الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

ويبدو أن هذه البئر خاصة بالمسجد ولعلها ليست من الآبار المشهورة إذ لم يرد لها ذكر في كتب مؤرخي المدينة التي اطلعنا عليها إلا في كتاب المغانم والذي نقل خبرها من ابن جبير (١) الأمر الذي يؤكد أهمية كتب الرحالة كمصدر من مصادر تاريخ الحجاز حتى لمؤرخي القرون السابقة لنا.

بئر أريس (٢) :

تقع بالقرب من مسجد قباء ولم يقم ابن جبير وابن بطوطة بوصفها (٣) بينما أفاض في وصفها وابتداء أمرها والتجديدات المتوالية عليها وفضلها معظم مؤرخي المدينة (٤) ، وأضاف عبد القدوس الأنصاري : أن البئر الآن ليس بها ماء سنة ١٣٩٢ ه‍ / ١٩٧٢ م وأضاف علي حافظ : أن ملكية البئر الآن آلت إلى البلدية بعد أن قامت بعمل ميدان مسجد قباء في أواخر سنة ١٣٨٤ ه‍ / ١٩٦٤ م وتبعد البئر عن باب المسجد اثنين وأربعين متراجهة الغرب وهي الآن ناضبة ويمكن إخراج مائها بالإرتوازي (٥).

بئر بضاعة (٦) :

أغفل وصفها ابن جبير وابن بطوطة (٧) ، وقد جاء ذكرها وما ورد فيها من

__________________

(١) الفيروز أبادي : المغانم المطابة ، ص ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) هي البئر التي سقط فيها خاتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يد عثمان بن عفان وتعرف ببئر الخاتم. انظر ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٤١ ـ ٤٣.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٥ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٦.

(٤) ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٤١ ـ ٤٣ ؛ السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٣ ، ص ٩٤٨ ؛ الفيروز أبادي : المغانم المطابة ، ص ٢٥ ـ ٢٩.

(٥) عبد القدوس الأنصاري : آثار المدينة المنورة ، ص ٢٣٩ ؛ علي حافظ : فصول من تاريخ المدينة ، ص ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٦) بئر بضاعة بصق فيه الرسول صلى ودعا وقال فيه «إن الماء طهور لا ينجسه شيء». انظر ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٤٤.

(٧) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٦ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٦.

٤٢١

أثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدى بعض مؤرخي المدينة (١) وذكر عبد القدوس الأنصاري وعلى حافظ أنها لا تزال موجودة إلى الآن (٢).

بئر رومة : (٣)

انفرد ابن بطوطة بذكرها وأغفل وصفها وحدد موقعها في جهة الغرب من حصن العزاب بالقرب من الخندق (٤) ، وقد نزحت وجددت في سنة ٧٤٨ ه‍ / ١٣٤٧ م وقيل سنة ٧٥٠ ه‍ / ١٣٤٩ م على يد شهاب الدين الطبري (٥).

العيون :

عين تنسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

حدد ابن جبير والبلوي موقعها بين المدينة المنورة والخندق على يمين الطريق ، مبني عليها جدار كبير مستطيل وتقع العين في وسطه ، أما فوهة العين فهي عبارة عن حوض مستطيل يخرج منها سقايتان بني بينهما جدار ينزل إلى وسطها بواسطة درج عددها خمس وعشرون درجة وماء هذه العين كثير وغزير ، ويعتمد أهل المدينة على مائها في غسل ملابسهم وشربهم ، وقد أشار ابن جبير إلى استعمال طريقة الاستقاء لتناول الماء منها صيانة وحفاظا

__________________

(١) ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٤٤ ـ ٤٥ ؛ السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٣ ، ص ٩٥٦ ـ ٩٥٩ ؛ الفيروز آبادي : المغانم المطابة ، ص ٣١ ـ ٣٥.

(٢) عبد القدوس الأنصاري : آثار المدينة المنورة ، ص ٢٤٦ ؛ علي حافظ : فصول من تاريخ المدينة ، ص ١٨١ ـ ١٨٣. ويذكر أن هذه البئر موجودة الآن داخل إحدى عمارات تلك المنطقة. انظر الشنقيطي : الدر الثمين ، ص ١٦٧.

(٣) بئر رومة ابتاعها عثمان بن عفان وتصدق بها. انظر ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٤٨.

(٤) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٦.

(٥) ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ١ ، ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ؛ العقد الثمين ، ج ٣ ، ص ١٦١ ـ ١٦٦ ؛ السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ١ ، ص ٢٤٤ ، ٢٤٥.

٤٢٢

على نظافة الماء (١) ، وذكر ابن النجار مبتدأ أمرها بقوله «كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخافون البيات فيدخلون به كهف بني حرام فيبيت فيه حتى إذا أصبح هبط فنقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العينية التي عند الكهف فلم تزل تجري حتى اليوم وأضاف إن هذه العين ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى» (٢).

ولم تعد تعرف هذه العين زمن السمهودي حيث دثرت ومحي أثرها وأوضح السمهودي الاختلاف في كونها العين التي تنسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عين الأزرق ، وبين أنه يحتمل أن تكون عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تجري إلى هناك وكذلك عين الأزرق ثم انقطعت الأولى وبقيت الثانية ، وأضاف إن اتفاق وصف ابن جبير وابن النجار لها يبعد احتمال كونها عين الأزرق (٣).

أما الفيروز آبادي فقد نفى أن تكون عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكد أنها عين الأزرق (٤).

وذكر علي حافظ أن الكهف معروف لدى أهل المدينة إلى الآن ولكنه لم يوضح هل لا يزال بها ماء أم لا (٥)؟.

عين داخل باب الحديد أحد أبواب المدينة المنورة :

وهي منخفضة عن مستوى سطح الأرض ينزل إليها بواسطة درج.

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٥ ـ ١٧٦ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٩٠. ولعله نقل وصفها من ابن جبير.

(٢) ابن النجار : أخبار مدينة الرسول ، ص ٤٩.

(٣) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٣ ، ص ٩٨٥.

(٤) الفيروز آبادي : المغانم المطابة ، ص ٢٩٥.

(٥) علي حافظ : فصول من تاريخ المدينة ، ص ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٤٢٣

ماؤها عذب ، قريبة من المسجد النبوي (١) ، ولعل هذه السقاية إنما هي عين الأزرق. فقد كان لها مجرى إلى سور المدينة وتخرج من تحت السور بمجريين على شكل درج وتستكمل مجراها إلى رحبة عند مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية باب السلام والذي تكفّل بإيصالها إلى باب السلام الأمير سيف الدين الحسين ابن أبي الهيجاء (٢) في حدود سنة ٥٦٠ ه‍ / ١١٦٤ م (٣).

قبة حجر الزيت :

بناء عليه قبة تسمى قبة حجر الزيت يذكر أن الزيت رشح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك الحجر وتقع هذه القبة خارج المدينة (٤) ، وأشار إليها السمهودي والفيروز آبادي ويذكر السمهودي روايتين تبين أن أحجار الزيت تطلق على موضعين الأول قريب من البزواء والثاني في الحرة في منازل بني عبد الأشهل (٥) ، ويبدو من كلام ابن جبير وابن بطوطة أنه الموضع الأول ، وحدد علي حافظ موقعها بالمناخة قرب مشهد مالك بن سنان (٦).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٦ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٩٠.

(٢) الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين أخذ من العين الزرقاء شعبة أوصلها إلى رحبة المسجد من جهة باب السلام وشعبة صغيرة تدخل صحن المسجد ثم بطل ذلك وعمل للحجرة الشريفة ستارة مكتوب عليها سورة ياسين بكاملها. انظر السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ١ ، ص ٥١٦.

(٣) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٣ ، ص ٩٨٦ ؛ الفيروز آبادي : المغانم المطابة ، ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٦ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٦.

(٥) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٤ ، ص ١١٢١ ـ ١١٢٢ ؛ الفيروز آبادي : المغانم المطابة ، ص ٩.

(٦) علي حافظ : فصول من تاريخ المدينة ، ص ٢٧.

٤٢٤

أماكن الوضوء :

أشار العبدري إلى أمر الملك المنصور ببناء دار للوضوء عند باب السلام من ناحية الغرب فأقام دارا واسعة محكمة البناء أجرى إليها الماء وأوصله بالمنازل في حينه (١) وأكد ابن بطوطة والسمهودي ذلك حيث حدد الأخير تاريخ إنشائها بسنة ٦٨٦ ه‍ / ١٢٨٧ م (٢).

ونخلص مما سبق إلى القول : إن المدينة المنورة كان عمرانها متقنا حسنا نستشف حسنها وترتيب بنائها من قول البلوي بأنها «طيبة الرائحة متسعة الأرجاء مشرقة الأنحاء طيبة الهواء كثيرة النخيل والماء ممتدة التخطيط والاستواء حسنة الترتيب والبناء» (٣).

فيبدو أن المدينة المنورة كانت أحسن حالا من مكة المكرمة بدليل مشاهدات الرحالة المغاربة والأندلسيين من عمران تمثل في البناء المحكم على الآبار والعيون والسقايات وأماكن الوضوء. وأغلب الظن أن المدينة المنورة نعمت باستقرار سياسي نسبي نظرا لوفرة الماء بها فقد ازدهرت بالزراعة وخاصة النخيل ، كما نشطت حركة البناء والتعمير خاصة وأن أمراء المدينة المنورة أقل تأثرا بأمراء وملوك المسلمين المحيطين بهم ، فهم على الغالب تربطهم بهم روابط جيدة بدليل إنشاء وتعمير أمراء وملوك المسلمين أماكن بها وخاصة إعادة بناء المسجد النبوي بعد حريقه.

ولا يعني هذا أن المدينة المنورة لم تمر بها أوضاع سياسية عصيبة ؛ بل

__________________

(١) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ٢١٨.

(٢) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١١٨ ـ ١١٩ ؛ السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٢ ، ص ٧٠٤.

(٣) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٩٠.

٤٢٥

على العكس لا بد وأن تكون قد عصفت بها خاصة عند تصارع الأمراء الأشراف بها على السلطة كما أشار إلى ذلك ابن بطوطة (١).

ويبدو أيضا أن بعض قرى الحجاز في تلك الفترة نعمت بهدوء سياسي أعقبه استقرار اقتصادي مثل وادي الصفراء.

ونجد أن الحجاز قد عرف جميع أنواع البناء سواء منه المدني أو الحربي أو الديني ، ولمسنا مدى إتقانهم لأنواعه ، إضافة إلى إتقان أهل الحجاز لفنون الزخرفة والنقش التي كانت تزين أهم الأماكن بها مثل المسجدين المكي والمدني ، وعليه فإن الحجاز وجد به المقومات الأساسية للدولة ولو لا سوء أوضاعه السياسية لأصبح من أعظم الأقاليم الإسلامية عمرانا وحضارة إذا أخذنا في الاعتبار الحركة العلمية الهائلة الموجودة به وما يأتيه من مساعدات اقتصادية كانت كفيلة بانتعاش اقتصاده وجعله من أحسن الأقاليم الإسلامية اقتصادا.

وعلى العموم فالمدينتان المقدستان قد نعمتا ببعض المشاريع التي توضح حرص واهتمام المسلمين من ملوك وأمراء عامة بالبناء والتعمير بها طلبا وسعيا وراء الأجر والثواب من الله عزوجل.

ونستطيع القول أخيرا إنه لو لا سوء أوضاع الحجاز السياسية التي تمثلت في تصارع الأشراف فيما بينهم من ناحية وتصارع الأشراف مع الدول المجاورة من ناحية أخرى ، إضافة إلى انتهاز الأعراب قطاع الطرق لسوء الحالة الأمنية بها في كثير من الأحيان لأصبح الحجاز إقليما ينعم بالاستقرار والهدوء خاصة بعد ان قيض الله تعالى للحجاز من خارجه أو داخله من يسد فراغ الناحية المعمارية بعد أن انصرف أمراؤه الأشراف عن هذه الناحية.

__________________

(١) انظر ما سبق ، ص ١٧٩ ـ ١٨١.

٤٢٦

الخاتمة

٤٢٧
٤٢٨

الخاتمة :

حظي الحجاز بالعديد من الدراسات في الآونة الأخيرة ، لما له من منزلة عظيمة في نفوس المسلمين ، واستخدمت كافة المصادر للإلمام بتاريخ هذه البقعة المهمة. ولكن الاعتماد على كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين وإظهار أهميتها كمصدر مهم من مصادر تاريخ الحجاز لم تحظ بالدراسة الكافية.

وقد اعتمدنا فى هذا البحث على بعض كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين لإظهار أهميتها والتأكيد على أنها من المصادر المهمة لتاريخ الحجاز ، ولا يجب الاستغناء عنها. فخلصنا إلى عدد من النتائج سواء منها ما يتعلق بالجانب العلمي أو الجانب الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادى أو السياسي. فمن هذه النتائج التي استخلصت مما كتبه الرحالة المغاربة والأندلسيون :

الجانب العلمي :

١ ـ إن الإسلام دين علم ومعرفة فبرز من هذه الحقيقة الرحلة لطلبه فالرحلة قديمة قدم الإسلام نفسه ، فتعددت أغراضها وغاياتها خاصة وأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حضا على وجوب السعى لتعلم العلم النافع.

فظهرت الرحلة كوسيلة للعلم والإعلام منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدأت تأخذ مساراتها المختلفة منذ تلك الفترة.

٢ ـ إن العلم يتطلب السعي لنيله فقام العلماء بالرحلة لطلبه فلمعت أسماء بعضهم بفضل ما قاموا به من رحلات بجميع أهدافها وأغراضها.

وقد ترتب على ذلك شغف المسلمين بالرحلة وعرفوا واتقنوا مختلف أنواعها. وهذا ينطبق على مسلمي المشرق والمغرب على حد سواء ، إلا أن مسلمي المغرب والأندلس انفردوا بنوع فريد من الرحلات هي الرحلات الحجازية والتي أساسها أداء فريضة الحج والزيارة وطلب العلم. وقد

٤٢٩

أفرزت هذه الرحلات مذكرات ومشاهدات لهؤلاء الرحالة تكونت منها رحلاتهم التي أصبحت بمثابة موسوعة علمية مصغرة لما حوته من معلومات مهمة لكافة أحوال المسلمين في تلك الفترة. إضافة إلى كونها سجلا ضمت قوائم بأسماء علماء المسلمين البارزين الذين تخصصوا فى مختلف العلوم مثل علم القراءات وعلم الحديث والفقه واللغة العربية والتاريخ والشعر والأدب. فالرحالة كانوا عبارة عن عين لا قطة لما حولهم يستقطب اهتمامهم جميع الأمور وإن صغرت.

٣ ـ ضمت مكة المكرمة جميع المذاهب الإسلامية بعلمائها الذين ساروا جنبا إلى جنب لدفع الحركة العلمية ؛ إذ تبين من خلال ما كتبه الرحالة المغاربة والأندلسيون مدى مكانة مكة المكرمة العلمية التى وصل إشعاعها لكافة الأمصار الإسلامية. فمكة المكرمة مبدأ ومنتهى الحركة العلمية وحلقة الوصل بين المشرق والمغرب الإسلامي.

ففيها لمعت أسماء العلماء ومنها تنتشر الكتب إلى المشرق والمغرب على حد سواء وهذا بفضل الوسائل المهيئة لنشر العلم من وجود العلماء والكتب وتبادلها فيما بينهم وانتشار المدارس والأربطة التي كانت عبارة عن مساكن لطلبة العلم أقيمت بها مكتبات حوت نفيس الكتب التي كانت مدار الطلب في ذلك الوقت. فأكبوا على طلب العلم والنهل منه بعد ما أمنت حاجاتهم الأساسية من مسكن وغذاء ومرتبات بفضل ما كان يصل مكة المكرمة من الأعطيات والصدقات التي ترسل من ملوك وأمراء وأغنياء المسلمين لتفرق عليهم هناك.

٤ ـ بروز دور المسجد الحرام العلمي فقد كان بمثابة جامعة مفتوحة يتوافد إليه طلاب العلم المسلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وفضل الكثير منهم المجاورة بمكة المكرمة لفترات قد تطول أو تقصر وذلك لتلقي العلم

٤٣٠

على أيدي علماء أفذاذ مثلوا المذاهب الإسلامية وبرعوا في فنون العلم المختلفة.

٥ ـ وجد بمكة المكرمة أعداد هائلة من العلماء الذين لم يكونوا من أبناء الحجاز وحدها حيث لعب العلماء المجاورون دورا بارزا فى رواج الحركة العلمية بها. وقد ظهر ذلك جليا من خلال ما سجل من أسمائهم وترجمة لحياتهم في كتب الرحلات التي ربما زادت عما ورد في كتب التراجم نفسها ؛ بل إن ما كتبه الرحالة المغاربة والأندلسيون عن هؤلاء العلماء اعتمد عليه أصحاب كتب التراجم كالفاسي والسخاوي مثلا في ترجمتهم لهؤلاء العلماء.

فلقد تهيأ لمكة المكرمة ما لم يتهيأ لغيرها من مدن العالم الإسلامي فقد هفت إليها أفئدة العلماء الذين ذاعت شهرتهم في علم من العلوم التى اختصوا بها إلى جانب العدد الكبير من أبنائها العلماء والذين أدوا جميعا دورا بارزا فى رواج الحركة العلمية بها لتعدد حلقات الدرس فى المسجد الحرام. فكان لكل مذهب من المذاهب الإسلامية زاوية ودرس خاص توفرت بها كتبهم العلمية وجلسوا للمناظرة والفتوى والشرح والإجازة.

٦ ـ مماثلة المدينة المنورة مكة المكرمة في مكانتها العلمية بعد القرن السادس الهجرى وبلغت مكانة عالية في القرن الثامن الهجرى بعد أن خفت وطأة سيطرة الشيعة على مقاليد أمور الناحية العلمية بها بسبب إحكام سيطرة المماليك حكام مصر على الأمور بها وذلك بتعيين الأئمة والخطباء والمؤذنين والقضاة السنيين بها. حيث كان قبل ذلك أهل السنة مضطهدين لا يستطيعون البت فى أمورهم ؛ بل لقد وصل الأمر في بعض الفترات إلى تركهم المدينة المنورة ومصادرة أملاكهم.

٤٣١

الجانب الديني :

١ ـ لقد أدى ضعف الحالة الدينية في الحجاز إلى أن أصبحت مرتعا خصبا لظهور الكثير من البدع والخرافات : منها ما هو مناف للعقيدة مثل العروة الوثقى بالكعبة المشرفة وخرزة فاطمة الزهراء بالمسجد النبوي الشريف وما ذكر عن بيوت زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسجد أيضا.

ونجد أن الداعي إلى مثل هذه البدع هو استجلاب الأموال من عوام الناس والحجيج. كما تفشت عادة التبرك بقبور الأولياء والصالحين وكل ما يمت بصلة قريبة كانت أو بعيدة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته رضوان الله عليهم.

٢ ـ استفحال تفشي البدع والشائعات بين طبقات المجتمع الحجازي المختلفة الأمر الذي أدى إلى أن صدقها الرحالة المغاربة والأندلسيون وضمنوها رحلاتهم مما يعطينا تصورا واضحا لضعف الحالة الدينية.

٣ ـ وجود بعض البدع والشائعات إلى وقتنا الحاضر كانت موجودة منذ تلك الأيام : مثل زيادة ماء زمزم ليلة النصف من شعبان وعدم وقوع الحمام على الكعبة المشرفة.

٤ ـ إن أغلب ما وجد من أماكن نسبت إلى بعض الصحابة رضوان الله عليهم وبنيت عليها مساجد إنما ألحقت نسبتها إليهم بعد فترة طويلة من وفاتهم مما يؤكد عدم صحة نسبتها إليهم في كثير من الأماكن.

٥ ـ ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض فترات البحث وما وجد من قائمين به كانوا يعملون به من تلقاء أنفسهم وربما عوقبوا على قيامهم بهذا الأمر. ويبدو أن الأمر تغير إذ أصبح هناك موظفون قائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد وضح ذلك مما أورده ابن بطوطة.

٤٣٢

٦ ـ ضعف سلطة القاضي فى بعض الفترات وتغلب سطوة العامة من الناس والحجيج على بعض قراراته وخاصة فيما يتعلق بيوم الوقوف بعرفة.

الجانب الاجتماعي :

١ ـ تعدد الطبقات في المجتمع الحجازى واختلاف تركيبته السكانية بسبب مركزه الديني في نفوس المسلمين. وقد شكل المجاورون بمختلف أجناسهم طبقة منه.

٢ ـ بسبب اختلاف التركيبة السكانية بالحجاز ومكانته الدينية ظهرت عادات وتقاليد خاصة انفرد بها عن سائر الأمصار الإسلامية. لا يزال بعض منها إلى وقتنا الحاضر. كما جرى في بعض العادات تغييرات على مر السنين لا حظناها من رحالة لآخر.

٣ ـ انفراد الرحالة المغاربة والأندلسيين بتسجيل الحياة الاجتماعية بالحجاز والتي أغفل ذكرها المؤرخون الذين اقتصروا على تسجيل الناحية السياسية.

الجانب السياسي :

١ ـ عم الاضطراب السياسي الحجاز داخليا بسبب تصارع أمراء الأشراف فيما بينهم على الإمرة فقامت الحروب فيما بينهم في سبيل الحصول عليها.

٢ ـ استعانة الأمراء الأشراف بملوك مصر تارة وبملوك اليمن تارة أخرى في سبيل الحصول على الحكم. وربما لجأ كل أمير منهم إلى دولة منهما فأصبحت بذلك الحجاز مسرحا لتصارع مصر واليمن وإثبات قوتيهما على حساب الحجاز.

٣ ـ منذ قيام الدولة الأيوبية بمصر التزم الأشراف في الحجاز بالدعاء لهم على المنابر وخضوع الحجاز لسيادتهم وأصبح من ضمن الولايات التي أخذ

٤٣٣

عليها صلاح الدين الأيوبي تقليدا من الخليفة العباسي المستضيء ثم خضعت مباشرة للأيوبيين عقب استيلاء سيف الإسلام أخو صلاح الدين عليها.

وبالرغم من خضوع الحجاز للأيوبيين إلا أننا لم نلاحظ أن لهم تدخلات مباشرة في تعيين وعزل الأمراء الأشراف ولكن ترك لهم حرية البت في أمورهم من تلقاء أنفسهم والتفت الأيوبيون إلى تأمين طرق الحج وإسقاط المكوس عن الحجاج وتعويض أمرائها أموالا وحبوبا أوقفوا عليها القرى والأراضي في مصر لهذا الغرض.

٤ ـ ارتبط أشراف الحجاز ارتباطا وثيقا في القرن الثامن الهجرى بالمماليك بمصر الذين تدخلوا فى شؤون الحجاز الداخلية وامتد ليشمل الأمراء أنفسهم من ناحية توليتهم وعزلهم. وأكثر هذه الفترات ارتباطا هي فترة حكم الناصر محمد بن قلاوون وخاصة بعد وفاة الأمير أبو نمي وما أعقب ذلك من تصارع أبنائه منذ سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م وما تلى ذلك من السنين.

٥ ـ لم يؤثر عن أشراف المدينة المنورة ارتباطهم بغير ملوك مصر الذين خضعوا لهم خضوعا مباشرا خاصة عند ما يحدث تصارع بين أمرائها ويلجأ أحدهما إلى سلطان مصر.

٦ ـ تراوح ولاء الحجاز بين مصر واليمن تبعا لحجم الأعطيات التي تصله من أحدهما.

٧ ـ خضوع المدينة المنورة لأمراء مكة المكرمة في بعض الفترات مثلما حدث في جزء من فترة حكم أبي عزيز قتادة وأبي نمي. كما حدث وأن خضعت مكة المكرمة لأمراء المدينة المنورة مثلما حدث في عهد مكثر ابن عيسى أمير مكة المكرمة وهذا الأمر في فترة وجيزة لا يلبث أمراء مكة المكرمة أن ينفردوا بحكمها.

٤٣٤

٨ ـ إن محاولات أمراء مكة المكرمة لضم المدينة المنورة تقودنا إلى القول بقوة شخصية أمراء مكة المكرمة وتطلعاتهم لمد نفوذهم وسيطرتهم على المدينة المنورة خاصة وأن بعض أمرائها حمل لقب ملك الحرمين مثل أبي نمي.

٩ ـ بالرغم من حدوث بعض الحروب بين أمراء المدينة المنورة وأمراء مكة المكرمة إلا أن جهودهم تتوحد عند إحساسهم بخطر يهدد إحدى الإمارتين وظهر ذلك جليا عند ما تعاونوا لاسترداد مكة المكرمة فسارعوا لتوحيد جهودهم مثلما حدث فى فترة أبي عزيز قتادة لاسترداد مكة المكرمة وفي فترة حكم أبي نمي.

١٠ ـ امتداد سيطرة أمراء مكة المكرمة على مناطق شاسعة خارج الحجاز ؛ بل وخارج نطاق الجزيرة العربية ليشمل مملكة سواكن وبلاد البجة. حيث ظهر في فترة البحث شريفان توليا ملكها : هما زيد بن أبي نمي ومبارك ابن عطيفة بن أبي نمي وقد أغفلت المصادر التاريخية الإشارة إلى ذلك ولم نعثر إلا على إشارة عابرة من الفاسي استقيناها من قصيدة تؤكد ما ذكره ابن بطوطة من أن زيد بن أبي نمي كان ملكا عليها وإشارة أخرى تؤكد أن عطيفة تولى ملكها أيضا ولكن بدون تفصيل.

ونخلص من هذا إلى أن هناك علاقات خارجية لأشراف مكة المكرمة ببعض الدول والإمارات المجاورة

أغفلت ذكرها كافة المصادر التاريخية التي تناولناها لموضوع البحث.

١٠ ـ ارتباط أشراف الحجاز بسلاطين كلوه فقد كانت لهم رحلات سنوية إليهم وهذا الأمر أغفل ذكره المؤرخون.

١١ ـ التنافس في حمل لقب خادم الحرمين الشريفين من قبل سلاطين مصر واليمن حيث إن أول من حمل لقب خادم الحرمين الشريفين هو صلاح

٤٣٥

الدين الأيوبي ثم انتقل اللقب لملوك اليمن أثناء انشغال ملوك مصر بأمورهم الداخلية ولكنه لم يلبث أن أصبح من ضمن ألقاب ملك مصر الذي ظهرت قوته وهيمنته على العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

١٢ ـ ظهور مبدأ الاشتراك فى الإمرة عوضا عن ولاية العهد ، ولكن بصلاحيات أكبر تخوله الحكم والبت في الأمور بوجود الشريك وهو مع ذلك مقاسمة في واردات الإمارة الاقتصادية.

١٣ ـ تبعت بعض مدن وقرى الحجاز الشمالية سلاطين مصر وارتبطوا معها بروابط اقتصادية فى بعض الأحيان مثل ينبع.

١٤ ـ كانت ينبع ووادي نخل المنفى الاختياري لأشراف مكة المكرمة فيقصدها الشريف المنهزم إما ليموت هناك أو لتجميع قوته والعودة مرة أخرى لاسترداد مكة المكرمة من منافسيه بعد أن يكون قد جمع الأتباع فيقوم إما بمهاجمة مكة المكرمة مباشرة أو يلجأ إلى فرض الحصار الاقتصادي عليها وقطع طريق الحجيج وبهذا يمتد الضرر ليشمل أهل الحجاز ومجاوريه وليس فقط الأمراء الأشراف.

١٥ ـ سجل الرحالة المغاربة والأندلسيون بتقص بارع جانبا من الوضع السياسي في الحجاز ضاما ما ذكره بعض المؤرخين الآخرين لبعض الأحداث مما كشف أمورا كانت خافية أسبابها ودوافعها.

١٦ ـ انعدام الأمن في داخل مكة المكرمة والمشاعر المقدسة أثناء الموسم وفي الطرق المؤدية إلى مدن الحجاز.

الجانب الاقتصادي :

١ ـ استقرار الأحوال السياسية بالممالك الإسلامية المجاورة للحجاز يعقبه استقرار سياسي واقتصادي بالحجاز بسبب ما يصلها من أعطيات منها بانتظام.

٤٣٦

٢ ـ عرف الحجاز مهنا صناعية عدة عمل بها أهل الحجاز وأتقنوها مثل صناعتي الحلوى والبناء اللتين امتدحهما ابن جبير.

٣ ـ وجود جالية مغربية عملت بالزراعة بالحجاز مما نتج عنه رواج هذه المهنة واستصلاح كثير من الأراضي حول مكة المكرمة.

٤ ـ عدم التفات أمراء الحجاز للإصلاح الذي يخدم الحجاج وأهل الحجاز بالرغم من إرسال الكثير من الأموال إليهم ، والتفاتهم إلى تقوية مكانتهم ببناء الاستحكامات الحربية خوفا من انقضاض غيرهم عليهم وانتزاع الإمرة سواء من داخل الحجاز أو خارجه.

٥ ـ عدم سماح أمراء مكة المكرمة بأي إصلاح بالمسجد المكي إلا بعد دفع أموال توازي تكاليف الإصلاح أو التجديد ، وربما تزيد عليها. إضافة إلى تذييل التعمير أو التجديد برسم الخليفة المعاصر بعد أخذ موافقته أولا على المراد عمله دون ذكر القائم على العمل.

كما أن معظم ماتم من بناء إنما كان تجديدا أو ترميما لما هو قائم دون زيادة مساحته وقد اتضح ذلك من بعض المباني التي كانت لا تزال إلى وقت قريب قائمة وانطبق وصفها على ما ذكره الرحالة. إضافة إلى بقاء بعض طرز البناء المعماري إلى الوقت الحاضر.

٦ ـ معرفة أهل الحجاز لأساليب المعاملات التجارية بمختلف أنواعها من بيع وشراء ورهن واستدانة ومقايضة.

ومما استنتج عن الرحالة أنفسهم :

١ ـ انصباب اهتمام الرحالة المغاربة والأندلسيين على تقصي أحوال مكة المكرمة من جميع جهاتها دون المدينة المنورة وباقي مدن وقرى الحجاز وهذا عائد إلى طول مكوثهم بها.

٤٣٧

٢ ـ تصدر الرحالة المغاربة والأندلسيين عند العودة إلى موطنهم للإقراء والتدريس وتولي القضاء والإمامة أو الكتابة لدى بعض أمراء المغرب أو الأندلس. فتأهلهم لشغل هذه المناصب التعليمية والدينية بفضل العطاء والأخذ العلمي الذي تم بالمدينتين المقدستين فأهلهم ذلك لاحتلال مثل هذه المناصب. فأغلب الرحالة المغاربة والأندلسيين كانوا أدباء بارعين تولوا قبل مجيئهم إلى المشرق مناصب مهمة فى بلادهم مثل الكتابة لأمرائهم.

٣ ـ معظم الرحالة المغاربة والأندلسيين كانوا يحملون كتب الرحالة السابقين عليهم للمقارنة وإضفاء الجديد وتصحيح بعض الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم وربما النقل عنهم في بعض الأحيان للأمور التي لم يتسن لهم رؤيتها أو لبعد العهد والنسيان.

٤ ـ كان خروج الرحالة المغاربة والأندلسيين أساسا للحج والزيارة وطلب العلم فلمعت أسماؤهم وذاع صيتهم بما نالوه من علم هناك. إضافة إلى كتابتهم لرحلتهم التي توضح ثاقب نظرهم للأمور وتحليلها وحكمهم على الأحداث التي نقلوها بكل أمانة لبعدهم عن التحيز لجانب دون آخر.

٥ ـ يتم تقييد الرحلة دون إعداد مسبق بل يسير وفق خط سير رحلتهم وما يصادفهم أثناءها.

وختاما أسأل الله تعالى أن يكون قد حالفني التوفيق في إبراز أهم النتائج التي توصل إليها البحث ومحققة بذلك الهدف منه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا وشفيعنا النبي الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وأزواجه أجمعين.

٤٣٨

الملاحق والرسومات

٤٣٩
٤٤٠