الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

أولا ـ الأحوال الاجتماعية :

تنوعت الحياة الاجتماعية في بلاد الحجاز متّخذة مظاهر عدة لذلك.

وسنحاول قدر الإمكان تتبّعها من خلال كتب الرحّالة. وفي البداية نتحّدث عن عناصر المجتمع في بلاد الحجاز :

١ ـ عناصر المجتمع :

* ضمت مكة المكرمة العديد من العناصر البشرية لما لها من مكانة وهيبة في نفوس المسلمين الوافدين من شتّى بقاع العالم. والواقع أننا لن نستطيع حصرها وإنمّا سنعمل على إبراز أهم العناصر الموجودة في بلاد الحجاز والتي استخرجناها من كتب الرحالة ، فمن عناصر السكان : آل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذرّية الحسن بن علي وهم السليمانيون وبنو هاشم وبنو قتادة (١) ومن سكان مكة المكرمة الأوائل القرشيون وهم قلّة تفرّقت الغالبية العظمى منهم في البلدان مثل الشام والعراق وغيرهما مع موجة الفتح الإسلامي لتلك الأماكن. ونجد جزءا منهم في الطائف والوديان المحيطة به وفي جدة ونواحيها (٢). ومنهم من غادر الحجاز إثر ثورات العلويين (٣).

* أما المدينة المنورة فمن عناصر السكان بها آل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذرية الحسين بن علي. ومن سكانها الأصليين الأوس والخزرج. كما شكّل المجاورون نسبة كبيرة من السكان في المدينتين المقدستين بصفة عامة حيث قدموا من بقاع شتّى بهدف الاستقرار في مكة (٤).

__________________

(١) القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٢٧٢ ، ٢٧٥ ، ٢٧٧.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٦٢.

(٣) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ٩٩.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٨.

٢٠١

ومن العناصر السكانية الموجودة في بلاد الحجاز :

* الأعراب :

وهم فئة من الناس احترف بعضهم السرقة والاعتداء على الحجاج وسلب أموالهم ، مما تسبب في بروز خطرهم حتى على أفراد المجتمع في بلاد الحجاز أنفسهم. ونلاحظ أماكن تواجدهم في الطرق المؤديّة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة : مثل المناطق المحيطة بذي الحليفة (١) ، وسيطرتهم عليها (٢) ، وانتشارهم في الطريق من الوجه (٣) إلى المدينة المنورة (٤).

وفي مكة المكرمة انتشرت أعراب بنو شعبة (٥) في المشاعر المقدسة.

وهدفها الاعتداء على الحجاج بالسلب والنهب والقتل. ووصل خطرهم لدرجة أنّ ابن رشيد ترك المبيت بمنى وقت أدائه لفريضة الحج خوفا على حياته منهم (٦).

كما أشار البلوي (٧) إلى انعدام الأمن أيضا من الأعراب عند وصوله إلى ماء هدية (٨).

* العبيد :

ومن العناصر التي وجدت أيضا أهل البلاد السودان ويجلبون من أماكن متفرّقة مثل الحبشة والنوبة والديلم (٩) واستخدموا كعبيد لذوي السلطة (١٠) وخدم في المنازل ، بالإضافة إلى وجود الجواري للغاية ذاتها (١١).

__________________

(١) (ذو الحليفة) قرية على بعد ٦ أو ٧ أميال من المدينة وهي ميقات أهلها. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٢٩٥.

(٢) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ٢٠١.

(٣) (الوجه) بلدة تقع شمال يتبع. انظر البلادي : معجم معالم الحجاز ، ج ٩ ، ص ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٤) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦١.

(٥) انظر فيما سبق ص ١٤٢ ، هامش ١.

(٦) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٨٧ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٨.

(٧) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٧٩.

(٨) (هدية) محطة للجمال في وادي الطبق. انظر البلادي : معجم معالم الحجاز ، ج ٩ ، ص ١٦٩.

(٩) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ٩٩.

(١٠) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٤ ، ٣٠٧.

(١١) جميل حرب : الحجاز واليمن في العصر الأيوبي ، ص ٢٣١.

٢٠٢

ومنذ القدم كان أهل مكة المكرمة يجلبون العبيد والجواري ويجعلون على الواحد منهم مبلغا مطلوبا يدفعه كل يوم لسيّده ، مما أدّى في وقت من الأوقات إلى دفعهم للحصول على المال عن طريق السرقة وأحيانا بالحيلة ، فاستفحل ضررهم على المجتمع المكّي ؛ ولهذا قدم سيف الإسلام طغتكين على رأس جيش كبير سنة ٥٨١ ه‍ / ١١٨٥ م لتأديبهم والقضاء على ضررهم (١).

٢ ـ طبقات المجتمع :

* الطبقة الحاكمة :

تولّى حكم الحجاز الأشراف من ذرية الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما في مكة المكرمة. ومن ذرية الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما في المدينة المنورة واتّسم حكمهم بطابع الإمارة فقط (٢).

وفي رحلة ابن جبير نجد إشارة إلى حاكم مكة المكرمة الأمير مكثر ابن عيسى (٣) ، وكان مقيما في داخل مكة المكرمة واعتمد على الوزراء والقّواد والحاشية في تسيير أمور البلاد إلّا أننا لم نعثر على أسماء أحد منهم (٤).

وتشمل هذه الطبقة أيضا الأمراء الذين اعتمد عليهم الشريف في إدارة القرى والمناطق التابعة لمكة المكرمة. في حين انفردت مدينة ينبع بأمير مستبّد بها. وقام بحكم خليص أحد الأشراف المعروف بالعدل وحسن السيرة والإحسان إلى الحجاج. وفي مّر الظهران أيضا أحد الأشراف من بني الحسن والمعين عليها من قبل شريف مكة المكرمة (٥).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٠٠ ؛ ابن المجاور : تأريخ المستبصر ، ص ٧ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

(٢) القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٢٨١.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٣ ، ٧٥ ويلاحظ قلّة المعلومات عن هذا الأمير. انظر عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٣٨.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٤ ، ١٠٠.

(٥) العبدري : الرحلة ، ص ١٦٣ ، ١٧٧.

٢٠٣

وفي رحلة ابن رشيد نجد إشارة إلى شريف مكة المكرمة أبي نمي محمد ابن أبي سعد الحسني وما تمتع به من هيبة وسلطان وقوّة شخصية (١). والذي استمر في إمارته حتى زمن رحلة العبدري والذي أغفل الإشارة إليه واستمر حكمه في عهد رحلة التجيبي الذي أشار إلى تعيينه عاملا من قبله على مدينة جدة (٢).

وقد أشار التجيبي في رحلته واصفا الشريف أبا نمي من الناحية الخلقية قائلا : إنه شيخ خفيف العارضين ، شديد السمرة ، ضخم الجسم ، معتدل القامة حسن الصورة ، تميّز بالسكينة والهيبة وقوة النفس والإقدام والشجاعة والتواضع وقال في هذا : إنه رأى الشريف ذات ليلة أثناء طوافه بالبيت الحرام وهو يهّم بتقبيل الحجر الأسود وكان المجاورون قد سبقوه إلى ذلك وحاول أتباعه إبعادهم عن الحجر الأسود وإفساح المجال للشريف فنهاهم عن ذلك وانتظر حتى انفضّوا وقام بتقبيل الحجر وعقب فراغه اتجه إلى المقام وصلّى فيه ركعتي الطواف على الأرض بعد إزاحته لرداء فرشه له أحد أتباعه ، واتجه بعدها إلى السعي لإتمام عمرته.

وللشريف أبي نمي أعوان لمساعدته في الحكم منهم وزير قدير لم ترد إشارة إلى اسمه وكانت إقامة الشريف في حصن له خارج مكة المكرمة يسمّى الجديد.

ترك الشريف أبو نمي عددا من الأولاد تولى بعضهم إمارة مكة المكرمة وأسهموا في أحداثها مثل رميثة وحميضة وغيرهما وهذا له دلالة على حصر السلطة في أعضاء الأسرة الحاكمة من الأشراف (٣).

__________________

(١) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٩٦ ، ١٠٠.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٩.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٤ ـ ٣٠٨ ، ٤٦٣.

٢٠٤

ويلاحظ في رحلة ابن بطوطة أيضا من حكام مكة المكرمة الأشراف من نسل الشريف أبي نمي عطيفة ورميثة ومقرهما مكة المكرمة (١). ودارهما قرب المسجد الحرام وأقام رميثة أحيانا في حصن الجديد (٢).

وقد تمّيز رميثة بحسن السيرة في أهل مكة المكرمة بينما كان الناس يخشون أخاه حميضة لقسوته (٣). وتولى الحكم من أولاد رميثة عجلان (٤) وثقبة (٥).

أما المدينة المنورة فمن حكّامها نلاحظ إشارة ابن بطوطة إلى كبيش ابن منصور بن جماز سنة ٧٢٦ ه‍ / ١٢٢٨ م (٦) وطفيل بن منصور بن جماز (٧) من ذرية الحسين بن علي.

واعتمد الأشراف على حرس يسمون بالحرابة ووصفوا باللصوص لسلبهم أمتعة الحجاج بحيل وطرق عجيبة (٨).

* طبقة القوّاد :

وهي طبقة لها أهميتها الكبرى تتبع الشريف ويتّم اختيار أفرادها من أكابر الأشراف (٩) واحتفظت كتب الرحّالة باسم أحد هؤلاء القّواد وهو محمد ابن

__________________

(١) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٨٤.

(٢) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٤١٥.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٤) عجلان بن رميثة ولي مكة لعدّة مرات وتوفي سنة ٧٧٧ ه‍ / ١٣٧٥ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٤٤٢.

(٥) ثقبة بن رميثة من أسرة قتادة ولي إمارة مكة شريكا لأخيه ثم استقل بها إلى أن مات سنة ٧٦٢ ه‍ / ١٣٦٠ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٢٣١. وفيما يتعلق بتولي وعزل كل منهما. انظر ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٨ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٦) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٤.

(٧) القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٨) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٠٠ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٩) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٤ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٦٢.

٢٠٥

الحسن مولى الشريف أبي نمي (١). وأحيانا قد يكون القائد لا يمّت إلى الأسرة الحاكمة بصلة. كما أشار ابن بطوطة إلى هذا الأمر من خلال ما أورده من أسمائهم (٢).

* طبقة العلماء :

حظي العلماء بأهمية كبيرة لدى الناس. حيث حرص الكثير على القدوم إليهم وتلقّي العلم عنهم. وحظيت بلاد الحجاز بزيارة العديد منهم وجلسوا لإلقاء الدروس على الناس مع حرص بعضهم الشديد على إزالة البدع والمنكرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمل الأذى في سبيل ذلك ولهم مواقف في الحق مع الحكام نسوق منها على سبيل المثال ، ما حدث بين العالم أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خليل العسقلاني حيث سجنه الشريف أبو نمي لقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يلبث أن أطلقه بعد مّدة من الزمن (٣).

* طبقة القضاة :

يلحق بفئة العلماء طبقة القضاة والأئمة. حيث يختارون من رجال العلم وأهل الدين ويقومون بتنفيذ الأحكام الدينية على سائر الناس. وفي بلاد الحجاز نلاحظ وجود قضاة لجميع المذاهب ؛ فكّل طائفة تتبع إمامها وقاضيها ، ولكل إمام مكان محّددّ في المسجد يصلّي فيه مع أتباعه. وإلى جانب قضاة السنة هناك قضاة وأئمة للمذهب الشيعي ، وقد أشار ابن بطوطة إلى وجود قاض شيعيّ في المدينة المنورة (٤).

* أصحاب المهن :

التجار : قدم التجار دورا كبيرا في بلاد الحجاز ، إذ أنه من الملاحظ

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢٩ ؛ سليمان مالكي : بلاد الحجاز ، ص ١١٠.

(٢) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٦٢. انظر ما سبق ص ١٩٩.

(٣) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٩٦.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٨ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٧.

٢٠٦

اعتماد بلاد الحجاز بالدرجة الأولى على التجارة. وكانت حوانيت التجار مصفوفة على جانبي الصفا والمروة. وهناك الفلاحون المشتغلون في بساتين مكة المكرمة المتناثرة في الزاهر والمسفلة. بالإضافة إلى مهن أخرى متنوّعة منها كالسقائين والخبازين (١) وصناع الحلوى (٢) والرعاة (٣). والأغوات وهم خدم المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة (٤) وهم من أصل حبشي وصقلبي تميزوا بالظرف وحسن المظهر (٥) وسبب استمرارهم هو صلاح الدين الأيوبي فقد ثبتهم في أعمالهم وكتب لهم بذلك كتابا وقفهم فيه على الحرم النبوي وهو موجود لديهم إلى وقت السخاوي. ويعملون على العناية بالمسجد خلال ساعات النهار ويقومون بإغلاق أبوابه ليلا مع القيام بنظافته وإشعال وإطفاء قناديله وغير ذلك (٦).

ويبدو ان استخدام الخدم للعناية بالمسجدين أمر قديم ، إذ نجد أن معاوية بن أبي سفيان جعل عبيدا للمسجدين في مكة والمدينة ومن ثم أصبح ذلك تقليدا معروفا (٧).

ومن المهن أيضا صناعة الثياب ، إذ يطلق على أحد أبواب المسجد الحرام باب الخياطين (٨). وهناك المعلّمون والنساخ (٩) ، إلى جانب مهنة الطوافة

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٩ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٨.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٨.

(٣) جميل حرب : الحجاز واليمن ، ص ٢٣٠.

(٤) (الأغوات) جمع آغا. أنظر عبد الرحمن عبد الكريم الأنصارى : تحفة المحبين ، ص ٥٣ ؛ وعن مراتب وأعمالهم. انظر توفيق نصر الله : الأغوات نسل منقطع النظير ، مجلة اليمامة ، العدد ١٩٢ ، ١٤١٠ ه‍ ، ص ٤٢ ـ ٤٦.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧١ ـ ١٧٢.

(٦) السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ١ ، ص ٦١ ـ ٦٣.

(٧) الأزرقي : أخبار مكة ، ج ١ ، ص ٢٥٤.

(٨) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٨ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٧.

(٩) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٨.

٢٠٧

وقيام سدنة البيت بالطواف بالحجاج مقابل أجر يأخذونه (١). إضافة إلى مهن أخرى كالحمالة (٢) والجزارة (٣) والبناء والتنجيد (٤) وصناعة الدهان (٥).

ومن المهن الموجودة في جدة فئة عملت بتأجير الجمال للراغبين بذلك إلى جانب مهنة الحطاب (٦) والصياد (٧). وهذه مجمل عن المهن التي وردت عنها إشارات واستطعنا تتبعها ولا يعني هذا اقتصار أهل الحجاز على هذه المهن فقط فربما وجدت غيرها ولكن يبدو أن الرحالة أغفلوا ذكرها.

٣ ـ العادات والتقاليد :

* الأسرة في بلاد الحجاز :

اشتهر أهل الحجاز بنكاح الجواري الحبشيات (٨). ولم يكن الأمر قاصرا على العامة بل نجده منتشرا بين الطبقة الحاكمة من الأشراف مثل الشريف

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٦٤ وهذه أول إشارة لها ويثبت أن الطوافة عرفت منذ ذلك الوقت وليس كما يذكر البعض أنها إنما عرفت بعد القرن الثامن الهجري. انظر محمد عبد الله مليباري : المنتقى في أخبار أم القرى ، ص ١٨٩ وتجدر الإشارة إلي أن هذا الكتاب منتقى من ثلاثة كتب الأول كتاب الفاكهي والثاني الأزرقى والثالث الفاسي وقد انتقى مادته وجمعه المستشرق الألماني الأستاذ / فردنالد وستنفلد ـ F ـ wustenfeld ـ وليس كما ذكر محقق الكتاب من ان نسبته تعود إلى ناسخه الذي اعتقد أنه الشيخ عبد الستار الدهلوي. انظر ما جاء حول هذا الموضوع في مقالة للدكتور / فواز الدهاس : وقفه عند كتاب المنتقى في أخبار أم القرى ، جريدة عكاظ ، العدد ٦٩٦٠ ، ٢١ شوال ١٤٠٥ ه‍ / ٩ يوليو ١٩٨٥ م ، العدد ٧٠٢٣ ، ٢٥ ذى الحجة ١٤٠٥ ه‍ / ١٠ سبتمبر ١٩٨٥ م.

(٢) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٨ ، ١٥٠ ، ١٥٩.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٩.

(٤) أي الأشخاص القائمين على صناعة بعض الأثاث المستخدم في المنازل. انظر التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٥٣.

(٥) ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ٤ ، ص ٣٣٦.

(٦) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٣.

(٧) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٨) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٣ ؛ ابن المجاور : تأريخ المستبصر ، ص ٥.

٢٠٨

أبي نمي حيث أنّ ابنه رميثة أسود اللون (١) وكذلك حميضة وكانت والدة الشريف أبي سعد الحسن حبشية (٢) وربما يكون الداعي الى التزوج بهذا الجنس هو لتدعيم سلطة الشريف المتولي للإمارة.

العادات والتقاليد :

حظي شهر رمضان في بلاد الحجاز بالتعظيم والإجلال لما له من أهمية دينية. ومن العادات المعروفة فيه المسحّراتي وهو القائم على إيقاظ الناس وقت السحور. وفي مكة المكرمة يقوم المؤذن الزمزمي بهذه المهمة حيث يقف في المنارة الواقعة في الركن الشرقي من المسجد الحرام للدعاء والتذكير وإظهار فضل وبركة السحور ، ويقف معه اثنان من إخوته يقومان بترديد بعض أقواله.

ويبدو أن السبب في اختيار هذا المكان لإيقاظ الناس قربه من منزل الأمير.

وعلى هذه المنارة تنصب خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يوضع عليها قنديلان كبيران من الزجاج يوقدان خلال فترة السحور وسبب ذلك إعلام الناس حال رؤيتها بدخول وقت السحور لمن لا يتسنّى لهم سماع صوت المسحراتي لبعد منازلهم عن المسجد المكي. وعند اقتراب الفجر يقوم المؤذن الزمزمي بإنزال القنديلين ويبدأ الأذان وهذه عادة مستمرة طوال ليالي الشهر الكريم.

وعند إقبال شهر شوال يتميز الناس فيه بارتداء الملابس الجديدة والتي أعّدت خصيصا لهذه المناسبة ويتبادلون فيما بينهم التهاني.

وحرص المؤذن الزمزمي في الحرم المكي على الدعاء للخليفة العباسي ولأمير مكة ولصلاح الدين إثر صلاة المغرب دلالة على ما لهؤلاء الحكام من محبة في نفوس أهل الحجاز.

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ٢ ، ص ٧٦ ، ٦٣٧.

٢٠٩

ومن العادات أيضا ضرب الطبول في أوقات الصلاة إشعارا بابتداء موسم الحج (١).

ومن عادة أهل مكة المكرمة في حالة وجود قحط إخراج مصحف مكتوب بخط زيد بن ثابت الصحابي الجليل رضي‌الله‌عنه ووضعه في القبة مع المقام بعد فتح باب الكعبة ثم يجتمع الناس وهم حاسرو الرؤوس داعين الله ومتضرعين إليه حتى يتداركهم برحمته (٢).

والواقع أن هذه العادة بدعة لأن الوارد في السنة أنه في حالة القحط تقام صلاة الاستسقاء ويجتمع الناس لأدائها في أماكن خارج البلد لأجل السعة مع الاستغفار والتوبة والإقلاع عن الذنوب.

ومن عادات المكيين أيضا الاحتفاء بالضيوف وإقامة الولائم كل حسب استطاعته المادية بالإضافة إلى عادة استقبال الحجاج وإخراج أطفالهم لمساعدتهم في أداء المناسك وإرشادهم إلى الطرق الصحيحة لأداء الفريضة (٣).

كما درج أهل مكة على إعداد مياه زمزم للشرب في الحرم حيث توضع في دوارق بعد تنظيفها وجميرها وتوضع حولها كيزان (٤) بيضاء تسمى الغراريف (٥).

كما تحدث ابن بطوطة عن العادات الحسنة لأهل مكة واصفا إيّاها بأنها من" الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء". ودلّل على ذلك بأنه متى صنع أحدهم وليمة

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٠ ، ١٠١ ـ ١٠٢ ، ١٢٣ ، ١٣٥ ، ١٤٨.

(٢) المصدر السابق ، ص ٨٠ ـ ٨١ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٨.

(٣) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٢٩ ، ٨٠.

(٤) (الكوز) نوع من الأواني ذو عروة وفي حالة عدم وجودها يسمى كوبا. انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٦ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢٣ ، ٤٦٣ ؛ المغرفة ما يغرف بها وهي على قدر ملء اليد. انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٦٣.

٢١٠

بدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين وذكر أماكن تواجد المساكين والمنقطعين فقال يكون بالأفران حيث" يطبخ هناك أهل مكة أخبازهم فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله يتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له ولا يردهم خائبين. ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيّب النفس بذلك من غير ضجر".

ومن حميد عاداتهم أيضا اعتناؤهم بالأيتام ومساعدتهم على تعلّم طرق الكسب الحلال. حيث اعتاد الأيتام الصغار الجلوس في السوق ومع كل واحد منهم قفّتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة. ويسمون القفة مكتلا فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق فيشتري الحبوب واللحم والخضر ويعطي ذلك للصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفّتيه واللحم والخضر في الأخرى ، ويحمل الصبي ذلك إلى دار الرجل ليهّيأ له طعامه منها مقابل أجر معلوم. في حين يتجه الرجل لقضاء أعماله (١).

وقد أشار ابن بطوطة إلى كثرة استعمال أهل مكة للطيب والكحل والسواك. ووصف نساء مكة بأنهن فائقات الحسن بارعات الجمال ، تميزن بالصلاح والعفاف ومشاركتهّن الرجال في حبّهن للطيب لدرجة استبداله بالقوت والطعام. كما حرصت النساء على الطواف في ليلة الجمعة فيذهبن إلى المسجد الحرام في أحسن لباس فيغلب عند ذلك على الحرم رائحة طيبهّن حتى بعد ذهابهّن يبقى أثر الطيب عبقا (٢).

__________________

(١) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٧ ، كانت هذه العادة موجودة إلى وقت قريب جدا وقبل التوسع العمراني الذي رافق الطفرة الاقتصادية.

(٢) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٥١ ؛ ابن المجاور : تأريخ المستبصر ، ص ٩ ؛ وفي هذا تجاوز للشريعة الإسلامية والتي أمرت بعدم الطيب للمرأة حال خروجها من المنزل فقد روي عن زينب امرأة عبد الله قالت (قال انا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا). انظر مسلم : صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٦٣.

٢١١

وقبل أن نختم حديثنا عن العادات والتقاليد في المجتمع المكي يجدر بنا أن نشير إلى بعض الخرافات والبدع التي كانت موجودة فيها : مثل اعتقادهم في زيادة ماء زمزم في ليلة النصف من شهر شعبان (١). وقيل أيضا في كل ليلة جمعة (٢) ، كما أشير إلى عدم هبوط الحمام فوق الكعبة وانتشاره حولها وفي حالة نزوله عليها فإنه يموت لحينه أو يشفى من علته إذا كان عليلا (٣). وقد أشار التجيبي إن ذلك نوع من البدع خصوصا عند ملاحظته لاقتراب الحمامة منه لمرة واحدة الأمر الذي أثار فضوله فتوجه بالسؤال لشيخه أبي إسحاق الطبري فأخبره إن العادة درجت عندهم أنه لا ينزل عليه طائر إلا مستشفيا من مرض ثم أردف قائلا : والله أعلم (٤).

وقد سجل هذا النوع من البدع الرحالة المغاربة والأندلسيون على الرغم من حرصهم على الدقة في كثير من الأمور ولم يقم أحد منهم بمناقشة هذا الأمر. ولكن ناقش هذه القضية محمد طاهر الكردي بإفاضة عند ذكره لحمام الحرم ووقوفه أحيانا على الكعبة المشرفة ، وقد أثبت صورا تؤيّد هذا ذاكرا أن غيره من الحمام لا يقع على الكعبة لأسباب منها :

١ ـ الكعبة بالنسبة لما سواها من الأبنية منخفضة والطيور محبة للأماكن المرتفعة.

٢ ـ الكعبة المشرفة ليس لها بروزات سوى ميزابها وهي ملساء مفروشة بالحرير في حين أن الحمام يحّب الأشياء البارزة الخشنة ليستطيع التمسك بها علاوة على أن سطحها مفروش بالرخام فهو معّرض لحرارة الشمس الحارقة فلا يمكن الوقوف عليه لذلك.

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١١٩ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٧.

(٢) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) الفاسي : شفاء الغرام ، ص ٣٠٠ ؛ ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ، ص ٣٩.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٨٩.

٢١٢

٣ ـ ليس في الكعبة فجوات تجذب الحمام إليها لبناء أعشاشها (١).

ولعل ما أورده الكردي حول هذه المسألة صحيح ؛ لذا فالكعبة لا تجذب الطيور للوقوف عليها. فساد هذا الاعتقاد عند أهل مكة وغيرهم.

ومن الشائعات أيضا قولهم إنه على جانبي طريق الزاهر جبال أربعة جبلان عن اليمين وجبلان عن اليسار عليها أعلام من الحجارة وقيل إنها جبال مباركة لأن إبراهيم عليه‌السلام جعل عليها أجزاء الطير ثم دعاهن حسبما ورد في القرآن الكريم وأردف ابن جبير أنها سبعة وليست أربعة ، وعزا ذلك إلى علم الله تعالى (٢). وأغلب الظن أن هذا القول غير صحيح إذ لم يرد بشأنها أي ذكر في أخبار مكة للأزرقي ، بالإضافة إلى أن كتب التفاسير التي فسرت الآية : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٣). لم تشر إلى أن هذه الجبال بمكة المكرمة بل نجد أن ابن كثير في تفسيره لم يكن واثقا من عدد الجبال أهي أربعة أم سبعة (٤) مثل ابن جبير. وأغلب الظن أن الحادثة وقعت قبل قدوم إبراهيم عليه‌السلام إلى مكة المكرمة ولم يشر القرطبي في تفسيره إلى مكان وجود هذه الجبال فقال" وقال ابن عباس أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف" (٥).

__________________

(١) انظر بإفاضة محمد طاهر الكردي المكي : التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم ، ج ٢ ، ص ٢٢٠ ـ ٢٢٤.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٩ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٦١ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٤ ـ ١٤٥ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٣) القرآن الكريم : سورة البقرة ، ١ / ٢٦٠.

(٤) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ج ١ ، ص ٣١٥.

(٥) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ٣ ، ص ٣٠٢ ؛ عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ، ص ٩٧.

٢١٣

ومما ورد أيضا عن البدع والشائعات ما قاله ابن جبير حول الحجارة الموضوعة عند باب بني شيبة من أنها أصنام لقريش كانت تعبدها في جاهليتها قد كبت على وجهها تطؤها الأقدام ويسير الناس عليها بالنعال. وقد نفى ذلك وأوضح أن الأصنام قد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة بإحراقها وإن هذه الحجارة الموجودة على الباب منقولة وشبهها الناس بالأصنام لعظمها (١). وأشار التجيبي لهذا الأمر ولم يناقشه (٢).

ومن الشائعات ما أثير حول جبل ثور وقولهم من لم يستطع دخول الغار من الفتحة التي دخل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها فهو ابن زنا وأمّا موقف العامة فهناك عدد كبير رافض لذلك (٣).

ومنها أيضا ما أورده ابن رشيد والتجيبي مما قام به آل الشيبي داخل الكعبة المشرفة من استحداثهم كوة في الجدار الغربي مقابل الباب يبلغ ارتفاعها نحو ستة أذرع وأطلقوا عليها العروة الوثقى. وأوهموا العامة أن من يلمسها يعد مستمسكا بها ؛ مع حرصهم على وضع كرسي من خشب الساج يقف عليه الراغب في لمس الكّوة بعد دفع شيء من المال للشيبيين. وأدى الأمر إلى تزاحم الناس في البيت في سبيل ذلك. وما كان من التجيبي إلّا أن قام بتحذير من تسنّى له تحذيره من هذه البدعة.

وموضحا أن العروة الوثقى التي فرض الإسلام على الناس الالتزام بها هي لا إله إلا الله.

أما البدعة الثانية فهي : وجود مسمار من الفضة في وسط البيت على لوحة من رخام يسمى سرّة الدنيا يضع الشخص بطنه فوقه بعد الكشف عن سرته عقب دفع مبلغ من المال نظير ذلك (٤).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٠.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٤.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٤ ؛ العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٨٦ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٥٣ ـ ٣٥٦ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٥.

(٤) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٢١٤

والدليل على أن هذه الأمور من البدع (١) عدم وجودها زمن زيارة ابن جبير. ومع أنها كانت موجودة زمن وجود العبدري بمكة ، إلا أنه لم يشر إليها وإنما ذكر أن القائمين على الكعبة لا يسمحون بدخولها إلا بعد دفع شيء من المال عند بابها (٢).

ومن غير المعروف بالتحديد وقت ابتداء هذه البدعة. وكما أشرنا فإن الداعي لظهورها الحاجة الشديدة إلى المال (٣).

والملاحظ في مثل هذه البدع إقبال الكثير على تصديقها ، واعتبارها حقيقة مسلمّا بها. وقد يبدو أن ضعاف النفوس والراغبين في الثراء على حساب الجهال من عامة الناس روّجوا تلك الشائعات ، رغبة في جلب الناس إلى العروة الوثقى والمسمار وغيره والتصديق بهما لا حبا في نفع المسلمين ؛ بل لما سيعود عليهم من المال الوفير والمأخوذ بطبيعة الحال من البسطاء والحجاج دون وجه حق. إلى جانب عدم احترام قدسية المكان الشريف المستغل في عملية النصب والاحتيال.

وقد انتهى أمر هذه البدع إلى الزوال على يد الصاحب زين الدين أحمد ابن محمد بن على بن محمد المعروف بابن حناء (٤) سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م عند مشاهدته لما يحدث في البيت من أمور منكرة فأمر بإزالتها وانتهت هذه البدعة على يديه (٥).

__________________

(١) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ١ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٢) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٧٦.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٤) أحمد بن محمد بن على بن محمد بن سليم زين الدين ابن الصاحب محيى الدين ابن الصاحب بهاء الدين بن حناء سمع من سبط السلفي وحدث عنه وتفقه ودرس وكان فقيها دينا رئيسا وافر الحرمة مات في صفر سنة ٧٠٤ ه‍ / ١٣٠٤ م ودفن في قبر حفره لنفسه بجنب الشيخ أبي محمود بن أبي جمرة. انظر ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ١ ، ص ٢٨٣.

(٥) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ١ ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦.

٢١٥

ولعل سبب ظهور مثل هذه البدع المفسدة للعقيدة راجع أيضا إلى ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة ، واقتصار العلماء على التعليم والحديث دون التعرض لذلك إلا من قلة (١). إضافة إلى ضعف الوازع الديني في نفوس سدنة بيت الله الحرام وسعيهم وراء المال بطرق غير مشروعة.

كما ظهر من البدع زمن وجود ابن رشيد والتي لم يشر لها غيره من الرحالة وهو طواف النساء ليلا وهن حاملات الشموع بأيديهن وسافرات عن وجوههن فعبر عن استنكاره للأمر بأنه من البدع غير المقبولة (٢).

ومما شاع أيضا لدى أهل مكة المكرمة قولهم إن مولد الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما بمكة المكرمة. وقد ذكره ابن جبير على أنه حقيقي (٣) ونفاه التجيبي (٤).

ومن الشائعات زمن زيارة التجيبي لمكة وجود شجرة فوق جبل أبي قبيس يقصدها الناس على أنها الشجرة التي تمت بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحتها فنفى التجيبي هذا الزعم قائلا : " إنها خفيت على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع معاينتهم لها وقرب العهد بها فكيف يعلمها هؤلاء" (٥). فضلا عن أن هذه الشجرة بالحديبية وليست بمكة وقد أمر بقطعها عمر بن الخطاب رضى الله عنه خوفا من افتتان الناس بها (٦).

ومن جملة ما شاع لديهم أيضا وجود أكوام كبيرة من الحجارة على قبرين عرفا بأنهما قبرا أبي لهب وامرأته وقيل بل قبر أبي رغال (٧) وهذا رأى

__________________

(١) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٣١ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ٢ ، ص ٦٠.

(٢) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٢٦٥.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٤١ ـ ١٤٢. انظر ما سبق ، ص ٩٦ وفيما بعد ، ص ٤١٢.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٣٣.

(٥) المصدر السابق والصفحة.

(٦) الأزرقي : أخبار مكة ، ج ١ ، ص ١٤٢ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٥١.

(٧) أبو رغال هو دليل الحبشة عند غزوهم للكعبة أهلكه الله فيمن هلك منهم ودفن بين مكة والطائف فمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبره فأمر برجمه فصار ذلك سنة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٥٣.

٢١٦

غير صحيح (١) من التجيبي فقبر أبي رغال بالمغمس والمغمس خارج منطقة الحرم وأبو رغال هذا كان دليلا لأصحاب الفيل ولم يصلوا الحرم (٢).

المدينة المنورة :

من عادات أهل المدينة الحسنة ما ذكره ابن رشيد من قيامهم باستقبال ركب الحجيج مبشرين بالوصول إلى حضرة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع تقديم التمر لهم وقد وضعوا عصيا في أطرافها أوعية صغيرة يضعون فيها شيئا من التمر يناولونه للجالسين داخل القباب المغطاة بالأقمشة (٣).

ونلاحظ خلال كتابات الرحالة قلة معلوماتهم عن الحياة الاجتماعية في المدينة المنورة. ولعل ذلك راجع إلى قصر مدة إقامتهم بها.

أما البدع المنتشرة في المدينة فمما ذكره ابن جبير عن إطالة جلوس الخطيب يوم الجمعة بعد الخطبة الأولى لجمع المال من المصلين ثم يعود عقب ذلك لمواصلة خطبته (٤).

وقد استعظم ابن جبير الأمر ولعلها إحدى وسائل كسب المال بطرق غير مشروعة.

كما أورد خبرا عن بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : إن هناك قطعة منه في وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح الخدود فيها (٥). ولم يشر ابن جبير إن ذلك من صنع العامة ؛ بل على أساس أنه ما بقي من الجذع حقا. كما أورده البلوي أيضا معتقدا صحته وزاد العبدري

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٨ ؛ العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٨ ـ ١٦٩ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢٤.

(٢) المغمس بالضم موضع قرب مكة في طريق الطائف مات فيه أبو رغال. انظر الأزرقي : أخبار مكة ، ج ١ ، ص ١٤٢ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ١٦١.

(٣) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٦.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٥) المصدر السابق ، ص ١٧٠. وهذا مما لم يأمر به الشرع وهو مغالاة منهم.

٢١٧

على أن هذا الجذع قد فقد بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجده أبو بكر رضي‌الله‌عنه في حين وجده عمر ابن الخطاب أثناء خلافته عند رجل بقباء قام بدفنه حتى أكلته الأرضة فأخذ له عمر ابن الخطاب عمودا فشقه وأدخله فيه ثم شعبه ورده بموضعه فلما زاد عمر بن عبد العزيز في القبلة جعله في المحراب (١).

ومن العجيب إشارة العبدري أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قام بأخذه من رجل أخفى أمره فأعاده إلى مكانه ، ووجه العجب هنا ما عرف عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بتخلصه مما يمكن أن يؤدي إلى فتنة الناس إذ أنه هو الذي أمر بقطع الشجرة التي تمت بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحتها خوفا من الفتنة فكيف يسعى لشيء يؤدي إليها!؟

إضافة إلى أن ابن النجار ذكر أن الجذع غار وذهب بعد ما خيره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أن يغرس بالجنة وبين أن يرد إلى مكانه فينمو مرة أخرى فاختار أن يكون في الجنة وكان الجذع في موضعه وعلى حاله زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما. ولما هدم عثمان بن عفان رضى الله عنه المسجد اختلف في الجذع فقيل أخذه أبي بن كعب وقيل دفن في موضعه (٢).

وقد جاءت إشارة إلى وجود الجذع زمن السمهودي. حيث ناقش هذا الموضوع مناقشة مستفيضة مؤيدا ما ذهب إليه ابن النجار وأنكر وجوده لا سيما وإن المسجد النبوي قد تعرض لحريقين الأول سنة ٦٥٤ ه‍ / ١٢٥٦ م والثاني سنة ٨٨٦ ه‍ / ١٤٨١ م فيستحيل بالتالي سلامته (٣).

والحاصل أنها الأوهام التي علقت بأذهان الناس ومنهم الرحالة ابن جبير والعبدري وابن بطوطة حول الجذع الذي حنّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير أن الواقع

__________________

(١) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ٢١٩ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٨٦ ـ ٢٨٧. ونلحظ من قول العبدري جهل الحجاج به وحرصهم على ذلك قائم على التقليد.

(٢) ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٧٨.

(٣) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ١ ، ص ٣٨٠ ـ ٣٨٢ ، ج ٢ ، ص ٥٨٩ ـ ٦٣٣.

٢١٨

وما تشير إليه الروايات التاريخية يؤكدان أنه ليس الجذع ذاته لزواله منذ وقت مبكر ولا علاقة بينهما (١). ولعل وجود هذه القطعة إنما لتكون علما على موضعه الذي ربما يكون قريبا من هذا المكان.

ومما أورده ابن جبير عن البدع في المدينة المنورة ما قيل : إن بالمسجد النبوي حجرا مربعا أصفر طوله شبر في شبر شديد اللمعان قيل : إنه مرآة كسرى وفي أعلاه داخل المحراب مسمار مثبت في جداره فيه علبة صغيرة غير معروفة يقال : إنها كأس كسرى (٢). ويلاحظ من قول ابن جبير عدم تمكّنه من معرفته وأدى هذا الأمر فيما بعد إلى الاعتقاد أنه خرزة فاطمه بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أمر بقلعها سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م الصاحب زين الدين نظرا لما تحدثه من فتنة لدى الناس (٣).

وكان في الجهة الشرقية من البلاط الثاني دفة مغلقة على وجه الأرض على سرداب يهبط بواسطة درج تحت الأرض تقود إلى خارج المسجد إلى دار أبي بكر رضي‌الله‌عنه وكان طريق عائشة رضي‌الله‌عنها إليها وبجانبه دار عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي‌الله‌عنهما وهما بلاشك موضع الخوخة المؤدية لدار أبي بكر رضي‌الله‌عنه التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبقائها خاصة (٤). ولم يلبث مع مرور الوقت أن راجت حولها الأكاذيب بأنها دار عائشة أو فاطمة رضي‌الله‌عنهما طمعا في سلب أموال الناس (٥).

ونجد أن البدع والشائعات التي انتشرت بين الناس واستقرت في أذهانهم وكأنها حقيقة مسلم بها دفعت كثيرا من العلماء لمقاومتها والتخلص منها حفاظا على صحة وسلامة النواحي الدينية.

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٠ ؛ العبدري : الرحلة المغربية ، ص ٢١٩ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١١٣.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٢.

(٣) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ١ ، ص ٣٧٣.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧١ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٨٧.

(٥) حمد الجاسر : رسائل في تاريخ المدينة ، ص ١٦٠.

٢١٩

ولا شك أن مرد ذلك إلى ضعف الحالة الدينية. وربما كان الحافز على انتشار مثل هذه البدع يعود إلى محاولة كسب الأموال من البسطاء والحجاج.

الشائعات والبدع السائدة في طرق الحجاز المؤدية إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة : قد حفظت لنا كتب الرحلات بعض العادات والبدع والشائعات سجّلها الرحالة أثناء طريقهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. فمن ذلك ما ذكره ابن رشيد وابن بطوطة من عادة الركب المار بتبوك إعداد الجيش بأسلحته ويتقدم الرجّالة والفرسان وخلفهم الركب في حين يقوم بعضهم بتحميل أكوام الحطب على الدواب لقلّته بأرض تبوك ويقبلون على المدينة بهذه الهيئة زاعمين أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخلها بتلك الطريقة (١).

وأشار ابن رشيد إلى وجود شجرة بأرض تبوك جلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحتها فاخضرت (٢).

وأورد ابن جبير وابن بطوطة مزاعم أهل بدر حول جبل يسمى بجبل الطبول يقال : إنهم يسمعون صوت الطبول على مقربة منه (٣).

وجبل الطبول هذا لم يرد له ذكر بهذا الاسم في كتب المعاجم أو المصادر التي أرّخت للمدينة المنورة. ولكن أشار السمهودي بهذا الصدد قائلا : " شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا بسيفه الذي يدعى العضب وضربت فيها طبلخانة النصر فهي تضرب إلى قيام الساعة" (٤).

وأغلب الظن أن الأصوات المسموعة ليست قرع طبول وربما هي أصوات بفعل حركة الرياح عند ملامستها للأتربة والصخور وخاصة إن الذاكرين لخبر جبل الطبول من الرحّالة اختلفوا في تحديده مع ملاحظة عدم سماعهم لذلك.

__________________

(١) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٧ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١١٢.

(٢) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٠.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٦٦ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٨.

(٤) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٤ ، ص ١١٤٦.

٢٢٠