الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

بل يوردون الرواية بصيغة إشاعة مثل ابن بطوطة. حيث أشار إلى ضرب الطبول يوم الجمعة وابن جبير حددها بيومي الإثنين والخميس (١).

ومن البدع الموجودة في بدر وجود هضبة يسعى الناس لصعودها بالإضافة إلى دخولهم لمكان يزعمون أنه الغار الذي أوى إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبه عند هجرتهما إلى المدينة المنورة. وأشار العبدري إلى عدم صحة الأمر نظرا لوجود الغار في جبل ثور على مقربة من مكة (٢). وهذا يدل على انقطاع المعرفة بسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الوقت من قبل العامة.

ومن المشهور أيضا ذكرهم لبدر وحنين بشكل متلازم وبالطبع فذلك غير صحيح لاختلاف كل منهما عن الأخرى إلى جانب اختلاف المكان والزمان (٣).

ولو كان قصد العبدري بزعم أهل هذه المنطقة (بدر وحنين) المشهورتان في التاريخ الإسلامي فأمر غير مقبول ولكن أورد الجزيري خبرا يشير بأن حنين عين أمام بدر وأنها ليست المقصودة في الآية. وقد أوضح محقق كتاب الجزيري" إن قبالة بدر عين ضعيفة يقال لها عين حنين" (٤).

ومن هنا يتضح الخلط الحاصل في إدماج الاسمين معا لدرجة لم يعرف المقصود من دمجهما فوهم كثير من الناس بأن المقصود بحنين الغزوة المشهورة.

٤ ـ الاحتفالات :

درج أمراء مكة على الاحتفال ببداية الشهور الهجرية ، وذلك بالذهاب إلى الحرم المكي مع طلوع شمس أول كل شهر. أما العامة فيقومون بتهنئة بعضهم بعضا مع دعاء كل منهم للآخر (٥).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٦٦ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٢٨.

(٢) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٤.

(٣) المصدر السابق والصفحة.

(٤) الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ٢ ، ص ١٤٢٤ ـ ١٤٢٥.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٤ ـ ٧٥ ، ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٢١

كما حرص أهل مكة على الاحتفال بشهر رجب. وهو لديهم بمثابة موسم كبير يجري الاستعداد له قبل قدومه بمدة من الزمن ، بالإضافة إلى حرصهم على أداء العمرة الرجبية (١) فيه ويشاركهم ذلك المجاورون وسكان المناطق القريبة من مكة المكرمة فيكون احتفالهم في غاية الغرابة والعجب. فقبل ليلة وصباح بداية الشهر يتّم الاستعداد لها بأيام فتمتلىء شوارع وأزقة مكة المكرمة بالهوادج المشدودة على الإبل المكسوّة بالحرير والكتّان كل حسب سعته ويخرجون إلى التنعيم فتمتلىء بهم الشعاب والأباطح. وقد ذكر ابن جبير أن هذه الهوادج يخيل للناظر إليها أنها قباب مضروبة.

وفي أول ليلة من الشهر تشعل النيران على جانبي الطريق كله ، بالإضافة إلى الشموع التي تتقدم الإبل ؛ وعند عودتهم إلى المسجد الحرام تكون الصفا والمروة كلها مسرجة وموقدة والازدحام فيها شديد وعند ثبوت دخول شهر رجب تضرب الطبول وتنفخ الأبواق إشارة إلى أنها ليلة الموسم.

ويشارك الأمير الاحتفال بهذا الشهر ويخرج هو وحاشيته لأداء العمرة.

وطريقته في الطواف كعادته في أول كل شهر. وبعد انتهاء الطواف يصلّي خلف المقام عقب إخراجه من الكعبة خوفا عليه في مثل هذه المناسبات ، ويوضع في قبته الخشبية. وعند فراغه من الصلاة ترفع القبة فيستلم المقام ويتمّسح به (٢) ثم تعاد القبة عليه.

والملاحظ هنا أن الاحتفال بهذا الشهر لم يكن قاصرا على الرجال فقط ، بل شاركت النساء أيضا في الاحتفال ، فيتصافح الرجال ويدعو كل منهم للآخر

__________________

(١) هي من البدع التي حرص أهل مكة عليها ويأتي كونها بدعة من اختصاصها بشهر معين وعلى الرغم من أنها بدأت كشكر لله تعالى عقب إتمام عبد الله بن الزبير بناء الكعبة إلا أنها استمّرت وكأنها أحد أركان الإسلام الواجبة. انظر الأزرقي : أخبار مكة ، ج ١ ، ص ٢١٠.

(٢) وهذا الأمر من البدع المتفشية في مكة فالأمر صريح للمسلمين بأن يكون المقام مصلى فقط كما ورد في القرآن الكريم ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)) القرآن الكريم : سورة البقرة ، ٢ / ١٢٥.

٢٢٢

وكذلك النساء (١). ويكون اجتماعهم بهذه الطريقة طوال الشهر. وفي أول ليلة منه وفي منتصفه وفي السابع والعشرين منه ؛ بحيث تكون متميزة عن باقي أيام الشهر وتفتح الكعبة كلّ يوم فيه. ويوم التاسع والعشرين من الشهر مخصص للنساء فقط.

وفي ليلة الخامس عشر من شهر رجب يخرج الأمير أيضا على هيئته في أول ليلة للعمرة وكذلك العامة في ليلة التاسع والعشرين يخرجون على هيئاتهم السابقة ويحرمون من الأكمة التي أمام المسجد. والأصل في هذه العمرة عندهم كما ذكر ابن جبير أن عبد الله بن الزبير لما فرغ من بناء الكعبة خرج ماشيا حافيا معتمرا وأهل مكة فانتهى إلي تلك الأكمة فأحرم منها. وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب وجعل طريقه على ثنيّة الحجون (ثنيّة كداء) المؤدية إلي المعلى التي كان دخول المسلمين منها يوم فتح مكة المكرمة ، فبقيت تلك العمرة سنّة عندهم من ذلك اليوم ومن تلك الأكمة نفسها (٢). وهم لا يقتصرون على الاحتفال بالعمرة فقط ؛ بل تعّداه إلى تنعّمهم في المطعم ويستمر ذلك أياما يتهادون فيما بينهم على قدر استطاعتهم شكرا لله (٣).

وللنساء احتفال خاص بهّن في يوم التاسع والعشرين من رجب ، فيفرد البيت لهن فيجتمعن من كل صوب مستعّدات لهذا اليوم فلا تبقى امرأة بمكة المكرمة إلا حضرت المسجد الحرام في ذلك اليوم. فيفتح الشيبيون الباب لهن ويسرعون بالخروج ، ويترك الناس الطواف والحجر لهن فيخلون المطاف من الرجال فتبادر النساء الصعود إلي الكعبة ويتسلسل بعضهن ببعض متشابكات حتى يكاد يقع بعضهن على بعض وهن خلال ذلك صائحات مكبرات مهللات وينقضي الوقت المخصص لهن إلى قرب الظهر مع إكثارهن من تقبيل الحجر

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) انظر الصفحة السابقة هامش رقم ٢.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١١٥ ـ ١١٦.

٢٢٣

واستلام الأركان. فهذا اليوم يمثل أكبر أعيادهن ؛ لذا يكثرن من الاستعداد والتأهّب له.

ويقوم الشيبيون بغسل الكعبة بماء زمزم في اليوم التالي ؛ بسبب إحضار النساء أبناءهنّ الصغار والرضع معهن فيتحّرى غسله تكريما وتنزيها له مما يخشى عليه من بول الأطفال الصغار. فيتولّى الشيبيون غسله ويبادر كثير من الرجال والنساء عند انسكاب الماء عند غسله بغسل وجوههم وأيديهم منه تبركا به وربما يقومون بجمعه في أوان قد أعدّت لذلك غير مدركين العلّة في غسله ، ومنهم من يتوقّف عن ذلك لعدم جوازه (١). وهو الأصح.

ومن العادات الدينية الاحتفال بليلة النصف من شعبان ، حيث يبادرون إلى أعمال البر من عمرة وطواف أفرادا وجماعات. فقد شاهدهم ابن جبير وقال. «يصلون جماعات جماعات تراويح يقرأون فيها بفاتحة الكتاب وبقل هو الله أحد عشر مرات في كل ركعة إلى أن يكملوا خمسين تسليمة بمائة ركعة ، وكل جماعة يتقدمها إمام» وفي هذه الليلة تبسط الحصر وتوقد الشموع وتشعل المشاعل وتضاء المصابيح. وقد أحصى الجماعات فوجدها سبعا أو ثماني كما أشار إلى طائفة آثرت الصلاة على انفراد ، وأخرى آثرت الاعتمار ، وثالثة اكتفت بالطواف وهم من المالكية.

أما شهر رمضان فله احتفالاته وعاداته الخاصة. فابن جبير أشار إلي الخلاف في ليلة حلوله بين أهل السنة والشيعة وعند التأكد من حلوله تعطى الإشارة ببدء الصوم (٢).

وأول شيء يتم بالمسجد الحرام في رمضان تجديد الحصر والإكثار من الشمع والمشاعل وغيرها من أدوات الإضاءة. ويتفرق الأئمة لإقامة التراويح في أنحاء المسجد ؛ كل إمام بفرقته في ناحية منه والمالكية لها ثلاثة قراء يتناوبون

__________________

(١) نفس المصدر السابق والصفحة.

(٢) المصدر السابق ، ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، ١٢٢.

٢٢٤

القراءة وهم أكثر جمعا ، ويتنافس التجار المالكية في جلب الكثير من الشمع لإمامهم فتكون أماكنهم" تروق حسنا وترتمي الأبصار نورا" ومع ذلك فجميع أنحاء المسجد وزواياه مليئة بالقّراء والمصلين.

أمّا الغرباء فيفضلون الطواف والصلاة في الحجر على أداء التراويح.

وكان إمام الشافعية أكثر الأئمة اجتهادا في العبادة ، وبعد إتمام عشر ركعات من التراويح يتّجه بجماعته للطواف فإذا فرغ عاد للصلاة ويكون الإعلان عن بدء الصلاة بضربة من الفرقعة الخطيبية (١) يسمعها من في المسجد لارتفاع صوتها ؛ فإذا فرغ من ركعتين عاد للطواف وعند انتهائه تضرب الفرقعة مرة أخرى ويعاود الصلاة ركعتين ثم العودة للطواف (٢). وهكذا إلى أن يتم عشر تسليمات فيكون المجموع عشرين ركعة. ثم يؤدي ركعتي الشفع والوتر وينصرف وهذه القاعدة التزم بها غالبية الأئمة. والقائمون على إقامة التراويح خمسة أئمة أولهم إمام الفريضة وأوسطهم الفقيه أبو جعفر بن علي الفنكي القرطبي. وتستعمل الفرقعة الخطيبية طوال الشهر المبارك وتضرب ثلاث ضربات عند الفراغ من آذان المغرب ، ومثلها عند الفراغ من آذان العشاء.

وهذه بدعة كما أشار ابن جبير.

ويفرد للعشر الأواخر من شهر رمضان نوع خاص من العبادة. حيث يختم في كل ليلة وتر القرآن ابتداء من ليلة إحدى وعشرين ويقوم بختم القرآن أحد أبناء مكة بحضور قاضي مكة وعدد من الشيوخ ، فإذا فرغ هذا الصبي قام فيهم خطيبا ومن ثم يستدعي أبو الصبي للاحتفال بهذه المناسبة الحضور إلى منزله.

__________________

(١) أول ما بدأ الاعلان عن معاودة الصلاة بالحمد والتكبير حول الكعبة وكان ذلك في زمن ولاية خالد القسري على مكة في خلافة عبد الملك بن مروان. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٢٧٢. وانظر صفة الفرقعة فيما بعد ، ص ٢٤٢.

(٢) أول من أمر بالطواف بين كل ركعتي تراويح بعد أن أدار الصفوف حول الكعبة خالد القسري. انظر المصدر السابق والجزء والصفحة.

٢٢٥

وفي ليلة الثالث والعشرين يقوم صبي آخر من أبناء المكيين من ذوي الثراء بختم القرآن وهو غلام لم يتجاوز الخمس عشرة سنة ويقيم أبوه في هذه الليلة احتفالا بديعا ، حيث يعدّ له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة قد انتظمت فيها أنواع الفواكه الرطبة واليابسة وأعد لها شمعا كثيرا ويضع شبه محراب مربع مما يلي باب شيبة. وهذا المحراب مصنوع من أعواد مشرجبة (١). قد أقيم على قوائم أربع ربطت في أعلاه عيدان أنزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وثبت حول المحراب كله مسامير حديد يوضع فيها الشمع باستدارة المحراب كله وتوقد الثريا المغصنة بالفواكه ويوضع على مقربة من المحراب منبر مغطى بقماش مختلف الألوان فإذا انتهى الصبي من صلاة التراويح وقف عليه ويجتمع الناس لرؤيته وهو في محرابه لا يكاد يرى من كثرة أنوار الشموع المحدقة به ثم يخرج من محرابه مرتديا أفخر ملابسه مكحول العينين مخضوب الكفين والذراعين ولكثرة ازدحام الناس يقوم أحد السدنة بحمله ووضعه على منبره فإذا استقرّ في مكانه بدأ بالسلام على من حضر. وجلس القراء بين يديه مبتدئين القراءة بصوت واحد وعقب نهاية عشرة أجزاء من القرآن يقوم الخطيب بإلقاء خطب الوعظ والتذكير في حين يقف بين يديه في درجات المنبر أشخاص ممسكون بأتوار (٢) الشموع في أيديهم رافعين أصواتهم ب يا رب يا رب عند كل فصل من فصول الخطبة ويكررون ذلك ويعود القراء مرة أخرى للقراءة وفي أثناء ذلك يلزم الخطيب الصمت حتى يفرغوا ويعود بعدها لإتمام خطبته.

وعند ذكره للبيت العتيق يرفع ذراعيه مشيرا إليه وعند ذكر زمزم والمقام يشير إليهما بكلتا إصبعيه ثم يختتم بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه ثم الدعاء للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء. وينتهي ذلك الحفل ويقيم والد الصبي حفلا يدعى إليه القاضي وغيره من الناس.

__________________

(١) الشرجب هو الطويل. انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ١ ، ص ٤٩٣.

(٢) إناء من الصفر. انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٩٦.

٢٢٦

أما ليلة الخامس والعشرين فيقوم الإمام الحنفي بالختم وقد أعدّ أحد أبنائه ويكون نحو سنّ الأول ويقيم حفلا كبيرا بهذه المناسبة ويقوم بإحضار أربع ثريات من الشمع كل منها مختلفة عن الأخرى منها مزينة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة ومنها غير مزينة فتصف أمام حطيمه ويتوّج الحطيم بخشب والواح وضعت في أعلاه السرج والمشاعل والشموع لتنير الحطيم كله حتى يبدو في الهواء كالتاج العظيم من النور ، ويجلب الشمع في أواني الصفر ويوضع محراب مشرجب ويحاط أعلاه بالشمع ويوضع المنبر المزين أمامه ويقوم الصبي بختم القرآن فإذا انتهى برز من محرابه إلى منبره ثم يشير بالسلام للحاضرين ويلقي خطبة جليلة للوعظ والتذكير. ويحضر القراء بين يديه وفي اثناء فصول الخطبة يقومون بالقراءة فيصمت ثم يعاود الخطبة وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدم بعضهم يمسك أتوار الشمع بأيديهم وبعضهم ممسك بإناء البخور المنبعث منه رائحة العود وعند ما يصل إلى فصل من فصول الخطبة فيه تذكير رفعوا أصواتهم ب يا رب يا رب ويكررونها ثلاثا أو أربعا وعقب الانتهاء يقوم والد الصبي بدعوة الأعيان إلى وليمة في منزله أو بإرسال الأطعمة إلى منازل الحضور.

وفي ليلة السابع والعشرين وهي ليلة الجمعة (١) يستعد لها قبل ليلتين أو ثلاث ويقام إزاء حطيم إمام الشافعية أخشاب عظيمة عالية الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع وصلت بالحطيم ثم تمد بينها ألواح طوال وضعت على الأذرع بحيث تكون على هيئة طبقات بعضها فوق بعض حتى تكتمل ثلاث طبقات وفي الطبقة العليا خشبة مستطيلة تثبت بمسامير محددة الأطراف ملتصق بعضها ببعض تنصب عليها الشموع. والطبقات السفلى عبارة عن ألواح مثقوبة متصلة وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب الممتدة من

__________________

(١) ليلة الجمعة حسب ما كان موافقا لرحلة ابن جبير.

٢٢٧

أسفلها وتدلت من جوانب الألواح والخشب والأذرع قناديل ذات أحجام مختلفة ويتخللها أشباه أطباق مبسوطة من الصفر قد أمسك بكل طبق منها ثلاث سلاسل مثقوبة ومعلقة وضعت فيها زجاجات ذات أنابيب من الناحية السفلية لتلك الأطباق الصفرية متساوية في الطول وأوقدت فيها المصابيح فبدت كأنها موائد ذات أقدام كثيرة تضيء نورا ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم أخشاب مثل السابقة في الصفة متصلة بالركن ذاته وأوقد المشعل الموضوع في أعلى القبة وانتظمت الشموع مما يقابل البيت وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المثقوبة محاط" أعلاها بمسامير حديدية الأطراف امتلئت بالشموع ووضعت على يمين المقام ويساره شموع كبيرة الحجم في أتوار تناسبها ووضعت تلك الأتوار على الكراسي المخصصة لها. وغطى جدار الحجر بالشمع في أتوار من الصفر فأصبحت كأنها دائرة من نور ساطع وأحاطت المشاعل الموقد بأرجاء الحرم.

أما شرفات الحرم فوقف فيها صبيان مكة وبيد كل منهم كرة من القماش المشبع بالزيت ثم توقد وتوضع في رؤوس الشرفات ويتبارى الصبيان في إشعالها من شرفة لأخرى مع قيام الصبيان برفع أصواتهم بقولهم يا رب.

وعقب ذلك يتقدم القاضي لأداء صلاة العشاء ويبدأ في صلاة القيام بسورة القدر وهي السورة التي انتهت القراءة عندها في الليلة السابقة ويحرص بقية الأئمة على حضور هذا الختم.

ويقوم السدنة بإخراج المقام من الكعبة ويوضع في مكانه وتوضع عليه قبة الخشب التي يقف الناس خلفها للصلاة فيختم القاضي بركعتين ويقف خطيبا مستقبلا المقام والكعبة ولا يكاد يسمع صوته نظرا للازدحام والضوضاء فإذا أتّم خطبته عاد الأئمه لإكمال التراويح.

٢٢٨

أما في ليلة التاسع والعشرين فيكون الختم فيها لجميع أئمه التراويح ثم يشرعون بالخطبة بعد الختم.

ويتقدم المالكي بإعداد ستة أعمدة إزاء محرابه منصوبة على هيئة نصف دائرة مرتفعة عن مستوى الأرض بين كل اثنين منها عمود ممدود يحيط الشمع أعلاها وجهاتها السفلى ويحف داخل الدائرة أيضا شمع متوسط الحجم.

ويجتمع المالكية للختم بالتناوب بين أئمة التراويح وعقب قضاء الصلاة تلقى خطبة مشتملة على الوعظ والتذكير يلقيها أحد الأئمة وهي مأخوذة من خطبة ابن الإمام الحنفي.

أما عن احتفالهم بليلة الأول من شوّال فتكون مثل ليلة السابع والعشرين من رمضان حيث توقد المشاعل وتضاء الثريات والشموع في أنحاء الحرم وكذلك سطح المسجد وفي أعلى جبل أبي قبيس ويقف المؤذن طوال الليل فوق سطح قبة زمزم للتهليل والتكبير.

وفي صباح أول يوم من شهر شوال يحرص الجميع على أداء صلاة العيد ويفتح باب الكعبة ويجلس زعيم آل الشيبي على عتبتها وسائر الشيبيين داخلها ويقومون لاستقبال الأمير مكثر عند باب النبي فيأخذ طريقه إلى الطواف في حين يقف المؤذن الزمزمي فوق سطح قبة زمزم كعادته رافعا صوته بالثناء والدعاء للأمير متناوبا مع أخيه ، فإذا أكمل الأمير طوافه اتجه إلى مصطبة قبة زمزم المقابلة للركن الأسود ليجلس وأبناؤه عن يمينه في حين يقف وزيره وحاشيته عن يساره ويعود الشيبيون إلى مكانهم ويقوم الشعراء المرافقون للأمير بالإنشاد لحين وقت الصلاة فيقبل القاضي الخطيب متهاديا بين رايتين سوداوين والفرقعة أمامه ثم يقيم الصلاة وعقب الانتهاء منها يأخذ طريقه إلى المنبر الموضوع إلى جدار الكعبة فيلقي خطبة العيد ويبدؤها بالتكبير فإذا كبّر كبر المؤذنون معه إلى نهاية خطبته. وعقب انتهائها يسارع

٢٢٩

الناس إلى تهنئة بعضهم بعضا ثم يتوجهون إلى المقبرة داعين للأموات بالرحمة والمغفرة (١).

وفي صلاة الجمعة يوضع منبر الخطيب بجوار الكعبة مقابل المقام بين الركن الأسود والعراقي ثم يقبل الخطيب من باب النبي وهو يقابل المقام في البلاط الممتد من الشرق إلى الشمال. حتى يصعد منبره قائلا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيبادر الناس بالرد عليه ثم يجلس فيبدأ الأذان لصلاة الجمعة ويلقي الخطيب خطبة الجمعة المشتملة على الوعظ والإرشاد ، وعند جلوسه بين الخطبتين يضرب بعقب السيف إعلانا ببدء الخطبة الثانية التي يكثر فيها من الصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وأصحابه والدعاء للخلفاء الراشدين بأسمائهم والدعاء لعّمي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمزة والعباس وللحسن والحسين ثم لأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفاطمة الزهراء وخديجة الكبرى بهذا اللفظ ثم الدعاء للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر ابن عيسى ثم لصلاح الدين الأيوبي ولولي عهده أخيه أبي بكر ابن أيوب وعند ذكر صلاح الدين يردد الجميع الدعاء له من كل مكان. وفي أثناء الخطبة توضع الرايتان في أول درجة من المنبر يمسك بهما رجلان من المؤذنين وفي جانبي باب المنبر حلقتان تركز الرايتان إليهما. فإذا فرغ من الصلاة اتجه إلى خارج الحرم ثم يعاد المنبر الى موضعه بإزاء المقام (٢).

وحرص خدم الحرم الشريف على تقديم ماء زمزم مبرّدا في أوان فخارية تسمى الدوارق لكل دورق مقبض واحد (٣).

ويعمل السدنة في المسجد على فتح باب الكعبة كل يوم إثنين وجمعة إلا في رجب فبابها مفتوح" يوميا ويفتح من بداية شروق الشمس ويوضع منبر

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٢٢ ـ ١٣٥. وظلت هذه العادة لدى أهل مكة إلى عهد قريب.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٢ ـ ٧٤.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦٦. وكانت لا تزال هذه العادة إلى وقت قريب.

٢٣٠

له درج للراغبين في دخول الكعبة له تسع درجات مستطيلة منصوبة على قوائم خشبية ذات أربع عجلات ليسهل جره ويوضع بإزاء باب الكعبة فيصعد زعيم آل الشيبي إليها وهو شيخ كبير السن جميل الشكل والملابس وبيده مفتاح القفل ومعه أحد السدنة في يده ستر أسود يمسح يديه به أمام باب الكعبة فإذا فتح القفل قبل العتبة ثم يدخل زعيم آل الشيبي وحده ويقفل الباب خلفه لأداء ركعتين ثم يدخل باقي الشيبيين بعده للصلاة ويفتح الباب بعدها ويبادر الناس بالدخول وفي أثناء فتح باب الكعبة يقف الناس أمام بابها داعين الله ومستغفرين وقائلين" اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين" (١).

كما التزموا بإبعاد الطائفات من النساء في آخر الحجارة المفروشة حول البيت. فالحرم الشريف مفروش برمل أبيض (٢). وبدأت تلك العادة منذ تولي خالد بن عبد الله القسري (٣) إذ كان النساء والرجال سابقا يطوفون مختلطين فعمل على منع ذلك (٤).

وقد اعتادوا حفظ المقام الشريف داخل الكعبة وعند إخراجه في الأيام العادية توضع عليه قبة من خشب. أما في الموسم فتوضع عليه قبّة حديد صونا له من أيدي الحجاج (٥).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٠.

(٢) المصدر السابق ، ص ٦٣.

(٣) خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسري من بجيلة. أبو الهيثم أمير مكة والعراق وأحد خطباء العرب وأجودهم ، يماني الأصل من أهل دمشق ولي مكة سنة ٨٩ ه‍ / ٧٠٧ م للوليد بن عبد الملك ثم ولاه هشام العراقين سنة ١٠٥ ه‍ / ٧٢٣ م فأقام بالكوفة وطالت مدته إلى أن عزله هشام سنة ١٢٠ ه‍ / ٧٣٧ م وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي وأمره بعقابه فسجنه وعذبه بالحيرة ثم قتله في أيام الوليد ابن يزيد. انظر الفاسي : العقد الثمين ، ج ٤ ، ص ٢٧٠ ـ ٢٨٢ ؛ الزركلي : الإعلام ، ج ٢ ، ص ٢٩٧.

(٤) الأزرقي : أخبار مكة ، ج ٢ ، ص ٢٠ ؛ ابن ظهيرة : الجامع اللطيف ، ص ٨١. ولا يزال إلى اليوم يفرق بين الرجال والنساء في الطواف.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٣.

٢٣١

وعند ما قدم التجيبي مكة نلاحظ عدم تغير احتفالات أهل مكة المكرمة كثيرا عما وصفه ابن جبير في رحلته بالرغم من مرور أكثر من قرن على رحلته ، من حيث ما يقام في شهر رمضان من التأنق في إضاءة الحرم بالشمع والقناديل والمشاعل ومن ختم القرآن في ليالي الوتر من العشر الأواخر منه ولكن نلاحظ اختفاء عادة صعود الصبي الخطيب وحّل محله صعود أحد المكيين (١). والملاحظ من كلام التجيبي ظهور العنصر المصري بكثرة بمكة المكرمة حيث ذكر وصول عدد من القراء المعروفين بحسن الصوت وطيب النغمة يجتمعون في كل ليلة جهة باب بني شيبة من الحرم الشريف لقراءة القرآن على عادة القرّاء في البلاد المشرقية. وكان لهؤلاء القراء رئيس يصعد كّل ليلة من ليالي رمضان إلى سطح المدرسة المنصورية المشرفة على الحرم ويقوم بقراءة جزء من القرآن رافعا صوته بحيث يسمعه الناس.

وطرأت بعض التغييرات على احتفال ليلة السابع والعشرين من رمضان بقيام الشريف أبي نمي بحضورها وعدم صعود صبي من أبناء مكة المكرمة ، بل قيام أحد المصريين بإلقاء الخطبة بعد الختم وبعد فراغه من خطبته يشرع في الدعاء للشريف أبي نمي ويرفع نسبه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فيأمر له الشريف أبو نمي بخلعة حسنة حريرية وعمامة حريرية مصفّحة بالذهب ويأمره بلبسها على المنبر فيفعل والناس ناظرة إليه ونلاحظ من كلام التجيبي وجود اعتراض على لبس الخطيب للحرير ، ولكن التجيبي علل عمله ذلك بالخوف من الشريف. لأن المعروف أن لبس الحرير محرم على الرجال ومحلّل للنساء حسب ما ورد في السنة المطهرة.

وكان للفرقة الزيدية يوم ختم أيضا ، وهذا ما لم يذكره ابن جبير وإنما ذكره التجيبي وخطب لهم بعد ختمهم ليلة التاسع والعشرين الخطيب المصري

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٠.

٢٣٢

السابق مع الدعاء أيضا للشريف أبي نمي فقام وزير الشريف بإكرامه (١). ولم يقم الشريف أبو نمي بحضور هذا الحفل.

الاحتفال بغسيل الكعبة المشرفة وإحرامها :

ذكر ابن جبير احتفال أهل مكة المكرمة في الحرم لإحرام الكعبة المشرفة في يوم السابع والعشرين من ذي القعدة بحيث يرفع ثوبها بنحو قامة ونصف من نواحيها الأربع وأما فتح بابها فلا يتم إلّا عقب الوقفة بعرفة (٢).

أما التجيبي فقد أفاض في ذكر هذا الموضوع بالتفصيل فأشار إلى أنه في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة يتوافد أهل مكة المكرمة إلى البيت العتيق حيث تمتلىء ساحات الحرم بهم ثم يقوم خطيب مكة المكرمة فيصعد المنبر لإلقاء خطبة ذاكرا فيها الكعبة المشرفة ومكة المكرمة مع إيراد بعض الأبيات الشعرية الحسنة ثم يقوم بالدعاء ، فيحمل الناس الكثير من القماش للكعبة. ويتقدم زعيم آل الشيبي إلى الكعبة المشرفة وقد نصب له بجوانبها كرسي خشبي يرتقي عليه ويقطع من كسوة الكعبة المشرفة نحو قامة ونصف مما يلي الأرض من الجوانب الأربعة ، وهذا يسمى إحرام الكعبة المشرفة ويعين الشيبيون زعيمهم ثم ينزل ويفتح باب الكعبة المشرفة ويدخل هو وآله وبعض الأعيان ويحمل لهم ماء زمزم فيغسلون البيت الشريف ثم يقومون بتجميره وإغلاق الباب ولا يتم فتحه إلا بوصول أمير الحاج المصري.

أما المقطوع من ثياب الكعبة المشرفة فتوزع قطعا صغيرة على الحجاج ويفعل ذلك أيضا بباقي ثوبها المنزوع عنها في يوم عيد الأضحى المبارك (٣). ولون ثوبها المعروف هو الأسود تزين أعلاه كتابة باللون الأبيض (٤).

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٥٩ ـ ٤٦٣.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٤٣.

(٣) كان يعمل بهذا الأمر إلي وقت قريب إلا أنه استبدل بالمال المدفوع لآل الشيبي عوضا عن الثوب المعاد إلى مصنع الكسوة.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٥ ، ٢٥٩ ؛ الفاسي : شفاء الغرام ، ج ١ ، ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٣٣

أما في زمن رحلة ابن جبير فكانت الكسوة مرسلة من بغداد وتسلم لزعيم آل الشيبي ويقومون بوضعها على الكعبة المشرفة وتميزت الكسوة بلونها الأخضر اليانع يزين أعلاها رسم أحمر عريض وعقب وضع الكسوة ترفع جوانبها لصيانتها من عبث الأعاجم (١).

ونلاحظ اختلافا كبيرا بين ما وصفه ابن جبير وما وصفه التجيبي في كسوة الكعبة المشرفة وإحرامها وربما بدأ الأمر كما ذكر ابن جبير برفع جوانبها وتسميته إحراما إلى أن وصل الأمر إلى تقطيع أستارها زمن رحلة التجيبي ولا يزال إلى الوقت الحاضر القيام بما يسمى بإحرام الكعبة المشرفة حيث تغسل الكعبة وترفع أطراف ثوبها إلى ثلثها تقريبا مع وضع قماش أبيض محيط بها يكون آخر أطراف ثوبها المرفوع. والقماش الأبيض علامة الإحرام ويكون هذا العمل في الخامس من ذي الحجة ولا ينزع عنها القماش الأبيض إلا يوم عيد الأضحى حيث توضع الكسوة الجديدة مع رفع جوانبها أيضا إلى نهاية شهر محرم حفظا لها من الأيدى. وقد ذكر إبراهيم رفعت أن الكعبة المشرفة يوضع عليها إزار أبيض علامة الإحرام (٢). فنرى أن الأرجح في بداية هذا الأمر كما ذكر ابن جبير.

وتطرّق ابن بطوطة إلى الحديث عن بعض جوانب الحياة الاجتماعية في مكة المكرمة إذ انفرد بذكر ما لم يذكره غيره وأضاف إليه ما عاينه وشاهده مع الإشارة إلي ما هو باق على حاله إلى جانب العادات التي طرأ عليها التغيير بالمقارنة مع الرحالة الآخرين. فمن ذلك أن المقام الكريم ثبت في مكانه ولم يعد محفوظا في الكعبة المشرفة كما في زمن رحلة ابن جبير ويظهر أنه أقيم عليه بناء. فقد ذكر ابن بطوطة أن عليه قبة أسفلها فتحة. مغلقة بأعمدة حديد تبعد عن المقام قدر ما تصل أصابع الإنسان في حالة دخولها إلى

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) إبراهيم رفعت : مرآة الحرمين ، ج ١ ، ص ٤١.

٢٣٤

ذلك الشباك وإلى الصندوق (١). ويبدو أن حفظ المقام داخل الكعبة حدث عقب سيل أم نهشل حفاظا عليه (٢). واستمروا في وضعه داخل الكعبة المشرفة لعدم وجود مكان حصين يحفظ فيه ، ولكن بعد بناء مكان له أصبح موضعه ثابتا.

وقد بقي طواف النساء كما هو في أيام ابن جبير في آخر الحجارة المفروشة حول الكعبة (٣).

واستمرت احتفالات أهل مكة في يوم الجمعة وخروج الخطيب والمؤذنين وغير ذلك مما ذكره ابن جبير. ولم تتغير عاداتهم سواء في استهلال الشهور العربية وخروج الأمير إلى المسجد الحرام وطوافه ودعاء المؤذن الزمزمي له وتهنئته بدخول الشهر وطرق احتفالهم بشهر رجب والعمرة وغيرها من العبادات واحتفالهم أيضا في شهر شعبان من إيقاد المصابيح والمشاعل والصلاة والطواف والخروج للاعتمار (٤).

وكذلك احتفالاتهم في رمضان من ضرب الطبول عند باب الأمير ، وتفّرق الأئمة السنيين استعدادا لإقامة التراويح ، وتجديد فرش المسجد ، والإكثار من الشمع والمشاعل ، واستمرار عادة ختم القرآن الكريم في الوتر من العشر الأواخر لشهر رمضان ، كما كانت عليه في عهد ابن جبير من قيام أحد أبناء كبار أهل مكة المكرمة فينصب له المنبر للخطبة وبعد الانتهاء يتوجهون إلى منزل والد الصبي لتناول الطعام.

واستمروا في الاحتفال ببداية شهر شوال وتزيين الحرم المكي بالمصابيح والشموع الموقدة في جميع أنحاء الحرم وسطحه وسطح المسجد الموجود بأعلى جبل أبي قبيس.

__________________

(١) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٦.

(٢) الأزرقي : أخبار مكة ، ج ٢ ، ص ٣٣.

(٣) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٧.

(٤) المصدر السابق ، ص ١٦٠ ـ ١٦٥.

٢٣٥

فنلاحظ أن تلك الاحتفالات لم يطرأ عليها تغيير عما ذكره ابن جبير من صلاتهم للعيد بالمسجد الحرام وبتبكير آل الشيبي بالحضور وفتحهم باب الكعبة المشرفة وتلقّيهم لأمير مكة المكرمة وخروج أهل مكة المكرمة عقب صلاة العيد إلى مقبرة المعلاة.

أما الاحتفال بإحرام الكعبة المشرفة فظل في زمن ابن بطوطة كما كان في زمن ابن جبير. ولم يقم سدنة البيت بتقطيع ثوبها القديم وتوزيعه على الحجاج كما حصل زمن التجيبي ، مع استمرار عدم فتح بابها إلا عقب وقفة عرفات.

واستمر الاحتفال بشهر ذي الحجة زمن رحلة ابن بطوطة (١) من حيث ضرب الطبول في أوقات الصلاة إلى يوم الصعود إلى عرفات ويقوم الخطيب يوم السابع من ذي الحجة إثر صلاة الظهر بإلقاء خطبة في الناس ترشدهم إلى الطرق الصحيحة في أداء الفريضة. وهذه العادة كانت موجودة وقت زيارة ابن جبير لمكة المكرمة (٢).

أما زمن رحلة التجيبي فقد أشار إلى عدم وجود عادة ضرب الطبل في ذي الحجة (٣). وهناك احتمال بعودتها زمن وجود ابن بطوطة في مكة المكرمة أو أنه في ذكره لهذا الأمر عائد لنقله عن ابن جبير في رحلته.

أما الكعبة المشرفة فترتدي حلّتها الجديدة في ثالث أيام عيد الأضحى ، وتميزت بلونها الأسود وقماشها من الحرير مبطنة بالكتان في أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض ، وترفع أطرافها حفاظا لها من عبث الحجّاج.

ويتم فتح باب الكعبة المشرفة كل يوم بعد النزول للعراقيين والخراسانيين لتأخّر سفرهم عقب سفر الركبين الشامي والمصري بأربعة أيام (٤).

__________________

(١) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٦٦ ـ ١٦٨ ـ ١٦٩ ، ٦٨.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٤٩.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٨.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٥٨ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٧١.

٢٣٦

أما البلوي فأشار إلى طواف النساء بعيدا عن الاختلاط بالرجال (١).

وقد أشار ابن جبير إلى الأرض المحيطة بالكعبة المشرفة وأنها مفروشة بحجارة تشبه الرخام (٢) وفي وقت وجود ابن بطوطة عبارة عن حجارة سوداء تصبح شديدة الحرارة بفعل أشعة الشمس فعملوا على رشها بالماء من حين لآخر لإكسابها نوعا من البرودة (٣).

٥ ـ المواكب :

تقاليد دخول الشريف إلى الحرم عند بداية كل شهر هجري :

يتقدم القراء أمامه لقراءة القرآن الكريم ويحرص على الدخول من الباب المسمّى باب النبي محاطا بحاشيته المؤلفة من القواد والحرابة ويتجّه إلى المطاف يتقدّمه الخدم والأتباع وبأيديهم الحراب ويقوم الخدم بفرش سجّادة من الكتان يصلي عليها ثم يشرع في الطواف. وعند إكماله لشوط يرتفع صوت أخي المؤذن الزمزمي داعيا للأمير بقوله : " صبح مولانا بسعادة دائمة ونعمة شاملة". مع تهنئة الشريف أو الأمير بكلام جميل ومدحه بأبيات من الشعر ؛ فإذا أطّل الأمير من الركن اليماني يرفع صوته بالدعاء كما سبق مع أبيات من الشعر مختلفة عن سابقتها أيضا في مدح الأمير وعائلته ويستمّر في ذلك حتى نهاية الأشواط السبعة. ويلاحظ أن عمر أخي المؤذن الزمزمي هذا لا يتجاوز إحدى عشرة سنة. وعقب انتهاء الطواف يؤدي الأمير ركعتي الطواف عند الملتزم ثم ينصرف (٤).

أما عن موكب الأمير خلال الاحتفال بشهر رجب إذا خرج إلى الميقات للعمرة بين أبنائه وقواده وأمامه الرايات المرتفعة والطبول بين يديه تتبعه حاشيته وعسكره على مراتبهم ويقومون باللعب بين يديه. ويخرج أعراب البوادي

__________________

(١) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٣٠٤.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٣.

(٣) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٧ ، ١٢٢.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٤ ـ ٧٥.

٢٣٧

ممتطين الإبل الجميلة المنظر مسابقين للخيل بها مع رفع أصواتهم بالدعاء والثناء للأمير حتى وصوله إلى المسجد الحرام ، وعقب انتهاء طوافه يقوم وأمامه الحرابة وبعد الفراغ من السعي استّل أتباعه السيوف أمامه والتفّوا حوله حتى يصل إلى منزله القريب من المسعى.

وموكب العامة مختلف في طريقته عن موكب الأمير عند احتفالهم بالعمرة الرجبية. فيكون خروجهم أول الشهر بقبائلهم وحارة حارة متقلدين لأسلحتهم بترتيب معّين ، فالفرسان بخيولهم في البداية مع الرقص بالأسلحة ، ثم الرجّالة يتبارون بأسلحتهم والحراب بأيديهم مرتدين تروسهم ومتقلدين سيوفهم ويأخذون في مبارزة بعضهم بعضا ثم رمي الحراب في الهواء والعودة للإمساك بها بإتقان شديد (١).

كما وصف لنا الرحالة طريقة موكب خطيب المسجد الحرام لصلاة الجمعة إذ يأخذ الخطيب طريقه إلى المسجد من باب النبي تحيط به رايتان سوداوان يمسك بهما رجلان من المؤذنين وبين يديه يسير آخر حاملا لعصا مخروطة الشكل حمراء اللون في طرفها جلد مفتول رقيق يضربها في الهواء فيسمع صوتها وهي إعلان عن وصول الخطيب وتسمى الفرقعة. وعند اقترابه من المنبر يبدأ بتقبيل الحجر الأسود ثم يصعد إلى منبره وأمامه رئيس المؤذنين بالحرم ، وعند صعود الخطيب لأول درجات المنبر يقلّده المؤذن السيف فيضرب درجات المنبر به حتى يقف في أعلاه داعيا مستقبلا الكعبة المشرفة وعند انتهائه من أداء صلاة الجمعة يأخذ طريقه خارج الحرم تحيط به الرايتان السوداوان والفرقعة تضرب أمامه إيذانا بانصرافه (٢).

أما التجيبي فقد أشار إلى عدم وجود الفرقعة هذه ولم يرها وقت عيد الفطر (٣).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٠٦ ـ ١١٠.

(٢) المصدر السابق ، ص ٧٢ ـ ٧٤.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

٢٣٨

٦ ـ الملابس :

حرص أهل مكة المكرمة على لبس الملابس النظيفة الحسنة فإذا نظرنا إلى أمير مكة المكرمة نجده يلبس ثوبا أبيض وعمامة صوف بيضاء رقيقة متقلدا سيفه.

ويلبس القاضي الخطيب في صباح يوم العيد ثيابا سوداء (١). أما في صلاة الجمعة فملابسه سوداء مزينّة بخيوط الذهب وعلى رأسه عمامة سوداء مزينّة أيضا وعليه طيلسان شرب رقيق وهي كسوة مرسلة من قبل الخليفة.

كما يرتدي رئيس المؤذنين وقت صلاة الجمعة ملابس سوداء ويحمل على عاتقه سيفه.

وساد اللون الأبيض ثياب أهل مكة وقيام الأمير بإلباس المحتسب عمامة تكون له جوارا فلا يجرؤ أحد على التعّرض له ولكنها تصبح عديمة النفع عند رحيل صاحبها عن مكة المكرمة (٢).

٧ ـ الأطعمة والأشربة :

من المعروف أن بلاد الحجاز تمّيزت بأوضاع اشتهرت بها. واختصت بأطعمة معينّة تصنع لذلك : مثل إعداد أطعمة معيّنة أثناء الحج يحملونها معهم إلى عرفات (٣).

ولا ننسى الإشارة إلى وضع أهل مكة المكرمة في الأكل ، وهو اقتصارهم على تناول وجبة واحدة في اليوم عقب صلاة العصر مع تناول التمر في سائر النهار. وانعكس هذا بالطبع على صحة أجسامهم وخلوها من الأمراض (٤).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٤ ـ ٧٥ ، ص ١٣٥.

(٢) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٥١ ـ ١٥٢.

(٣) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٢٩.

(٤) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٥١.

٢٣٩

أما الحلويات فهناك نوع يصنع من العسل والسكر المعقود مع إضافة الفواكه الطازجة والمجففة إليه وقد أتقن أهل مكة المكرمة صنع هذا النوع (١).

ومن خلال استعراضنا لهذا المبحث يتبين لنا أن الرحالة المغاربة والأندلسيين لم يتطرقوا لذكر الاحتفالات الاجتماعية التي يحتفل بها أهل مكة المكرمة بخاصة وأهل الحجاز بصفة عامة مثل احتفالات الزواج والختان وغيرها. كما لم يشيروا إلى أنواع الملابس والحلي التي كانت منتشرة بهذا المجتمع في تلك الفترة. وهذا بطبيعة الحال عائد الى أنهم كانوا حجاجا وطلبة علم أكثر من أى شيء آخر.

ثانيا : الحياة الاقتصادية :

تظهر لنا حالة الحجاز الاقتصادية من خلال كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين في إشاراتهم للزراعة والصناعة والتجارة إذ عن طريقها يمكننا معرفة مدى الازدهار والركود الذي ساد في تلك الفترة.

ولم تحظ الناحية الاقتصادية بعناية المؤرخين حيث إن كتاباتهم اهتمت بإظهار الجانب السياسي أكثر من النواحي الأخرى. وقد تطلّب استخراجها الكثير من الجهد لقلّة المادة العلمية في هذا المجال ؛ ولذا سيكون إظهارها قاصرا على ما ورد في كتب الرحالة ، إلى جانب ما أورده بعض المؤرخين في هذا الصدد.

١ ـ الزراعة ومصادر المياه :

وفيما يتعلق بالزراعة في بلاد الحجاز نلاحظ اعتمادها على المياه. ومن ناحية توفرها نجد في القرين بئر مياه عذبة. وفي مكة المكرمة هناك سقاية للماء. وفي بطن مر وخليص وبدر والصفراء (٢) وقباء (٣) مياه آبار عذبة. وترتب

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٨.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٧ ـ ٥٨ ، ٨٨ ـ ٨٩ ، ٩٣ ، ١٦١ ـ ١٦٦.

(٣) (قباء) : بئر هناك عرفت به وهي على بعد ميلين يسار القاصد إلى مكة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٣٠١.

٢٤٠