الرحلات المغربية والأندلسية

عواطف محمّد يونس نواب

الرحلات المغربية والأندلسية

المؤلف:

عواطف محمّد يونس نواب


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية
الطبعة: ٠
ISBN: 9960-00-071-0
الصفحات: ٥٠٤

على وفرة المياه قيام بعض المشروعات البسيطة مثل إنشاء السقاية في مكانه لاستغلال المياه سواء للشرب أو الاستفادة بها في المجالات الزراعية وبالتالي اتسعت الرقعة الزراعية في مختلف مدن بلاد الحجاز.

وإذا تتبعنا البساتين والأراضي الزراعية من خلال كتب الرحالة فإننا نجد أنها تنتشر في مكة المكرمة على جانبي طريق الزاهر والتي تعود ـ ملكيتّها لأحد أهل مكة المكرمة. كما تنتشر البساتين في منطقة المسفلة حيث زرعت أشجار النخيل والرّمان والعنّاب والحنّاء (١).

كذلك وجدت الأراضي الزراعية في الأراضي القريبة من مكة المكرمة وما حولها من القرى والأودية مثل وادي نخلة والبرابر (٢) وبطن مر (٣) وأدم (٤) وعين سليمان التي تنسب لسليمان بن علي بن عبد الله بن موسى وقد اشتراها الشريف الحسن بن ثابت وهي قريبة من جدّه (٥).

كما اشتهرت الطائف (٦) بخصوبة تربتها الزراعية فعمّت الزراعة بها وما حولها من القرى. وقد تحدثت كتب الرحالة عن مناطق زراعية في الطرق التي سلكوها أثناء رحلتهم في ينبع (٧) وبدر وقباء (٨) والصفراء والدهناء (٩) وتبوك (١٠).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٨ ـ ٨٩ ، ٩٣.

(٢) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢٣.

(٣) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٢.

(٤) (أدم) من أشهر أودية مكة المكرمة. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ١ ، ص ١٢٥.

(٥) انظر ابن المجاور : تاريخ المستبصر ، ص ٤١.

(٦) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٩.

(٧) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٣.

(٨) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٤ ؛ العبدري : الرحلة المغربية ، ص ٢٠٣.

(٩) (الدهناء) منزل" بطريق مكة بها ماء عذب ونخل. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٤٩٣ ؛ العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٣.

(١٠) (تبوك) موضع بين وادي القرى والشام وهي عبارة عن حصن به ماء وزرع. انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ١٤ ؛ ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٧.

٢٤١

وتميزت بلاد الحجاز بوجود بعض الغّلات الزراعية مثل التمر والرمان والعنّاب والحنّاء والتين والسفرجل والخوخ والأترجّ والجوز والبطّيخ والكرنب والباذنجان والقثاء (١). وقد ذكر ابن جبير أن من أسباب ازدهار الزراعة في الاودية المحيطة بمكة المكرمة وجود جالية مغربية بها قامت باستصلاح الأراضي فقال «قد جلب الله إليها من المغاربة ذوي البصارة بالفلاحة والزراعة فأحدثوا فيها بساتين ومزارع فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات» (٢).

والرياحين العبقة والمشمومات العطرة. كما وجد العسل المعروف عند أهل مكة المكرمة بالمسعودي (٣).

٢ ـ الثروة الحيوانية :

تمتعت بلاد الحجاز بوجود ثروة حيوانية بها ومنها على سبيل المثال الجمال وتستخدم في نقل الأشخاص والأمتعة (٤) ؛ والضأن والماعز والبقر ، وقد تبع ذلك كثرة المنتوجات الحيوانية وتنوعها مثل اللحوم وجودتها وهذا دلالة على وجود المراعي التي أسهمت في تنمية الثروة الحيوانية (٥).

* صيد السمك :

تميزت مدينة جدة بوفرة الأسماك حيث أنها مدينة ذات موقع بحري متميّز أسهم في جعل أهلها يشتغلون بهذه الحرفة (٦). والواقع أنه ليست لدينا معلومات عن أنواعه ولا الطريقة المتبعة في الصيد ولا أدواته.

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٨ ـ ٨٩ ، ٩٣ ـ ٩٦ ـ ٩٧ ؛ ابن المجاور : تاريخ المستبصر ، ص ٩ ؛ القلقشندي : صبح الأعشى ، ج ٤ ، ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٨.

(٣) ابن جبير : مرجع سابق ، ص ٩٧ ـ ٩٨.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٦) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٢٤٢

كما اشتغل أهل جزيرة تقع مقابل الحوراء (١) يسكنها عرب يصيدون السمك الذي كان قوام غذائهم فضلا عن بيعهم السمك للركب وقت حضوره (٢).

٣ ـ الصناعة :

لا بد لنجاح الصناعة في أي مكان من توفر مقّوماتها المتمثّلة في المواد الخام والأيدي العاملة والاستقرار السياسي. وفي بلاد الحجاز نلاحظ بعض المواد الخام المجلوبة إليها مثل الجواهر والياقوت وغيرها من الأحجار الكريمة (٣).

ونستطيع مما سبق القول عن مكة المكرمة مثلا على ضوء توفر تلك المواد بوجود صناعة رائجة ومعروفة. وهي صناعة الحلي والمجوهرات ، إذ أن تطعيم القطع والمصوغات الذهبية يتطّلب وجود الياقوت والجواهر وغيره من الأحجار المستخدمة في ذلك المجال.

كما يظهر لنا من خلال بعض المصادر وجود مصنوعات من الفضة استخدمت في تزيين المسجد الحرام ، حيث تجلب هذه المادة إلى البلاد. وقد أشار ابن بطوطة إلى توفّر الفضة والذهب في مكة المكرمة ورخص أسعارهما (٤).

٤ ـ التجارة :

اعتمدت بلاد الحجاز على التجارة لإقبال الكثير على العمل في مجالها ، ويبدو أن طبيعة البلاد دفعت السكان إليها ونجد ذلك واضحا في القرآن الكريم في دعوة إبراهيم الخليل لأهلها (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ

__________________

(١) (الحوراء) من أشهر موانىء الحجاز خربت قبل القرن السابع الهجري وبقي اسمها معروفا إلى أول القرن الحالي حيث كانت إحدى محطات الحجاج القادمين من مصر. يقابلها في البحر جبل منقطع يسكنه العرب به ماء عذب وعيشهم على صيد السمك يبيعونه إلى الركب إذا حضر. العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٢ ؛ الجزيري : الدرر الفرائد ، ج ٢ ، ص ١٤٠٤ ؛ الدرعي : ملخص رحلة ابن عبد السلام ، ص ٨٣ ؛ حمد الجاسر : بلاد ينبع ، ص ١٧٨ ـ ١٨١.

(٢) العبدري : الرحلة ، ص ١٦٢.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٤) مؤلف مجهول : الاستبصار ، ص ١١ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٧١ ـ ١٧٢.

٢٤٣

مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١)(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ)(٢).

فالآيات تشير إلى المكان وما خصّه الله به من مميزات دينية وهي اتجاه القلوب إليه ثم الناحية الاقتصادية المتمثّلة فيما ساقه الله لهم من رزق ليكونوا شاكرين لنعمه ومحافظين عليها.

أما الآية الثانية فأشارت إلى قدسية المكان وإلى الأرزاق والخيرات المحمولة إليه من كل مكان.

ونجد أنه قد هيء سكن للتجار والحجاج ؛ إذ نلاحظ وجود الفنادق بكثرة في مدينة جدة وفيما يبدو أنها أعدّت لنزول المسافرين والتجّار بها.

ومن المراكز والمحطات التجارية في بلاد الحجاز جدّة. وهي ميناء بحري ، ومكة المكرمة (٣) وينبع وتبوك والعلا والحوراء والدهناء ورابغ والبرابر وعسفان (٤).

أما أهم الواردات التجارية الداخلية والخارجية فهي كالآتي :

* الناحية الداخلية :

تقوم مدينة جدة بتصدير السمك إلى مكة المكرمة (٥) ، وتحمل إليها الخضار والفواكه من الأودية القريبة مثل وادي نخلة وبطن مر (٦) ومن الطائف وأدم (٧).

ومن خارج بلاد الحجاز تحمل إليها من الهند المسك والكافور والعنبر والعود والعقاقير الهندية ومن اليمن الزبيب الأسود والأحمر واللوز وقصب

__________________

(١) القرآن الكريم : سورة إبراهيم ، ١٤ / ٣٧.

(٢) القرآن الكريم : سورة القصص ، ٢٨ / ٥٧.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٥٣ ، ٥٧ ـ ٥٨ ، ٩٦ ـ ٩٧.

(٤) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٥ ـ ١٦٦ ؛ ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٢٣ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١١٣ ، ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٥) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٦) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٢.

(٧) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٦١.

٢٤٤

السكر والعسل (١). كما قام السرو (٢). بجلب الحنطة واللوبيا والسمن وغيرها ، فهؤلاء كانوا ذوي أهمية كبيرة في اقتصاد أهل مكة المكرمة بما كانوا يحملونه من أرزاق حتى أن أهل مكة المكرمة شبهوا مقدمهم بمقدم المطر لكثرة الخير الذى يعم عليهم بوجودهم. ومن الجهات التي تحمل السلع منها إلى مكة المكرمة أيضا بلاد العراق وخراسان والحبشة والمغرب (٣).

أما أهم الصادرات من مكة المكرمة لأهل اليمن فقد تمثّل في الأمتعة والملابس والملاحف والفرش وهي أشياء لا يحملها التجار من أهل مكة المكرمة إليهم ، بل نجدها تتم بواسطة المقايضة مع هؤلاء القوم لعدم استعمالهم للنقود في البيع والشراء ، بل يقومون باستبدال ما حملوه إلى مكة من الأطعمة بالأمتعة التي أشرنا إليها.

ويلاحظ أيضا من كلام ابن جبير أن النقود المستخدمة في البيع والشراء في مكة هي الدنانير والدراهم (٤).

* الأسواق التجارية :

تعددت الأسواق التجاربة في بلاد الحجاز وتنّوعت مبيعاتها وأوقاتها ففي مكة المكرمة يوجد سوق تجاري ما بين الصفا والمروة تباع فيه الأطعمة ، وسوق للبزازين (٥) والعطارين عند باب بني شيبة (٦) وسوق الدقاقين (٧) في

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٩٦ ـ ٩٨.

(٢) (السرو) من قبائل العرب لهم قرى كثيرة تصل إلى أكثر من مائتي قرية وهم أهل جبال السراة من قبائل غامد وزهران وغيرها. انظر ابن جبير : الرحلة ، ص ١١٠ ؛ ابن المجاور : تأريخ المستبصر ، ص ٢٦ ـ ٢٧ ؛ عبد القدوس الأنصاري : مع ابن جبير في رحلته ، ص ١٩٧.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ١١١ ، ٩٨.

(٥) (البزاز) بائع الثياب والأمتعة. انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ٥ ، ص ٣١٢.

(٦) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٥ ؛ ابن المجاور : تاريخ المستبصر ، ص ١٢ ـ ١٣.

(٧) (الدق) مصدر قولك دققت الدواء أدقّه دقا والدقاقة ما اندّق من الشيء والدقاق فتات كل شيء دق وأهل مكة يطلقون على توابل القدر دقة (البهار). انظر ابن منظور : لسان العرب ، ج ١٠ ، ص ١٠٠ ـ ١٠١ ويحتمل أنه سوق للطحانين أو بائعي البهارات.

٢٤٥

أجياد (١) للخياطين مكان مخصص لهم (٢) ، وهناك سوق العبيد والجواري المعروف بسوق النخاسة (٣) وأما الأسواق التي تقام في موسم الحج ففي عرفة سوق كبير (٤) وفي منى سوق يستمر طوال أيام عيد الأضحى وتباع فيه الجواهر والأمتعة وغيرها (٥).

كما توجد الأسواق في ينبع وبدر ورابغ وخليص والحوراء (٦). كما عرف سكان الحجاز معاملات تجارية مختلفة سواء منها البيع والشراء أو الرهن أو الاستدانه وربما شمل التعامل بالربا (٧).

* النقود في بلاد الحجاز :

وردت إشارة عن دار لسّك النقود بمكة المكرمة لدى البلوي ، إذ أشار إلى أن الدار المعروفة بمكة المكرمة بدار أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه أصبحت دارا للسكة (٨). وقد اكتفى البلوي بهذا القول دون ذكر نوعية النقود المسكوكة وأحجامها فقد أغفل الرحالة ذكر النقود المستعملة بالحجاز ولم يشر الى ذلك إلا ابن جبير (٩). بينما أشار القلقشندي إلى نوعياتها مثل الدينار الذهبي والدرهم الفضي كما بين أيضا أنها على نوعين الدراهم الكاملية المنسوبة للملك الكامل الذى عرف بدرهم النقرة والدراهم المسعودية المنسوبة للملك المسعود ملك اليمن (١٠) وقد سبق أن ضربت دراهم منذ سنة ٥٨١ ه‍ / ١١٨٥ م عند ما دخل طغتكين مكة المكرمة وسكنها باسم أخيه السلطان صلاح الدين الأيوبي (١١).

__________________

(١) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٩.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٨.

(٣) جميل حرب : الحجاز واليمن في العصر الأيوبي ، ص ٢٣١.

(٤) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٨٥.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٥٧.

(٦) العبدري : الرحلة المغربية ، ص ١٦٢ ـ ١٦٣ ، ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٧) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٣ ، ص ٤٤٦ ، ١٦١ ـ ١٦٦ ؛ السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ١ ، ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٨) البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٣١٣.

(٩) ابن جبير : الرحلة ، ص ٩٨.

(١٠) القلقشندي : صبح الاعشى ، ج ٤ ، ص ٢٨٠ ؛ ريتشارد مورتيل : الأحوال السياسية والاقتصادية في العصر المملوكي ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤.

(١١) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ٢ ، ص ٣١٥ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٥٥٣.

٢٤٦

الفصل الخامس

الحركة التعليمية والأدبية في بلاد الحجاز من

خلال كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين مع

مقارنة ببعض ما أوردته المصادر التاريخية

١ ـ المذاهب في بلاد الحجاز.

٢ ـ مراكز العلم ومدارسه.

٣ ـ كبار العلماء.

٤ ـ أشهر العلوم وأهم الكتب.

٢٤٧
٢٤٨

أولا : المذاهب في بلاد الحجاز :

تعدد الأئمة في الحرم المكي تبعا لتعدد المذاهب في ذلك الوقت الأمر الذي انفردت به مكة المكرمة في ذلك الوقت عما سواها من المدن. حيث كان لكل مذهب من المذاهب السنية الأربعة إمام مقدّم للصلاة بطائفته بالمسجد الحرام ولكن الأولوية للإمام الشافعي لأنه من قبل الخليفة فهو الذي يقيم الخطبة ويبدأ بالصلاة وأهل مكة على مذهبه (١). ويليه بقية الأئمة كما يوجد إمام خامس لفرقة الزيدية وأعيان مكة على مذهبه (٢) ولهذا يلقون الدعم واستمرارية الوجود.

ولقد لفت انتباه الرحالة تعدد الأئمه وصلاة كل إمام بمن يتبعه واستنكارهم لذلك وزاد استنكارهم من وجود الفرقة الزيدية وإمامها فالإمام الزيدي كان موجودا زمن رحلة ابن جبير عام ٥٧٩ ه‍ / ١١٨٣ م واستمر وجوده إلى وقت مجيء التجيبي (٣) مكة. سنة ٦٩٦ ه‍ / ١٢٩٦ م. ولكن اختفى وجوده في وقت وجود ابن بطوطة الذي زار مكة المكرمة سنة ٧٢٦ ه‍ / ١٣٢٥ م ضمن رحلاته المتعددة إذ أنه لم يذكر وجود الفرقة الزيدية.

والغالب أنه لم يعد للمذهب الزيدي مكان بالحرم المكي ومما يؤيّد ذلك الإجراءات التي اتخذت للحد منه والتي كملت بعد ما وصل مرسوم من السلطان الناصر محمد بن قلاوون في سنة ٧٢٦ ه‍ / ١٣٢٥ م إلى الشريف عطيفة يستنكر فيه وجود إمام زيدي بالحرم فأصدر إليه أمرا بمنعه فنفذ الشريف الأمر (٤). ولم يعد أتباعه يجهرون بشعائرهم لأن مكة المكرمة في ذلك الوقت كانت تتبع للمماليك تبعية مباشرة وإن خرجوا عنها في فترات قصيرة لا يلبث أشرافها أن يعودوا إليها مرة أخرى لقوة المماليك في ذلك الوقت.

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٠.

(٢) المصدر السابق ، ص ٧٨.

(٣) المصدر السابق والصفحة : التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٤) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٦ ، ص ٩٨.

٢٤٩

ويبدو أن أشراف مكة التزموا بالمرسوم الذي أصدره الملك الناصر حيث لم يشر البلوي إلى وجود إمام زيدي بالحرم عند ما تطرق لقضية تعدد الأئمة بالحرم المكي (١).

ومما ذكر من أفعال الزيدية زيادتهم في الأذان" حي على خير العمل" بعد" حي على الفلاح" وصفوا بأنهم روافض لا يجمعون مع الناس وإنما يصلون ظهرا أربعا ويصلون المغرب عقب فراغ الأئمة من صلاتهم ويتبرؤون من أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما (٢).

ويبدو أنه لم يكن لأهل مكة وعلمائها طاقة على الاعتراض فضلا عن التغيير إلا بالقلوب لمساندة أعيان مكة لهم (٣).

وقد عبر ابن جبير عن استنكاره للزيدية بقوله" والله من وراء حسابهم وجزائهم". أما التجيبي فعبر بقوله" والله تعالى يرشدهم إلى مذهب أهل السنة والجماعة بمنه وكرمه" (٤).

وكانت الأولوية للمذهب الشافعي بمكة المكرمة حيث يصلي إمامهم خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام وتقديمه لهذا المكان يرجع إلى أنه المقدم من الخليفة ويليه في المرتبه والأتباع الإمام الحنفي فجميع ما يحتاجه يأتيه من دولة الأعاجم فهم على مذهبه ومكان صلاته بأتباعه أمام الميزاب ثم يليه في المكانة والاتباع الإمام الحنبلي ومكان صلاته ما بين الركن الأسود والركن اليماني.

وأضعف الأئمه أتباعا المالكي ويصلي قرب الإمام الحنفي (٥).

__________________

(١) البلوى : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٣١٠.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٨ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٧.

(٣) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٩.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٨ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٩.

(٥) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٨ ـ ٨٠ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٥ ـ ٢٩٧ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

٢٥٠

إن ظاهرة تعدد الأئمة بالحرم المكي الشريف من المستحدثات التي لا يعرف على وجه التقريب متى بدأت (١). ولعل تعددهم بدأ منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. ومما يؤيد هذا الافتراض أنه إلى سنة ٣٢٨ ه‍ / ٩٣٩ م لم يكن لهم ذكر. فابن عبدربه قدم مكة المكرمة في حدود هذا التاريخ ووصف المسجد الحرام ولم يشر إلي وجودهم مما يعني أنه لم تتعدد الأئمة بعد بالحرم الشريف (٢).

إن أول خبر ورد عن بداية وجودهم بالحرم المكي ما ذكره صاحب غاية الأماني من أن بداية وجودهم كانت زمن المأمون (٣) وأورد خبرا آخر يفيد أن أول من أحدث المقامات حول الكعبة المشرفة المتوكل (٤) وكلا الخبرين مشكوك في صحته ، خاصة وأنه بدأه بعبارة" ولعله" وختمه بقوله" والله أعلم".

وربما ترجع بداية وجودهم مع بداية دولة الموسوين الأشراف (٥). فيكون بذلك الإمام الزيدى أول الأئمة ظهورا بعد الإمام السني خاصة وأن الحجاز قد خضع لتدخلات الصليحيين حكام اليمن ردحا من الزمن وتدخلات وحماية الفاطميين حكام مصر ردحا آخر وكلا الدولتين كانتا شيعيتي المذهب فنتج عنه انتشار المذهب الزيدي بالحجاز خاصة وأن الحجاز وقع تحت سلطة الفاطميين

__________________

(١) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ١ ، ص ٣٩٥.

(٢) حسين باسلامة : تاريخ عمارة المسجد الحرام ، ص ٢٢٤.

(٣) أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور كان إماما عالما محدثا لغويا أديبا ، مدة خلافته اثنتان وعشرون سنة وقيل عشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام ومات سنة ٢١٨ ه‍ / ٧٣٣ م في رجب ودفن بطرسوس. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ١٣١ ـ ١٣٦.

(٤) يحيى بن على : غاية الأماني ، ج ١ ، ص ١٥٦ ؛ أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بويع بعد أخيه الواثق يوم الأربعاء خامس عشر ذي الحجة سنة ٢٣٢ ه‍ / ٨٤٦ م ومات ليلة الأربعاء رابع شوال سنة ٢٤٧ ه‍ / ٨٦١ م وعمره أربعون سنة وخلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٥.

(٥) ابن خلدون : العبر ، ج ٤ ، ص ٩٩.

٢٥١

التي بدأت منذ سنة ٣٦٥ ه‍ / ٩٧٥ م بعد حصار مكة المكرمة بجيش من قبل العزيز (١) صاحب مصر حتى تقام له الخطبة بها (٢).

وتتابع بعد ذلك ظهور الإمام الحنفي والمالكي اللذين وجدا سنة ٤٧٠ ه‍ / ١٠٧٧ م وظهر الإمام الحنبلي في سنة ٥٤٠ ه‍ / ١١٤٥ م (٣) ويكون بذلك آخر الأئمة ظهورا بالحرم الشريف.

ولم يتطرق أحد من الرحالة إلى بداية وجودهم وتعددهم بالحرم الشريف غير أن التجيبي أورد خبرا عن بداية تعددهم فقال إن تعددهم" جاء نتيجة تغلب الديلمي على العراق فتفرق العلماء من العراق ومن الحجاز إلى غيرها من البلدان فبقي الناس بالحرم الشريف أشتاتا بغير إمام لهم يقيم لهم الصلاة ففزع أهل كل مذهب في الحرم إلى رجل منهم فقدموه ليصلي بهم جماعة فمضى العمل على ذلك من يومئذ" (٤). ولم يوضح التجيبي من هو المعني بالديلمي كما أغفل تحديد السنة أيضا.

ولعل المعني هنا بالديلمي هو معز الدولة ابن بويه (٥) فقد دخل بغداد سنة ٣٣٤ ه‍ / ٩٤٥ م واعتقل الخليفة العباسي المستكفي (٦) وسمل عينيه وكان معز

__________________

(١) أبو منصور العزيز بالله بن المعز لدين الله معد بن منصور القائم بن المهدي العبيدي بويع بعد أبيه يوم الخميس أربع ربيع الآخر سنة ٣٦٥ ه‍ / ٩٧٥ م ومات سنة ٣٨٦ ه‍ / ٩٩٦ م عرف عنه الكرم والشجاعة. انظر ابن دقماق : الجوهر الثمين ، ج ١ ، ص ٢٥٠.

(٢) ابن الأثير : الكامل ، ج ٨ ، ص ٧٩.

(٣) يحيى بن على : غاية الأماني ، ج ١ ، ص ١٥٦.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٦.

(٥) أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه له ثلاثة أخوة كان صاحب العراق والأهواز ويقال له الأقطع لأن يده اليسرى مقطوعة وبعض أصابع يده اليمنى دخل بغداد يوم السبت لاحدى عشرة ليلة من جمادى الأولى سنة ٣٣٤ ه‍ / ٩٤٥ م في خلافة المستكفي وملكها بلا عناء توفي يوم الأثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ٣٥٦ ه‍ / ٩٧٥ م ببغداد. أنظر ابن خلكان : وفيات الأعيان ، ج ١ ، ص ١٧٤ ـ ١٧٦.

(٦) عبد الله بن على المستكفي بن المعتضد يكنى أبا القاسم ولد في صفر سنة ٢٩٢ ه‍ / ٩٠٤ م ولي الخلافة وعمره إحدى وأربعون سنة وكان ذلك سنة ٣٣٣ ه‍ / ٩٤٤ م وفي أيامه دخل معز الدولة بن بويه بغداد وسمل عينيه وكانت مدة خلافته سنة وأربعة أشهر ويومين. انظر ابن الجوزي : المنتظم ، ج ٦ ، ص ٣٣٨ ـ ٣٤٣.

٢٥٢

الدولة شيعيا حتى قيل أنه أراد مبايعة شيعي ولكنه عدل عن ذلك وأصبحت الحالة في العراق مذرية من الفقر والجوع حتى صارت العقارات تباع برغيفين من الخبز وأكل الناس الجيف والدواب والكلاب وهجرها أهلها (١).

ونخلص بالقول إلى أنه بالرغم من تعدد الأئمة والمذاهب بالحرم الشريف إلا أنه لم يحدث اضطهاد أو تحيز لمذهب على آخر بل سار أئمة وعلماء المذاهب جنبا إلى جنب لنشر العلم وذلك بعقدهم لمجالس العلم وحلقاته وربما يحدث تفقه العلماء على أكثر من مذهب (٢) مما يؤكد أن تعدد المذاهب نتج عنه انتشار أوسع للعلم.

وظلت مكة المكرمة والمدينة المنورة مقصدا يصلهما العلماء وطلبة العلم للزيارة وأداء فريضة الحج ونيل العلم فيقيمون فيهما فترة قد تمتد إلى سنوات.

بل إننا لنجد بعضا من هؤلاء العلماء يقضي بقية عمره بإحداهما (٣). كما تعد الرحلة إليهما في طلب العلم من الأشياء المهمة لعلماء تلك الفترة (٤). وحفلت كتب التراجم بالإشارة لذلك فهي توضح مجاورة العديد منهم سواء بمكة المكرمة أو المدينة المنورة أو كليهما وذلك عائد إلى مكانة المدينتين في نفوس المسلمين وما كان عليه المسجد الحرام والمسجد النبوي من نشاط علمي إذ كانا بمثابة جامعة كبيرة متنوعة العلوم يعقد فيهما الحلقات العلمية يوميا. وهذه الحلقات مفتوحة لكل راغب في المعرفة غير مرتبطة بدوام محدد ولا تفرض مادة بعينها للدرس يتنقل فيها الطالب من حلقة لأخرى إلى أن يستقر في الفن الملائم له (٥).

__________________

(١) المصدر السابق والجزء ، ص ٣٤٢ ـ ٣٤٥ ؛ ابن الأثير : الكامل ، ج ٦ ، ص ٣١٤ ـ ٣١٦.

(٢) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ١٩٦ ـ ١٩٩ ؛ ٤ ، ص ٣٢٧ ؛ السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٢ ، ص ٢٢.

(٣) ابن حجر : الدرر الكامنة ، ج ٤ ، ص ١٣٣ ؛ السخاوي ، التحفة اللطيفة ، ج ٢ ، ص ٢٠.

(٤) ابن خلدون : العبر ، ج ١ ، ص ٣٦١.

(٥) محمد المجذوب : رسالة المسجد قديما وحديثا ، بحوث مؤتمر رسالة المسجد المنعقد في ١٥ رمضان ١٣٩٥ ه‍ ، ص ٤٨٥.

٢٥٣

ويتصدر الشيخ هذه الحلقات وحوله طلبة العلم يسمعونه ويناقشونه ويناقشهم ، واستعملت بهذه الحلقات طريقة الإملاء والقراءة ودراسة الرواية والدراية والمناظرة كطريقة للتعليم (١).

وطبيعي أن تتعدد الحلقات العلمية بتنوع العلماء حيث أشار ابن جبير إلى كثرتها (٢).

ولا ريب أن مكة المكرمة والمدينة المنورة مبدأ ومنتهى الحركة العلمية بسبب الرحلات السنوية للحج والزيارة. وهذه ميزة انفردت بها عن سائر الأقطار الإسلامية. فهي بذلك ملتقى العلماء ووسيلة مهمة لنقل الكتب إلى مختلف البلاد الإسلامية حتى قيل إن بعض العلماء إذا افتقد كتابا ولم يستطع الحصول عليه رغم تطوافه في البلدان لجأ إلى الإعلان عنه في الحج طمعا في معرفة مكانه أو كيفية الوصول إليه (٣).

وأدت شهرة علماء مكة المكرمة في مختلف الأقطار الإسلامية إلى الإجابة على كل ما يردهم من أسئلة واستفسارات (٤). ولا شك أن مجيء العلماء لمكة المكرمة لم يكن للحج فقط ، بل لطلب العلم والاستزادة منه فأصبحوا رسلا لنشر العلم والثقافة بين البلاد الإسلامية (٥). كما كانت شهرة العالم مقصدا لطلبة العلم في كل مكان يصله (٦) وأدت بالتالي إلى انتشار مؤلفاتهم في العالم

__________________

(١) السيوطي : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ، ج ٢ ، ص ١٣٢ ـ ١٣٩ ؛ عبد الرحمن الحوت : رسالة المسجد والإمام ، بحوث مؤتمر رسالة المسجد ، ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٢) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٨ ، ٧٢.

(٣) ياقوت الحموي : معجم الأدباء ، ج ١٦ ، ص ١٠٢ ؛ أحمد شلبي : موسوعة النظم والحضارة الإسلامية ، ج ٥ ، ص ٣١٤.

(٤) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٢ ، ص ٥٦.

(٥) أبو علي الهجرى : أبو علي الهجري وأبحاثه في تحديد المواضع ، ص ١٠.

(٦) الخشني : قضاة قرطبة ، ص ٥٣ ـ ٥٤ ؛ شوقي ضيف : عصر الدول والإمارات ، الجزيرة العربية ، ص ٦٢ ـ ٦٣.

٢٥٤

الإسلامي (١) ويبدو أن انتشار الكتب في البلاد الإسلامية عائد إلى طلبة العلم المتنقلين بين المراكز العلمية.

وكانت مكة المكرمة من أبرز مراكز العلم في العالم الإسلامي بفضل كثرة العلماء بها بالإضافة إلى علمائها من العائلات التي تخصصت في طلب العلم وتوارثته كما توارثت خطبة الجمعة والإمامة في المسجد الحرام (٢) مثل عائلة الطبري كما قام العلماء بالتعليم والتدريس دون مقابل (٣).

ثانيا : مراكز العلم ومدارسة

مكة المكرمة :

كان المسجد الحرام من أعظم المراكز العلمية بالحجاز على الإطلاق. فهو مقر للتدريس وجامعة مفتوحة لطلبة العلم لا فرق بين غنيهم وفقيرهم. ففيه تعقد حلقات العلم (٤) حيث يتصدر الشيخ الحلقة وحوله التلاميذ من مختلف الجنسيات (٥) إلى جانب تنوع العلوم الملقاة فيها (٦). ويظهر ذلك من تراجم مختلف العلماء لدى الرحالة المغاربة والأندلسيين.

ولم يكن التعليم في المسجد الحرام وفق منهج محدد بل كان الأمر متروكا لكل عالم في تدريس المفيد والصالح من العلم (٧) والطالب يتبع ميوله العلمية فإذا برز في علم واستطاع اجتياز الامتحان أجيز فيه وأصبح مؤهلا لتدريس ذلك العلم (٨).

__________________

(١) ياقوت الحموي : معجم الأدباء ، ج ٩ ، ص ٢١١.

(٢) أحمد السباعي : تاريخ مكة ، ج ١ ، ص ٢١٧.

(٣) عبد الرحمن صالح : تاريخ التعليم في مكة المكرمة ، ص ٣٩.

(٤) على حسني الخربوطلي : الحضارة العربية الإسلامية ، ص ٢٢٩.

(٥) عبد الرحمن صالح عبد الله : تاريخ التعليم في مكة المكرمة ، ص ٤١.

(٦) محمد الحسيني : الحياة العلمية في الدولة الإسلامية ، ص ٣٧ ـ ٣٨.

(٧) عبد الرحمن صالح عبد الله : تاريخ التعليم في مكة المكرمة ، ص ٤١.

(٨) على الخربوطلي : الحضارة العربية الإسلامية ، ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٢٥٥

وقد ظهرت كثرة حلقات العلم بالمسجد الحرام من إشارات الرحالة المغاربة والأندلسيين حيث أشار ابن جبير إليها دون تفصيل في هذه الناحية بأكثر من قوله إنه" غاص بحلقات الدرس" (١). ونتلمس دور المسجد الحرام العلمي في ذلك الوقت من كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين الذين دونوا رحلاتهم على نمط البرامج مثل ابن جابر الوادي وابن رشيد وغيرهما ممن تأرجحت كتاباتهم بين نمط البرامج والوصف مثل التجيبي فهم يظهرون مدى إشعاع هذا المركز العلمي وشهرته في كل ناحية من أقطار البلاد الإسلامية فموسم الحج مناسبة لكل شيء (٢). ولا يلبث أن يغادر العالم أو طالب العلم إلى موطنه محملا بما ناله من علم وما حصل عليه من إجازات فقد أورد ابن رشيد نماذج لمثل تلك الإجازات في رحلته (٣). كما قام ابن جابر الوادي آشي بنشر ما تلقاه من علوم في موطنه عند ما عاد (٤).

وزخرت كتب التراجم بالكثير من تراجم العلماء الراحلين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ونادرا ما نجد من لم تكن له رحلة إليهما. حيث أن قيمة العالم تكمن في كثرة ما له من رحلات ومشايخ تلقى العلم عنهم (٥).

ويبدو أن مكانة المسجد الحرام العلمية بدأت منذ أن تصدر ابن عباس للجلوس والتدريس فيه حتى لقب بحبر الأمة وسمي بالبحر لغزارة علمه بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) وبطرق التقاضي في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي‌الله‌عنهم وبالفقه والشعر وتفسير القرآن الكريم والحساب والتأويل والمغازي وأيام العرب لذلك تنوعت حلقات العلم التي عقدها ، خاصة وإنه كان لكل علم من العلوم السابقة مجلس ويوم خاص. وإلى جانب ما سبق هو أعلم الناس بالمناسك إذ شوهد في أيام الحج يلجأ إليه الحجاج لسؤاله عن المناسك (٧).

__________________

(١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٦٨ ، ٧٢.

(٢) السبكي : طبقات الشافعية الكبرى ، ج ٥ ، ص ١٥٣ ، ١٥٦ ، ١٥٨.

(٣) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٦٩.

(٤) ابن جابر الوادي آشي : البرنامج ، طبعة ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، ص ١٤.

(٥) ابن خلدون : العبر ، ج ١ ، ص ٣٦١ ؛ أحمد شلبي : التربية الإسلامية ، ج ٥ ، ص ٣٣٠.

(٦) ابن الأثير : أسد الغابة ، ج ٣ ، ص ١٨٧.

(٧) ابن سعد : الطبقات الكبرى ، ج ٢ ، ص ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

٢٥٦

ومنذ تلك الأيام برزت المكانة المرموقة للمسجد الحرام كمقر للتدريس والفتيا واستمر الوضع بتصدر كبار العلماء للتدريس والتعليم. فقد ذكر ابن رشيد أن رضي الدين الطبرى (١) تدور عليه الفتيا أيام الموسم (٢). وقد أيد الفاسي ابن رشيد في ذلك (٣).

وأشار الرحالة المغاربة والأندلسيون إلى تنوع حلقات العلم من سماع الأحاديث الشريفة (٤) والشعر (٥) والتفسير والسير والمغازي وعلوم الحديث ونماذج من خطب الجمعة وعلم القراءات والفقه وغيرهما من العلوم (٦) وساعد على بروز المسجد الحرام كمركز علمي توفر الكتب اللازمة للتعليم. فقد شاهد كل من ابن جبير والتجيبي وابن بطوطة والبلوي خزائن للكتب فيه (٧). وهي ولا ريب كتب وقفت على المسجد الحرام. إضافة إلى الكتب الخاصة بكل عالم يتولّى التدريس منها وذكر التجيبي أن لنجم الدين الطبري (٨) خزانة كتب كبيرة (٩). إلى جانب الكتب الموقوفة من قبل علماء مكة المكرمة (١٠).

وأسهم علماء كل مذهب بتأمين الكتب للدارسين وإيقافها عليهم داخل المسجد الحرام فقد شاهد ابن جبير خزانة للكتب تتبع الإمام المالكي موقوفة على أهل مذهبه (١١). ويلاحظ أيضا مجيء طلبة العلم ببعض الكتب لمقابلتها على ما لدى علماء مكة المكرمة وإضافة الشروحات عليها وخير مثال على وفرة الكتب بمكة المكرمة ما حوته كتب الرحالة من أسمائها.

__________________

(١) انظر ترجمته في ص ٢٧٥.

(٢) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٣١.

(٣) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٣ ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤٧.

(٤) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ١٣١ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٦٢.

(٥) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٢٦٣.

(٦) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٨٢ ، ٤٠٤ وما بعدها ، ص ٣٧٦ ، ٣٨٥ ، ٤٣٤ ، ٤٤١.

(٧) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٠ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٠٦ ؛ ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٨ ، البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٨) انظر ترجمته في ص ، ٢٨١.

(٩) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٣٧٦.

(١٠) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٥ ، ص ١٠٢.

(١١) ابن جبير : الرحلة ، ص ٨٣.

٢٥٧

المدينة المنورة :

يأتي المسجد النبوي مركزا ثانيا من المراكز العلمية بالحجاز وإن لم يصل في وضعه العلمي إلى مرتبة المسجد الحرام ، خاصة فهذا عائد إلى اضطهاد السنة حتى قيل إنه لم يكن بالمستطاع الجهر بقراءة كتب السنّة (١). وأثار الأمر انتباه ابن جبير فأشار إلى تصدر الشيعة في الإمامة والخطابة (٢). بالمسجد النبوي ووصفهم بأنهم" على مذهب غير مرضي" (٣). وهذا مخالف لأوضاع المسجد الحرام واستيعابه لكافة المذاهب دون التحيز لأحدها ضد الآخر بإشارة ابن جبير والتجيبي والبلوي (٤).

ويفسر اضطهاد أهل السنة بالمدينة المنورة ضعف دور علمائها العلمي في تلك الفترة ولكن لم تلبث أن تغيرت تلك الأوضاع فنجد في كتب الرحالة عقب ابن جبير برز دور علماء السنة في المدينة (٥).

فحافظت على مركزها العلمي وظلت مقصدا لطلبة العلم يعودون منها إلى وطنهم لنشر ما تلقوه من علمائها. وكان العلماء المجاورون يحتفظون بكتبهم داخل المسجد النبوي في أماكن خاصة بهم مثل السمهودي وغيره (٦).

__________________

(١) السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٢ ، ص ٦٠٠ ؛ جميل حرب : الحجاز واليمن في العصر الأيوبي ، ص ٢٣٩.

(٢) ظلت الخطابة والإمامة بأيدي الشيعة إلى أن خرجت منهم إلى عمر بن أحمد بن ظافر بن طراد ولكنه لم يسلم من أذاهم خاصة بعد أن أضيف القضاء له وقد كان أهل السنة قبله مستضعفين يؤذون فارتحلوا بأولادهم تاركين أملاكهم فبعث إليهم أهل المدينة أن الأشراف أمنوهم وعليهم الرجوع إلى المدينة المنورة فلم يفعلوا فصودرت أملاكهم. انظر السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٣ ، ص ٣١٣ ؛ حمد الجاسر : رسائل من تاريخ المدينة ، ص ١٤٢. وتعقيبا حول ما قيل تظهر لنا قوة وهيمنة الدولة المملوكية على المدينة المنورة بما لها من سلطة في إقصاء الشيعة وتقديم السنة وهو أمر لم تستطع الدولة الأيوبية فعله.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧٩.

(٤) ابن جبير : الرحلة ، ص ٧٨ ؛ التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٥) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٦٩.

(٦) السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٣ ، ص ٢٣١.

٢٥٨

وللدلالة على وفرة الكتب بالمدينة وتنوعها ما قيل إنه" ما من عالم صنف كتابا بالمشرق أو بالسند أو بالهند أو العراق أو غيرها من الأقاليم إلا يصرف نسخة للمدينة المشرفة تبركا ورجاء الإقبال على كتبه" إضافة إلى وجود عدد كبير منها للإعارة (١). كما احتوت على بعض كتب للذهبي شاهد ابن جابر الوادي آشي منها اختصارا لتاريخ الذهبي والمؤلف من واحد وعشرين مجلدا بالمدينة المنورة فنقل منه (٢).

كما ضم المسجد النبوي مكتبة كبيرة احتوت على خزانتين كبيرتين من الكتب وبعض المصاحف الموقوفة على المسجد (٣). وأغلب الظن أن الكثير من هذه الكتب قد تلف وضاع خاصة وأن المسجد النبوي تعرّض لحريقين تسببا في إتلاف العديد من الأشياء القيمة (٤).

ونستطيع القول إن المسجدين المكي والمدني حظيا بأهمية علمية كبيرة لكثرة العلماء والمؤلفات فيهما وهما الأساسان في صبغهما بتلك الأهمية وجعلهما مقصدا لطلبة العلم.

ويجدر بنا أيضا الإشارة إلى ما للحجاج من دور في نشر العلم أثناء سيرهم إلى الحجاز فركب الحجيج يضم آلاف المسلمين فهم في أثناء سيرهم يتدارسون ويتلقون العلم كما أشار ابن رشيد إلى ذلك (٥).

__________________

(١) محمد المنوني : الجزيرة العربية في الجغرافيات والرحلات المغربية وما إليها ، مصادر تاريخ الجزيرة العربية ، ج ٢ ، ص ٣٠١.

(٢) ابن جابر الوادي آشي : البرنامج ، طبعة ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، ص ١٠٠ ـ ١٠١.

(٣) ابن جبير : الرحلة ، ص ١٧١ ؛ البلوي : تاج المفرق ، ج ١ ، ص ٢٨٧.

(٤) احترق المسجد النبوي الشريف للمرة الأولى في رمضان عام ٦٥٤ ه‍ / ١٢٥٦ م ولم يسلم من هذا الحريق إلا بعض صناديق للكتب الموجودة في القبة الواقعة بوسط صحن المسجد والمصحف الشريف العثماني ، واحترق في المرة الثانية في سنة ٨٨٦ ه‍ / ١٤٨١ م فاحترقت كتب أخرى موجودة في المسجد من ضمنها معظم كتب السمهودي. انظر السمهودي : وفاء الوفا ، ج ٢ ، ص ٥٩٨ ـ ٦٠٠ ؛ السخاوي : التحفة اللطيفة ، ج ٣ ، ص ٢٣١.

(٥) ابن رشيد : ملء العيبة ، ج ٥ ، ص ٥ ـ ٦ ، ١٠.

٢٥٩

المدارس الموجودة في الحجاز :

مكة المكرمة :

المدرسة المظفرية أو المنصورية :

سارت المدارس بمكة المكرمة جنبا إلى جنب مع المسجد الحرام في نشر العلم وإن كانت متأخرة الظهور إلا أنه خلال قدوم الرحالة المغاربة والأندلسيين إلى مكة المكرمة اقتصروا في الإشارة إلى مدرسة واحدة فقط وهي المدرسة التي بناها ملك اليمن المنصور المظفر نور الدين عمر بن رسول. وتعرف بالمدرسة المظفرية وأوقفها على أتباع المذهب الشافعي (١). وذكر الخزرجي وقف السلطان نور الدين للمدرسة ولكنه لم يشر إلى سنة الوقف (٢). بينما ذكر الفاسي وابن فهد أنها بنيت بالجانب الغربي من المسجد الحرام سنة ٦٤١ ه‍ / ١٢٤٣ م (٣).

وذكر التجيبي أن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول بنى مدرسة وجعل لها بابا شارعا داخل المسجد الحرام بين باب العمرة وباب إبراهيم (٤). وحدد ابن بطوطة نفس المكان ولكنه قال إن مؤسسها هو السلطان يوسف بن رسول (٥).

وهنا التبس الأمر على ابن بطوطة فباني المدرسة هو والد السلطان يوسف ولعل سبب اللبس عائد إلى أن السلطان يوسف قد يكون أضاف إليها إضافات معمارية منسوبة إليه خاصة وأن له العديد من الآثار الطيبة في مكة المكرمة مما جعل ابن بطوطة يعتقد أنه المؤسس لها (٦).

__________________

(١) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٢٤٦.

(٢) الخزرجي : العقود اللؤلؤية ، ج ١ ، ص ٨٢.

(٣) الفاسي : شفاء الغرام ، ج ١ ، ص ٥٢٣ ؛ الفاسي : العقد الثمين ، ج ١ ، ص ١١٧ ؛ ابن فهد : إتحاف الورى ، ج ٢ ، ص ٦٠.

(٤) التجيبي : مستفاد الرحلة ، ص ٤٦٢ ، ٢٤٦.

(٥) ابن بطوطة : الرحلة ، ص ١٣٩.

(٦) الفاسي : العقد الثمين ، ج ٧ ، ص ٤٨٩.

٢٦٠