الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

الفصل الثالث

الأحوال السياسية والتنظيمات الإدارية لبلاد

الحجاز من خلال كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين

مع المقارنة ببعض ما أوردته المصادر التاريخية

أولا ـ الأحوال السياسية في بلاد الحجاز :

أ ـ إمارة مكة المكرمة.

ب ـ إمارة المدينة المنورة.

ج ـ المدن والقرى التابعة للحجاز.

ثانيا ـ التنظيمات الإدارية في بلاد الحجاز :

أ ـ الأمراء ببلاد الحجاز.

ب ـ نظام ولاية العهد.

ج ـ نظام الوزارة.

د ـ الوحدات الإدارية.

ه ـ التنظيمات المالية.

و ـ التنظيمات القضائية.

ز ـ التنظيمات الحربية.

١٤١
١٤٢

أولا : الأحوال السياسية في بلاد الحجاز :

كانت الحجاز ضمن الولايات التابعة للخلافة العباسية في فترة قوتها ولكن الملاحظ أنه في الفترات الأولى سعى العلويون إلى الاستقلال بها لاعتقادهم بأحقيتهم في الخلافة من الأمويين والعباسيين (١) وفي سبيل ذلك بذلوا محاولات عدّة تمكّن الأمويون من القضاء عليها ؛ مثل ثورة الحسين ابن علي ، وثورة زيد بن علي بن الحسين ، وثورة المختار بن أبي عبيدة (٢).

وعقب انتقال الخلافه إلى بني العبّاس جدّد العلويون محاولاتهم تلك ولم تكن لتهدأ إلّا في لحظات ضعفهم ، ثم ما تلبث أن تعود مجّددا تمهيدا لتكوين خلافة تمّثلهم (٣) ، مع ملاحظة تولّي بعض منهم حكم الحجاز من قبل الخلفاء العباسيين (٤). وثورة بعضهم الآخر من الجور والظلم ضدّ عمال العباسيين (٥) ، أو لأي سبب آخر فتبدأ دعوتهم ولكن لا تلبث أن تنتهي إلى الفشل (٦).

ومنذ تغلّب جعفر بن محمد الحسني (٧) على مكة المكرمة سنة ٣٦٦ ه‍ / ٩٧٦ م في أيام خلافة المقتدر بالله. نستطيع القول : إنه انطلاقا من هذا الوقت استطاع الأشراف العلويون من ذريّة الحسن بن علي تكوين إمارة لهم بمكة المكرمة تتمتّع باستقلال ذاتي في ظل الخلافة العباسية. ويتبع إمارة مكة المكرمة عدد من مدن وقرى الحجاز مثل جدّة ، والطائف ، ومر الظهران

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك ، ج ٦ ، ص ٢٢٨ ؛ وبتفصيل لذكر أسماء من خرج على الخلافتين الأموية والعباسية من العلويين. انظر الذهبي : أسماء من راموا الخلافة ، ص ٧ ـ ٢٣.

(٢) ابن الطقطقا : الفخري ، ص ١١٥ ، ١٢٠ ، ١٣٢.

(٣) حسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسي ، ج ٢ ، ص ١٢١.

(٤) عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٤٠٥ ـ ٤٠٨.

(٥) ابن الطقطقا : الفخري ، ص ١٩٠.

(٦) عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٣٢٢ ، ٣٤٩ ، ٣٨٩ ، ٤٣٤.

(٧) جعفر بن محمد بن الحسن بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب الحسني أمير مكة المكرمة غلب عليها في أيام الأخشيديين ، وخطب لنفسه بالإمامة ، وخلع طاعة المقتدر بالله. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٣ ، ص ٤٢٩.

١٤٣

والقرين (١) ووادي نخل (٢) ، وغيرها من المدن والقرى التي ورد ذكرها في كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين. وقد تعاقب على حكم مكة المكرمة وتوابعها ثلاث أسر من الأشراف من ذرّية الحسن بن علي هم السليمانيون والهواشم ثم بنو قتادة (٣).

أما المدينة المنورة : فقامت بها إمارة علوية أخرى من ذرية الحسين بن علي بدأت بطاهر ابن مسلم (٤) الذي قدّمه بنو الحسين بالمدينة المنورة على أنفسهم واستقّل بإمارتها (٥) سنة ٣٦٠ ه‍ / ٩٧٠ م ومنذ إمارة طاهر بن مسلم استطاع بنو الحسين تكوين إمارة خاصة بهم في المدينة المنورة وكلا الإمارتين كانتا تتأرجحان في الولاء للدولة العباسية حينا والدولة الفاطمية حينا آخر على أساس الأموال المدفوعة لها وبانتظام (٦).

وقد وردت بعض اللمحات السياسية المتعلّقة ببلاد الحجاز في كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين سواء الخاص بسياستها الخارجية أو الداخلية مما يعطينا صورة شبه واضحة عن أحوالها السياسية منذ زمن رحلة ابن جبير إلى الحجاز عام ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م وإلى زمن رحلة ابن بطوطة عام ٧٤٩ ه‍ / ١٣٤٨ م.

__________________

(١) (القرين) اسم الأكمة الصغيرة البارزة التي بطرف بلدة بحرة من الشرق بين مكة المكرمة وجدة ثم سميّت بحرة وسميت القرين لأنها منتصف الطريق بين مكة المكرمة وجدة وبها حصن صغير. انظر ابن المجاور : تأريخ المستبصر ، ص ٤١ ؛ البلادي : معجم معالم الحجاز ، ج ٧ ، ص ١٢٦.

(٢) (وادى نخل) واد من الحجاز بينه وبين مكة المكرمة مسيرة يومين وبه يجتمع حاج اليمن وتسمى نخله اليمانية. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٢٧٨.

(٣) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ٩٩ ، ١٠٢.

(٤) أمير المدينة المنورة في سنة ٣٦٦ ه‍ / ٩٧٦ م وفيها جاءت جيوش العزيز صاحب مصر مكة المكرمة والمدينة المنورة وضيّقوا عليهم طالبين إقامة الخطبة للعزيز وأمير مكة المكرمة إذ ذاك عيسى ابن جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد الحسني وأمير المدينة المنورة طاهر هذا. انظر السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٥) عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٣٢٢ ، ٣٤٩ ، ٣٨٩ ، ٣٩٣ ، ٤٣٤.

(٦) العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ١٩٩.

١٤٤

أ ـ إمارة مكة المكرمة :

بدأت الأسرة الثانية أسرة الهواشم في مكة المكرمة بمحمد بن جعفر ابن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم الحسني (١) وانتهت بمكثر بن عيسى (٢) الذي عاصر ابن جبير في رحلته. وقد أورد ابن جبير طرفا من سيرته حيث وصفه بأنه عامل غير صالح. ومن المؤكد أن سبب نقمة ابن جبير عليه عائد لما فرضه من مكوس وضرائب على الحجاج (٣).

وقد أيّد ابن فهد والجزيري قول ابن جبير مضيفين أن سبب زوال ملك هذه الأسرة إنما هو انصرافها إلى اللهو والتبسّط في الظلم ، والإعراض عن حماية مكة المكرمة من العابثين ، اغترارا بما كانوا عليه من العز والقسوة لمعارضيهم وفقدهم لولاء قوّادهم (٤). مما أدّى إلى عدم استقرار الأمن ، إذ أشار ابن جبير إلى عرب بني شعبة (٥) المتربصين للحجيج في منى ومزدلفة ،

__________________

(١) محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن أبي هاشم بن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب الحسني المكي أبو هاشم أمير مكة اختاره الصليحي ليكون أميرها وهو صهر شكر بن أبي الفتوح وأعطاه مالا وسلاحا وعند ما تولى الإمارة قطع الخطبة للفاطميين وأعادها للعباسيين وترك الآذان بحيّ على خير العمل ولكنه لم يستمر على ذلك فقد كان تارة يخطب للعباسيين وتارة يخطب للفاطميين كان ظالما قليل الخير توفي سنة ٤٨٧ ه‍ / ١٠٩٤ م. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٤.

(٢) مكثر بن عيسى بن فليتة بن محمد بن جعفر الحسني المكي كانت ولايته لمكة المكرمة عدة سنين يتداولها هو واخوه داود مدة ثلاثين سنة وبمكثر انقرضت ولاية الهواشم لمكة المكرمة على اختلاف في سنة انقضائها وولايته بدأت سنة ٥٧١ ه‍ / ١١٧٥ م وهو الذي بنى الحصن على جبل أبي قبيس وهدمه أمير الحجاج العراقي طاشتكين توفي سنة ٦٠٠ ه‍ / ١٢٠٣ م بنخلة بعد أن خرج فارا من أبي عزيز قتادة بن إدريس الحسني الذي تولى إمارتها بعده. انظر المصدر السابق ، ج ٧ ، ص ٢٧٤ ـ ٢٧٩.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٤ ، ٥٧.

(٤) ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٦٦ ـ ٥٦٧ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٧٧.

(٥) (بنو شعبة) قبيلة اشتهرت بالشجاعة والقوة ، وهم فرع من كنانة ، ويقال من تغلب ، كانوا يسكنون جنوبا ولا يوجد من هم أسرف ولا أجرم ولا أخسر منهم في أخذ مال الحجاج لأنهم يسمون الحاج جفنة الله وكانوا يقولون : " إذا حضر جفنة الله لخلقه أكل منه الصادر والوارد". انظر ابن المجاور : تأريخ المستبصر ، ص ٥٢ ؛ محمد بن أحمد العقيلي : قبيلة بنى شعبة (مجلة العرب ، ج ١١ ـ ١٢ ، ١٣٩٤ ه‍ / ١٩٨٤ م ، ص ٨٩٢ ـ ٨٩٣).

١٤٥

وكذلك الحرابة (١) أتباع الأمير مكثر ، بالإضافة إلى الفتن الواقعة بين سودان أهل مكة المكرمة وبين الحجيج من أهل العراق والشام ومصر حيث شاهد ابن جبير إحداها سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م فقال" حدثت بين سودان أهل مكة المكرمة وبين الأتراك العراقيين فتنة وقعت فيها جراحات وسلّت السيوف والعصي ورميت السهام وانتهبت بعض أمتعة التّجار بمنى" (٢). وأكّد وقوع هذه الحادثة الجزيري في حوادث سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م (٣) كما قيد ابن جبير بعض حوادث أشارت إلى علاقات مكة المكرمة الخارجية ومنها تبعّيتها للدولة العباسية من خلال التزام الخليفة العباسي بإرسال كسوة الكعبة وما يتبع ذلك من أمور تتعلق بالخطباء والمؤذنين (٤) حيث كان الدعاء فيها على المنابر للخليفة العباسي أبي العبّاس أحمد الناصر (٥) يليه أمير مكة المكرمة مكثر بن عيسى ثم لصلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب (٦) ولولي عهده أبي بكر ابن

__________________

(١) (الحرابة) هم حاملوا الحراب من الأعراب وهم أتباع أمير مكة المكرمة. انظر ابن جبير : الرحلة ، ص ١٥٧ ؛ عبد القدوس الأنصاري : مع ابن جبير في رحلته ، ص ١٨٤.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٥٧.

(٣) الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٧٤.

(٤) ابن جبير الرحلة ، ص ٥٧.

(٥) أبو العباس أحمد بن الحسن المستضيء بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد ابن المقتدر بويع بالخلافة يوم الأحد ثاني ذي العقدة سنة ٥٧٥ ه‍ / ١١٧٩ م فأخذ الأمر بقوة وكانت وفاته يوم السبت ثاني شوال سنة ٦٢٢ ه‍ / ١٢٢٥ م ومدة خلافته ست وأربعون سنة وأحد عشر شهرا وأربعة وعشرون يوما ، وكان فاضلا عالما أديبا حسن الرأي والتدبير حسن السياسة ذا فكرة جيدة يباشر بنفسه الأمور ويطلع على أحوال الرعية وما كان يحتجب على عادة من تقّدمه. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٦) السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن مروان بن شاذي الحميدي الرديني تولى وزارة العاضد بعد موت عمه أسد الدين شير كوه ولما ملك مصر انقطعت دولة الفاطميين وملك بلاد الشام ودولته أربعا وعشرين سنة مات بقلعة دمشق في صفر سنة ٥٨٩ ه‍ / ١١٩٣ م افتتح بسيفه من اليمن إلى الموصل ومن طرابلس الغرب إلى التوبة كان كريما حليما رحيما حسن الخلق متواضعا صبورا لطيفا قليل التكبر ويحضر مجلسه الفقهاء والفقراء ، بنى المدارس وسور القاهرة وخلّص بيت المقدس من أيدي الفرنج. انظر المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣ ـ ١٩.

١٤٦

أيوب (١) ، إلّا أنّ ابن جبير انفرد بالإشارة إلى ولاية العهد لأبي بكر بن أيوب وذكر اسمه في الخطبة الأمر الذي لم تشر إليه المصادر الأخرى.

وللدلالة على التزام أمير مكة المكرمة بالولاء والطاعة لصلاح الدين تنفيذه لأوامره التي تصله بواسطة الرسائل حيث وصلت إحداها أثناء وجود ابن جبير بمكة وأشار إلى مضمون الكتاب ؛ وهو التوصية بالحجاج وحمايتهم من العابثين (٢).

وقد أشارت جميع مصادر تلك الفترة إلى نص الخطاب هذا وما تضمن من العمل على رفع الضرائب والمكوس عن الحجّاج وتعويض أمير مكة المكرمة عنها (٣).

وعبّر ابن جبير عن خوف أمير مكة المكرمة من الأيوبيين إذ سعى إلى استرضاء صلاح الدين ، ويلاحظ ذلك من خروجه للقاء شقيق صلاح الدين طغتكين بن أيوب المتوجّه إلى اليمن وإقرار الأمور بها على إثر وقوع الخلاف بين أمرائها (٤). وقد وصف ابن جبير اللقاء بأنه يحمل في الحقيقة معنى الخشية والخوف منهم (٥) ، ومما يؤكد وجهة النظر هذه ما أصدره الخليفة

__________________

(١) الملك العادل أبو بكر بن أيوب تولى بعد موت الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين وكانت وفاته في سابع جمادى الآخرة سنة ٦١٥ ه‍ / ١٢١٨ م وعمره خمسة وسبعون وأشهر ، مات بدمشق وكان ذا رأي سديد ومكر شديد خبيرا بالحيل حليما. انظر المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٣ ـ ٢٧.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٧. انظر فيما بعد فحوى الكتاب في الملاحق ، ص ٤٦٢.

(٣) أبو شامة : الروضتين ، ج ٢ ، ص ٢ ؛ الفاسي : شفاء الغرام ، ج ٢ ، ص ٣١٤ ؛ المقريزي : الخطط المقريزية ، ج ٢ ، ص ٢٣٣ ؛ ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة ، ج ٦ ، ص ٧٨ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٣٨ ـ ٥٤٠ ، ٥٧٦ ـ ٥٦٧ ؛ السيوطي : حسن المحاضرة ، ج ٢ ، ص ٢٠ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٧٢.

(٤) انظر تفاصيل الفتنة التي حدثت باليمن من البندارى : سنا البرق الشامي ، ص ١٩١ ؛ أبو شامة : الروضتين ، ج ٢ ، ص ٢٥ ـ ٢٦ ؛ ابن كثير : البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ٣٠٩ ؛ ابن خلدون : العبر ، ج ٥ ، ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ؛ الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٣٨.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٢٤.

١٤٧

العباسي من مرسوم سنة ٥٧٠ ه‍ / ١١٧٤ م بإسناد السلطة لصلاح الدين على مصر وبلاد الشام والنوبة وغربي الجزيرة العربية (١).

كما يدعّم هذا الرأي ما أورده أبو شامة وابن واصل مشيرا إلى طلب صلاح الدين من الخليفة العباسي التقليد بذلك قائلا : " ... ثم طلب من الخليفة المستضيء بنور الله (٢) تقليدا جامعا بمصر والمغرب واليمن وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية ، وكل ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفه وسيوف عساكره ، ولمن يقيمه من أخ أو ولد من بعده ، تقليدا يتضمن للنعمة تخليدا وللدعوة تجديدا" (٣). وهذا يعني أن التبعية للدولة العباسية اسمية ولكن الإشراف الفعلي على بلاد الحجاز كان لصلاح الدين ولهذا نلاحظ خشية وخوف أمير مكة المكرمة من شقيق صلاح الدين ، لعلمه التام بقدرتهم على عزله من منصبه وإسناد الأمر لغيره ، فحرص الأمير مكثر على المحافظة على وضعه في البلاد ضمانا لعدم فقد أسرته لكرسّي الحكم فيها.

وقد أفاض ابن جبير في خبر قدوم طغتكين إلى مكة المكرمة سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م حيث مكث فيها سبعة أيام ، وكانت أبنيته خلالها منصوبة بالزاهر ، وقام بزيارة المسجد الحرام برفقة الأمير مكثر ودخل الكعبة المشرفة مرتين إحداهما مع زعيم الشيبيين محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن الشيبي (٤)

__________________

(١) أحمد عسه : المعجزة المغربية ، ص ٤٤.

(٢) أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد بويع بالخلافة بعد أبيه وتلقب بالمستضيء وذلك يوم الأحد سابع ربيع الآخر سنة ٥٦٦ ه‍ / ١١٧٠ م كان عادلا حسن السيرة عم أكثر الناس إحسانه وأسقط الخراج المجدد والضرائب والمكوس وفي أيامه عادت مصر إلى الدولة العباسية بعد سقوط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين توفي ليلة الأحد ثاني ذي القعدة سنة ٥٧٥ ه‍ / ١١٧٩ م. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ٢١٢ ـ ٢١٣ ، وحاشية رقم ١ ، ص ٢١٣.

(٣) أبو شامة : الروضتين ، ج ١ ، ص ٢٤٣ ؛ ابن واصل : مفرج الكروب ، ج ٢ ، ص ٢٩.

(٤) محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن الشيبي زعيم آل الشيبي وصاحب حجابة الكعبة وقد عزل عن الحجابة لهنات نسبت إليه ثم أعيد إليها سريعا لأنه فدى نفسه بخمسمائة دينار مكية وذلك في ذي القعدة سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ٤١٤.

١٤٨

والأخرى مع الأمير مكثر ، وأغدق الهدايا على الأمير ، ثم أدى صلاة الجمعة بالمسجد الحرام وغادرها إلى اليمن بجنده (١).

ونستنتج من تلك الزيارة مدى حرص أمير مكة المكرمة على مودة الأمير الأيوبي مع ملاحظة فرار الأمير عثمان الزنجيلي (٢) من اليمن عند علمه بتوجّه الحملة الأيوبية إليه ، ولجوئه إلى مكة المكرمة (٣).

ويبدو أن سيف الإسلام طغتكين قدم إلى مكة المكرمة في سنة ٥٨١ ه‍ / ١١٨٥ م لأمور أوجبت حضوره ودعته للقدوم. وهي المرة التي تناولها معظم المؤرخين بالتفصيل بسبب أحداثها وما قام به من بعض التغييرات التي مكّنته من السيطرة على مكة المكرمة فعليا بعد أن كان اسميا ، ومن هذه التغييرات :

١ ـ سك الدنانير والدراهم باسم أخيه السلطان صلاح الدين.

٢ ـ تأديب العبيد المعتدين على الحجاج.

٣ ـ إقامة الخطبة باسم أخيه السلطان صلاح الدين.

٤ ـ الحدّ من المذهب الشيعي وذلك بإلغاء عبارة حيّ على خير العمل من الآذان (٤).

ويبدو أنه خلال وجود الأمير الأيوبي في مكة حدثت وحشة بينه وبين الأمير مكثر ، فقام مكثر في البداية بالفرار منه ، وأخذ مفتاح الكعبة معه ، ولكنه لم يلبث أن عاد وأعاد المفتاح (٥). وبقي مكثر أميرا على مكة المكرمة من قبل سيف الإسلام المستولي عليها ، ومما يؤيّد هذا الرأي ما ذكره الفاسي

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) الأمير فخر الدين المعروف بالزنجيلي له مدرسة ورباط بمكة المكرمة عند باب العمرة وسبيل خارج باب الشبيكة في طريق التنعيم وقد وهبها للوقف سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م وكان نائب السلطان صلاح الدين بعدن وخرج منها هاربا عند ما دخلها الملك العزيز سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وله أيضا أوقاف كثيرة بالشام توفي سنة ٥٨٣ ه‍ / ١١٨٧ م. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٦ ، ص ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٤) انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ٦٢ ـ ٦٤ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٥٣ ؛ عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٤٨ ـ ٥٤٩ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٤٧.

(٥) ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

١٤٩

وعز الدين بن فهد من أن اسم طغتكين مكتوب على باب زبيد المعروف بباب القرتب بسبب عمارته له. ومن ألقابه المكتوبة عليه" سلطان الحرمين والهند واليمن" (١) وبذلك أصبح الحجاز في تلك الفترة ضمن أملاك وحكم صلاح الدين (٢).

ونلاحظ أن ما أورده ابن جبير مخالف تماما لما ذكره بعض المؤرخين حول قدومه إلى مكة في سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م فهو لم يشر إلى حدوث ما يعكّر صفو العلاقة بين سيف الإسلام وبين الأمير مكثر ولم يشر إلى أمره بضرب دنانير ودراهم باسم أخيه السلطان صلاح الدين ، وكل ما ذكره أن الخطبة كانت تقام بالدعاء للخليفة العباسي ، ثم الأمير مكثر ، ثم لصلاح الدين ، ونستنتج مما ذكره ابن جبير أن أهل مكة المكرمة يميلون كثيرا لصلاح الدين ، كما أنه لم يذكر إلغاء عبارة حي على خير العمل من الأذان ؛ بل كان مستمرا أثناء وجوده بمكة المكرمة حيث قال : " وللحرم أربعة أئمة سنّيين وإمام خامس لفرقة تسمّى الزيدية (٣) ، وأشراف أهل هذه البلد على مذهبهم ويزيدون في الأذان بحي على خير العمل" (٤).

ومما سبق نجد أنه قد حدث خلط لدى بعض المؤرخين حول مجيء سيف الإسلام إلى الحجاز في المرة الأولى والثانية ، حيث أدمجت في مرة واحدة.

فالأرجح أنه قصد مكة المكرمة مرتين : الأولى مرورا في طريقه إلى اليمن ، وهذه ذكرها ابن جبير وأيّد حدوثها البنداري والخزرجّي (٥) ، بينما الفاسي وابن فهد وعز الدين ابن فهد يوردون قدومه في المرتين بأسبابها (٦). أما

__________________

(١) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ٦٤ ؛ عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٥٠.

(٢) السيوطي : حسن المحاضرة ، ج ٢ ، ص ١٧.

(٣) (الزيدية) أتباع زيد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب جعلوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي‌الله‌عنها وكانوا يرون جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل وبدأ مذهبهم في أول الأمر قريبا من أهل السنة ثم لم يلبث أن انحرف عن الصواب وأخذوا في الطعن في الصحابة وافترقوا فرقا كل فرقة تخالف الأخرى. انظر الشهرستاني : الملل والنحل ، ج ١ ، ص ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٣ ، ٧٨.

(٥) البنداري : سنا البرق الشامي ، ص ١٩١ ؛ الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٣٨.

(٦) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ٦٢ ـ ٦٤ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٤٨ ـ ٥٤٩ ، ٥٥٣ ـ ٥٥٤ ؛ عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٤٨ ـ ٥٤٩.

١٥٠

أبو شامة وابن خلّكان وأبو الفدا وابن خلدون فيتّفقون مع ابن جبير في الحدث وسببه ويختلفون معه في سنة القدوم ، حيث يذكرون قدومه في سنة ٥٧٨ ه‍ / ١١٨٢ م. ويضيف أبو الفدا حادثة هروب عثمان الزنجيلي في سنة ٥٧٨ ه‍ / ١١٨٢ م (١). فهذه الحادثة ذكرها ابن جبير في سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م. ونجد أن الجزيري لم يذكر إلّا خبر مقدمه للمرة الثانية فقط (٢). بعد أن نجح في إخماد الفتنه باليمن (٣).

ومن هنا حدث الخلط بين المؤرخين فهو في المرتين ذهب إلى اليمن. لذا نرجّح ما ذكره ابن جبير لمشاهدته الحدث لحظة وقوعه وتسجيله له.

وكما كان الأمير مكثر يخشى صلاح الدين كان أيضا يخشى الخليفة العباسي. ويبدو أنّ العلاقة بينهما لم تكن على ما يرام ؛ إذ يبدو أنه كانت لديه نوايا بالاستقلال التام عن التبعية العباسية ، وأشار ابن جبير إلى ذلك في قوله : من أن أمير مكة المكرمة عيسى أبو مكثر (٤) شيّد حصنا له فوق جبل أبي قبيس للتحصّن به مما أدّى بالخليفة العباسي إلى إرسال أمير الحاج العراقي (٥)

__________________

(١) أبو شامة. الروضتين ، ج ٢ ، ص ٢٦ ؛ ابن خلكان وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٥٢٣ ؛ أبو الفدا : تاريخ أبو الفدا ، ، ج ٣ ، ص ٦٤ ؛ ابن خلدون. العبر ، ج ٥ ، ص ٣٣٤.

(٢) الجزيري الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٤٨ ـ ٥٤٩.

(٣) انظر فيما تقدم سابقا ص ٧٤ ، هامش ٥ ، ص ١٤٤ ، هامش ١.

(٤) يبدو أن ابن جبير أخطأ في اسم باني الحصن فالذي بناه مكثر وليس والده عيسى ، انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ص ٢٧٤ ـ ٢٧٩ ؛ ابن فهد ، إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٥٠.

(٥) أمير الحج العراقي طاشتكين بن عبد الله المقتفوري مجير الدين أمير الحرمين والحاج حج بالناس ستا وعشرين حجة وكان يسير في طريق الحج مثل الملوك ، كان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام ، توفي سنة ٦٠٢ ه‍ / ١٢٠٥ م بتستر وحمل في تابوت إلى مشهد علي بن أبي طالب فدفن هناك حسب وصية أوصى بها. أنظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ٥٦ ـ ٥٨ ، وتجدر الإشارة إلى أنه قد حدث خلط ولبس بين أمير الحاج طاشتكين وأخ صلاح الدين طغتكين ، فقد ورد في كتاب أحمد السباعي. تاريخ مكة ، ج ١ ، ص ٢٢٢" أن الخليفة العباسي كلف أمير الحاج طاشتكين أخ صلاح الدين بأن يجلي مكثرا عن مكة المكرمة وأن يهدم حصنه الذي بناه فوق جبل أبي قبيس". وبالمعنى نفسه ورد هذا الخبر في كتاب سليمان المالكي. مرافق الحج ، ص ١١٦ ـ ١١٧ ؛ عائشة باقاسي بلاد الحجاز في العصر الأيوبي ، ص ٣٩. والصحيح أن من قام بتأديب الأمير مكثر وهدم حصنه ليس طغتكين بن أيوب وإنما أمير الحج العراقي طاشتكين المقتفوري ، ومن هنا حدث اللبس بين الاسمين خاصة وان كلاهما كانت له صلة بالحجاز والصحيح ما أوردناه. انظر تفاصيل ذلك في بعض المصادر مثل ابن الأثير : الكامل ، ج ٩ ، ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ؛ الفاسي. شفاء الغرام ، ج ٢ ، ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٣٦ ـ ٥٣٨ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٧١ ـ ٥٧٢.

١٥١

لهدمه إذ اعتبر ذلك مخالفة من أمير مكة (١).

كما أشار ابن جبير إلى أنه في السنة التي حجّ فيها تأخّر أمير الركب العراقي عن موعده فأوجست نفوس أهل مكة المكرمة خيفة من حقد الخليفة على أميرهم.

ولم يكن لأمير مكة المكرمة مطلق الحرية في إدارة شئون البلاد ، بل كان رأي الخليفة العباسي الفاصل في الأمور ذات الأهمية الكبرى ، مثل عزله لأحد سدنة البيت الحرام ؛ وهو محمد بن إسماعيل وتعيينه لآخر مكانه (٢).

ابن جبير واليمن :

تناول ابن جبير جانبا من الأحداث التاريخية الجارية في اليمن لتلك الفترة. فأشار إلى فرار الأمير عثمان بن علي الزنجيلي من عدن إلى مكة المكرمة في شهر ذي الحجة عقب علمه بتوجّه الأمير طغتكين إليها. وقد حمل معه من الأموال والذخائر ما لا يعدّ ولا يحصى ، والتي حازها طوال حكمه.

فاستطاع الأيوبيون الاستيلاء على جزء منها. بينما حمل العبيد الذخائر والنفائس الخاصة بعثمان ووصلوا بها إلى مكة المكرمة ليلا وأدخلت داره.

وجمع هذا الأمير أمواله نتيجة لسوء سيرته وسياسته المعروفة عنه في البلاد (٣).

وقام المؤرخون بإيراد بعض التفاصيل عن الأمير عثمان نقلا عن رحلة ابن جبير (٤). ويبدو أن الدار التي شيدها في مكة المكرمة هما : رباطه أو مدرسته المعروفان واللذان أوقفهما سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م (٥).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٥.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٤٩ ، ١٥٧.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٤) ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٤٩ ، مما يؤكد أهمية الرحلات المغربية والأندلسية لمؤرخي الحجاز في تلك الفترة حيث اعتمدوا في التاريخ لبعض الأحداث على ما ورد في كتب الرحلات وهذا بدوره يؤكد ويشير إلى اشتهارها بين المؤرخين لأهميتها وما حوته من معلومات ذات قيمة كبيرة.

(٥) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٦ ، ص ٣٤ ـ ٣٥.

١٥٢

وأشار ابن جبير إلى قيام الأمير عثمان على رأس رجاله بحماية الحجاج من عبث الشعبيين الذين اتخذوا من المضيق الواقع بين مزدلفة وعرفات مكانا لمهاجمة الحجاج (١) وقد أجمعت المصادر المؤرّخة لتلك الفترة على ذلك (٢).

والملاحظ في رحلة ابن جبير اعتناؤه بالحديث عن مكة المكرمة دون المدن الأخرى الواقعة في منطقة الحجاز ، ولعل ذلك مرّده إلى طول إقامته بها.

الرحلات عقب ابن جبير :

إن المتتبّع لتاريخ الرحلات المغربية والأندلسية لمكة المكرمة يلاحظ انقطاع تدوينها بعد ابن جبير منذ سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م ولعل هناك رحلات مدوّنة ، ولكن لم يعثر عليها بعد. وعلى العموم استمّر الانقطاع إلى زمن ابن رشيد حيث قام برحلته المعروفة سنة ٦٨٤ ه‍ / ١٢٨٥ م ، ونستنتج من خلال ما أورده تغّير الأحداث في سنة ٦٨٤ ه‍ / ١٢٨٥ م ، إذ خضعت مكة المكرمة لحكم أسرة جديدة معروفة بأسرة بني قتادة ، وهم أشراف من ذريّة الحسن ابن علي (٣) أيضا.

وأمّا فيما يتعلق بأحداث العالم الإسلامي فقد سقطت الخلافة العباسية ببغداد سنة ٦٥٦ ه‍ / ١٢٥٨ م على أيدي التتار. ولم تلبث أن انتقلت إلى الديار المصرية سنة ٦٥٩ ه‍ / ١٢٦٠ م وسيطرت دولة المماليك على السلطة في مصر (٤). لم يعن ابن رشيد كثيرا بتسجيل الحالة السياسية في الحجاز بصفة عامة ومكة المكرمة بصفة خاصة كسابقه ؛ ولكنه أشار إلى اسم أمير مكة المكرمة في ذلك الوقت ؛ وهو الشريف أبو نمي محمد بن أبي سعد الحسني.

وأن الأوضاع في المشاعر المقدسة غير آمنة بسبب تعرّض بني شعبة للحجيج

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٥٠.

(٢) مثل ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٤٩.

(٣) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٥.

(٤) الذهبي : دول الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٦٥ ؛ ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ٢٢٠ ، ٢٢٣ ، ج ٢ ، ص ٥٢ ؛ السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ص ٤٣٨.

١٥٣

هناك ، وأنّ الحالة الدينية فيما يبدو قد أصابها الضعف ، إذ كثر التعرّض للدعاة والوعّاظ مثل : رضّي الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خليل العسقلاني (١). أحد العلماء الأجّلاء الذي نذر حياته للدعوة وإرشاد الناس إلى الحق ، وكان شديدا على أمير مكة المكرمة في كثير من المواقف التي أدّت فيما بعد إلى سجنه ، ولكن لم يلبث الأمير أن أطلقه من سجنه معتذرا إليه (٢).

ولم يقم ابن رشيد بتقديم المزيد من المعلومات عن الأحوال السياسية لمكة المكرمة أو المدينة المنورة ؛ ولكنه في ترجمته لشيخه أبي اليمن (٣) أشار إلى ما حدث خارج الحجاز وفي مصر خاصة من نزول الفرنسيين بدمياط عام ٦٤٧ ه‍ / ١٢٤٩ م. وهو العام المعروف بعام دمياط (٤). وأيّد وقوع هذه الحادثة في تلك السنة مؤرّخو تلك الفترة (٥).

العبدريّ وبلاد الحجاز :

وصل العبدريّ مكة المكرمة سنة ٦٨٩ ه‍ / ١٢٩٠ م ولم يشر إلى اسم أمير مكة المكرمة مع ملاحظة استمرار أبي نمي أميرا عليها ، وكان تابعا لسلاطين مصر بحسب الأموال والأعطيات المرسلة إليه ، ولكن متى انقطعت انقطعت بالتالي تبعّيته لهم لاعتباره هذا المال حقا له. بالإضافة إلى عدم استقرار الأوضاع الأمنية بمكة المكرمة ، ووقوع الفتن بين حجّاج الشام ومصر وأهل مكة المكرمة (٦). في خلال الموسم والتي أدّت إلى وقوع عدد كبير من الضحايا ، كما حدث في سنة ٦٨٩ ه‍ / ١٢٩٠ م (٧).

__________________

(١) انظر ترجمته فيما بعد ، ص ٤٧٥.

(٢) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٨٧ ، ٩٦ ، ١٣١.

(٣) أنظر ترجمته فيما بعد ، ص ٢٧٢ ـ ، ٢٧٣.

(٤) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٤٥ ، ٢١٨.

(٥) أبو الفدا : تاريخ أبو الفدا ، ج ٣ ، ص ١٧٨ ؛ الذهبي : دول الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٢٥ ؛ ابن الوردي : تتمة المختصر ، ج ٢ ، ص ٢٦٣ ؛ المقريزي : الخطط المقريزية ، ج ٢ ، ص ٢٣٦ ؛ السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ص ٤٢٨ ؛ ابن إياس : بدائع الزهور ، ج ١ ، ص ج ١ ، ص ٢٧٧.

(٦) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١١١ ـ ١٨٧.

(٧) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ٢ ، ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ١٢٠ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٦٠٩.

١٥٤

التجيبي السبتي وبلاد الحجاز :

وصل التجيبي إلى مكة المكرمة سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م خلال حكم أبي نمي لها ، وأشار إلى مدى إحكامه السيطرة على الأوضاع فيها ، والتحصينات التي أعدها لمواجهة أعدائه. ومن ذلك الحصن الذي شاهده التجيبي ويدعى بالجديد في مكان يسمى البرابر (١).

ومما ذكره التجيبي عن أبي نمي نستشف منه أنه قد وقعت بينه وبين الأشراف خلافات أدّت إلى حروب كثيرة. اضطر لخوضها في سبيل تدعيم سلطته على البلاد ، وفي سبيل ذلك أنفق الأموال الكثيرة ، وقام ببيع الصفائح الفضية المستخدمة في تزيين أعمدة الكعبة ، علاوة على ما بجسده من آثار ضرب السيوف وطعن الرماح (٢). الدالّة على كثرة الحروب التي خاضها من أجل تثبيت حكمه.

ولهذا انعكست آثار تلك الحروب على مكة المكرمة وأدّت إلى عدم استقرار الأوضاع فيها كما أشار بعض المؤرخين إلى ذلك (٣).

ونلمس حرص التجيبي على إتمام صورة الحالة السياسية لمكة المكرمة في رحلته. حيث أنه لم يكتف بما قاله عن أوضاعها وقت وجوده فيها ، إضافة إلى ما سمعه وشاهده ؛ بل عمد إلى تقصّي الحقائق السابقة لبداية حكم أسرة بني قتادة ، مشيرا إلى أنّ ولاية أبي عزيز قتادة بن إدريس الحسني (٤) جدّ

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢٢ ؛ (البرابر) عين كانت جارية بمرّ الظهران. انظر البلادي : معجم معالم الحجاز ، ج ١ ، ص ١٩٦.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٥٨ ، ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٣) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٧ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ٤٥٦ ـ ٤٧١ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ٧٦ ـ ١٢٦ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٩٨ ـ ٦١١.

(٤) قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن محمد ابن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب يكنّى أبا عزيز الينبعي المكي صاحب مكة وينبع وغيرها من بلاد الحجاز ، ولي مكة المكرمة عشرين سنة أو نحوها على خلاف في مبدأ ولايته هل هي سنة ٥٩٧ ه‍ أو ٥٩٨ ه‍ / ١٢٠٠ أو ١٢٠١ أو ١٢٠٢ م ، ملك ينبع وصارت له على قومه رئاسة فجمعهم ، وملك بهم وادي الصفراء ، وطمع في إمرة مكة المكرمة فملكها من الأمير مكثر بن عيسى ، وحارب أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني ، وكان أبو عزيز في بداية أمره حسن السيرة صافي السريرة ، ولكن تغّيرت حاله وساءت معاملته للحجاج ، وأكثر المكوس والتغريم بمكة ، كان أديبا شاعرا توفّي سنة ٦١٧ ه‍ / ١٢٢٠ م بمكة. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ص ٣٩ ـ ٦١.

١٥٥

الأمير أبي نمي تمّت عقب موت الشريف مكثر بن قاسم (١) سنة ٥٩٨ ه‍ / ١٢٠١ م (٢) ويفهم من قول التجيبي أن إمارة مكة المكرمة لم تستقر لأبي عزيز إلّا بعد موت الشريف مكثر ، وهذا يؤيد ما صرّح به الفاسي والعصامي من أن الشريف أبي عزيز ورث ملك مكثر (٣).

وأضاف التجيبي مشيرا إلى اتّساع ملك أبي عزيز قتادة بشكل لم يكن من قبل ، وهذا موافق لما ذكره ابن خلدون من أن ملكه استفحل واتّسع إلى نواحي اليمن (٤). كما أفاد القلقشنديّ أن ملك أبي عزيز تعاظم حتى ملك مع مكة المكرمة والينبع أطراف اليمن وبعضا من أعمال المدينة وبلاد نجد (٥).

وامتدت ولاية أبي عزيز على مكة المكرمة إلى سنة ٦١٧ ه‍ / ١٢٢٠ م وقيل ٦١٨ ه‍ / ١٢٢١ م وبلغ التسعين من العمر وقيل في سبب موته أن ابنا له يدعى الحسن بن قتادة (٦) قام بقتله خنقا بالتواطؤ مع جارية وعبد له (٧). ثم قتلهما لإخفاء جريمته (٨). وهذا مطابق لما ذكره ابن خلدون والفاسي (٩). بينما أشار ابن الأثير إلى مقتله فقط (١٠). في حين ذكر ابن فهد والعصامي أن أبا عزيز مات مسموما (١١).

__________________

(١) يبدو أن التجيبي أخطأ في اسم والد مكثر فهو مكثر بن عيسى وليس بن قاسم. انظر المصدر السابق ، ج ٧ ، ص ٢٧٤.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٥.

(٣) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ص ٥٣ ـ ٥٤ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢١٣.

(٤) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٥.

(٥) القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٢٧٧.

(٦) حسن بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم الحسني يكنى بأبي عالي ويلقب شهاب الدين أمير مكة المكرمة بعد أبيه نحو ثلاث سنين قتل أباه وأخاه وعمه ولكنه لم يستمر في حكم مكة إذ أخرجه منها الملك المسعود سنة ٦١٩ ه‍ / ١٢٢٢ م وكان سيء العشرة والسيرة ظلوما مقداما ، وهو الذي قتل أمير الحاج العراقي اقباش سنة ٦١٧ ه‍ / ١٢٢٠ م وأحدث بمكة امورا منكرة فأريد القبض عليه فخرج منها هاربا وقصد الشام فلم يلتفت إليه فتوجه إلى العراق ووصل بغداد فتوفي هناك سنة ٦٢٣ ه‍ / ١٢٢٦ م. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ١٦٦ ـ ١٧٤.

(٧) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٥.

(٨) العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢١٣.

(٩) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٥ ـ ١٠٦ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٢١٣.

(١٠) ابن الأثير : الكامل ، ج ٩ ، ص ٢٤٦.

(١١) عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٧٥ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢١٤.

١٥٦

أكمل التجيبّي حديثه عن الحسن بن قتادة بأنه تولّى حكم إمارة مكة المكرمة عقب وفاة أبيه ، ولكنه لم يتمتّع بالملك حيث استدعاه أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس إلى بغداد فاعتقله بها ومات في سجنه (١). ولم يشر الفاسي وابن فهد والعصامي إلى خبر اعتقاله ، ولكنهم أجمعوا على وفاته في بغداد (٢).

واستمر التجيبي في الحديث عن أسرة أبي نمي وسيطرة صاحب اليمن (٣) على الأمور في مكة المكرمة إلى أن قتل (٤). وهنا خالف التجيبي جميع المصادر التي لم تذكر مقتل الملك المسعود بينما أشارت إلى إصابته بفالج عطّل يديه ورجليه وأدركته المنيّة سنة ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٨ م ودفن بمكة (٥).

وبعد موت الملك المسعود سنة ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٨ م تولّى أمر مكة المكرمة والحجاز الشريف أبو سعد الحسن (٦) والد أبي نمي وذلك في سنة ٦٤٨ ه‍ / ١٢٥٠ م (٧). وهنا نجد انقطاعا تاريخيا في تسلسل الأحداث مدته اثنتان

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٥.

(٢) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ١٧٣ ؛ عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٩٢ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢١٦.

(٣) يوسف بن محمد بن أبي بكر محمد بن أيوب الملك المسعود بن الملك الكامل أبي المعالي ابن الملك العادل صاحب اليمن ومكة دخلها وانتزعها من حسن بن قتادة سنة ٦٢٠ ه‍ / ١٢٢٣ م وقيل ٦١٩ ه‍ / ١٢٢٢ م توفي ثالث عشر جمادى الأولى سنة ٦٢٦ ه‍ / ١٢٢٨ م وكان مولده في ربيع الآخر سنة ٥٩٩ ه‍ / ١٢٠٢ م. انظر عز الدين بن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٨٩ ـ ٥٩٥.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٥.

(٥) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ٤٩٤ ؛ عز الدين ابن فهد : غاية المرام ، ج ١ ، ص ٥٩٢ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢١٦ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ٣ ، ص ٥٩٠.

(٦) الحسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم الحسني المكي أبو سعد صاحب مكة وينبع ولي إمرة مكة نحو أربع سنين استولى عليها من صاحب اليمن وقوي أمره بها بموت صاحب اليمن المنصور ، ودامت ولايته عليها إلى أن قتل بسبب غروره. كان فاضلا طيبا شديد الحياء جمع الشجاعة والكرم والعلم والعمل أديبا بارعا إلّا أنه نزع بآخره إلى هوى نفسه. قتل في أوائل رمضان سنة ٦٥١ ه‍ / ١٢٥٣ م أو لثلاث خلون من شعبان. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ١٦٠ ـ ١٦٣.

(٧) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٥.

١٥٧

وعشرون سنة لم يشر إليها التجيبي بأية معلومات عمن تولّى إمرة مكة المكرمة خلالها. إلّا أنه ذكر أن أبا سعد الحسن ظلّ حاكما لها بالعدل وحسن السيرة في أهلها حتى دبّ الخلاف بينه وبين أقاربه مما أدى إلى استعانتهم بالناصر ابن عبد العزيز (١) سلطان الشام ، فأرسل إليه جيشا كبيرا يقال إنه بلغ عدد الجمال فيه نحو مائة وثلاثين ألف جمل في سنة ٦٥١ ه‍ / ١٢٥٣ م فقتل رحمه‌الله على أيدي أبناء عمومته من آل إدريس بن حسين بن قتادة وأخويه جماز (٢) وأحمد (٣) وقد أورد التجيبي كيفية اغتياله فذكر أن أخويه جماز وأحمد كانا برفقة بعض أبناء عمّهم إدريس بن حسين ، وذلك في منزل أخيهم الحسن المكّنى أبا سعد ، وقد رتب أحمد لمقتله بالاتفاق مع أخ له من الرضاعة الذي داهمه بخنجر أخفاه لذلك ، إلّا أن أبا سعد تنبّه لهذه المؤامرة فكادت أن تفشل لولا أن استنجد القاتل بأخيه أحمد فبادر أحمد إلى الإجهاز على أخيه الحسن وقعد جماز في الإمرة مكانه وعزم على قتل أبي نمي (٤) ، فبلغه ذلك ، فكاتب عمّي أبيه إدريس (٥) وراجح (٦) ابني أبي عزيز قتادة ، ليستعين بهما على حرب

__________________

(١) يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذي السلطان الملك الناصر صلاح الدين ابن الملك العزيز ابن الملك الظاهر ابن الناصر صلاح الدين صاحب حلب ثم الشام ولد بقلعة حلب في رمضان سنة ٦٢٧ ه‍ / ١٢٢٩ م وقتل سنة ٦٥٩ ه‍ / ١٢٦٠ م تولّى الملك بعد موت والده سنة ٦٣٤ ه‍ / ١٢٣٦ م وكان الأمر كله لجدّته الصاحبه صفيه خاتون ولما توفيت سنة ٦٤٠ ه‍ / ١٢٤٢ م أشتدّ أمره واستولى على حمص ودمشق وقصد مصر وكان سمحا جوادا حليما حسن الأخلاق محببا إلى الرعية فيه عدل وصفح ومحبة للفضلاء والأدباء ، وقد ضمن له الفرنج أخذ مصر مقابل تسليمهم القدس فرفض ووردت الأخبار في منتصف صفر سنة ٦٥٨ ه‍ / ١٢٥٩ م بقدوم التتار إلى حلب وأخذها بالسيف فهرب وزال ملكه ودخل التتار دمشق بعد بيوم وجاء التتار بالأمان فبقي في ذل وهوان ، ثم قتل بالسيف عقب موقعة عين جالوت. انظر الكتبي : فوات الوفيات ، ج ٤ ، ص ٣٦١ ـ ٣٦٦.

(٢) جماز بن حسن بن قتادة بن إدريس بن مطاعن الشريف الحسني أمير مكة ، وليها بعد قتله لأبي سعد الحسن. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ٢ ، ص ٢٥٠.

(٣) لا توجد له ترجمة في المصادر التي تناولناها.

(٤) يبدو أنه خاف منه لقوّته فقد درج الأشراف على تولية الأمارة أكثرهم قوة.

(٥) إدريس بن قتادة بن إدريس بن مطاعن الحسني أمير مكة المكرمة ولي إمرتها نحو سبع عشرة سنة شريكا لابن أخيه أبي نمي وانفرد بها يسيرا وقتل بيد أبي نمي بسبب ولد قتله سنة ٦٦٩ ه‍ / ١٢٧٠ م. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٣ ، ص ٣٧٨.

(٦) راجح بن قتادة بن إدريس بن مطاعن الشريف الحسني أمير مكة وليها أوقاتا كثيرة توفي سنة ٦٥٤ ه‍ / ١٢٥٦ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٣٠٣.

١٥٨

ابن عمه فأجاباه وقدما إليه وبرفقتهما عبد لأبيه يدعى ياقوت الذي كان والي جدة فأمّده بالمال ، حيث استفاد منه في جمع العرب حوله وسار بهم إلى مكة المكرمة ، فوصل خبرهم لجماز الذي فرّ هاربا إلى ينبع (١). واستقّر بها حتى مات ، ودخل أبو نمي وعماه وغانم بن راجح (٢) مكة المكرمة في ذي الحجة سنة ٦٥٣ ه‍ / ١٢٥٥ م واتفقوا على جعل أبي نمي وإدريس هما المتوليان لأمرها واستمّرت الأمور على هذا الوضع إلى سنة ٦٦٩ ه‍ / ١٢٧٠ م عند ما أقدم إدريس على قتل زوج ابنته زيد بن أبي نمي في الحرم فانعكس أثر ذلك على أبي نمي بالخوف ففّر إلى ينبع (٣) مستجيرا بصاحبه إدريس العربي (٤) ، فحشد جيشا كبيرا سار به إلى مكة المكرمة ودخلها عنوة وقتل إدريس بيده انتقاما لمقتل ابنه.

وقامت العرب بنهب أوقاف الحرم الشريف من كتب وخلافه ، واستبّد الشريف أبو نمي بالأمر في سنة ٦٦٩ ه‍ / ١٢٧٠ م ولم يزل كذلك إلى وفاته سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م (٥).

والواقع أن ما أورده التجيبي حول كيفية تولّي أبي سعد الحسن إمارة مكة المكرمة موافق لما ذكره الفاسي على الرغم من اقتضاب السرد لدى التجيبي حول سيطرة أبي سعد على مكة المكرمة مع ملاحظة أنه سّنيّ المذهب ، وهو ما لم يشر إليه أحد من المؤرّخين كالفاسي مثلا (٦).

__________________

(١) (ينبع) على يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر على ليلة من رضوى ومن المدينة على سبع مراحل وهي لبني الحسن بن علي ، يسكنها الأنصار وجهينه وليث وفيها عيون عذبه غزيرة ، وواديها يليل بها منبر وهي قريه غنّاء بها حصن ونخل وزرع وبها وقف لعلي بن أبي طالب يتوّلاها ولده وهي بين مكة والمدينة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

(٢) غانم بن راجح بن قتادة بن إدريس الشريف الحسني المكي أمير مكة تسلم البلاد من أبيه سنة ٦٥٢ ه‍ / ١٢٥٤ م فأقام بها إلى شوال وأخذها منه أبو نمي وإدريس بن قتادة. أنظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ٢ ، ص ٥١٨.

(٣) يبدو أنها ملجؤهم الاختيارى لوجود أنصارهم بها فمتى الّمت بهم شدّة عادوا إليها لتجميع قوّتهم والعودة مرّة أخرى إلى مكة.

(٤) لا يوجد له اسم في كافة المصادر التي تناولناها ، ولعله يكون أحد أقاربه الحسنيين.

(٥) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٦) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ١٦٠ ـ ١٦٣.

١٥٩

وقد سبق وأشرنا إلى إغفال التجيبي للفترة الممتدة ما بين وفاة الملك المسعود إلى تولية أبي سعد الحسن. ولعلّه قصد الإشارة إلى المتولّين من أسرة أبي نمي.

أما المؤرّخون الذين أرّخوا للحجاز فقد أفاضوا في ذكر كيفية استيلاء أبي سعد الحسن على مكة المكرمة (١). بينما أغفل ابن خلدون ذلك (٢).

وقد أورد التجيبي خبر مقتل أبي سعد الحسن بشكل مفّصل ، ممّا يوحي باستقائه الخبر من مصادر موثوق بها ، وسكت عن ولاية راجح بن قتادة لمكة المكرمة ومن بعده ابنه غانم ، ولكنه أعاد القول في شأن استنجاد أبي نمي بعمي أبيه إدريس وراجح ، ودخولهم مكة المكرمة ، وانتزاعها من جماز ابن حسن. أمّا الفاسي وابن فهد والعصامي فقد أفاضوا في كيفية مقتل أبي سعد ، وذكروا أنّ الشريف جماز بن حسن ذهب إلى دمشق طالبا مساعدة الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي الأيوبي لاسترجاع مكة المكرمة من ابن عمه أبي سعد الحسن بن علي وأبدى استعداده بقطع الخطبة فيها للمظفّر (٣) صاحب اليمن والخطبة له مرغّبا إياه في مساعدته ، فاستجاب له وسيّر معه جيشا انتصر به على ابن عمه وتمكّن من قتله في الحرم ولكنه لم يلبث أن نقض عهد الناصر وخطب للمظفر صاحب اليمن ثم استولى عمّه راجح ابن قتادة على الحكم بلا قتال وفّر جماز هاربا إلى ينبع. وكان استيلاء جماز على مكة المكرمة وقتل أبي سعد سنة ٦٥١ ه‍ / ١٢٥٣ م وفي ربيع الأول سنة ٦٥٢ ه‍ / ١٢٥٤ م قام غانم بإخراج والده راجح من مكة المكرمة بلا قتال وأقام بها وقتا قصيرا ولم يلبث أن استولى أبو نمي محمد بن أبي سعد وإدريس ابن

__________________

(١) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٧٧ ـ ٧٨ ؛ ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ١ ، ص ٢٦٦ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٣ ، ص ٦٨ ـ ٦٩ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ١ ، ص ٥٩٧ ؛ العصامي : سمط النجوم ، ج ٤ ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ١٠٦.

(٣) يوسف بن عمر بن علي بن رسول الملك المظفر أبو المنصور صاحب اليمن توفي بها في شهر رجب سنة ٦٩٥ ه‍ / ١٢٩٥ م. انظر ابن تغري بردي : الدليل الشافي ، ج ٢ ، ص ٨٠٤.

١٦٠