه‍ / ١٣١٨ م (٥).

__________________

(١) أحمد بن رميثة بن أبي نمي بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني المكي صاحب الحلة. سافر إلى العراق مرتين في زمن أبي سعيد ابن خرنبدا ، وعظم شأنه هناك. قتل في الثامن عشر من رمضان سنة ٧٤٢ ه‍ / ١٣٤١ م. أنظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٣ ، ص ٤٠ ـ ٤١.

(٢) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٧٢ ـ ٢٤١.

(٣) لم نعثر على ترجمة له في المصادر التى تناولناها.

(٤) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٧٢ ، ٢٤١.

(٥) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٢٤١ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ١٥٨ ؛ المقريزي. السلوك ، ج ٢ / ١ ، ص ١٧٦.

١٧٢

ونجد أن المصادر التي بين أيدينا قد سكتت عن هذه العلاقة ، ولم ترد إشارة إلى ذكر أبي سعيد في الخطبة والدعاء له في تلك السنة. غير أن الفاسي ذكر خبر سفر أحمد إلى العراق مقتضبا (١).

وربما يكون قد حدث خطأ في كتابة السنة لدى هؤلاء المؤرخين ، خاصة لبعدهم عن الحدث ، في حين أن ابن بطوطة شاهد عيان لما حدث. أو أنّه دعي له مرتين مرة سنة ٧١٧ ه‍ / ١٣١٧ م ومرة سنة ٧٢٨ ه‍ / ١٣٢٧ م وفي المرة الأولى ذكرها المؤرّخون ، وأما الثانية فقد أغفلوا ذكرها. واستدرك ريتشارد مورتيل قائلا : " إنه ليس ببعيد أن السلطان أبا سعيد كان يترقّب الوقت المناسب لتحدي سيطرة المماليك على إمارة مكة المكرمة ، وخاصة أنه كان بين أشراف مكة المكرمة من يؤيّده" (٢).

وإذا كان ابن بطوطة قد تحدّث عن علاقة أشراف الحجاز وخاصة أمراء مكة المكرمة بالمماليك والإمارات الإسلامية الأخرى التي أشار إليها بعض المؤرّخين ، إلّا أن ابن بطوطة انفرد بإلقاء الضوء على علاقات أخرى أفاض في وصفها ؛ وهي علاقة الأشراف بسلطان مصر الملك الناصر ، والتي اتّضح منها عمق علاقته بمكة المكرمة حتى امتدت إلى قضاتها الذين ارتبطوا معه بصلات جيّدة. حيث كانت صدقاته وصدقات أمرائه تصل إلى يد قاضي مكة المكرمة نجم الدين محمد بن الإمام محيى الدين الطبري وكيله ، والذي تولى توزيع أعطياته على أشراف مكة المكرمة وكبرائها وفقرائها ، وخدم الحرم الشريف ، وجميع المجاورين.

وبالرغم من قوّة الصلة بين سلاطين المماليك في مصر وأمراء مكة المكرمة إلا أنّ صلتهم بملوك اليمن كانت قويّة أيضا وقد أشار ابن بطوطة إلى الدعاء لسلطان بني رسول وذكر اسمه بعد الدعاء للسلطان المملوكي (٣). مما

__________________

(١) الفاسي : المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ٤٠ ـ ٤١.

(٢) ريتشارد مورتيل : الأحوال السياسية والاقتصادية بمكة في العصر المملوكي ، ص ٨٣.

(٣) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٩ ، ١٦١.

١٧٣

يدل على سياسة الموازنة التي اتبعها أمراء مكة المكرمة للمحافظة على علاقتهم ببني رسول باليمن وسلاطين المماليك في مصر ، إلّا أنّه يبدو أن علاقتهم بمصر قد شابها نوع من الفتور ، عقب فتنة أشار إليها ابن بطوطة في حديثه عن علاقة الملك الناصر بأمراء مكة المكرمة الأشراف ، إذ حدث في عام ٧٣٠ ه‍ / ١٣٢٩ م أثناء موسم الحج خلاف بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري (١) بسبب قيام تجار من أهل اليمن بالسرقة ، فرفع الأمر إلى أيدمور الذي أو عز لمبارك ابن الأمير عطيفة بإحضار اللصوص ، فاعتذر عن ذلك لعدم معرفته بهم. ولعل في هذا إشارة إلى عدم رضى أمير مكة المكرمة عن تدخل أيدمور في شؤون مكة المكرمة وخاصة الحجاج اليمنيين حفاظا على علاقة مكة المكرمة وأهل اليمن. وأما في حالة وقوع سرقة لأهل مصر والشام فقد تكفّل أمير مكة المكرمة بحّل الأمر فلم يرض ذلك أيدمور وشتمه وقيل تطاول عليه بضرب ودفع لأمير مكة المكرمة ، فوقع ووقعت عمامته فأثار غضب الناس عليه ، ثم ركب أيدمور متوجها نحو عسكره ، فلحقه مبارك وأتباعه فقتلوه هو وولده ، فوقعت الفتنة بالحرم ، وتصادف فيه وجود الأمير أحمد قريب الملك الناصر ، وتدخّل الترك في القتال فقتلوا امرأة قيل إنها عملت على تحريض أهل مكة المكرمة على القتال ، واشتدت الفتنة ، وحاول القاضي وأهل مكة إيقاف ما حدث وعقد الصلح ودخل الحجاج مكة المكرمة فأخذوا أمتعتهم ورحلوا إلى مصر. وبلغ الخبر الملك الناصر فاستاء لذلك ، وسيرّ عساكره إلى مكة المكرمة ففّر الأمراء عطيفة وابنه مبارك ورميثة وأولاده إلى وادي نخلة ، فلما وصلت عساكر الناصر إلى مكة المكرمة بعث الأمير ابنا له بطلب الأمان ،

__________________

(١) ألدمر أحد الأمراء بالقاهرة في الأيام الناصرية كان أمير جندار وحج بالناس فثارت بمنى فتنه فقتل فيها هو وولده خليل في يوم عيد النحر سنة ٧٣٠ ه‍ / ١٣٢٩ م. ومن العجب أن الناس تحدثوا بالقاهرة بما جرى له يوم العيد سواء. أنظر ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ١ ، ص ٤٠٧. ونجد هنا اختلافا في موعد وقوع الفتنة ومكانها كما وجد اختلاف في اسمه بين المؤرخين الذين تناولوا هذه الحادثة.

١٧٤

فبذلوه لهم فحضر إليهم بكفنه منتظرا الموت ولكن مبعوث الناصر خلع عليه وأعاده إلى الحكم (١).

وذكر بعض المؤرخين في حوادث تلك السنة الفتنة ولكن دون تفصيل (٢).

أما الفاسي فلم يذكر سبب الفتنة التي أشار إليها ابن بطوطة وأورد قائلا : " إنه في سنة ٧٣٠ ه‍ / ١٣٢٩ م يوم الجمعة عند طلوع الخطيب المنبر حصلت شوشة ودخلت الخيل المسجد الحرام وفيهم جماعة من بني حسن ملبين غائرين ، وتفّرق الناس ، وركب الأمراء من المصريين وكانوا ينتظرون سماع الخطبة فتركوها ، وركب الناس بعضهم بعضا ونهبت الأسواق ، وقتل من الخلق جماعة من الحجاج وغيرهم ، ونهبت الأموال ، وصليت الجمعة والسيوف تعمل والقتل بين الترك والعبيد والحرامية من بني حسن ، وخرج الناس إلى المنزلة (٣) ، واستشهد من الأمراء سيف الدين الدمر أمير جاندار وولده خليل ومملوك لهم أمير عشرة يعرف بابن التاجي وجماعة نسوة وغيرهم من الرجال ودخل الأمراء راجعين بعد الهرب إلي مكة المكرمة لطلب بعض الثأر وخرجوا فارين مرة أخرى ، ثم بعد ساعة جاء الأمراء خائفين وبنو حسن وغلمانهم فلما اشرفوا على ثنية كداء من أسفل مكة المكرمة فأمر بالرحيل ولو لا أن سلم الله الناس كانوا نزلوا عليهم ولم يبق من الحجاج مخبر ، فوقف أمراء المصريين في وجوههم وأمر بالرحيل فأختبط الناس مما دفع أكثرهم لترك ما ثقل من أحمالهم ونهب الحاج بعضه بعضا ووقع الخبر بذلك بالقاهرة في نفس اليوم سواء" (٤).

__________________

(١) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ٢٤٢.

(٢) ابو الفدا : تاريخ ابو الفدا ، ج ٤ ، ص ١٠١ ـ ١٠٣ ؛ ابن كثير : البداية والنهاية ، ج ١٤ ، ص ١٤٩ ـ ١٥٢ ؛ ابن الوردي : تتمة المختصر ، ج ٢ ، ص ٤١٨ ـ ٤١٩ ؛ عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٩٠.

(٣) ربما يكون مكان نزول الركب بمكة المكرمة.

(٤) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ٢ ، ص ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

١٧٥

أما ابن تغري بردي فأشار إلى مقتل الأمير الدمر بمكة المكرمة على أيدي بعض العبيد الذين قاموا بسرقة أموال ومتاع بعض حجاج العراق ، فاستجار الناس بالأمير الدمر الذي تخلّف عن الركب لأداء صلاة الجمعة ، فهبّ مع ابنه للدفاع عنهم وضرب العبيد ، ولكن تمكنّ العبيد من قتل ابنه فاشتدّ حنقه عليهم وعزم على الفتك بهم ، وعندئذ حمل العبيد عليه وقتلوه ، وعمّت الفوضى ونهبت الأسواق ، ووقع عدد كبير من القتلى ، وحاول الأمراء المصريون الاقتصاص لتلك الفعلة ففشلوا ، ثم عادوا إلى مصر وأطلعوا السلطان قلاوون بذلك فسيّر إلى مكة المكرمة عسكرا كثيفا للاقتصاص لمقتل الدمور وابنه ، وأوقعوا القتل في العبيد ، وفّر أشراف مكة المكرمة ، ونهبت أموالهم ، وسيطر الأتراك على البلاد في ذلك العام ، وفقد الأشراف سطوتهم وهيبتهم ، وعند ما قام الملك الناصر بأداء فريضة الحج كان استقباله لأشراف مكة المكرمة يشوبه الفتور مع تواضع الملك للفقهاء والعلماء (١). غير أن المقريزي وابن فهد والجزيري أشاروا الى أن أساس حدوث الفتنة من تدبير الملك الناصر ليقتص من أمير الركب العراقي الذي ناله بما يكره ، فأسّر ذلك في نفسه ، ولما بلغه مسير أمير الركب العراقي إلى مكة المكرمة كتب إلى الشريف عطيفة ابن أبي نمي سرّا للتخلّص منه ، فلم يجد بدّا من امتثال ما أمر به وأطلع ولده مبارك بن عطيفة ومن يثق به على ذلك ، وتقدم إليهم بإعمال الحيلة فيه فلّما قضى الحاج النسك تأخرّ أمير الركب العراقي والأمير الدمر وولده والأمير أحمد ابن خالة السلطان الناصر لأداء صلاة الجمعة مع بقية حجاج مصر فلما حضروا للصلاة وصعد الخطيب المنبر حانت لحظة تنفيذ الخطة الموضوعة ، فقام العبيد بإثارة الفتنة بين الناس وهدفهم حجاج العراق ، فخطفوا شيئا من أموالهم بأحد أبواب المسجد الحرام المعروف بباب إبراهيم ، وكان الشريف عطيفه جالسا إلى جوار الدمر فصرخ الناس بالدمر ، ولم يكن لديه علم بما كتب به السلطان إلى الشريف عطيفة ،

__________________

(١) ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ، ج ٩ ، ص ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

١٧٦

وقد عرف عن الدمر شجاعته وحّدة مزاجه وقّوة شخصيته ، فنهض وجماعتة من المماليك على صراخ الناس وقام بإهانة الشريف وسبّه وقبض على بعض قواده ، فلاطفه الشريف فلم يهدأ خشية تدخله وإفساد ما رسم لتنفيذه ، وعند اشتداد صياح الناس ركب الشريف مبارك بن عطيفة في قّواد مكة المكرمة بآلة الحرب وركب جند مصر فبادر خليل ولد الأمير الدمر ليطفئ الفتنة ، وضرب أحد العبيد فرماه بحربة فقتله ، فلما رأى أبوه ذلك اشتد غضبه وحمل بنفسه لأخذ ثأر ولده فرمي الآخر بحربة فمات.

ويقال بل صدف الشريف مبارك بن عطيفة وقد قصد أمير العراق وعليه آلة حربه ، فقال له ويلك تريد أن تثير فتنة ، وهّم بضربه بالدبوس فضربه مبارك بحربة كانت في يديه أنفذها من صدره فخرّ صريعا ، وقتل معه في هذه الفتنة عدد آخر وفر أمير الحج العراقي عند ذلك ونجا بنفسه ورمي مبارك ابن عطيفة بسهم في يده فشلّت. وصعد أهل مكة المكرمة سطح الحرم ورموا الأمير أحمد ومن معه بالحجارة ، وفّر أمير ركب العراق ، ودخلت الخيل المسجد الحرام ليمتد القتال إلى من به واختلط الناس ببعضهم ، ونهبت الأسواق ، ووقع عدد كبير من القتلى بأيدى العبيد ، وصلّى الناس الجمعة والسيوف تعمل ، وتجمّع الأمراء في مكان نزولهم خارج مكة المكرمة بعد أن لا حقتهم السيوف وقرّروا العودة إلى داخل مكة المكرمة ثانية طلبا للثأر ، فخرجوا فارين مّرة أخرى ، وتصدى الشريف عطيفة للقضاء على هذه الفتنة بعد أن فات الغرض منها بفرار أمير الركب العراقي فحسم الموقف ورحل الحجاج عائدين إلى بلادهم.

ولما علم سلطان مصر بقتل الدمر شقّ الأمر عليه ، وأمر بإحضار الشريف عطيفة وابنه وقوّاده. وسار العسكر فوصلوا مكة المكرمة وهرب الناس إلى نخلة وغيرها ، وفّر الشريفان عطيفة ورميثة وأولادهما وجندهما إلى جهة

١٧٧

اليمن وكان الشريف رميثة قد جمع العرب لمحاربة الأمير ، فبعث إليه بالأمان وهو الخاتم والمنديل وقلّده إمارة مكة (١).

ونجد أن ابن بطوطة خالف معظم المؤرخين في أسباب الفتنة ، ولعلّ ما جاء في رحلته هو الأصحّ لأنّه شاهد عيان لها. وربما حدث خلط من حيث التحّرش بالحجّاج العراقيين بدلا من اليمنيين كما وأن ابن بطوطة أورد تفاصيل لم ترد في كافّة المصادر ، مما يدلّ على أنه كان قريبا جّدا من مكان الواقعة بحيث أنه سمع ورأى ما حدث من دقائق الأمور ، وعلى كل فالحادثة وقعت فعلا وإن اختلف المؤرخون في إبداء أسبابها ، ونرجّح ما جاء في رحلة ابن بطوطة فهو كما سبق شاهد عيان لهذه الحادثة بتفاصيلها.

ولقد ارتبط أمراء مكة المكرمة بعلاقات ودّية مع سلطان كلوة (٢) أبي المظفر حسن (٣) حيث كانوا يفدون عليه لنيل أعطياته ، كما أشار إلى ذلك ابن بطوطة (٤).

ب ـ إمارة المدينة المنورة :

انصبّ اهتمام الرحالة المغاربة والأندلسيين على مكة المكرمة فكان لها الحظّ الأوفر في كتاباتهم إذ تتبعوا جميع شؤونها وتقصّوا مختلف أحوالها.

أما المدينة المنورة فلم تحظ إلا بالقليل من اهتمام الرحالة وبالتالي تضاءلت

__________________

(١) المقريزي : السلوك ، ج ٢ / ٢ ، ص ٣٢٣ ـ ٣٢٩ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٧ ؛ الجزيرى : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٦٣١ ـ ٦٣٧.

(٢) (كلوة) بالكسر موضع بأرض الزنج وعلى بعد نحو ٢٤٠ كم إلى الجنوب من مدينة دار السلام عاصمة تنزانيا حاليا. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٧٨ ؛ سليمان عبد الغني المالكي : سلطنة كلوة الإسلامية ، ص ١٩.

(٣) أبو المظفر حسن بن سليمان ويكّنى أبا المواهب لكثرة مواهبه ومكارمه ، كان كثير الغزو إلى أرض الزنوج والإغارة عليهم ، فكثرت غنائمه وعمل على صرفها وفق تعاليم الشريعة الإسلامية في كتاب الله تعالى وجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة فإذا جاءه الأشراف دفعه إليهم وهو دائم التواضع للفقراء حريص على تناول الطعام معهم ، كثير التعظيم للعلماء. حكم ٢٤ سنة ومات دون عقب. انظر ابن بطوطة : الرحلة ، ص ٢٥٨ ؛ المالكي : سلطنة كلوه الإسلامية ، ص ٤٣.

(٤) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ٢٥٨.

١٧٨

المعلومات عنها. ولا نجد عن أحوالها السياسية إلّا ما تضمنتها رحلة ابن بطوطة وهي معلومات قليلة إذا ما قورنت بما كتب عن مكة المكرمة.

إذ ذكر ابن بطوطة أميرين من أمراء المدينة المنورة عاصرهما هما طفيل بن منصور بن جماز الحسيني (١) وكبيش بن منصور بن جماز (٢).

وتحّدث عن كيفية تولّي طفيل ، فقال : تولى إمره المدينة كبيش بن منصور ابن جماز عقب قتله لعّمه مقبلا (٣) ، وقيل توضأ بدمه ثم إن كبيشا خرج سنة ٧٢٧ ه‍ / ١٣٢٦ م إلى الفلاة في شدّة الحر ومعه أصحابه فأخلدوا إلى الراحة وتفّرقوا تحت ظلال الأشجار فما راعهم إلّا وأبناء مقبل في جماعة من عبيدهم ينادون يالثارات مقبل فقتلوا كبيش بن منصور صبرا ولعقوا دمه ، وتولّى بعده أخوه طفيل بن منصور (٤).

__________________

(١) طفيل بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني استقر في إمرة المدينة المنورة بعد قتل أخيه كبيش في رجب سنة ٧٢٨ ه‍ / ١٣٢٧ م وكان أميرا كبيرا كامل السؤدد وعالي الهمّة مهيبا معظمّا في النفوس محبوبا من الجميع جمع مفاخر المناقب جوادا محسنا لا سيما إلى المجاورين ، سمحا للوافدين والزائرين ، وشفاعات المجاورين عنده مقبولة استمر حاكما إلى سنة ٧٥٠ ه‍ / ١٣٤٩ م. انظر السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٢ ، ص ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) كبيش بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم ولي إمرة المدينة المنورة بعد قتل أبيه في رمضان سنة ٧٢٥ ه‍ / ١٣٢٤ م فأقام سنة ونحو خمسة أشهر ، ولم تصف له تلك الأيام واستناب أخاه طفيلا وقتل على يد أولاد عمه مقبل بن جماز في يوم الجمعة سلخ رجب سنة ٧٢٨ ه‍ / ١٣٢٧ م واستقل طفيل بعده بالإمرة وكان هذا ينوب عن أبيه في الإمرة. انظر السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٣ ، ص ٤٢٦ ـ ٤٢٧.

(٣) مقبل بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين الحسيني قريب أمير المدينة وولد مستوليها ، طرقها في شعبان سنة ٧٠٩ ه‍ / ١٣٠٩ م فتغيظ منه كبيش بن منصور بن جماز وهو ابن أخيه وكان إذ ذاك يخالف أباه على الإمرة فدهمهم مقبل ليلا ونصب سلما خشبيا كان معه مقطعا وصعد منه إلى السور فأستيقظ له كبيش وتقاتلا إلى أن قتل مقبل وقتل معه من أقاربه قاسم ابن قاسم بن جماز واستمروا حزبين. انظر ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ٤ ، ص ٤٣٦.

(٤) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٤.

١٧٩

وجاء في رواية القلقشندي أن مقبلا اشترك في إمرة المدينة المنورة مع أخيه منصور (١) على إثر طلبه من الظاهر بيبرس بمصر لذلك. وعند ما قام منصور بالإيعاز لابنه في تدبير شؤون المدينة المنورة خلال غيابه فاعتبر مقبل ذلك تعّديا على حقوقه في الإمارة ، فهجم على ابن أخيه وانتزعها منه ، مما دفع بكبيش إلى الخروج من المدينة المنورة واللحاق بأحياء العرب طالبا مساعدتهم ، واستعاد المدينة المنورة وتمكن من قتل مقبل في سنة ٧٠٩ ه‍ / ١٣٠٩ م وعاد منصور إلى إمارته ثم هلك سنة ٧٢٥ ه‍ / ١٣٢٤ م فولي ابنه كبيش فقتله عسكر ابن عمّه ودى بن جماز (٢) الذي حكم المدينة المنورة من قبل الملك الناصر محمد ابن قلاوون وعقب وفاته تولاها طفيل بن منصور بن جماز وانفرد بإمرتها (٣).

فنلاحظ أن ما أورده ابن بطوطة حول المدينة المنورة وأمرائها متفق مع غالبية المصادر. كما نرى أن اعتماد وسيلة القتل في سبيل الإمارة أيضا معروف في المدينة المنورة ، بل إنها شملت حتى من يتطاول على شخص الشريف ولو خطأ فيقتل جزاء ذلك ، وذكر ابن بطوطة أن أحد فقهاء ومدرسي المالكية بالمدينة المنورة ويدعى أبو العباس الفاسي تحّدث يوما مع الناس فانتهى به الكلام إلى القول أن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام لم يعقب فبلغ ذلك أمير المدينة طفيل بن منصور بن جماز الحسيني فأنكر كلامه

__________________

(١) منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن الحسين بن مهنا بن داود بن قاسم ابن طاهر بن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن على بن أبي طالب الحسيني صاحب المدينة والد طفيل استقل بالإمرة في حياة والده سنة ٧٠٠ ه‍ / ١٣٠٠ م ثم حضر أخوه مقبل فقتل مقيل ثم توجه إلى مصر فأقام ولده كبيش بها ، وأعاد الناصر منصورا إلى الإمرة سنة ٧١٦ ه‍ / ١٣١٦ م فاستمر بها إلى أن قتله ابن أخيه حديثة بن قاسم بن جماز وقتل قاتله في الحال سنة ٧٢٥ ه‍ / ١٣٢٤ م. انظر ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ٤ ، ص ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

(٢) ودى بن جماز بن شيحة الحسيني أمير المدينة محبا للسنة وكارها للشيعة. انظر ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ٤ ، ص ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

(٣) القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ؛ أحمد بن محمد صالح الحسيني البرادعي : المدينة المنورة عبر التاريخ الإسلامي ، ص ١١٨ ـ ١٢١.

١٨٠