الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

بينما نجد ابن رشيد يتحدث عن جبل عرفات بالتفصيل وتطرق لاسمه سابقا قائلا" إنه يعرف عند العرب القدماء بالإل" (١) ولم يكتف بذلك ؛ بل ضبط اسمه من كتب اللغة مع النقد والتصحيح. فقد نقد البكري في وصفه له حيث قال : إنه" جبل صغير من رمل على يمين الإمام بعرفة" (٢). وأوضح أن هذا غير صحيح. كما صحح للأزرقي مؤرخ مكة في مكان موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : قال الأزرقي : " وموقفه منها على النابت" (٣) وبين ابن رشيد وجهة نظره في هذا ذاكرا إنه كان الأولى به أن يقول" وموقفه إلى النابت لا على النابت لأن النابت لا يمكن القرار عليه" (٤).

أما وصفهم للصحراء فإن أغلب المناطق التي مر بها الرحالة في طريقهم إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة يغلب عليها الطابع الصحراوي أو شبه الصحراوي. وطبيعي أن يتطرقوا لوصفها. حيث وصف ابن بطوطة صحراء البزواء (٥). وذكر جملة نتبين منها وصف هذه الصحراء فقال : " يضل فيها الدليل" (٦) كناية عن تشابه معالمها ، وعدم التفريق بين مسالكها بالرغم من شهرتها وطروق الحجيج لها كل عام في طريقهم إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة. كما وصفها العبدري بمثل ذلك (٧).

٩ ـ وصف الطرق والقرى :

اشترك الرحالة جميعهم ما عدا ابن جابر الوادي آشي والرعيني في وصف القرى منذ انطلاق رحلتهم. فلم يقتصروا على وصف القرى داخل

__________________

(١) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٨٧.

(٢) البكري : معجم ما استعجم ، ج ١ ، ص ١٨٥ ؛ ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٨٧ ـ ٨٨ ، ٩٣.

(٣) الأزرقي : أخبار مكة ، ج ٢ ، ص ١٩٠.

(٤) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٨٩ ـ ٩٣.

(٥) (البزواء) موضع في الطريق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة والبزواء هي الأرض البيضاء الممتدة بين مستورة وبدر على الساحل ، انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤١١ ؛ البلادي : معجم معالم الحجاز ، ج ١ ، ص ٢١٧.

(٦) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٨.

(٧) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٤.

٨١

الحجاز فقط ، حيث وصف البلوي الطريق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وما بينهما من قرى (١).

١٠ ـ وصف الآثار التاريخية القديمة :

من خصائص كتابات الرحالة المغاربة والأندلسيين وصف الآثار التاريخية القديمة. واشترك معظمهم في هذه الخاصية ما عدا الرحالة الذين كتبوا رحلاتهم على هيئة برامج. أما الرحالة الوصفيون فقد أدلوا بدلوهم في وصف الآثار التاريخية القديمة بعد تدقيق شديد. ومثال ذلك البلوي ووصفه لمدائن صالح عقب معاينته لها." فأدرك الناس العبر وعاينوا منظرا لا تشرحه عبارة الخبرة لا يخبر عنه إلا منظره ، ولا يشفي من حديثه إلا محضره. وما عدا ذلك فنجم في سماء ونقطة من ماء" (٢).

كما وصفها ابن رشيد أثناء حديثه عن الطريق إلى المدينة. وذكر أن ما شاهده فيها يحار فيه الوصف. ومما يدلنا على تحليله السليم ما أورده في وصف منازلهم وما شاهده من عظام باقية لأهل مدين قائلا" وإن ظاهر أحوالهم أن خلقهم كانت كخلقنا إذ أبواب بيوتهم وزواياها على مقادير أبوابنا المعتادة في الارتفاع" (٣). كما اختصوا بتسجيل النقوش التاريخية الموجودة بالمساجد أو الآثار المقدسة.

١١ ـ وصف المجتمعات وأخلاقها وطباعها :

من أبرز من تكلموا عن أخلاق وطباع بعض المجتمعات التي حلوا بها الرحالة العبدري فقد وصف أهل مكة المكرمة بقوله : «وفي أصحابها بعض جفاء وقلة ارتباط للشرع وهم في الغالب يؤذون الحجاج ويحيفون على المجاورين بها» (٤).

__________________

(١) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٩٥.

(٢) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٤ ـ ١٥.

(٤) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٧٢.

٨٢

د ـ وصف أحاسيس النفس :

ظهرت براعة الرحالة المغاربة والأندلسيين في تصوير ما يعتلج في نفوسهم سواء عند الفرح أو الخوف أو الغضب من شيء مخالف للسنة. فقد أبدع ابن جبير ثم البلوي على سبيل المثال في وصف مشاعرهم لحظة دخولهم لمكة المكرمة (١).

أما الإحساس بالخوف فأبرز من أوضحه التجيبي أثناء عبوره للبحر الأحمر إلى جدة (٢). وكان الإحساس بالغضب في حالة ما هو مخالف لتعاليم الإسلام متفاوتا بين الرحالة كلّ بحسب طبعه وردود فعله. فمنهم من اكتفى بالدعاء بأن يصلح الله الأحوال مثل ابن جبير عند رؤيته للعامة في نهبها الشمع المقدم للحرم المكي في رمضان فقال على عادته" وعند الله تعالى في ذلك الجزاء والثواب إنه سبحانه الكريم الوهاب" (٣).

ومنهم من انطلق لسانه بالسب والشتم على لصوص الطرق الذين يتعرضون بالأذى لحجاج بيت الله الحرام مثل الأعراب القاطنين قرب المدينة فوصفهم العبدري بقوله" وعرب تلك الناحية من أكفر العرب وأفجرهم ... لا خفف الله ثقل أوزارهم ولا عفى عن قبيح آثارهم ولا أعفاهم من قوارع الدهر وخطوبه وإنحائه عليهم من كروبه بأنواع ضروبه" (٤).

ومن المؤكد أن الذي دفع هؤلاء الأعراب لقطع الطريق هو ما كان يلاقونه من مشقة في سبيل الحصول على الرزق. فالدولة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن تلتفت إلى مساعدتهم لتدهور أحوالها هي أيضا إذ لم تكن هناك دولة إسلامية قوية إلا دولة المماليك بمصر. وهذه كانت منشغلة بحرب الصليبيين.

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٨ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ٢٢٥.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٢ ـ ٢١٤.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٣٣.

(٤) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ٢٠١.

٨٣

ه ـ تصحيح ما يرونه من أخطاء شائعة :

من جملة ما اختص به الرحالة المغاربة والأندلسيون تصحيح ما يرونه من أخطاء شائعة في عصرهم ، وعدم سكوتهم عليها. فهم يوردون ما يشاهدونه ويستنكرونه ، ثم يتبع ذلك تصحيحهم لها ، مع إبراز رأيهم وبيان ما يقال في ذلك وحقيقته. فمما أورده العبدري أثناء وصفه لبدر قائلا : " أن هناك غارا يذكر الناس تخرصا أنه الغار الذى دخله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رضى الله عنه حينما هاجرا من مكة" وأوضح عدم صحة ذلك وأن الغار المذكور موجود في جبل ثور قريب من مكة (١).

و ـ التطرق للبدع والشائعات المنتشرة :

لم يترك الرحالة المغاربة والأندلسيون جانبا من جوانب الوصف إلا وطرقوه وتناولوه بالتعليق والتصحيح. ومن ذلك موقفهم من الشائعات والبدع التي انتشرت بين الناس دون التأكد من صحتها ؛ إذ أشار التجيبي أن الشيبيين (٢) أحدثوا داخل الكعبة الشريفة كوة (٣) في الجدار الغربي مقابل الباب يبلغ ارتفاعها نحو ست أذرع وأطلقوا عليها العروة الوثقى ، وأوهموا العامة أن يلمسوها ونبه على بطلانها (٤).

ز ـ تسجيل الأحداث التاريخية المعاصرة :

سجلت أقلام الرحالة المغاربة والأندلسيين العديد من الأحداث التاريخية التي عاصروها أثناء وجودهم في الحجاز وكانوا شاهدي عيان لها ، فحرصوا على تدوينها. وبهذا حملت تلك المعلومات الدقة والصدق. فمن ذلك ما حدث أثناء إقامة ابن جبير في مكة المكرمة ومجيء سيف الإسلام طغتكين ابن أيوب (٥)

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٦٤.

(٢) (الشيبيين) من ذرية عثمان بن طلحة حيث سلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة يوم فتح مكة وقال له اليوم يوم بر ووفاء. أنظر ابن هشام : السيرة النبوية ، ج ٤ ، ص ٤١٢.

(٣) (الكوة) بالفتح والضم النقبة في الحائط. انظر الفيومي : المصباح المنير ، ج ٢ ، ص. ٦٦.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، انظر مناقشة هذا الأمر فيما بعد ، ص ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٥) سيف الإسلام أبو الفوارس طغتكين بن أيوب بن شادي بن مروان المنعوت بالملك العزيز ظهير الدين

٨٤

شقيق صلاح الدين الأيوبي فقد أشار إلى قدومه إلى الحجاز في طريقه إلى اليمن على إثر خلاف وفتنة وقعت بين حكامها. واكتفى ابن جبير بالإشارة إلى الفتنة دون ذكر تفاصيلها (١) وكان ذلك سنة ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م (٢).

كما اهتم الرحالة المغاربة والأندلسيون بذكر أسماء بعض الملوك المعاصرين لهم والذين كانت لهم ، صلة بالحجاز مع إيراد طرف من سيرهم بعيدا عن التحيز.

ح ـ إبراز الناحية السياسية :

شملت ملاحظات الرحالة المغاربة والأندلسيين والمدونة في أسفار رحلاتهم النواحي السياسية للبلدان التي زاروها.

فقد ذكر التجيبي عامل مدينة جدة من قبل أمير مكة نجم الدين أبي نمي الحسني (٣) واصفا إياه بملك مكة (٤) كناية عن الصلاحيات المطلقة الممنوحة له في إدارة شئون مكة وتوابعها وانتصاره على الطامعين في الحكم.

__________________

صاحب اليمن كان أخوه السلطان الملك الناصر صلاح الدين قد سيره إلى اليمن وكان رجلا شجاعا كريما مشكور السيرة حسن السياسة مقصودا في البلاد الشاسعة لإحسانه وبره توفي في شوال تاسع عشر منه سنة ٥٩٣ ه‍ / ١١٩٦ م بالمنصورة وهي مدينة اختطها باليمن. انظر ابن خلكان : وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ٦٢ ـ ٦٤.

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٢٤ ـ ١٢٦.

(٢) انظر تفاصيل ذلك عند أبي شامة : الروضتين ، ج ٢ ، ص ٢٥ ـ ٢٦ ؛ ابن كثير : البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ٣٠٩ ؛ ابن خلدون : العبر ، ج ٥ ، ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ؛ الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٣٨.

(٣) محمد بن حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن الحسني يلقب بنجم الدين تولى إمارة مكة نحو خمسين سنه إلا أوقاتا يسيرة زالت ولايته عنها وقد شارك عمه إدريس بن قتادة في امرتها حوالى سبع عشرة سنه وقد تولى أبي نمي بعد قتل أبيه أبي سعد في المحرم سنة ٦٥٣ ه‍ / ١٢٥٥ م وقد وقعت معارك كثيرة بينه وبين أمير اليمن والأشراف وأمير المدينة جماز بن شيحة إلى أن استقر له الأمر وخطب لملك مصر المنصور قلاوون وللملك المظفر صاحب اليمن ثم أعاد الخطبة لملك مصر الظاهر بيبرس وقد أثنى عليه من ترجم له ووصفوه بالصفات الحسنة وكان شاعرا قال بعض من ترجم له أنه يصلح للخلافة لو لا أنه كان زيديا وتوفي في صفر سنة ٧٠١ ه‍ / ١٣٠١ م. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ٤٥٦ ـ ٤٧١.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٩.

٨٥

ط ـ الناحية الاجتماعية :

شكلت النواحي الاجتماعية جانبا لا يستهان به من فن الرحلة عند المغاربة والأندلسيين ، وهي من أبرز خصائصها. وقد أفاض في هذا الجانب الرحالة ابن جبير وابن بطوطة من خلال تسجيلهما لتلك الناحية لأهل الحجاز ـ مكة المكرمة والمدينة المنورة ـ ويمكننا القول إن ابن بطوطة استطاع أن ينقل لنا صورة دقيقة لمظاهر الحياة الاجتماعية لأهل مكة والمدينة خلال عصره (١).

ي ـ الناحية الاقتصادية :

تعرض الرحالة المغاربة والأندلسيون للإشارة إلى الناحية الاقتصادية.

ونستطيع استنتاج تلك الجوانب من خلال ما أوردوه في كتبهم. فمن ذلك ما ذكره التجيبي عن الحجاز : أن بجدة عاملا من قبل أمير مكة مهمته الأساسية قبض المكوس (٢) والضرائب من الحجاج. وقد أظهر التجيبي تذمره من هذه المكوس والضرائب لعدم مشروعيتها (٣) فقال : " والله تعالى يصلح أحوال الجميع ويعظم الأجر بذلك فعلى قدر النفقة والنصب يكون الأجر" (٤). ومعنى هذا أن المكوس والضرائب كانت تشكل أحد موارد الدخل لأهل الحجاز في تلك الفترة.

ك ـ الناحية الدينية :

حظيت الناحية الدينية بنصيب وافر من اهتمام الرحالة. حيث تناولت كتاباتهم قضية تعدد المذاهب الإسلامية المنتشرة في الحجاز. وقد أشار ابن جبير لهذا الموضوع (٥).

__________________

(١) أنظر ابن جبير : الرحلة ، ص ١٠١ ـ ١١٠ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) (المكس) الضريبة التي يأخذها الماكس وأصلها الجباية : انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٢٢٠.

(٣) وأول مكس فرض على الحجاج المسلمين كان من قبل القرامطة سنة ٣٢٧ ه‍ / ٩٣٤ م وهي" أول سنة مكس فيها الحاج ولم يعهد ذلك في الإسلام" ، انظر ابن الجوزي : المنتظم ، ج ٦ ، ص ٢٩٦ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٤) التجيبي السبتي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٨ ـ ٨٠.

٨٦

ل ـ وصف الناحية الثقافية :

ومن أهم الخصائص التي قام عليها فن الرحلات المغربية والأندلسية الحديث عن الناحية الثقافية والتي تشمل :

١ ـ الترجمة للعلماء الموجودين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

٢ ـ أماكن حلقات العلم التي يجلس فيها العلماء للتدريس.

٣ ـ ذكر الإجازات التي حصل عليها الرحالة.

٤ ـ المدارس الموجودة بمكة المكرمة والمدينة المنورة.

٥ ـ أسماء الكتب المتداولة في ذلك الوقت والمعتمد عليها في التدريس.

٦ ـ العلوم المتصدرة في التدريس.

م ـ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ورواية الشعر :

حفلت كتب الرحلات بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي انتثرت في أماكنها المناسبة ؛ إضافة إلى ورود الكثير من الأبيات الشعرية ، وخاصة التي توضح مدى التشوق لزيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة والمدائح النبوية.

ن ـ البعد عن الأسلوب الخيالي والاعتماد على الأسلوب المدعم بالآراء العلمية المنطقية :

من أهم الخصائص في تدوين رحلات الرحالة المغاربة والأندلسيين اعتمادهم على الأسلوب العلمي السليم القائم على المشاهد الواقعية ، وابتعادهم عن الأسلوب الخيالي القصصي. وذلك عائد إلى كونهم شهود عيان لكثير من الأحداث الواردة في كتبهم ، إلى جانب المناقشة العميقة لعدد من القضايا المدعمة بالوصف القائم على المشاهدة أولا ثم بإيراد ما يدور حولها من أقوال تطرقت إليها كتابات العلماء السابقين.

ومن مميزات أسلوبهم العلمي في الرحلات تدوين المعلومات بحسب تواريخ حدوثها مع الاطلاع على كتب الرحالة السابقين والإشارة إلى ما نقل

٨٧

منها مع تصحيح ما وقعوا فيه من أخطاء. وقد ساعد الرحالة على انتهاج الأسلوب العلمي السليم في كتاباتهم ما وصلوا إليه من علم غزير وسعة فهم مع حرصهم على تدوين ملاحظاتهم أولا بأول ، ومن لم يتسن له ذلك قام بتدوين رحلته عقب عودته إلى بلاده والتزامه جانب الدقة وقوة الملاحظة في كل صغيرة وكبيرة ، وأحيانا نعثر على بعض الهفوات التاريخية البسيطة ولكنها مع ذلك لا تقلل من أهمية الرحلة ومدى ما تقدمه من مادة علمية متنوعة الموضوعات مما ترتب عليه ازدهار فن الرحلة المغربية والأندلسية على أيدي الرحالة والذي وصل إلى ذروته في القرنين السابع والثامن الهجريين.

* الخصائص الخاصة :

تميز الرحالة المغاربة والأندلسيون بمميزات خاصة في تدوين رحلاتهم فكل رحالة يكمل ما نقص من سلفه ويضيف إلى فن الرحلة لبنات جديدة أعطته صفته وميزته عن باقي الرحالة المسلمين في العالم الإسلامي. فمثلا نجد أن ابن جبير كان أنموذجا يحتذى به ، فهو قد جمع فيها بين الخصائص العامة والخاصة وإن لم يقم فيها بالترجمة للعلماء والأعلام الذين التقى بهم.

بينما نجد أن رحلة الرعيني تميزت بميزة أخرى ، وهى البرامج والمختلفة تماما عما سار عليه ابن جبير إذ انصب اهتمامه على الجانب الثقافي من حيث الترجمة لشيوخه والكتب التي نال إجازتها وغيرها من الأمور المتعلقة بعلم الحديث. فاحتوت بذلك ميزة التعريف بالعلماء ومدى إسهامهم في الحركة العلمية.

وهو أمر لا يقل أهمية عن الجوانب الأخرى المطروقة في غيرها من الرحلات.

أما ابن رشيد فقد اتبع منهج ابن جبير من حيث وصف المراحل في طريقه إلى الحجاز. ولم يلبث أن طغى الجانب العلمي على رحلته حتى إنه يمكن تصنيفها ضمن رحلات البرامج بما حوته من ذكر العلماء والكتب المتداولة

٨٨

في تلك الفترة سواء القديمة أو الحديثة ، إلى جانب ما حظيت به رحلته من إضافات عن المناقشات والمناظرات العلمية والأدبية. وبهذا يكون جملة ما تطرق إليه من وصف على الرغم من قلته يعد مكملا لمضمون رحلته. وقد أوضح ابن رشيد مضمون رحلته بقوله : " وقد ضمنته من الأحاديث النبوية والغرائب الأصلية والفقهية واللطائف الأدبية والنكت العروضية وضبطت المشكل من أسماء الرجال والتعريف بكثير من المجاهيل والأغفال" (١).

وكما نلاحظ أن كل ما ذكره ابن رشيد يعد جديدا على فن الرحلة وحرص على إضافته وإن كانت الترجمة للشيوخ قديمة بقدم علم الحديث ولكنها هنا في الرحلة المغربية والأندلسية تعد جديدة ومن إضافات ابن رشيد والرعيني.

وقد حرص ابن رشيد على إصلاح الأخطاء التي وقعت في الأسانيد والآداب. فقد قال : " فمما علمت وجه الصواب فيه أوضحته وأقمت صوابه ونبهت على الذى أصلحته" (٢).

أما العبدري فرحلته تأرجحت بين الرحلة الوصفية والعلمية إذ تشتمل على قسط وافر من الوصف سواء للمراحل أو المدن أو الآثار بالإضافة إلى عنايته الفائقة بشرح النواحي السياسية والحضارية في حين أن الجانب العلمي حظي بالقليل من اهتمامه.

وقام العبدري بتصحيح الأخطاء الشائعة ، معتمدا في ذلك على الموازنة بين الكتب التي تحدثت عن الموضوع وإبراز الصحيح فيها مع بيان رأيه ؛ وبذلك يكون حكمه صادرا من عالم بحقيقة الأمور متمكن من فهم كافة دقائقها مع إصلاحه للأخطاء الموجودة في تلك المصادر عقب رجوعه إليها مما يعد ميزة انفرد بها العبدري ، وإضافة لخصائص الرحلة المغربية والأندلسية (٣).

__________________

(١) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٢ ، ص ٣٣.

(٢) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٣٤.

(٣) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٧٦.

٨٩

بينما نجد أن التجيبي السبتي قد جمع بين الرحلة الوصفية والعلمية مع حرصه على تغطية الجانب الوصفي بكل أبعاده. وإضافة التعاريف اللغوية لأسماء بعض المدن التي مر عليها مثل جدة ومكة المكرمة (١) بشيء من التوسع.

أما الرحالة ابن جابر الوادي آشي فرحلته تعد من الرحلات العلمية الصرفة لما اشتملت عليه من تراجم العلماء والشيوخ الذين إلتقى بهم. وبهذا فرحلته تعد من الرحلات المعروفة بالبرامج.

بينما نجد أن الرحالة ابن بطوطة كان نموذجا فريدا للرحالة المغاربة والأندلسيين ، وعلى يديه أخذت الرحلة المغربية والأندلسية شكلها النهائي. فمن بين سطور رحلته يظهر لنا ابن بطوطة الفقيه وعالم الاجتماع والاقتصادي والجغرافي ، فاجتمعت له بذلك العديد من الصفات ، وربما يعود ذلك إلى كثرة تنقلاته واتصالاته بالناس مما أدى إلى اتساع أفقه ومداركه.

أما الرحالة البلوي فكانت عنايته بالجانب الأدبي. ويعد أسلوبه من النثر البليغ ، مع اهتمامه بالدواوين الشعرية المعروفة في عصره ، واعتماده في تدوين رحلته على أهم الخصائص والأسس التي سار عليها سلفه من الرحالة المغاربة والأندلسيين.

ومن المميزات التي عرفت لكل رحالة ما قام به ابن جبير من كتابته لرحلته على هيئة مذكرات يومية. ومنهم من أملى رحلته من الذاكرة كابن بطوطة أو من كتبها أثناء رحلته وعقب عودته قام بتحريرها وتنقيحها ، ومنهم من تركها على حالها إلى أن وصلتنا دون تحرير أو تنقيح إلا في مواضع قليلة زاد عليها كابن رشيد ، مما يؤكد أنهم يراجعون رحلاتهم عقب عودتهم.

ومنها أيضا قيام بعضهم بذكر المسافات المقطوعة بين كل مرحلة ومرحلة أو مدينة وأخرى بالفراسخ والأميال كابن جبير ومنهم من ذكرها بعدد الأيام تعبيرا عن المسافة التي قطعت كابن بطوطة.

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٨ ، ٢٣٠ ـ ٢٣٢.

٩٠

ومن الملاحظ أن بعض الرحالة المغاربة والأندلسيين عند خروجهم من موطنهم لأداء الفريضة وطلب العلم يكون في صحبتهم أحد قرابتهم أو أصدقائهم مثل ابن جبير وابن رشيد والعبدري.

ثالثا : أهمية الرحلات المغربية والأندلسية :

لا شك أن الرحلات المغربية والأندلسية إلى الحجاز ظاهرة أدبية وتاريخية واضحة وجلية ، إلا أنه لم يصلنا منها إلا القليل. بينما حفظت لنا كتب التراجم والتاريخ أسماء رحالة مغاربة وأندلسيين لم نعثر على رحلاتهم أو إنتاجهم أو لم يدونوا رحلاتهم. ومنهم من قام بتدوينها ؛ ولهذه الرحلات المدونة والمحفوظة الفضل في إمدادنا بمعلومات قيمة لم يدر بخلد مؤلفيها أهميتها وقت تدوينها ، خاصة وأنهم أودعوا فيها معظم مشاهداتهم عن الحجاز. والتي قد لا نجدها في كتب التاريخ المعاصرة من حيث الوصف الدقيق للمدن ونمط الحياة فيها. فأثنوا على الحسن من عاداتها ، ودعوا إلى البعد عن الشاذ منها ، مع ذكر المراحل والمسافات التي قطعوها والصعوبات التي واجهتهم أثناء الطريق إلى الحجاز وعارفة أشراف الحجاز بأهلها وبالملوك والأمراء والمجاورين مع وصف للحياة الاجتماعية والثقافية والمدارس الموجودة فيها ونشاط العلماء والمصادر المعتمدة في الدراسة بالحجاز.

فهذا الجانب المهم من تاريخ الحجاز والذي حفلت به كتب الرحلات المغربية والأندلسية ، والتي لم تحظ باهتمام المؤرخين المتخصصين. فهي بحق تعد من أصدق المصادر التاريخية للحجاز في هذه الفترة.

وعلى هذا يمكننا القول : إن نمط كتب الرحلات المغربية والأندلسية فن قائم بذاته زاخر بالكثير من المعلومات التي تهم المؤرخ والجغرافي وعالم الاقتصاد وعالم الاجتماع. فأهميتها تتجلى بما تحويه من مادة علمية عن تلك النواحي ، مكتوبة بأسلوب أدبي منسق خال من الأساطير إلا ماندر ، والمعتمد

٩١

على المشاهدة والسماع في ملاحظة مختلف المظاهر ومن ثم تدوينها.

ولا شك أن المتمعن في كتب الرحلات يجد أن هؤلاء الرحالة يتفاوتون في درجة ملاحظاتهم واهتمامهم ببعض النواحي دون الأخرى. ومن هنا ظهرت لنا أهميتها في النواحي الآتية :

١ ـ أهميتها من الناحية العلمية :

إن رغبة الرحالة المغاربة والأندلسيين في أداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة وارتياد مراكز العلم في المشرق بعد أن تجاوزوا سن الطلب ووصلوا إلى سن تؤهلهم بمجالسة كبار العلماء للأخذ والعطاء ، وبهذا أثريت الناحية العلمية بفضل هذا التبادل العلمي القائم على الالتقاء بكبار العلماء للأخذ والرواية عنهم والحصول على إجازاتهم العلمية في المراكز التي وصلوا إليها والتي تعد ينابيع فياضة بالعلم والمعرفة. وبهذا أصبح الرحالة رسل علم ومعرفة وحلقة اتصال وتبادل فكري وعلمي بين الشرق والغرب أتاح لأهل المغرب والأندلس النهل من علوم المشرق على أيدي هؤلاء الرحالة الذين قاموا بتدريس تلك العلوم وخاصة علوم الحديث وملحقاته لمواطنيهم إلى جانب ذكرهم للمدارس ومنشئيها وأماكنها والعلماء المتصدرين للتدريس فيها.

لذا فكتب رحلاتهم في هذه الناحية تعد من أهم الكتب التي تشير بوضوح للجانب الثقافي والعلمي مع الكشف عن الأصول والمنابع التي استقى الرحالة علومهم منها. وعلى ضوء ذلك تعد من أهم المصادر عن الحركة العلمية في الحجاز.

٢ ـ أهميتها من الناحية الاجتماعية :

شكلت الناحية الاجتماعية جانبا لا يستهان به في كتابة الرحلات المغربية والأندلسية. حيث إن رحلتي ابن جبير وابن بطوطة سجلات حافلة بالجوانب الاجتماعية التي تبين ما كان عليه أهل الحجاز من عادات وتقاليد وخاصة في مكة المكرمة ؛ وبذلك عرفنا الكثير عن ذلك المجتمع في الفترة التي

٩٢

انصرف فيها اهتمام المؤرخين للنواحي السياسية ، وتدوين أخبار المشرق الإسلامي وما واجهه من هجمات الصليبيين والتتار ، مع إهمالهم الناحية الاجتماعية. والتي نستطيع أن نستشف منها الأوضاع المعيشية للمجتمع في ظل تلك الظروف.

انصب حرص الرحالة على إظهار الجوانب الحسنة للمجتمع الحجازي وانتقادهم للسيء منها. وربما جاءت انتقاداتهم عنيفة مثل العبدري ، وربما جاءت بالدعاء إلى الله بإصلاح الأحوال كابن جبير. ومنهم من لم يتعرض لها بالنقد السلبي كابن بطوطة مثلا.

كما نستطيع أن نتلمس بداية الانحراف في العبادة والتواكل وغيرها من الأمور التي كانت وبالا على الإسلام والمسلمين من رحلة إبن جبير ، والتي بلغت ذروتها في رحلة ابن بطوطة. ولعل مرد ذلك إلى الفهم الخاطىء للشريعة الإسلامية.

٣ ـ أهميتها من الناحية السياسية :

إن ما سجله الرحالة المغاربة والأندلسيون من ملاحظات عن الأحوال السياسية في البلاد الإسلامية التي نزلوا بها كشف لنا كثيرا من الأمور التي نجهلها عن علاقات الممالك الإسلامية بعضها مع بعض ، وخاصة علاقات الحجاز بجيرانه. والتي توضح مدى ما تمتع به الأشراف من مكانة بين سلاطين وأمراء المسلمين الذين كانوا يغدقون الأعطيات عليهم مقابل السماح بالدعاء لهم في المسجدين الحرام والنبوي والمشاعر المقدسة. فعلاقتهم بالمماليك هي علاقة تبعية.

وأيضا علاقة الأشراف بعضهم ببعض والمنازعات الحاصلة بينهم. كما نستشف من كتابات الرحالة : أن أشراف الحجاز كانت لهم الحرية المطلقة في إدارة شئون مكة في بعض الفترات.

٩٣
٩٤

الفصل الثاني الرحالة المغاربة والأندلسيون ومناهجهم

١ ـ ابن جبير

٢ ـ الرعيني

٣ ـ ابن رشيد

٤ ـ العبدري

٥ ـ التجيبي السبتي         

٦ ـ ابن جابر الوادي آشي

٧ ـ ابن بطوطة

٨ ـ البلوي

٥٤٠ ـ ٦١٤ ه‍ / ١١٤٥ ـ ١٢١٧ م

٥٩٢ ـ ٦٦٦ ه‍ / ١١٩٥ ـ ١٢٦٧ م

٦٥٧ ـ ٧٢١ ه‍ / ١٢٥٨ ـ ١٣٢١ م

كانت رحلته عام ٦٨٨ ه‍ / ١٢٨٩ م

٦٧٠ ـ ٧٣٠ ه‍ / ١٢٧١ ـ ١٣٢٩ م

٦٧٣ ـ ٧٤٩ ه‍ / ١٢٧٤ ـ ١٣٤٨ م

٧٠٣ ـ ٧٧٠ ه‍ / ١٣٠٣ ـ ١٣٦٨ م

٧١٣ ـ ٧٨٠ ه‍ / ١٣١٣ ـ ١٣٨٧ م

 

٩٥
٩٦

الرحالة المغاربة والأندلسيون ومناهجهم

ابن جبير

٥٤٠ ـ ٦١٤ ه‍ / ١١٤٥ ـ ١٢١٧ م

أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبير بن سعيد بن جبير ابن سعيد بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان بن عبد السلام بن جبير الكناني (١). رحالة أندلسي ، كان جده عبد السلام من أوائل الداخلين إليها مع بلج القشيري (٢) في سنة ١٢٣ ه‍ / ٧٤٠ م (٣). فهو أندلسي شاطبي (٤) بلنسي (٥).

ولد ابن جبير ليلة السبت العاشر من شهر ربيع الأول سنة ٥٤٠ ه‍ / ١١٤٥ م ببلنسية من شرق الأندلس (٦). وقيل إن مولده كان سنة ٥٣٩ ه‍ / ١١٤٤ م في شاطبة أو بلنسية (٧).

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٣. وهو يعد من أوائل المترجمين لابن جبير ونقل نسبه من كتاب ابن فرتون المفقود والمسمى الذيل على الصلة. انظر المنذري : التكملة لوفيات النقله ، ج ٢ ، ص ٤٠٧ ؛ ابن الخطيب : الإحاطة ، ج ٢ ، ص ٢٣٠ ؛ الزركلي : الأعلام ، ج ١ ، ص ٢٧٤.

(٢) بلج بن بشر بن عياض القشيرى سيره هشام بن عبد الملك على مقدمة جيش كثيف مع عمه كلثوم إلى أفريقية عندما ثار أهلها على أميرهم ابن الحبحاب فقاتل البربر وقتل عمه في أوائل سنة ١٢٤ ه‍ / ٧٤١ م وحصر بلج إلى أن جاءته مراكب أمير الأندلس فرحل إليها مع أصحابه ثم لم يلبث أن قتل أمير الأندلس واستولى عليها وتوفي متأثرا بجراحه وكانت عاصمته قرطبه. انظر الزركلي : الأعلام ، ج ٢ ، ص ٧٣.

(٣) ابن الخطيب : الإحاطة ، ج ٢ ، ص ٢٣٠.

(٤) نسبة إلى (شاطبة) مدينة شرقي الأندلس ينسب إليها عدد كبير من العلماء. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ٣٠٩.

(٥) نسبة إلى مدينة (بلنسية) وهي مدينة مشهورة بالأندلس أهلها يسمون عرب الأندلس ينسب إليها عدد كبير من العلماء. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٤٩٠ ؛ المقرّي : نفح الطيب ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

(٦) المنذري : التكملة ، ج ٢ ، ص ٤٠٧ ؛ ابن الخطيب : الإحاطة ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ؛ المقري : نفح الطيب ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ ؛ ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب ، ج ٥ ، ص ٦٠.

(٧) ابن القاضي : جذوة الاقتباس ، ج ١ ، ص ٢٨٠ ؛ ابن الخطيب : الإحاطه ، ج ٢ ، ص ٢٣٩.

٩٧

وسبب نسبته لبلنسية لمولده بها على أرجح الأقوال. أمّا نسبته إلى شاطبة فعائد لإقامته بها فترة من الزمن. ويعد والده من أعيانها وأبرز كتّابها. وسلك ابن جبير نهج والده في ذلك ثم سكن غرناطة (١).

توفي رحمه‌الله بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان سنة ٦١٤ ه‍ / ١٢١٧ م (٢). وقد بلغ من العمر أربعة وسبعين عاما (٣).

نشأ ابن جبير في كنف أبيه الذي أعده لتقلد المناصب. فتلقى العلم عن أبيه وعلماء عصره بشاطبة وعني بالأدب فبرع فيه وبرز في صناعة الكتابة (٤). وتنقل ابن جبير في مطلع حياته في عدد من المدن الأندلسية والأفريقية ، فقطن بلنسية وشاطبة وغرناطة وسبتة (٥) وفاس (٦) وتقلب في المناصب الكتابية. ويعد أحد كتّاب الدولة الموحدية حكام الأندلس والمغرب ، وتمتع بمكانة عالية لديهم لسعة علمه وقدرته على نظم الشعر والنثر (٧).

__________________

(١) المقرّي : نفح الخطيب ، ج ٢ ، ص ٣٨٤ ـ ٤٨٧ ؛ (غرناطة) أقدم مدن كورة البيرة من أعمال الأندلس وأعظمها وأحسنها وأحصنها بينها وبين قرطبة ٣٣ فرسخا ويقال لها أغرناطة وأسقطها العامة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٣٢٤.

(٢) ابن القاضي : جذوة الاقتباس ، ج ١ ، ص ٢٨٠ ؛ الذهبي : العبر في خبر من غبر ، ج ٣ ، ص ١٦٣ ؛ ابن الخطيب : الإحاطة ، ج ٢ ، ص ٢٣٩ ؛ المقري : نفح الطيب ، ج ٢ ، ص ٤٨٩.

(٣) المنذري : التكملة ، ج ٢ ، ص ٤٠٧.

(٤) المقري : نفح الطيب ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

(٥) (سبتة) مدينة مشهورة من قواعد بلاد المغرب ومرساها أجود مرسى على البحر وهي على بر البربر تقابل جزيرة الأندلس على طرف الزقاق تميزت بحصانتها. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ١٨٢.

(٦) (فاس) مدينة مشهورة كبيرة على بر المغرب من بلاد البربر ، حاضرة البحر وأجل مدنه قبل اختطاط مراكش ، وهما مدينتان مفترقتان مسورتان الأولى تسمى عدوة القرويين والثانية تسمى عدوة الأندلسيين وكلتاهما في سفح جبل والنهر بينهما. انظر المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٢٣٠.

(٧) ابن القاضي : جذوة الاقتباس ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ؛ الذهبي : العبر في خبر من غبر ، ج ٣ ، ص ١٦٣ ؛ حسين مؤنس : تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس ، ص ٤٢٩.

٩٨

صفاته :

كان أديبا بارعا وشاعرا مجيدا سنيا فاضلا ، نزيه الهمة سري النفس ، كريم الأخلاق ، أنيق الخط ، ذا نظم ونثر بديع سهل حسن ، ومحاسنه عديدة ، ذائع الصيت ، مشهورا بالخير والصلاح (١). فأهّلته صفاته لتقلد أرفع المناصب في الدولة ، وهو الكتابة ، وأتاح له ذلك المنصب الاطلاع على العديد من الأمور المهمة والتي لا يتاح للمؤرخين العاديين معرفتها (٢).

ونلاحظ أن ما تميز به ابن جبير من صفات جعلت المقري يصفه بالمروءة والسعي في قضاء حوائج الناس والسعي لأداء واجب إخوانه عليه وإيناس الغرباء فقال : " إن صاحب كتاب الملتمس كان أحرص الناس على مصاهرة قاضي غرناطة أبي محمد عبد المنعم بن الفرس (٣) فجعل ابن جبير الواسطة في إتمام زواجه ولكن لم يوفق الله بينه وبينها ، فأتاه وشكى له ذلك ، فقال له : إنما ما كان القصد لي في اجتماعكما ولكن سعيت جهدي في غرضك وها أنا أسعي أيضا في افتراقكما إذ هو من غرضك وخرج من حينه وفصل القضية من غير أن يظهر عليه أدنى امتنان ؛ بل إنه أتاه بمائة دينار مؤمنية يريد أن يعطيها له يعوضه فيها عما خسره في زواجه هذا" (٤).

ومما يروى عن لسانه من شعر في حبه لقضاء الحوائج :

يحسب الناس بأني متعب

في الشفاعات وكليف الورى

والذي يتبعهم من ذاك لي

راحة في غيرها لن أفكرا

ويودي لو أقضي العمر في

خدمة الطلاب حتى في الكرى (٥)

__________________

(١) ابن القاضي : جذوة الاقتباس ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ؛ ابن الخطيب : الإحاطة ، ج ٢ ، ص ٢٣١.

(٢) القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٦ ، ص ١٨٨.

(٣) عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي المعروف بابن الفرس ولي القضاء بجزيرة شقر وبمدينة وادي آشى ثم بجيان ثم بغرناطة وكان له النظر في الحسبة والشرطة له عدة مؤلفات منها كتاب الأحكام مولده سنه ٥٢٤ ه‍ / ١١٢٩ م وتوفي سنة ٥٩٧ ه‍ / ١٢٠٠ م. انظر النباهي : تاريخ قضاة الأندلس ، ص ١٠٠ ؛ ابن فرحون : الديباج المذهب ، ج ٢ ، ص ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٤) المقري : نفح الطيب ، ج ٣ ، ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

(٥) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٤٨٨.

٩٩

ولم تكن كل صفات ابن جبير السابقة سببا في ذيوع شهرته ؛ بل إن شهرته عائدة إلى تدوينه لرحلته التي اقترن اسمه بها. حيث زار فيها العديد من البلدان والأماكن وسجل مشاهداته فيها بإسلوب جميل بديع.

ولابن جبير ثلاث رحلات إلى المشرق ولكل رحلة سببها :

السبب الأساس للرحلة الأولى :

أداء فريضة الحج وقد سجل ابن جبير تفاصيلها. وأوضح المقري دافعه فيها قائلا : إنه كاتب السيد أبي سعيد (١) صاحب غرناطة الذي استدعاه ذات يوم ليدون له كتابا فلما ذهب ابن جبير إليه وجده على مائدة الشراب فطلب السيد من ابن جبير مشاركته فامتنع في البداية فألح السيد عليه فأصابه الخوف فعاد السيد وأصر عليه شرب سبعة أقداح منها. فلما فعل ابن جبير ملأها السيد سبع مرات بالدنانير وأفرغها في حجر ابن جبير الذي نذر أن يجعلها كفارة لما فعل ، وعزم على الخروج لأداء فريضة الحج ثم باع منزلا له ليكمل نفقات الرحلة فبدأ رحلته سنة ٥٧٨ ه‍ / ١١٨٢ م (٢).

وحوت الرحلة العديد من المعلومات المختلفة في النواحي السياسية والحضارية ، والتي تهم الدارسين لتلك الفترة. فابن جبير قام بوصف كل ما شاهده في طريقه إلى الحجاز حتى عودته لغرناطة مرة أخرى عام ٥٨١ ه‍ / ١١٨٥ م (٣). وتضم رحلته وصفا مفصلا لما كانت عليه الحجاز وخاصة مكة في ذلك الوقت حيث مكث بها ثمانية أشهر وثلث شهر (٤).

__________________

(١) أبو سعيد بن عبد المؤمن الكومي عقد له والده على سبتة سنه ٥٤٧ ه‍ / ١١٥٢ م وعلى غرناطة سنة ٥٤٩ ه‍ / ١١٥٤ م وقد أقره على غرناطة أخوه أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عليها سنة ٥٦١ ه‍ / ١١٥٦ م. انظر ابن أبي زرع : الأنيس المطرب ، ص ١٩٤ ، ١٩٦ ، ١٩٨ ، ٢٠٣ ؛ ابن خلدون : العبر ، ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ٢٣٦ ، ٢٣٩.

(٢) المقري : نفح الطيب ، ج ٢ ، ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦. وقد انفرد المقري بما ذكره حيث أن ابن جبير لم يشر لسبب عزمه إلى الحج والباعث له مع ملاحظة بعد المقري عن الحقبة التي عاش فيها ابن جبير مما يجعل تلك القصة مثار شك كبير خاصة وأن المقري لم يذكر مصدر قصته.

(٣) المقري : نفح الطيب ، ج ٢ ، ص ٤٨٨.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٦١.

١٠٠