مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

الجهة ، فلا مانع من أن تكون أوسعيّة الحرم في يسار الكعبة حكمة لاستحباب التياسر عمّا كان عليه وضع أهل العراق في استقبال القبلة في مساجدهم ، ونحوها تعويلا على العلائم التي يحرز بها جهة الكعبة ، مع ما في التياسر من أقربيّة احتمال المحاذاة الحقيقيّة بلحاظ أنّ القبلة في يسار الكعبة التي هي ملحوظة في تلك العلائم أوسع ، فالقول بالاستحباب ـ كما هو المشهور ـ قويّ.

لكن لا يخفى عليك أنّ التياسر أمر إضافيّ ، فلا يستفاد من الأخبار إلّا استحباب التياسر إلى يسار المصلّين من أهل العراق على حسب ما كان متعارفا عندهم في تلك الأعصار ، فلعلّهم كانوا يصلّون على الوضع الذي بني عليه بعض المساجد القديمة ، كمسجد الكوفة ونحوها ، فلا يصحّ الحكم باستحباب التياسر إلى يسار المصلّين على الوضع الذي بني عليه المساجد الحادثة التي هي بالذات منبيّة على التياسر بالإضافة إلى تلك المساجد ، كما لا يخفى.

وربما وجّه بعض من أشكل عليه المسألة الأخبار المتقدّمة بما تقدّمت الإشارة إليه في صدر العنوان.

قال المحدّث المجلسي رحمه‌الله في مجلّد الصلاة من كتاب بحار الأنوار ـ على ما حكي (١) عنه ـ بعد ذكر الإشكال المتقدّم ونقل حاصل جواب المحقّق رحمه‌الله في رسالته والإشارة إلى أنّه غير حاسم لمادّة الإشكال ما صورته : والذي يخطر في ذلك بالبال أنّه يمكن أن يكون الأمر بالانحراف لأنّ محاريب الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خطّ نصف النهار كثيرا ، مع أنّ الانحراف في

__________________

(١) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨٦.

٦١

أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضيّة ، كمسجد الكوفة ؛ فإنّ انحراف قبلته إلى اليمين أزيد ممّا تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريبا ، وكذا مسجد السهلة ومسجد يونس ، ولمّا كان أكثر تلك المساجد مبنيّة في زمان خلفاء الجور لم يمكنهم القدح فيها تقيّة ، فأمروا بالتياسر ، وعلّلوه بتلك الوجوه الخطابيّة لإسكاتهم وعدم التصريح بخطأ خلفاء الجور وأمرائهم ، وما ذكره أصحابنا ـ من أنّ محراب المعصوم لا يجوز الانحراف عنه ـ إنّما يثبت إذا علم أنّ الإمام عليه‌السلام بناه ـ ومعلوم أنّه عليه‌السلام لم يبنه ـ أو صلّى فيه من غير انحراف ، وهو أيضا غير ثابت ، بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدلّ على خلافه ، كما سيأتي ذكره ، مع أنّ الظاهر من بعض الأخبار أنّ هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن (١) أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢). انتهى.

__________________

(١) في البحار و «ض ١٦» : «زمان».

(٢) بحار الأنوار ٨٤ : ٥٣ ـ ٥٤.

٦٢

(الثاني (١) في) أحكام (المستقبل ، و) هي كثيرة.

منها : أنّه (يجب الاستقبال في الصلاة) الواجبة وغيرها ممّا تعرفه إن شاء الله في محالّها (مع العلم بجهة القبلة.)

ويحصل العلم بجهتها بالمعاينة والشياع والخبر المحفوف بالقرائن وبإخبار المعصوم أو صلاته أو محرابه أو قبر بناه ما لم يتطرّق فيها احتمال تقيّة ونحوها.

وربّما جعل بعض (٢) محراب المعصوم وما جرى مجراه بمنزلة إخباره بالجهة الخاصّة المحاذية للعين في كونه ـ كالمشاهدة ـ محصّلا للعلم بالجهة المحاذية لها حقيقة.

وفيه نظر ؛ إذ لم تثبت إناطة أعمالهم الظاهريّة بالعلم المخصوص بهم الغير الحاصل من أسباب عاديّة ، فيحتمل قويّا عدم كونهم مكلّفين إلّا بالتوجّه شطر

__________________

(١) أي الموضع الثاني.

(٢) كأبي الفضل شاذان بن جبرئيل في إزاحة العلّة عن معرفة القبلة ضمن بحار الأنوار ٨٤ : ٨٢ ، والشهيد الأوّل في الذكرى ٣ : ١٦٧ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٢٠.

٦٣

المسجد على حسب ما تؤدّيه الأسباب العاديّة الموجبة للعلم بجهتها ، فلا يعلم حينئذ أنّهم راعوا في صلاتهم أو محرابهم ـ مثلا ـ علمهم الذي خصّهم الله به.

وكيف كان فالبحث عن ذلك قليل الجدوى ؛ إذ لم يثبت عندنا في هذه الأعصار محراب أو قبر بناه المعصوم أو شخّص جهته باقيا على هيئته الأصليّة.

ومن جملة الأمارات الموجبة للعلم بجهة القبلة بل أوضحها وأعمّها نفعا هي العلائم التي ذكرها الأصحاب لتشخيص قبلة البلاد ـ كوضع الجدي على المنكب الأيمن ونحوه ـ المستنبطة من قواعد الهيئة ونحوها ، فإنّها وإن لم تكن موجبة للعلم بمقابلة العين بل ولا الظنّ بها ولكنّها طريق عاديّ للعلم بجهتها بحيث لا يكاد يتطرّق فيها غالبا احتمال التخطّي وتأديتها إلى سمت آخر أجنبيّ عن جهة الكعبة.

(فإن جهلها) أي جهة القبلة ولم يتمكّن من تشخيصها بشي‌ء من العلائم الموجبة للقطع بها (عوّل) في تشخيصها (على العلامات المفيدة للظنّ) بها ، كالضوء الكثير آخر النهار في يوم الغيم ، المفيد للظنّ بأنّ ذلك الجانب هو المغرب ، وفي أوّل النهار فيظنّ بأنّه المشرق ، أو في جانب من السماء فيظنّ بأنّه موضع الشمس أو القمر ، فيميّز بذلك جهة القبلة بالمقايسة ، وكالرياح الأربع لمن عرف طبائعها واستنبط من الريح أنّ مهبّه المشرق أو المغرب أو الجنوب أو الشمال ، فيستدلّ بذلك على سمت القبلة ، إلى غير ذلك من الأمارات الحدسيّة الموجبة للظنّ بجهتها.

٦٤

وربّما مثّل بعض (١) لذلك بالقمر ، فإنّه يكون ليلة السابع من الشهر في قبلة العراقي أو قريبا منها عند المغرب ، وليلة الرابع عشر عند نصف الليل ، وليلة الحادي والعشرين عند الفجر ، إلّا أنّ ذلك كلّه تقريبيّ لا يستمرّ على وجه واحد ، كما هو واضح ، فتشخيص جهة القبلة به ظنّيّ.

وفيه نظر ؛ فإنّ القمر في الليالي المزبورة من العلائم الموجبة للعلم بجهتها ، ولذا عدّه غير واحد من تلك العلائم ، كما تقدّمت الإشارة إليه. وعدم استمراره على وجه واحد لا يقدح في ذلك ؛ فإنّ الاختلاف الناشئ من ذلك ليس بأزيد من الاختلاف الناشئ من العلائم المختلفة التي ذكروها لأهل العراق ، بل ولا من الاختلاف بين البلاد المتقاربة التي حكموا برجوعها إلى علامة واحدة ، وقد عرفت أنّ هذا المقدار من الاختلاف غير مخلّ بتشخيص الجهة التي يجب استقبالها للبعيد.

هذا ، مع أنّك عرفت عند تفسير الجهة أنّها تختلف بالنسبة إلى المتمكّن من تشخيصها في السمت المضاف إلى الشي عرفا ، وبالنسبة إلى من لم يتمكّن من تشخيصها إلّا في جانب من جوانبه الأربع ، فقد يكون مطلق السمت الواقع فيه الكعبة بالنسبة إليه قبلة ، فيحتمل قويّا أن يكون المراد بمن جهلها في المقام من لم يتمكّن من العلم بجهتها رأسا بحيث لم يشخّصها في جانب من جوانبه الأربع ، كما يؤيّد ذلك خلافهم في أنّه هل يجب عليه الاحتياط والصلاة أربعا إلى جوانبه الأربع مع الإمكان ، وعند الضرورة يعوّل على ظنّه؟ كما حكي القول بذلك عن

__________________

(١) الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ١٥٦.

٦٥

ظاهر الشيخ في التهذيب والخلاف (١) ، وصريح ابن حمزة حيث قال ـ على ما نسب إليه ـ : إنّ فاقد الأمارات يصلّي أربعا مع الاختيار ، ومع الضرورة يصلّي إلى جهة تغلب على ظنّه (٢) ، أو لا يجب عليه ذلك ، بل يعوّل ابتداء على ظنّه؟ كما في المتن وغيره (٣) ، بل لعلّه المشهور ، بل لم ينقل الخلاف فيه ممّن عداهما.

وكيف كان فما هو المشهور ـ أي : جواز تشخيص القبلة بالأمارات الظنّيّة وعدم وجوب الاحتياط بتكرير الصلاة إلى الجهات الأربع ـ هو الأقوى ، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (٤).

وموثّقة سماعة ، قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم ، قال : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك» (٥).

وقد عرفت (٦) في مبحث المواقيت إمكان الخدشة في دلالة هذه الرواية على المدّعى ، فليتأمّل.

وعن تفسير النعماني بإسناده عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام في قول الله

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٦ ، ذيل ح ١٤٨ ، الخلاف ١ : ٣٠٢ ، المسألة ٤٩ ، وحكاه عن ظاهره فيهما الشهيد في الذكرى ٣ : ١٧١.

(٢) الوسيلة : ٨٦ ، ونسبه إليه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١١٤.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ٢٦.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٥ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٧ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٥) الكافي ٣ : ٢٨٤ / ١ ، التهذيب ٢ : ٤٦ / ١٤٧ و ١٤٨ ، و ٢٥٥ / ١٠٠٩ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٩ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القبلة ، ح ٢.

(٦) في ج ٩ ، ص ٣٨٠.

٦٦

تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) قال : «معنى شطره : نحوه إن كان مرئيّا ، وبالدلائل والأعلام إن كان محجوبا ، فلو علمت القبلة لوجب استقبالها والتولّي والتوجّه إليها ، ولو لم يكن الدليل عليها موجودا حتّى تستوي الجهات كلّها فله حينئذ أن يصلّي باجتهاده حيث أحبّ واختار حتى يكون على يقين من الدلالات المنصوبة والعلامات المبثوثة ، فإن مال عن هذا التوجّه مع ما ذكرناه حتّى يجعل الشرق غربا والغرب شرقا ، زال معنى اجتهاده وفسد حال اعتقاده» (٢).

ويؤيّده بل يشهد له بعض الأخبار التي تسمعها إن شاء الله في من صلّى بظنّ القبلة فانكشف له الخطأ ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.

ولا يعارضها مرسلة خراش عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : «ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه» (٣) لقصورها عن الحجّيّة بعد ضعف سندها ومخالفة ظاهرها للمشهور ، فضلا عن مكافئتها لما عرفت ، وهي على تقدير حجّيّتها لا تصلح مقيّدة للأخبار المتقدّمة بحملها على صورة الضرورة كما توهّمه بعض (٤) ، فإنّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤ و ١٥٠.

(٢) حكاه عنه السيّد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه (مخطوط) : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، كما في الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ / ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ / ١٠٨٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٥.

(٤) كالشيخ الطوسي في التهذيب ٢ : ٤٥ ، ذيل ح ١٤٥ ، و ٤٦ ، ذيل ح ١٤٨ ، والاستبصار ١ : ٢٩٥ ، ذيل ح ١٠٨٩.

٦٧

تنزيل الأخبار المطلقة على خصوص الفرض الذي لم يتمكّن المكلّف إلّا من الإتيان بصلاة واحدة في غاية البعد ، خصوصا مع إباء صحيحة زرارة ـ التي هي العمدة في المقام ـ عن التخصيص ، فالمتعيّن طرح المرسلة وردّ علمها إلى أهله.

ويحتمل قويّا أن يكون المقصود بالاجتهاد فيها الفتوى بالرأي المؤدّي إلى سقوط شرطيّة القبلة في مثل الفرض ، والاكتفاء بصلاة واحدة ، لا الاجتهاد في تشخيص جهة القبلة حتّى تعارض الأخبار المتقدّمة ، كما يؤيّد ذلك ظهور قوله : «أطبقت السماء أو أظلمت» في إرادة انتفاء أمارة على القبلة ، والله العالم.

وهل يجوز ترك الاجتهاد وتكرار الصلاة أربعا إلى الجهات الأربع احتياطا ، أم يجب بذل جهده في تشخيص جهة القبلة بالعلم إن أمكن ، وإلّا فبالظنّ؟ ظاهر كلماتهم التسالم على الأخير خصوصا مع التمكّن من تحصيل العلم ، بل ربما يظهر من بعض (١) دعوى إجماع المسلمين عليه.

ولكن قد يقوى في النظر الأوّل ؛ نظرا إلى أنّ مستنده ـ على الظاهر ـ ليس إلّا ما هو المشهور من اعتبار الجزم في النيّة مع الإمكان وعدم كفاية الامتثال الإجمالي بتكرار العبادة مع التمكّن من المعرفة التفصيليّة ، وقد عرفت في نيّة الوضوء أنّ الأقوى خلافه ، إلّا أنّه قد يشكل ذلك في المقام بعدم كون تكرار الصلاة إلى الجهات الأربع موجبا للقطع بمقابلة بعضها لجهة القبلة حتّى يجتزأ به مع التمكّن من تحصيل العلم بجهة القبلة أو الظنّ القائم مقامه ، وإنّما اكتفى الشارع بأربع صلوات لمن لم يتمكّن من معرفة القبلة رأسا إمّا توسعة عليه أو لكون جهة

__________________

(١) صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ١٦٢.

٦٨

القبلة بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن تشخيص سمتها أوسع ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

نعم ، لو كرّر الصلاة في كلّ جهة من الجهات بحيث علم بوقوع بعضها إلى جهة القبلة ، أمكن الالتزام بكفايته على المختار من عدم اعتبار الجزم في النيّة حين العمل ، كما أنّه يمكن الالتزام بذلك على تقدير الاكتفاء بالأربع صلوات أيضا إذا علم بأنّ الأمارات التي يتمكّن من الرجوع إليها لا تعيّنها في أقلّ من ربع الدائرة.

ولكنّه أيضا لا يخلو من إشكال بعد تسالم الأصحاب على المنع عنه ، وظهور قوله عليه‌السلام في الموثّقة المتقدّمة (١) : «وتعمّد القبلة جهدك» في الوجوب ، فليتأمّل.

(وإذا اجتهد فأخبره غيره بخلاف اجتهاده ، قيل : يعمل على اجتهاده) ولا يعمل بقول الغير ؛ لأنّه تقليد للغير ، فلا يسوغ لمن وظيفته الاجتهاد.

(ويقوى عندي) ما في المتن من (أنّه إذا كان ذلك الخبر (٢) أوثق في نفسه ، عوّل عليه) لأنّه أيضا ضرب من الاجتهاد حاكم على الاجتهاد الأوّل وموجب لصيرورة الظنّ الحاصل منه بالإضافة إلى ما أفاده الخبر وهما.

ودعوى أنّ أدلّة الاجتهاد منصرفة عن مثله غير مسموعة.

هذا إذا كان إخبار ذلك الغير أيضا ناشئا عن حدس واجتهاد ، كما لو أخبر شخص نعتمد على حدسه وشدّة حذاقته بمعرفة الرياح ـ مثلا ـ بأنّ الريح الذي

__________________

(١) في ص ٦٦.

(٢) في الشرائع : «المخبر».

٦٩

كنّا نظنّه شماليّا شرقيّ وأنّ جهة القبلة عكس ما كنّا نظنّه لولا إخباره ، فحينئذ يجب التعويل على الظنّ الفعلي الحاصل من خبره ، لا الظنّ التقديري الناشئ من اجتهادنا المرجوح بالإضافة إليه ، وأمّا إن كان خبره مستندا إلى أمارة حسّيّة موجبة للقطع بالجهة ، كإخباره الناشئ من العلم بمكان الجدي أو المشرق والمغرب علما حسّيّا لا حدسيّا ، فالأقوى تقديم قوله على الاجتهاد مطلقا إن كان عدلا فضلا عن العدلين ؛ لما عرفت في مبحث المواقيت (١) من حجّيّة خبر العادل في الموضوعات الخارجيّة ، كالأحكام الشرعيّة في غير ما يتعلّق بالخصومات ونحوها ممّا يعتبر فيه الشهادة ، فيكون إخبار العادل بمكان الجدي أو بملزومه ـ أي جهة القبلة ـ بمنزلة العلم بذلك ، فلا يسوغ معه الاجتهاد ؛ لكونه بمنزلة الاجتهاد في مقابلة النصّ.

فما زعمه بعض (٢) ـ من أنّ النسبة بين ما دلّ على وجوب الاجتهاد وبين ما دلّ على حجّيّة البيّنة ـ التي هي أوضح حالا من خبر العدل ـ العموم من وجه ، فلا يدّ في مورد الاجتماع من ملاحظة المرجّح ـ ليس على ما ينبغي ، بل قد يقوى في النظر عدم اشتراط العدالة أيضا ، وكفاية كون المخبر ثقة مأمونا عن الكذب إن لم ينعقد الإجماع على خلافه ، كما تقدّمت الإشارة إليه في ذلك المبحث ، فلا ينبغي ترك الاحتياط في مثل الفرض بالجمع بين العمل بقول المخبر وبظنّه الناشئ من اجتهاده.

__________________

(١) راجع ج ٩ ، ص ٣٦٩.

(٢) صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٩١.

٧٠

هذا إذا لم يحصل من خبره ظنّ أقوى من ظنّه الحاصل باجتهاده ، وإلّا فقد عرفت أنّ قوله هو المتّبع على هذا التقدير وإن كان حدسيّا فضلا عمّا لو كان حسّيّا.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ إخبار المخبر إن قلنا بكونه حجّة في مثل المقام من حيث هو ـ كما هو الأقوى فيما إذا كان الإخبار حسّيّا وكان المخبر عدلا بل ثقة في وجه قويّ ـ فهو المرجع ، وإلّا فهو إحدى الأمارات المفيدة للظنّ يدور التكليف مدار إفادته الظنّ الفعلي من غير فرق بين مصاديقه.

(و) بهذا ظهر لك أنّه (لو لم يكن له طريق إلى الاجتهاد فأخبره كافر) بجهة القبلة ، أو اجتهد فأخبره الكافر بخلاف اجتهاده وإن (قيل : لا يعمل بخبره) مطلقا ؛ لقوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) (و) لكن الذي (يقوى عندي) ما قوّاه المصنّف رحمه‌الله من (أنّه إن أفاد الظنّ) الفعلي (عمل به) كما هو الغالب فيما إذا كان خبيرا بقواعد الهيئة.

بل قد يقال في مثل الفرض بكون قوله حجّة بالخصوص وإن كان حدسيّا.

وفيه نظر بل منع ، والأقوى ما عرفت.

(ويعوّل على قبلة البلد إذا لم يعلم أنّه بنيت على الغلط) إجماعا ، كما عن التذكرة وكشف الالتباس (٢) نقله ؛ لأنّها من أقوى الأمارات الموجبة عادة للقطع بجهة القبلة ، مع أنّها لو لم تفد القطع بذلك ، لجاز أيضا الاعتماد عليها ؛ لما

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٢) تذكرة الفقهاء ٣ : ٢٥ ، الفرع «ه» من المسألة ١٤٥ ، وكشف الالتباس مخطوط ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١١٩.

٧١

أشرنا إليه سابقا من قضاء الضرورة بعدم ابتناء أمر القبلة على القواعد الرياضيّة ، وأنّ المعوّل عليه في تشخيصها هي الطرق المتعارفة عند العرف والعقلاء في تشخيص سمت سائر البلاد ، ومن الواضح أنّ استمرار عمل أهل البلد من أوضح الطرق التي يعوّل عليها العرف في تشخيص القبلة ، ولذا استمرّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على التعويل عليها ، وقرّرهم العلماء على ذلك ، وصرّحوا بجوازه من غير نقل خلاف فيه ، بل دعوى الإجماع عليه ، فلا ينبغي الارتياب في أنّ قبلة البلد أمارة معتبرة لتشخيص القبلة ، ولذا صرّح غير واحد من الأصحاب ـ على ما في الجواهر ، بل لم يعرف خلافا بينهم (١) ـ بأنّه لا يجوز العمل على الاجتهاد فيها جهة. وعن الذكرى وجامع المقاصد القطع بذلك (٢).

فلو أدّى ظنّه الاجتهادي ـ الحاصل من القواعد الرياضيّة وشبهها ـ إلى خلافها ، لا يعتني به في مقابل هذه الأمارة التي هي بمنزلة العلم.

نعم ، لو حصل له القطع بذلك من تلك القواعد ، عمل بموجبه ؛ إذ لا عبرة بأمارة علم مخالفتها للواقع ، كما هو واضح.

فما عن المبسوط من أنّه إذا دخل غريب إلى بلد ، جاز أن يصلّي إلى قبلة البلد إذا غلب في ظنّه صحّتها ، فإذا غلب على ظنّه أنّها غير صحيحة ، وجب أن يجتهد ويرجع إلى الأمارات الدالّة على القبلة (٣). انتهى ، وعن المهذّب (٤) نحوه ،

__________________

(١) جواهر الكلام ٧ : ٣٩٤.

(٢) الذكرى ٣ : ١٦٨ ، جامع المقاصد ٢ : ٧٢ ، وحكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٩٤.

(٣) المبسوط ١ : ٧٩ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١١٩ ، وصاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٩٤.

(٤) المهذّب ١ : ٨٦ ، وكما في جواهر الكلام ٧ : ٣٩٤ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١١٩.

٧٢

لا يخلو من نظر.

اللهمّ إلّا أن يريدا بغلبة الظنّ اعتقاد الخطأ ، أو يقولا بوجوب مقابلة نفس الكعبة أو الحرم عينا لا جهة ، فيتّجه حينئذ القول باعتبار عدم ظنّ الخطأ ، بل ظنّ الصحّة ، بل الأوجه على هذا التقدير القول بعدم اعتبار قبلة البلد رأسا ؛ ضرورة عدم انضباطها بهذا الحدّ ، فإنّ قبلة البلد عبارة عن الجهة التي بني عليها مساجدهم ومحاريبهم ومقابرهم ، ويستقبلها أهله في الصلاة ونحوها ، ومن الواضح اختلاف بعضها مع بعض بمقدار يمتنع مقابلة جميعها في البلاد النائية لعين الحرم فضلا عن الكعبة.

ودعوى أنّ هذا المقدار من الاختلاف إنّما يخلّ بالمحاذاة الحقيقيّة دون الحسّيّة التي يراها العرف استقبالا حقيقيّا بواسطة البعد غير مسموعة بعد أنّا نرى في الحسّ خلافها عند المقايسة بالأنجم التي نقابلها حسّا ، التي هي أبعد من الكعبة أضعافا مضاعفة ، فهذا من أوضح المفاسد التي نقابلها حسّا ، التي هي أبعد من الكعبة أضعافا مضاعفة ، فهذا من أوضح المفاسد التي تردّ على القائلين باعتبار مقابلة العين ، حيث إنّ قولهم بهذا يناقض التزامهم بجواز الاعتماد على مثل هذه الأمارات التي لا يمكنهم إنكارها.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ جواز التعويل على قبلة أهل البلد ـ المستكشفة بمحاريبهم ومقابرهم ونحوها ـ ممّا لا مجال لإنكاره ، ولا يجوز مخالفتها بالظنون الاجتهاديّة المؤديّة لخلافها.

اللهمّ إلّا أن يكون مؤدّى الاجتهاد الاختلاف اليسير الغير الموجب للخروج عن الجهة العرفيّة التي قد بيّنّا مرارا أنّ هذا النحو من العلائم لا تفيد إلّا معرفتها

٧٣

على سبيل الإجمال ، فلا ينافيها تشخيص كون الكعبة في يمين محراب البلد ـ مثلا ـ أو يساره بظنّه الاجتهادي ، فله التعويل عليه حينئذ ، كما عن جماعة من الأصحاب التصريح به.

(ومن ليس متمكّنا من الاجتهاد) فضلا عن العلم وما يقوم مقامه (كالأعمى يعوّل على غيره) إن أفاد خبره الظنّ ؛ لكونه أيضا ضربا من الاجتهاد المأمور به في تشخيص القبلة ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، أو كان المخبر عدلا وكان خبره حسّيّا ؛ لما أشرنا إليه آنفا من حجّيّة خبر العدل في مثل الفرض على الأقوى ، بل قد نفينا البعد عن كفاية مجرّد الوثاقة من غير اشتراط العدالة وإن كان الالتزام به ما لم يفد وثوقا فعليّا في غاية الإشكال.

وكيف كان فالأظهر أنّه لا فرق بين الأعمى وغيره في أنّه متى تمكّن من تشخيص جهة القبلة بأمارة معتبرة ـ كالجدي أو المشرق والمغرب أو قبلة بلد المسلمين ونحوها ـ مباشرة أو بالاستعلام من الغير على وجه يفيد قوله الجزم بذلك ، أو كان حجّة شرعيّة كالبيّنة وخبر العدل إن قلنا به ، وجب عليه ذلك ، وإلّا وجب عليه معرفتها بالأمارات الظنّيّة التي منها إخبار الغير ، فيجوز الاعتماد عليه حينئذ إذا أفاد الظنّ ، وإلّا فلا.

فما يظهر من المتن وغيره من اختصاص الأعمى ومن بحكمه بهذا الحكم ـ أي الرجوع إلى الغير الذي أريد به تقليده ـ لا يخلو من نظر ؛ لأنّه إن أفاد قول الغير الوثوق والاطمئنان بجهة القبلة التي يصلّي إليها عامّة الناس في موضع السؤال كما هو الغالب ، أو كان قوله من حيث هو حجّة شرعيّة ، فلا فرق بين الأعمى وغيره ، و

٧٤

إلّا فلا يجوز التعويل عليه عند التمكّن من العلم أو ما قام مقامه من الأمارات المعتبرة ، وعند تعذّره يجوز لكلّ أحد إن أفاد الظنّ ، وإلّا فلا يجوز مطلقا.

ودعوى أنّ الأعمى ومن قام مقامه كالجاهل بالأحكام الذي وظيفته التقليد ، فلا عبرة بظنّه من حيث هو ، غير مسموعة ؛ إذ لا شاهد عليها ؛ فإنّ جواز التقليد موقوف على الدليل ، وهو مفقود. وتنظيره على الجاهل بالأحكام قياس مع وجود الفارق ، حيث إنّ الأعمى غالبا متمكّن من تحصيل القطع بجهة القبلة بتشخيص قبلة البلد بحضور المساجد والجماعات ، وبالاستخبار ممّن يعتقد صدقه وعدم خطئه في تشخيص القبلة فضلا عن تمكّنه من تحصيل الظنّ بها ، غاية الأمر أنّه لا يتمكّن من الرجوع إلى بعض الأمارات المتوقّفة على حسّ البصر ، وهذا لا يقتضي شرع التقليد في حقّه ، فكيف يقاس بالجاهل بالأحكام الذي ثبت مشروعيّة التقليد في حقّه!؟

وبما أشرنا إليه ـ من أنّ الغالب حصول الوثوق بجهة القبلة من إخبار المخبرين ـ ظهر ضعف الاستدلال لشرعيّة التقليد في حقّ الأعمى ببعض الأخبار الدالّة على اعتماده على الغير ، كأخبار الائتمام به إذا وجّهه غيره إلى القبلة.

كقوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : «لا بأس أن يؤمّ الأعمى القوم إن كانوا هم الذين يوجّهونه» (١).

وفي خبر السكوني ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في حديث ـ : «لا يؤمّ الأعمى

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠ / ١٠٥ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب القبلة ، ح ١ بتفاوت يسير.

٧٥

في الصحراء إلّا أن يوجّه إلى القبلة» (١).

إلى غير ذلك من الروايات.

هذا ، مع ما في التمسّك بمثل هذه المطلقات الواردة لبيان حكم آخر ما لا يخفى.

ثمّ إنّ الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ قد تعرّضوا في المقام لإيراد فروع كثيرة مبنيّة على أنّ وظيفة الأعمى تقليد الغير ، كاشتراط عدالة المخبر أو إسلامه أو بلوغه أو ذكوريّته ، أو عدم اشتراط شي منها ، أو بعضها دون بعض ، وكجواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل أو عدمه ، وأنّه عند معارضة قول مخبر مع آخر هل الحكم التساقط أو التخيير؟ إلى غير ذلك من الفروع التي لا يهمّنا التعرّض لها بعد البناء على عدم الفرق بين الأعمى وغيره ، وأنّ اعتماده على قول الغير إنّما هو فيما إذا أفاد قوله الجزم والاطمئنان بالجهة ، أو قلنا بكونه في حدّ ذاته حجّة معتبرة ، وإلّا فيدور مدار إفادته الظنّ ، فيعوّل عليه حينئذ عند تعذّر العلم ، كما يعوّل عليه غيره أيضا في مثل الفرض على ما عرفته فيما سبق ، لا من باب الأخذ بقول الغير تعبّدا ، بل لكونه من الأمارات الظنّيّة التي يصدق عند التعويل عليها اسم التحرّي الذي دلّت صحيحة زرارة ـ المتقدّمة (٢) ـ على أنّه أبدا يجزئ إذا لم يعلم أين وجه القبلة.

ولكن لا يخفى عليك أنّه يشترط في جواز التعويل على قول الغير من باب

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٥ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب القبلة ، ح ٣.

(٢) في ص ٦٦.

٧٦

الظنّ بل على كلّ أمارة ظنّيّة استفراغ الوسع والفحص عن المعاضدات والمنافيات بمقدار لم يصل إلى حدّ العسر حتّى يصدق عليه اسم التحرّي والاجتهاد في الرأي الواردين في الأخبار ، فلو تعارض أمارتان ، كما لو أخبر شخص بجهة وآخر بجهة أخرى ، وكان قول كلّ منهما في حدّ ذاته مفيدا للظنّ ، فإن كان أحدهما أوثق بحيث أفاد ظنّا فعليّا ، عوّل عليه ، وإلّا تساقطا بالنسبة إلى مؤدّاهما ، ولكن يحصل من مجموعهما الظنّ بعدم كون القبلة في سائر جهات القبلة (١) ، فيكون بمنزلة من علم بانحصار القبلة في جهتين ، وستعرف حكمه إن شاء الله.

تنبيه : قد تعرّض غير واحد لبيان أنّه هل يجب على كلّ مكلّف عينا معرفة علائم القبلة ، أم لا يجب إلّا كفاية؟ فالعاميّ لدى التباس الأمر عليه يعوّل على قول غيره إن أفاده الظنّ ، وإلّا يصلّي إلى أربع جهات ، كما هو وظيفة المتحيّر على ما ستعرف.

أقول : والذي ينبغي أن يقال : إنّه يجب على أهل كلّ إقليم كفاية أن يشخّصوا جهة القبلة في بلدهم بشي من العلائم ولو باستعمال القواعد الرياضيّة ؛ كي يتوجّهوا إليها في صلاتهم وذبحهم ويوجّهوا إليها موتاهم حال الاحتضار والدفن إلى غير ذلك من الأحكام التي يتوقّف امتثالها على معرفة قبلة البلد ، وأمّا بعد معروفيّة قبلة البلد ، التي هي إحدى العلائم المعتبرة كما في سائر بلاد المسلمين ، فلا يجب على أحد من العوام ولا العلماء معرفة سائر العلائم إلّا إذا علم بأنّه لو لم يعلمها يفوته الاستقبال أحيانا فيما يشترط فيه الاستقبال ، كالصلاة و

__________________

(١) في «ض ١٤ ، ١٦» : «سائر الجهات».

٧٧

نحوها ، فتجب معرفتها حينئذ كسائر الأحكام الشرعيّة التي يجب تعلّمها على كلّ من علم بأنّه لو لم يعلمها يقع أحيانا في محذور مخالفة الواقع من غير فرق بين أن يكون ذلك قبل حضور زمان أداء التكليف أو بعده ، كما عرفت تحقيق ذلك في صدر كتاب الطهارة عند البحث عن وجوب غسل الجنابة في الليل لصوم الغد (١).

ولا يجدي في رفع الوجوب سقوط شرطيّة الاستقبال لدى الضرورة ؛ إذ لا يجوز إيقاع المكلّف نفسه في مواقع الضرورة اختيارا ، كما أشرنا إلى ذلك عند البحث عن جواز إراقة الماء في مبحث التيمّم ، فراجع (٢).

(ومع فقد العلم والظنّ ، فإن كان الوقت واسعا ، صلّى الصلاة الواحدة إلى أربع جهات لكلّ جهة مرّة) على المشهور شهرة عظيمة بين القدماء والمتأخّرين على ما في الجواهر (٣) ، بل عن صريح الغنية وظاهر غير واحد دعوى الإجماع عليه (٤).

وفي الحدائق نقل عن ابن أبي عقيل أنّه قال : لو خفيت عليه القبلة لغيم أو ريح أو ظلمة فلم يقدر على القبلة ، صلّى حيث شاء مستقبل القبلة وغير مستقبلها ، ولا إعادة عليه إذا علم بعد ذهاب وقتها أنّه صلّى لغير القبلة (٥).

__________________

(١) راجع : ج ١ ، ص ٢٠.

(٢) ج ٦ ، ص ١٠٣.

(٣) جواهر الكلام ٧ : ٤٠٩.

(٤) الغنية : ٦٩ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ٢٨ ، ضمن المسألة ١٤٧ ، الذكرى ٣ : ١٧١ ، جامع المقاصد ٢ : ٧١ ، وحكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٧ : ٤٠٩.

(٥) حكاه عنه أيضا العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ٨٤ ، المسألة ٢٨.

٧٨

ثمّ قال : وهو الظاهر من ابن بابويه (١) ، ونفى عنه البعد في المختلف (٢) ، ومال إليه في الذكرى (٣) ، واختاره جملة من محقّقي متأخّري المتأخّرين ، وهو المختار ؛ لما ستعرف من الأخبار (٤). انتهى.

واستدلّ للمشهور ـ مضافا إلى الإجماعات المحكيّة المعتضدة بالشهرة ـ برواية خراش عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : «ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه» (٥).

وعن [الكافي] (٦) أنّه قال : وروي «المتحيّر يصلّي إلى أربع جوانب» (٧).

وعن الفقيه : وقد روي في من لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أن يصلّي إلى أربع جوانب (٨).

ويحتمل أن يكون المراد بالمرسلتين رواية خراش وإن لا يخلو هذا الاحتمال بالنسبة إلى الأخيرة منهما من بعد.

وكيف كان فعمدة المستند للمشهور هي رواية خراش.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٤.

(٢) مختلف الشيعة ٢ : ٨٦ ، ذيل المسألة ٢٨.

(٣) الذكرى ٣ : ١٨٢.

(٤) الحدائق الناضرة ٦ : ٤٠٠.

(٥) تقدّم تخريجها في ص ٦٧ ، الهامش (٣).

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الخلاف». والصحيح ما أثبتناه.

(٧) الكافي ٣ : ٢٨٦ ، ذيل ح ١٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٨) الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، ح ١.

٧٩

ونوقش فيها : بأنّها ضعيفة السند ، ومتروكة الظاهر ؛ حيث إنّها بظاهرها تدلّ على عدم اعتبار الاجتهاد في القبلة ، وهو مخالف للنصّ والفتوى ، كما عرفت فيما سبق.

وفيه : أنّ ضعف سندها مجبور بما سمعت. وأمّا مهجوريّة ظاهرها فهي غير قادحة في الاستشهاد بها لوجوب الصلاة إلى أربع جهات في الجملة عند اشتباه القبلة ، وعدم كفاية صلاة واحدة.

هذا ، مع أنّا قد أشرنا فيما تقدّم (١) إلى أنّ المراد بالاجتهاد ـ على ما يشهد به بعض القرائن الداخليّة والخارجيّة ـ هو الاجتهاد المصطلح ، أي الفتوى بالرأي ، لا الاجتهاد في تشخيص جهة القبلة.

واستدلّ له أيضا بقاعدة الاشتغال ، فإنّه لا يحصل القطع بالخروج عن عهدة التكليف بالصلاة المشروطة بالاستقبال إلّا بالصلاة إلى أربع جهات ، فتجب.

ودعوى أنّ هذه لا توجب القطع بحصول استقبال جهة القبلة في شي منها حتّى توجب القطع بالخروج عن عهدة التكليف ؛ لإمكان انحراف كلّ منها عن الجهة المحاذية لعين الكعبة بمقدار ئمن الدائرة ، ومن الواضح أنّ الجهة العرفيّة التي التزمنا بكفاية استقبالها للبعيد لا تتّسع إلى هذا الحدّ ، فالقول بالصلاة إلى أربع جهات يجب أن يكون مستندا إلى دليل آخر غير قاعدة الاشتغال ، مدفوعة :

أوّلا : بأنّا وإن سلّمنا عدم اتّساع الجهة العرفيّة التي يجب على البعيد إحرازها ويعدّ لدى العرف استقبالها استقبالا للكعبة إلى هذا الحدّ ، ولكنّك

__________________

(١) في ص ٦٨.

٨٠