الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

وفيما يلي عرض مختصر لأهم المصادر التى استخدمت في البحث :

لقد قمت بالاستعانة ببعض المصادر التاريخية التي كتبت عن تاريخ الحجاز بخلاف كتب الرحلات والتي أفردت لها فصلين هما الأول وجزء من الفصل الثاني تكلمت فيهما عن خصائصها ومميزاتها وما جاء فيها من معلومات وأهميتها ؛ لذا لا لزوم لإعادة القول عنها. ونكتفي بذكر أهم المصادر المساندة لتلك الرحلات والتي اعتمدت عليها في المقارنة والتوثيق والتي أمدتني في الوقت نفسه بمعلومات لم يذكرها الرحالة توضح ما غمض في بعض المواضيع ، أو تحدث الرحالة عن طرف معين منها مما يجعل الغموض يكتنفها ، وبمساندة هذه المصادر استطعنا إزالة الغموض وتوضيح ما خفي على الرحالة إظهاره. فمن هذه المصادر التي استفدت منها في المعلومات عن مكة المكرمة :

١ ـ العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام لتقي الدين الفاسي.

فالكتابان من أهم المصادر التي اعتمدت عليها في البحث لوفرة المعلومات بهما. فالكتاب الأول تناول أخبار مكة المكرمة منذ عهد الإسلام الأول أعقبها بتراجم لأهم الشخصيات من الأمراء والعلماء والقضاة سواء منهم المجاورين أو من أبناء مكة المكرمة. كما تناول أهم أعمال الأمراء ، والأحداث الجارية في عهدهم. وقد رتب كتابه على حسب الحروف الأبجدية ما عدا المحمدين والأحمدين إذ قدمهما لفضل الاسمين. فكتابه هذا يعد موسوعة تحوي معلومات علمية وأدبية وسياسية واجتماعية مبثوثة خلال التراجم. وقد أسند ووثق في إيراده لبعض هذه المعلومات إلى ما نقله من شواهد القبور وواجهات المساجد والدور. أما الكتاب الثاني : فقد تناول فيه الحديث عن أهم أحداث مكة المكرمة منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عصره مرتبة بتسلسل السنوات وقد استفدت منه الكثير من المعلومات العلمية والسياسية والاجتماعية الوفيره ، فضلا عن العمرانية.

٢١

٢ ـ إتحاف الورى بأخبار أم القرى لنجم الدين عمر بن محمد بن فهد.

وهذا الكتاب لا يقل أهمية عن كتابي الفاسي. وقد قام بترتيبه بحسب السنوات وما وقع فيها من أحداث بمكة المكرمة متخللا ذلك تراجم لأشهر العلماء والأمراء مبتدئا بالعصر النبوي وحتى وفاة المؤلف. وقد أفادني بالكثير من المعلومات السياسية.

٣ ـ الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة لعبد القادر ابن محمد الجزيرى.

وقد استفدت مما أورده من معلومات سياسية ، وما ذكره عن طريق الحج المصرى ، وما تم فيه من إصلاح وإنشاء.

أما أهم المصادر التي استفدت منها في المدينة المنورة :

١ ـ أخبار مدينة الرسول المسمى الدرة الثمينة لمحمد بن محمود ابن النجار.

وهو مصدر مهم امتاز بمعلومات عمرانية ، وخاصة عن المسجد النبوي ومشاهد المدينة وهو من المصادر التي رجعت إليها ؛ خاصة وأنه عاش في القرن السابع الهجري فجاءت أقواله مطابقة لأقوال الرحالة في كثير من الأمور.

٢ ـ وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى لنور الدين علي السمهودى.

يعد كتابه من الكتب المهمة في تاريخ المدينة المنورة لأنه قد اعتمد على كتب قديمة لم يصلنا منها شيء ، وقد استفدت منه في النواحي : العمرانية والاجتماعية والسياسية والدينية.

٣ ـ التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة لشمس الدين السخاوي :

يعد كتابه من الكتب المهمة الزاخرة بالتراجم التي يبرز من ثناياها النشاط العلمي الذي حفلت به المدينة المنورة والذي استفدت منه كثيرا وقد أمدني هذا الكتاب بالكثير من المعلومات التي أثرت البحث.

ومن الكتب المساندة التي استرعت انتباهي في المقارنات العمرانية كتاب الاستبصار لمؤلف مجهول من القرن السادس الهجرى (١).

__________________

(١) مؤلف مجهول من كتاب القرن السادس الهجري : الاستبصار في عجائب الأمصار ، تحقيق سعد زغلول عبد الحميد.

٢٢

وعلى هذا فإن مؤلف هذا الكتاب عاصر ابن جبير (١) ؛ إلا أن ما أورده من أوصاف لبعض المعالم التاريخية بمكة المكرمة والمدينة المنورة يختلف تماما عما أورده ابن جبير. ولعل ذلك يرجع إلى ما قيل عن مؤلف الاستبصار ما ذكره محقق كتاب الاستبصار حول مؤلفه ؛ إذ يفترض أن للكتاب مؤلفين أحدهما مجهول والآخر هو أبو الفضل جعفر بن محمد بن علي بن طاهر ابن تميم القيسى المعروف بابن محشرة أحد كتاب الموحدين الذي أعاد ترتيب الكتاب وأضاف إليه من الأحداث المعاصرة له. أما الدكتور / محمد المنوني فأكد أن الكتاب لمؤلفين. وأضاف أن الثاني كان يعيش في سنة ٥٨٨ ه‍ / ١١٩٢ م. كما أشارت الدكتورة / ليلى نجار أن المؤلف الثاني لهذا الكتاب قد قام بإهدائه إلى أبي عمر ابن أبي يحيى بن وقتين وهو أحد كبار رجال الدولة الموحديه ، بعد أن قام بترتيبه وتنقيحه ووضع المقدمة له وقد أيدت ما ذهب إليه الدكتور / المنوني من أن من قام بهذا العمل أحد كتاب المنصور الموحدي (٢).

وهو ما نميل إليه أيضا خاصة وأن التجيبي ينقل نصوصا ظهر لنا من مقارنتها إنها من كتاب الاستبصار لا سيما وإننا قد وجدنا تطابقا فيما وصفه التجيبي وصاحب الاستبصار في بعض الأماكن أشرت إليها في مواضعها (٣).

وفي نقله يصرح أحيانا بأنه ناقل عن شخص نعته بالأديب الكاتب أبي العباس ابن عبد الرؤوف. وأحيانا لا يصرح بذلك وفي كلا الحالتين وجدت تطابقا في

__________________

(١) المصدر السابق : المقدمة ، ص ب ، ث.

(٢) مؤلف مجهول : الاستبصار ، المقدمة ، ص ب ، ث ؛ محمد المنوني : الاستبصار في عجائب الأمصار ، الجزيرة العربية في الجغرافيات والرحلات المغربية وما إليها. مصادر تاريخ الجزيرة العربية ، ج ٢ ، ص ٣٠٨ ؛ ليلى أحمد نجار : المغرب والأندلس في عهد المنصور الموحدي. ص ٢٤ ـ ٢٥ ، رسالة دكتوراه.

(٣) انظر التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ١٢ ـ ١٣ ، ٢٤٣.

٢٣

الوصف لفظا ومعنى مما يرجح أن أبا العباس بن عبد الرؤوف هذا هو صاحب كتاب الاستبصار.

كما أن التجيبي أشار إلى أنه كان يحمل كتاب رحلة لرحالة أندلسي تشير الدلائل السابقة إلى أنه كتاب الاستبصار. ولكن للأسف لم أعثر على ترجمة لهذه الشخصية. ربما لأنه لم يصرح باسمه كاملا مما زاد في غموض الموضوع. ولكن أرجو أن أكون في بداية الطريق الصحيح لمعرفة مؤلف الاستبصار. خاصة وإنني قد عرفت جزءا من اسمه والذي سيقودني ومن يأتي بعدي إن شاء الله إلى معرفته ومن ثم الاطلاع على ترجمة لحياته وما تركه من مؤلفات.

وأخيرا لا يسعني إلا أن أتوجه إلى المولى عزوجل بالدعاء أن أكون قد وفقت فيما قدمت.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين فهو نعم المولى ونعم المعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

٢٤

التمهيد

أولا ـ تحديد الحجاز.

ثانيا ـ مفهوم الرحلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ثالثا ـ الرحلة في مفهوم اللغة.

رابعا ـ بداية الرحلات في الإسلام وأشهرها.

٢٥
٢٦

أولا : تحديد الحجاز

الحجاز أحد أقاليم شبه الجزيرة العربية القديمة. معروف موقعه غير واضحة حدوده. ومعنى الحجاز : الحد أو الفصل أو الحجز (١). ولفظ الحجاز عرف قديما منذ كان سكان شبه الجزيرة العربية يعيشون أشتاتا يعمهم التفكك السياسي ولا تجمعهم دولة. فهم مجموعة من القبائل استقرت في مناطق معينة غير واضحة الحدود وغير ثابتة ولا متطابقة مع الأقسام الجغرافية ، مع ملاحظة تمتع بعض مدنه بالاستقلال وفق نظم خاصة. مثل مكة والمدينة وبعض إمارات اتسعت رقعتها على حساب غيرها.

وبعد ظهور الإسلام أصبح الحجاز جزءا من الدولة الإسلامية. فأوجد المسلمون تقسيمات إدارية متلائمة مع مستجدات الظروف دون الالتزام بالتقسيمات الجغرافية. فنتج عن ذلك عدم ثبوت تلك التقسيمات مما جعل لكل من المدينة ومكة والطائف واليا قائما بذاته ، امتدت في بعض الأحيان سيطرته السياسية إلى أطراف العراق (٢).

وقد أطلق على البقعة الممتدة من اليمن جنوبا إلى أطراف الشام شمالا الحجاز لحجزه بين نجد وتهامة وروي هذا التحديد عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما إذ يعد أول من تطرق لحدوده (٣) وهو كما نلاحظ تحديد واسع غير دقيق.

وحدد الهمداني الحجاز شمالا بأرض طيء وجنوبا بتثليث (٤) وما حولها (٥). وورد تحديد آخر للحجاز لدى الأصفهاني : بأنه يمتد من صنعاء جنوبا إلى أطراف الشام شمالا وسمي حجازا لحجزه بين نجد وتهامة وعليه

__________________

(١) انظر : ابن منظور : لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٣٣١.

(٢) صالح العلي : تحديد الحجاز عند المتقدمين ، مجلة العرب ، الرياض ، العدد الأول ، السنة الثالثة ، ١٣٨٨ ه‍ / ١٩٦٨ م. ص ١ ـ ٢.

(٣) الهمداني : صفة جزيرة العرب ، ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٤) (تثليث) بكسر اللام موضع بالحجاز قرب مكة. انظر : ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ١٥ ـ ١٦.

(٥) الهمداني : صفة جزيرة العرب ، ص ٥٧ ـ ٥٨.

٢٧

فمكة من تهامة والمدينة والطائف من الحجاز. وما انحدر من ذات عرق (١) غربا فهو من الحجاز. وما انحدر من ذات عرق شرقا فهو من نجد (٢).

وذكر عرام ابن الأصبغ حد الحجاز الشرقي والغربي ، وأغفل حده الشمالي والجنوبي. فالحجاز لديه : المنطقة الواقعة بين المدينة ومعدن النقرة (٣) فالمدينة نصفها حجازي ونصفها تهامي (٤). أما الحربي فجعل حد الحجاز من الشمال تبوك وفلسطين ومن الجنوب يلملم (٥) ومن الشرق الربذة (٦) وبطن نخل ومن الغرب العرج (٧). فجعل الطائف والمدينة من نجد (٨).

أما ابن حوقل فحدده جنوبا بالسرين (٩) وشمالا بمدين والحجر ، وشرقا باليمامة وجبلي طيء (١٠). وذكر ياقوت أن الحجاز ما حجز بين تهامة ونجد وبين الشام وتهامة والبادية كما نقل عن الأصمعي قوله : أن مكة تهامية والمدينة والطائف حجازية (١١). بينما يذكر البكري أن تبوك وفلسطين والرّمة من الحجاز. ومن البصرة إلى بطن نخل حجازي فمكة وجدة من تهامة. (١٢)

__________________

(١) (ذات عرق) ميقات أهل العراق وهو الحد بين نجد وتهامة فما ارتفع من بطن الرمّة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ويذكر أهلها إنهم من تهامة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) الأصفهاني : بلاد العرب ، ص ١٤ ـ ١٥.

(٣) (معدن النقرة) : بطريق مكة وهي منازل حجاج الكوفة وهي حد نجد. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٤) عرام ابن الأصبغ : أسماء جبال تهامة ، ص ٤٢٤.

(٥) (يلملم) موضع على ليلتين من مكة وهي ميقات أهل اليمن. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٤٤١.

(٦) (الربذة) من قرى المدينة على ثلاثة أيام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز وبها قبر أبي ذر الغفارى. انظر المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ٢٤ ـ ٢٥.

(٧) (العرج) : قرية في واد من نواحي الطائف. انظر المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٨) الحربي : المناسك وأماكن طرق الحج ، ص ٥٣٣ ـ ٥٣٧.

(٩) (السرين) بلدة قرب مكة على ساحل البحر تبعد عن مكة أربعة أو خمسة أيام قرب جده. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٢١٩.

(١٠) ابن حوقل : صورة الأرض ، ص ٢٩ ـ ٣٠.

(١١) ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(١٢) البكري : معجم ما استعجم ، ج ١ ، ص ١٢.

٢٨

وشارك الجغرافيون المحدثون في تحديد الحجاز حيث ذكر القثامي : أن العقبة والبتراء ضمن الحجاز مدخلا فيه خيبر وتيماء وتبوك والعلا (١). بينما يرى البلادي : أن حدود الحجاز غير معروفة (٢). أما العلي فيميل إلى أن الحجاز هو الحد الفاصل بين تهامة ونجد مع التسليم بالاختلاف في تحديد الأماكن من الجهتين الشرقية والغربية (٣).

ويظهر من استعراض بعض أقوال الجغرافيين المسلمين عدم اتفاقهم على حدود جغرافية واضحة المعالم للحجاز ، وما ورد من أقوالهم لا يحدد موقعه بدقة ، وإنما يشير إلى موقعه بصورة عامة.

لذا نقتصر على المنطقة التي يعتقد أنها من الحجاز. والتي تبدأ من تبوك شمالا إلى أطراف اليمن جنوبا ومن ساحل البحر الأحمر غربا إلى أطراف نجد شرقا.

ثانيا : مفهوم الرحلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة :

لم يدع الإسلام وسيلة من الوسائل التي تفيد الإنسان إلا وحثه على فعلها ، ومنها الرحلة. سواء أكانت للعلم أو الهجرة بالدين من أرض الشرك إلى أرض الإسلام أو الحج أو التجارة.

وفي بداية الحديث عن الرحلة لابد من التطرق إلى أولى الرحلات الثابتة لدينا والمستقاة من أوثق وأصدق مصادرنا الإسلامية وهو القرآن الكريم. فقد حفل القرآن الكريم بالأمثلة العديدة لكل نوع منها على الرغم من عدم ورود لفظ رحلة فيه إلا مرة واحدة في سورة قريش. قال تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤).

__________________

(١) القثامي : الأثار في شمال الحجاز ، ج ١ ، ص ١٨.

(٢) البلادي : معجم معالم الحجاز ، ج ١ ، ص ٨.

(٣) صالح العلي : تحديد الحجاز عند المتقدمين ، مجلة العرب ، الرياض ، ج ١ ، السنة الثالثة ، رجب ١٣٨٨ ه‍ / تشرين الأول ١٩٦٨ م ، ص ٩.

(٤) القرآن الكريم : سورة قريش ، ١٠٦ / ١ ـ ٤.

٢٩

وقد أفردت هذه السورة بكاملها للحديث عن الرحلة. وهي رحلة قريش التجارية. فكما هو معلوم أن أهل مكة المكرمة اتجهت أنظارهم إلى التجارة بحكم موقع مكة (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) كما قال تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه‌السلام (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١).

فهذا الموقع جعلها منطلق التجارة. وأظهرت سورة قريش بوضوح رحلتيها إلى الشام واليمن ، والتي جنت منهما أرباحا طائلة انعكست آثارها على أوضاعها الاقتصادية. وغدت ذات مركز مالي خطير في الحجاز ، وسوقا لتبادل السلع. ولم يكن هدفها من الاستيراد الاكتفاء الذاتي فقط ؛ بل قامت بتصدير القائض عن حاجتها إلى أطراف السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية والشام واليمن والسواحل الإفريقية المقابلة. حيث بلغت أحمال كل قافلة لتلك الجهات أكثر من ألف بعير (٢). إلى جانب أن أكثر تجارها هم من سدنة وأهل بيت الله الحرام والذي زادت مهابته في نفوس الناس عقب حادثة الفيل ، فلم يجرؤ أحد بالتطاول على تجار مكة ؛ إذ أن الله تعالى منّ عليهم بهذا الأمان كما جاء في سور قريش.

وعلى ضوء ذلك تمتعت مكة المكرمة بمكانة عظيمة وتقاطر الناس عليها استجابة لدعوة خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام. هذا فيما يتعلق بالرحلات الخارجية. أما الرحلات الداخلية فكانت :

أولا : لأداء فريضة الحج بدافع ديني وكانوا يستفيدون من رحلتهم تلك في التبادل التجاري حيث كانت تعقد الأسواق قبل الحج وبعده.

__________________

(١) القرآن الكريم : سورة إبراهيم ، ١٤ / ٣٧.

(٢) جواد على : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج ٧ ، ص ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٣٠

ثانيا : الرحلات إلى أسواق العرب التي أقاموها في نواح متعددة من جزيرتهم واشتهر منها سوق عكاظ (١) وذي مجاز (٢) ومجنة (٣) ودومة الجندل (٤) وعمان (٥) وهجر (٦) والمشقر (٧) وصنعاء (٨)

__________________

(١) (عكاظ) اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية كانت قبائل العرب تجتمع به كل سنة ويتفاخرون فيه ويحضرها شعراؤهم لإلقاء قصائدهم الشعرية ثم يتفرقون. وهو أعظم أسواق قريش والعرب ويستمر طوال شوال ، وعكاظ نخل من واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال وهو أرض واسعة شرق الطائف بميل نحو الشمال خارج سلسلة الجبال المطيفه به وتبعد تلك الأرض عن الطائف مسافة ٣٥ كم تقريبا. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ١٤٢ ؛ جواد على : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج ٧ ، ص ٣٧٨ ؛ حمد الجاسر : موقع عكاظ ، مجلة العرب ، رمضان ١٣٨٨ ه‍ / كانون الأول ديسمبر ١٩٦٨ م ، ج ٣ ، ص ١١٣٨ ـ ١١١٥٨.

(٢) (ذى مجاز) : موضع سوق بعرفة على ناحية كبكب عن يمين الإمام على فرسخ من عرفة وتقيم فيه العرب في الجاهلية ثمانية أيام من ذى الحجة بعد انصرافهم من سوق مجنه. أنظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٥٤ ؛ جواد على : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج ٧ ، ص ٣٩٠.

(٣) (مجنة) اسم سوق للعرب كان في الجاهلية وهو بمر الظهران قرب مكة يقال له الأصفر وهو بأسفل مكة على قدر بريد منها وكان العرب يقيمون فيه عشرين يوما من ذى القعدة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٥٨ ـ ٥٩ ؛ جواد علي : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج ٧ ، ص ٣٨٠.

(٤) (دومة الجندل) : حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبلي طىء ودومة الجندل من القريات من وادي القرى ويكون سوقها خلال شهر ربيع الأول. انظر اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج ١ ، ص ٢٧٠ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٤٨٧ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

(٥) (عمان) اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند من شرقي هجر تشمل على بلدان كثيرة ذات نخل وزرع. انظر ياقوت : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ١٥٠ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

(٦) (هجر) مدينة وهي قاعدة البحرين وقيل ناحية البحرين كلها هجر. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٣٩٣.

(٧) (المشقر) : حصن بين نجران والبحرين وهي على تل عال ويقابلها حصن بني سدوس وقيل حصن بالبحرين عظيم ويقوم سوق المشقر في جمادى الأولى. أنظر اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج ١ ، ص ٢٧٠ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ١٣٤ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

(٨) (صنعاء) مدينة قديمة باليمن بينها وبين عدن ٦٨ ميلا وهي قصبة اليمن وأحسن بلادها ويقوم بها السوق في النصف من شهر رمضان. انظر اليعقوبي : تاريخ اليعقوبي ، ج ١ ، ص ٢٧١ ؛ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٤٢٦ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

٣١

وحضرموت (١) وحباشة (٢) وبدر (٣) وبني قينقاع (٤) وغيرها.

لقد حرص العرب على إقامة هذه الأسواق سنويا ، وتميزت بتنافس الشعراء في إظهار عبقريتهم الشعرية ، إلى جانب استغلال هذه الأسواق أيضا لتبادل السلع التجارية المختلفة ، والترويج للأفكار والديانات الجديدة. فقد عرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه على العرب في هذه المواسم ، ودعاهم إلى الإسلام والدفاع عنه (٥).

ثالثا : الانتقال سعيا وراء العشب والماء ؛ لأنهما قوام حياة العربي في ذلك الوقت. فهذه الرحلات الثلاث داخلية. يقومون بها سنويا وبانتظام داخل بلادهم.

ولقد لفت القرآن الكريم الانتباه إلى فوائد وأنواع الرحلات. ويمكن إدماجها في الآتي :

__________________

(١) (حضرموت) ناحية واسعة من شرقي عدن بقرب البحر وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف وبها قبر هود عليه‌السلام وهي مخلاف من اليمن بينه وبين البحر رمال. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٢٧٠ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

(٢) (حباشة) : سوق من أسواق العرب في الجاهلية وهو سوق بتهامة وهو سوق لقينقاع. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٢١٠ ـ ٢١١.

(٣) (بدر) : ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء بينه وبين الجار ساحل البحر ليلة وكان بها الواقعة المباركة التي أظهر الله بها الإسلام في شهر رمضان في السنة ٢ ه‍ / ٦٢٣ م وبين بدر والمدينة سبعة برد. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٣٥٧ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

(٤) (بني قينقاع) : اسم شعب من اليهود الذين كانوا بالمدينة أضيف إليهم سوق كان بها يقال له : سوق بني قينقاع. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٤٢٤ ؛ جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام ، ط ١٣٧٨ ه‍ / ١٩٥٩ م ، ج ٨ ، ص ١٥٩.

(٥) ابن هشام : السيرة ، ج ٢ ، ص ٢٤٥ ؛ وأخرج ابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه على الناس في المواسم فيقول : الا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" ابن ماجه : السنن ، ج ١ ، ص ٧٣.

٣٢

١ ـ الرحلة فرارا بالدين من أرض الشرك إلى أرض الإسلام.

٢ ـ الرحلة في طلب العلم.

٣ ـ الرحلة للحج.

٤ ـ الرحلة للتجارة.

١ ـ الرحلة فرارا بالدين من أرض الشرك إلى أرض الإسلام :

وأشهرها هجرة المسلمين الأولى والثانية إلى الحبشة فرارا من إضطهاد وظلم قريش ثم هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة فرارا بالدين وخوفا من الفتنة ورغبة بما وعد الله من التوسعة في الرزق وثبوت الأجر في حالة الوفاة قبل بلوغ البلاد المنتقل إليها (١) قال تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٢) وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (٣).

٢ ـ الرحلة في طلب العلم :

وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة ، تبين هذا النوع من الرحلة. وأشهر رحلة علم وردت فيه. هي رحلة موسى عليه‌السلام مع الخضر عليه‌السلام ليتعلم منه قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً. فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً. قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا

__________________

(١) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٤٧ ـ ٣٥١ ؛ سيد قطب : في ظلال القرآن ، ج ٢ ، ص ٧٤٥ ـ ٧٤٦.

(٢) القرآن الكريم : سورة النساء ، ٤ / ١٠٠.

(٣) البخارى : صحيح البخارى بحاشية السندى ، ج ١ ، ص ٦ ؛ مسلم : صحيح مسلم بشرح النووي ، ج ١٣ ، ص ٥٣ ـ ٥٤.

٣٣

الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً. قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(١).

فهذه الآيات مثال واضح ضربه الله تعالى لطلب العلم وبيان وجوبه. وقد فهم المسلمون معنى ذلك مبكرا ، فسعوا لطلبه من مكان إلى آخر ، مع الحرص على لقاء العلماء والأخذ عنهم.

فموسى عليه‌السلام بالرغم من بلوغه تلك المرتبة العالية عند الله تعالى واختصاصه بكلامه يرحل إصرارا على لقاء العبد الصالح بغض النظر عن

__________________

(١) القرآن الكريم : سورة الكهف ، ١٨ / ٦٠ ـ ٨٢.

٣٤

المسافة والمشقة (١). وطالبا بأدب (٢) وسائلا إياه أن يعلمه مما علمه الله تعالى واشتراطه بعدم الاستفسار مما يراه مخالفا لشريعته (٣) مقابل ذلك يفسر له ما غمض عليه ويمضي السرد القرآني إلى أن يفترقا (٤). ومن الآيات السابقة نستنتج أن الاستزادة من العلم واجبة على الإنسان ووجوب السعي والرحلة لأخذ المزيد منه فكليم الله تعالى رحل لتحصيل علم لا يعرفه. وقد كان بمقدوره تعالى إحضار العبد الصالح إلى موسى عليه‌السلام لتعليمه ، ولكنه سبحانه وتعالى أراد توضيح أن العلم يتطلب البحث والانتقال لطلبه.

وقد اختلف القول في شخصية العبد الصالح أهو الخضر أم غيره ، ولكن ثبت في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه ابن عباس أنه الخضر (٥).

إن الله تعالى خالق كل شيء ومدبره ومسخره للإنسان وبالتالي وضع في الإنسان الدافع لاستكشاف كل ما حوله والاستفادة منه في معرفة عظمة الخالق (٦) ، قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٧).

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة للتفكر والتدبر : أولا في خلق الله تعالى ثم السعى لرؤية المزيد ترسيخا لإيمان الإنسان ومنعا من المعاصي الموجبة للسخط والعذاب (٨).

__________________

(١) سيد قطب : في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢٧٨.

(٢) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ١١ ، ص ١٧ ؛ سيد قطب : في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢٧٩.

(٣) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ج ٣ ، ص ٩٥.

(٤) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ١١ ، ص ٩ ـ ٢٣ ؛ سيد قطب : في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢٧٩.

(٥) البخاري : صحيح البخاري بحاشية السندى ، ج ١ ، ص ٢٥.

(٦) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ١٦ ، ص ١٦ ؛ سيد قطب : في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٢٢٦ ـ ٣٢٢٧.

(٧) القرآن الكريم : سورة الجاثيه ، ٤٥ / ١٣.

(٨) سيد قطب : في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٠٣٥.

٣٥

٣ ـ الرحلة للحج :

قال تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(١). فالدعوة لحج بيت الله الحرام قديمة منذ أيام خليل الرحمن عليه‌السلام. فهو معروف في الجاهلية ومشهور. وكان مما يرغبهم إلى ذلك الأسواق التى تقام فيه ، فلما جاء الإسلام ألزمهم به مرة في العمر للقادر على ذلك ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٢).

وأصبح الحج أحد قواعد الإسلام مقرونا بالاستطاعة. وأجيب نداء الله تعالى للمرة الثانية ؛ ولكن المسلمين كرهوا التجارة وإقامة الأسواق في موسم الحج كما ، هي حالهم في السابق على اعتبار أن أيام الحج أيام ذكر وعبادة (٣).

فأنزل الله تعالى آية قرنت الحج بالتجارة ومحت إحساسهم بالتحرج من ذلك.

فجمعوا رضى الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة. قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)(٤).

٤ ـ الرحلة للتجارة :

لقد مهر العرب في التجارة ، وإن كان ذلك داخل نطاق محدود في الجاهلية.

فهم يرحلون رحلتين في الصيف والشتاء إلى الشام واليمن ، ولكن بعد إسلامهم اتسع نطاق تجارتهم تبعا لاتساع دولتهم ؛ بل لقد تعداه إلى أماكن لم يصلها غيرهم ولم يكتفوا بالرحلة برا ؛ بل ركبوا البحر أيضا خاصة بعد أن وجه الله تعالى أنظارهم لذلك (٥) ، قال تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(٦). لم يكن القرآن الكريم وحده الحاث على

__________________

(١) القرآن الكريم : سورة الحج ، ٢٢ / ٢٧.

(٢) القرآن الكريم : سورة آل عمران ، ٣ / ٩٧.

(٣) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ٢ ، ص ٤١٤ ـ ٤١٥.

(٤) القرآن الكريم : سورة البقرة ، ٢ / ١٩٨.

(٥) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج ١٠ ، ص ٢٩١.

(٦) القرآن الكريم : سورة الإسراء ، ١٧ / ٦٦.

٣٦

الرحلة في طلب العلم ، بل إن أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها الشيء الكثير الدال على فضل العلم وطلبه والحث على ذلك. ففي حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال" ... ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزات عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" (١).

وأما عن الأحاديث الدالة على الرحلة في سبيل العلم ، فقد أشرنا إلى قصة موسى عليه‌السلام ، فهى أصدق مادلت عليه. فالصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم التابعون والعلماء وبعض خلفاء المسلمين ، يستشهدون بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحاضة على العلم وفضله (٢).

وقد حرص صحابة رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المعرفة والاستيضاح لكل ما سنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمور دينهم ودنياهم ، فأبو هريرة رضي‌الله‌عنه يعد من أحرصهم عليه مبادرا بالسؤال. وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم فيه هذا ويحثه عليه فالعلم يؤخذ بالاستفسار والتقصي (٣).

كما حث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الترحيب بطلبة العلم الذين يقدمون على مسجده ليعلموهم فقد روي : عن أبى سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم مرحبا بوصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقنوهم" (٤).

ويعدّ مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثابة كبرى الجامعات في العالم الإسلامي يقبل إليه طلبة العلم للتزود منه فمما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاثا على زيارته للعلم ما

__________________

(١) مسلم : صحيح مسلم بشرح النووي ، ج ١٧ ، ص ٢١ ؛ ابن ماجه : السنن ، ج ١ ، ص ٨٢.

(٢) البخاري : صحيح البخاري بحاشية السندي ، ج ١ ، ص ٢٤ ـ ٢٥ ؛ الترمذي : السنن ، ج ٤ ، ص ١٣٧ ؛ ابن ماجه : السنن ، ج ١ ، ص ٨٠.

(٣) البخاري : صحيح البخاري بحاشية السندي ، ج ١ ، ص ٣٠.

(٤) ابن ماجه : السنن ، ج ١ ، ص ٩٠ ـ ٩١.

٣٧

رواه أبو هريرة قال" سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره" (١).

كما بين عليه‌السلام مكانة طالب العلم إذا توفي وهو على حاله ، فعن" عبد الله بن عباس قال : " قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من جاءه أجله وهو يطلب علما ليحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة" (٢) ، وما رواه أيضا أبو هريرة وأبو ذر جميعا سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جاء الموت طالب العلم وهو على تلك الحال مات شهيدا» " (٣).

فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبذ العلم على العبادة لأن من فقه في العلم أتقن العبادة" فعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل خير من أن تصلي ألف ركعة" (٤).

وعند ما فهم الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم التابعون فضل ذلك ، أكبوا على العلم ينهلون منه ، ورحلوا للأخذ من المدارس المنتشرة في الأقطار الإسلامية والتي يمثلها العلماء الموجودون بها بعد أن استقروا بها. فهذا ذر ابن حبيش يخرج للقاء صفوان بن عسال المرادي ليأخذ عنه فيسأله صفوان" ما جاء بك قال انبط العلم قال : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة اجنحتها رضا بما يصنع" (٥). كما خرج جابر بن عبد الله لعبد الله بن أنيس في طلب حديث المظالم فرحل إليه حتى قدم عليه الشام وسمع منه ثم انثنى عائدا" (٦).

__________________

(١) المصدر السابق والجزء ، ص ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) ابن عبد البر : جامع بيان العلم وفضله ، ج ١ ، ص ١١٥.

(٣) المصدر السابق والجزء والصفحة.

(٤) ابن ماجه : السنن ، ج ١ ، ص ٧٩.

(٥) المصدر السابق والجزء ، ص ٨٢.

(٦) ابن عبد البر : جامع بيان العلم وفضله ، ج ١ ، ص ١١١ ـ ١١٢.

٣٨

كما كان عليه‌السلام يحث صحابته على التبليغ عنه لمن لم يسمعه. فعن ابن عمر قال : " إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ليبلغ شاهدكم غائبكم" (١). فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم بطبائع البشر فربما كان من يحمل العلم يستفيد منه غيره إذا أبلغه فورد في هذا المعنى ما رواه أنس بن مالك قال" قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (٢).

وجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغ العلم أفضل الصدقات. فعن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم" (٣) ، وفي المقابل حذر عليه‌السلام من مغبة كتمان العلم وعدم نشره.

فعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من رجل يحفظ علما فيكتمه إلا أتي به يوم القيامة ملجما بلجام من النار" (٤).

ومما لا شك فيه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتغى من وراء أحاديثه الحث على العلم النافع المحمود فمن دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رواه أبو هريرة قال" كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال" (٥).

ونجد أن أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العلم والحث عليه متممة لما جاء في القرآن الكريم خاصة وأن أول آية نزلت من كتاب الله تعالى هي : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(٦) أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينطبق على أمته من بعده خاصة وأنه أمر بالاستزادة من العلم في قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(٧) وهذا أيضا يشمل أمته عليه‌السلام.

__________________

(١) ابن ماجه : السنن ، ج ١ ، ص ٨٦.

(٢) المصدر السابق والجزء والصفحة.

(٣) المصدر السابق والجزء ، ص ٨٩.

(٤) المصدر السابق والجزء ، ص ٩٦.

(٥) المصدر السابق والجزء ، ص ٩٢.

(٦) القرآن الكريم : سورة العلق ، ٩٦ / ١.

(٧) القرآن الكريم : سورة طه ، ٢٠ / ١١٤.

٣٩

فهذا مفهوم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة للعلم ؛ لذا كثرت الرحلات في سبيل طلب العلم سواء أثناء وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل هجرته أو بعد هجرته إلى المدينة ، وأيضا بعد انتقاله عليه‌السلام إلى جوار ربه. فكثرت الرحلات في طلب الحديث وقطعت المسافات الطويلة لسماعه من العلماء المنتشرين آنذاك في الأقطار الإسلامية.

ثالثا : الرحلة في مفهوم اللغة :

الرحلة في اللغة الترحيل والارتحال بمعنى الإشخاص والإزعاج. يقال رحل الرجل إذا سار (١). فالرحلة هنا بمعنى السير والضرب في الأرض وجاءت الرحلة بمعنى الارتحال أي الانتقال من مكان لآخر" والترحل والارتحال الانتقال وهو الرحلة والرحلة اسم للارتحال".

وجاءت الرحلة أيضا بمعنى الجهة التي يقصدها الإنسان" الرحلة الارتحال. والرحلة بالضم الوجه الذي تأخذ فيه وتريده ؛ تقول أنتم رحلتي أي الذين أرتحل إليهم". كما تطلق الرحلة أيضا على السفرة الواحدة" الرحلة السفرة الواحدة" (٢).

ومما سبق في معنى الرحلة نجد أنها جاءت بمعنى السير والانتقال والوجهة أو المقصد الذي يراد السفر إليه. وبمعنى دنو المكان المراد الوصول إليه. أو اقتراب وقت الرحيل ؛ ولهذه المعاني كلها كان لفظ رحلة يطلق على من انتقل من مكان لآخر. ومنه أخذ لفظ رحّال : وهو الشخص المتنقل من مكان لآخر.

فالشخص الذي قام بالرحلة ، قد ترك موطنه ، وانتقل إلى مكان آخر ، وسافر من موطنه وقصد جهة أخرى غير موطنه وسار إليها ؛ لذا كان لفظ رحلة أعم

__________________

(١) ابن منظور : لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٢٧٦ ؛ الفيروز أبادي : القاموس المحيط ، ج ٣ ، ص ٣٩٤ ؛ الفيومي : المصباح المنير ، ج ١ ، ص ٢٦٤.

(٢) ابن منظور : لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٢٧٩ ؛ الفيروز أبادي : القاموس المحيط ، ج ٣ ، ص ٣٩٤ ؛ الفيومي : المصباح المنير ، ج ١ ، ص ٢٦٤.

٤٠