مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

ذلك ، فإنّ مرجع هذا النحو من الشرائط إلى مانعيّة الجهات العارضة للفعل عن صحّته ، ووقوعه عبادة ؛ لكونها موجبة لاندراج الفرد الخارجي في الموضوع المحرّم ، فيقبح طلبه بحكم العقل ، فمن هنا ينشأ الاشتراط ، فهو يدور مدار قبح الطلب ، وذلك متفرّع على صلاحيّة الجهات العارضة للتأثير في قبح الفعل والمزاحمة لما فيه من المصلحة المقتضية لحسن طلبه ، وهي لا تصلح لذلك إلّا مع العمد والالتفات ؛ لأنّه متى لم يلتفت إلى جهاته المقبّحة له أو لم تكن اختياريّة له لا يتّصف فعله من حيث صدوره منه إلّا بالحسن ؛ لأنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة من المكلّف إنّما يعرضها الحسن والقبح بلحاظ جهاتها المقصودة وعناوينها الاختياريّة ، فالصلاة الصادرة ممّن لا يعلم بغصبيّة ثوبه ويزعم إباحته لا تكون إلّا حسنة ، فيحسن طلبها ، ويجتزئ بها في مقام الامتثال.

لا يقال : إنّ المصاديق التي يتحقّق بها العناوين المحرّمة مشتملة على مفسدة قاهرة ، وإلّا لجاز فعلها مع العمد والالتفات أيضا والمفروض أنّه لا يجوز ، فالصلاة الواقعة في المغصوب مفسدتها فائقة على مصلحتها ، فكيف يأمر بها الشارع الحكيم!؟ مع أنّ أحكامه لدينا منوطة بالمصالح والمفاسد النفس الأمريّة.

لأنّا نقول : إنّما يقبح أن يأمر الحكيم بما فيه مفسدة قاهرة إذا كان أمره موجبا للوقوع في تلك المفسدة ، وأمّا إذا كان وقوعه فيها مسبّبا عن سبب آخر يعذر فيه المكلّف ولا يتّصف فعله من حيث صدوره منه بالقبح ، فلا مانع من الأمر بإيقاعه على بعض الوجوه المحسّنة له ، كما لو شرب الخمر بزعم أنّه ماء ، فإنّه لا يقبح على الشارع أن يأمره بأن يراعي في فعله الآداب الموظّفة في الشرب ، بل قد يجب ذلك بناء على قاعدة اللطف ، فكذلك لا مانع من أن يكلّف بفعل

٣٦١

الصلاة من ارتكب الغصب بسبب خارج عن اختياره ، فكما أنّ ما في فعله من المفسدة الذاتيّة لا يؤثّر لدى الغفلة عنه في رفع ما في فعله من الحسن ، فكذلك لا يصلح مانعا عن الأمر به بلحاظ ما فيه من المصلحة.

لا يقال : إنّ مقتضى الجمع بين إطلاقات الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب تقييد الصلاة المأمور بها بكونها في غير المغصوب ، وليس العلم والجهل مأخوذين في موضوع شي‌ء من الأدلّة ، فالصلاة التي يتحقّق بها الغصب غير مرادة من إطلاقات الأوامر ، سواء علم المكلّف بالغصبيّة أم جهلها ، فلا تصحّ.

لأنّا نقول : الحاكم بالتقييد العقل ، وهو لا يحكم بتقييد متعلّق الأمر ـ أي الصلاة ـ بوقوعها في غير المغصوب إلّا على تقدير صلاحيّة الغصبيّة للتأثير في قبح الصلاة ، وإلّا فهي في حدّ ذاتها محبوبة عند الشارع ومقصودة بأمره بحسب ما يقتضيه إطلاق طلبه.

ولتمام الكلام فيما يتعلّق بالمقام من النقض والإبرام مقام آخر ، وقد تقدّم شطر من الكلام فيه في مبحث غسل الأموات عند التكلّم في تغسيل الخنثى ، وكذا في باب التيمّم عند التكلّم في صحّة الوضوء في الموارد التي يحرم عليه فعله ، فراجع (١).

وقد ظهر بما ذكرناه أنّ المعيار في صحّة الصلاة الواقعة في المغصوب وفسادها كون الغصبيّة مؤثّرة في اتّصاف الفعل الخارجي ـ الذي قصد به الصلاة من حيث صدوره من المكلّف ـ بالقبح بحيث تصحّ المؤاخذة عليه ، وهذا إنّما هو مع

__________________

(١) ج ٥ ، ص ١٠٣ وما بعدها ، وج ٦ ، ص ١٥٢ وما بعدها.

٣٦٢

العمد ، ويلحق به جاهل الحكم وناسيه ؛ لما تقرّر في محلّه من أنّهما بمنزلة العامد في اتّصاف فعلهما بالقبح وصحّة المؤاخذة عليه ، فلا يقع عبادة.

ولكن هذا فيما إذا كان الجهل أو النسيان عن تقصير ، وإلّا فهو كجاهل الموضوع ، الذي قد عرفت أنّه معذور.

وربما ألحق بعض (١) ناسي الموضوع أيضا بالعامد ؛ نظرا إلى أنّ المصلّي في ثوب مغصوب بمنزلة ما لو صلّى عاريا ؛ لأنّ هذا الستر وجوده كعدمه ، وأنّه مفرّط بالنسيان ؛ لأنّه قادر على التكرار الموجب للتذكار ، وأنّه لمّا علم كان حكمه المنع من الصلاة ، والأصل بقاؤه ، ولم يعلم زواله بالنسيان.

أقول : مقتضي الوجه الأوّل والثالث : بطلان صلاة ناسي الغصبيّة مطلقا من غير فرق بين أن يكون هو الغاصب الذي تنجّز عليه التكليف بردّ المغصوب إلى مالكه حال تذكّره ، وبين غيره ، وأمّا الوجه الثاني : فهو إن تمّ ففي حقّ الغاصب الذي تنجّز في حقّه الأمر بالردّ ، كما لا يخفى.

وكيف كان فيرد على الأوّل ـ مع اختصاصه بالساتر ، وانتقاضه بصورة الجهل ، والغضّ عمّا بيّنّاه سابقا من أنّ الشرط في الصلاة هو التستّر ، لا الستر ، فتنظيره على العاري قياس مع الفارق ـ ما عرفته في صدر المبحث من الفرق بين الشرائط المتأصّلة المعتبرة في قوام ماهيّة الصلاة من حيث هي ، والشرائط المنتزعة من تكاليف مستقلّة ، كما فيما نحن فيه ، فتختصّ الشرطيّة في هذا القسم بصورة تنجّز ذلك التكليف ، وحيث لا تكليف مع الجهل والنسيان فلا شرطيّة ،

__________________

(١) كالعلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ٢٧ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٤٨ ، وابن فهد الحلّي في الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٦٩.

٣٦٣

فالتستّر بالمغصوب لدى الجهل بغصبيّته أو نسيانها ليس إلّا كالتستّر بالمباح في كونه محصّلا لشرط الصلاة ، فلا يكون بمنزلة العدم.

هذا ، مع أنّ في إعادة الصلاة مع الإخلال بالستر نسيانا نظرا بل منعا ، كما ستعرفه في محلّه إن شاء الله.

وعلى الثاني :

أوّلا : أنّ النسيان قد يصدر مع الغفلة عن أنّ ترك التكرار يوجبه ، فلا يكون تركه مقدورا له ، بل ربما يصدر مع شدّة الاهتمام بالحفظ ، كما نشاهده بالوجدان في كثير من الأشياء التي نهتمّ بحفظها (١) ، فلا يتحقّق التفريط.

وثانيا : أنّ قدرته على التكرار الموجب للحفظ إنّما يجعله بمنزلة العامد إذا وجب عليه ذلك ولم يكن معذورا في تركه ، وليس الأمر كذلك ، كما يشهد له حديث «رفع القلم» (٢) وغيره ، فليس حال الناسي المقصّر إلّا كحال الجاهل المقصّر الذي لم يقل أحد بكونه كالعامد في الشبهات الموضوعيّة.

نعم ، لو علم من حاله بأنّه لو لم يتحفّظ يقع لا محالة في ارتكاب المغصوب نسيانا ، أمكن الالتزام بكونه كالعامد ، كما أنّه يمكن الالتزام بذلك في الجاهل أيضا إذا علم من حاله أنّه إن لم يفحص يرتكب الغصب أحيانا ، فليتأمّل.

وعلى الثالث : ما عرفت من أنّ المنع عن الصلاة في المغصوب كان لعلّة غير مقتضية له إلّا مع العلم والالتفات ، فتعديته إلى حال النسيان قياس مع الفارق.

هذا ، مع أنّ الحاكم بالمنع مع العلم هو العقل ، وقد تقرّر في محلّه أنّ

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «بحفظه». والمثبت هو الصحيح.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤ ، الخصال : ٤١٧ / ٩ ، الوسائل ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ١.

٣٦٤

الاستصحاب لا يجري في الأحكام المستندة إلى العقل ، فليتأمّل.

ثمّ إنّه قد حكي عن بعض التفصيل بين الوقت وخارجه ، فأوجب على الناسي الإعادة في الوقت ، لا في خارجه (١).

أمّا الأوّل : فلما عرفت في تقرير مستند القول المتقدّم.

وأمّا الثاني : فلأنّ القضاء بأمر جديد ، وهو مفقود.

وفيه : ما تقرّر غير مرّة من أنّ القضاء وإن كان بأمر جديد ولكنّه قد صدر الأمر به من الشارع لمن لم يأت بالفرائض في وقتها ، فالمأتيّ به في الوقت إن كان صلاة صحيحة فلا مقتضي لإعادتها ، وإلّا وجب تداركها وقتا وخارجا ، كما في سائر الموارد المحكوم فيها ببطلان الصلاة لأجل الإخلال بشي‌ء من أجزائها وشرائطها ، فهذا القول أضعف من القول بالإعادة مطلقا ، والله العالم.

(ولو أذن صاحبه لغير الغاصب أو له) في الصلاة فيه (جازت الصلاة فيه) وإن لم يكن المالك راضيا بأصل استيلاء الغير على ماله ولو في حال الصلاة ، فتصحّ الصلاة حينئذ ؛ لكونها بإذن المالك (مع تحقّق الغصبيّة) حيث إنّ المفروض عدم رضا المالك بأصل الإمساك واستيلاء الغير على ماله ، ولا منافاة بين الأمرين ؛ إذ ربّما يكون الإنسان كارها لاستقلال الغير على ماله وراضيا بتصرّف خاصّ على تقدير حصول هذا المكروه على سبيل الترتّب.

(ولو أذن) في الصلاة (مطلقا ، جاز) فعلها (لغير الغاصب) وأمّا الغاصب فلا يجوز له ذلك ؛ لأنّ إطلاق الإذن منصرف عنه (على الظاهر) إذ

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ١١٠ ـ ١١١ ، المسألة ٥٠ ، الدروس ١ : ١٥١ ، الذكرى ٣ : ٤٩ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٦٠.

٣٦٥

لا يتبادر عرفا من الإذن المطلق بل العامّ أيضا شموله للغاصب.

المسألة (السادسة : لا تجوز الصلاة فيما يستر ظهر القدم) ممّا لا ساق له (كالشمشك) بضمّ الأوّلين وسكون الثالث. وقيل : بضمّ الأوّل وكسر الثاني (١) ـ على ما صرّح به جملة من المتقدّمين ، كالشيخين في المقنعة والنهاية ، وابن البرّاج وسلّار والفاضلين (٢) على ما حكي (٣) عنهم. وعن بعض نسبته إلى أكثر القدماء (٤). وعن آخر إلى كبراء الأصحاب (٥). وعن المسالك والروضة إلى المشهور (٦).

ولكن قد يناقش في النسبة بأنّ المحكيّ (٧) عن جلّهم أنّهم قالوا : لا تجوز الصلاة في الشمشك والنعل السندي ، فلعلّه لخصوصيّة فيهما ، كعدم التمكّن معهما من وضع الأصابع على الأرض ، أو لورود النصّ فيهما ، أو غير ذلك ، لا لكونهما من مصاديق الحكم الكلّي المزبور في المتن ، كما ظنّه الفاضلان وغيرهما ممّن نسب إليهم التعميم.

وكيف كان فتحقيق النسبة يحتاج إلى مزيد تتبّع.

__________________

(١) قاله الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٧٤ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨٣.

(٢) المقنعة : ١٥٣ ، النهاية : ٩٨ ، المهذّب ١ : ٧٥ ، المراسم : ٦٥ ، المعتبر ٢ : ٩٣ ، إرشاد الأذهان ١ : ٢٤٧ ، تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٩٨ ، المسألة ١٣٣ ، قواعد الأحكام ١ : ٢٨.

(٣) الحاكي عنهم هو المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢٧٤ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٦٠ ـ ١٦١.

(٤) مفاتيح الشرائع ١ : ١١١ ، مفتاح ١٢٦ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٥٣.

(٥) جامع المقاصد ٢ : ١٠٦ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٥٣.

(٦) مسالك الافهام ١ : ١٦٥ ، الروضة البهيّة ١ : ٥٢٩ ، وحكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٥٣.

(٧) الحاكي هو الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٢٥٤.

٣٦٦

وحكي (١) عن أكثر المتأخّرين القول بالكراهة مع تخصيص بعضهم (٢) إيّاها بالشمشك والنعل السندي ، فلم يقل بالكراهة أيضا فيما عداهما.

وعن غير واحد التصريح بالجواز (٣) من غير تعرّض للكراهة.

احتجّ في محكيّ المعتبر (٤) للقول بالحرمة : بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمل الصحابة والتابعين ؛ فإنّهم لم يصلّوا في هذا النوع.

ونوقش (٥) فيه : بأنّه شهادة على نفي غير محصور ، فلا تسمع ، ولو سلّم فلعلّه لعدم تعارفه عندهم ، مع أنّه لو تمّ هذا الاستدلال للزم حرمة الصلاة في كلّ ما لم يصلّ فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي كما ترى.

وربما يستدلّ له : بما نقل عن ابن حمزة وغيره (٦) من أنّه قال : «وروي أنّ الصلاة محظورة في النعل السندي والشمشك» (٧) بدعوى انجبار ضعفه بفتوى القدماء.

__________________

(١) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ١٦١.

(٢) الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٨٣ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٨٨ ، والكيدري في إصباح الشيعة : ٦٤.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١٠١ ، كفاية الأحكام : ١٦ ، بحار الأنوار ٨٣ : ٢٧٤ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨١.

(٤) المعتبر ٢ : ٩٣ ، والحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٥) المناقش هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨٤.

(٦) الظاهر أنّ لفظ «وغيره» زائد ؛ حيث لم تنقل المرسلة المزبورة ـ حسب تتبّعنا ـ عن غير ابن حمزة ، فلاحظ.

(٧) الوسيلة : ٨٨ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧.

٣٦٧

وفيه : أنّ فتوى القدماء بمثل هذا الحكم التعبّدي وإن كانت قد تورث الظنّ بل الوثوق بوصول رواية إليهم دالّة على المنع عن الصلاة فيهما ولكن يحتمل أن يكون ذلك لخصوصيّة فيهما مقتضية للمنع عنهما بالخصوص.

وكيف كان فالاعتماد على مثل هذه المراسيل التي لم يتحقّق موضوعها في غاية الإشكال ، خصوصا مع إمكان الخدشة في دلالتها بما ذكر.

وأضعف من ذلك : الاستدلال له بخبر سيف بن عميرة : «لا يصلّى على جنازة بحذاء» (١) فإنّ صلاتها أوسع من غيرها.

وفيه : أنّ الأوسعيّة تجدي لو قلنا بمفاد الخبر في مورده ، وستعرف في محلّه ـ إن شاء الله ـ خلافه.

هذا ، مع أنّ الحذاء بحسب الظاهر أعمّ ممّا يستر ظهر القدم ، بل في مجمع البحرين (٢) تفسيره بالنعل الذي دلّ على جواز الصلاة فيه أخبار مستفيضة ، بل يظهر من جملة منها استحبابه ، كما سيأتي ، فالأظهر هو القول بالجواز ؛ للأصل.

وربما يستدلّ له أيضا : بالتوقيع المرويّ عن الاحتجاج وغيره : أنّ محمّد ابن عبد الله بن جعفر الحميري كتب إلى صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ يسأله هل يجوز للرجل أن يصلّي وفي رجليه بطيط لا يغطّي الكعبين ، أم لا يجوز؟ فكتب في الجواب : «جائز». وسأله عن لبس النعل المعطون (٣) ، فإنّ بعض أصحابنا

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧٦ / ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠٦ / ٤٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب صلاة الجنازة ، ح ١.

(٢) مجمع البحرين ١ : ٩٧ «حذا».

(٣) عطن الجلد وانعطن : وضع في الدباغ وترك فأفسد وأنتن. القاموس المحيط ٤ : ٢٤٨.

٣٦٨

يذكر أنّ لبسه كريه ، فكتب في الجواب : «جائز لا بأس به» (١) بناء على إرادة العظمين من الكعبين فيه ، بل وعلى إرادة قبّة القدم منه إن قلنا بأنّ موضوع البحث ما يعمّ مثل الفرض كما فهمه بعض (٢) وإن كان خلاف ظاهر كلماتهم.

والبطيط ـ على ما فسّره غير واحد (٣) ـ هو رأس الخفّ بلا ساق.

وربما يستشعر من كلام السائل أنّ هذا الفرع بعنوانه العامّ ـ أي الصلاة فيما لا ساق له ممّا يستر ظهر القدم ـ كان محلّا للكلام من الصدر الأوّل ، وأنّ غرض السائل من سؤاله معرفة حكم هذا الفرع ، فعلى هذا يكون الجواب نصّا في المدّعى. ولعلّ النعل المعطون الذي وقع عنه السؤال ثانيا هو أيضا كان من مصاديق ما هو موضوع البحث ، والله العالم.

حجّة القائلين بالكراهة : الخروج عن شبهة الخلاف ، والمرسلة المتقدّمة (٤) بعد البناء على المسامحة.

أقول : أمّا الخروج عن شبهة الخلاف فلا يثبت الكراهة ، بل هو أمر راجح من باب حسن الاحتياط.

وأمّا المرسلة : فلا بأس بالاستشهاد بها للكراهة من باب المسامحة ، ولكن في موردها ، أي الشمشك والنعل السندي.

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، الغيبة ـ للطوسي ـ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

(٢) المحقّق الكركي في حاشية الإرشاد (مخطوط) على ما في جواهر الكلام ٨ : ١٥٤.

(٣) كالفيروزآبادي في القاموس المحيط ١ : ٣٥١.

(٤) في ص ٣٦٧.

٣٦٩

ويمكن الاستناد في التعميم إلى فتوى القدماء بناء على المسامحة لو قلنا بشمول دليلها لمثل ذلك ، كما ليس بالبعيد ، والله العالم.

(وتجوز) بلا كراهيّة (فيما له ساق كالخفّ والجورب) بلا خلاف فيه ولا إشكال ، بل في الجواهر : إجماعا بقسميه ونصوصا (١).

والمراد بذي الساق ـ على ما في المدارك وغيره (٢) ـ الساتر لشي‌ء منه وإن قلّ كالخفّ ونحوه ، ويكفي في ذلك أن يغطّي الكعبين ، أي العظمين الواقعين في طرف الساق ، كما يشير إليه التوقيع المتقدّم (٣) الذي يغلب على الظنّ وروده فيما هو موضوع البحث ، فالعبرة بحسب الظاهر على حصول التغطية بالفعل ، لا مجرّد وضعه على أن يكون له ساق ، مع احتماله ، فيكفي بناء على هذا الاحتمال كونه من حيث هو ذا ساق وإن لبسه من لا يغطّى به بعض ساقه ، وأولى بالجواز ما إذا كان عدم التغطية لعارض من كفّ ونحوه ، كما أنّ مقتضى الاحتمال المزبور : المنع أو الكراهة فيما لا يكون له ساق بحسب وضعه لمن يغطّى بعض ساقه لصغر قدمه ، وهو لا يخلو عن بعد ، والله العالم.

(وتستحبّ في النعل العربيّة) كما يشهد له أخبار مستفيضة :

مثل : ما عن الصدوق في الفقيه ، والشيخ في التهذيب ـ في الصحيح ـ عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا صلّيت فصلّ في نعليك إذا كانت طاهرة ، فإنّ ذلك من السنّة» لكن في التهذيب : «فإنّه يقال : ذلك من

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ١٥٧.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ١٨٣ ، جواهر الكلام ٨ : ١٥٧.

(٣) في ص ٣٦٨.

٣٧٠

السنّة» (١).

وصحيحة معاوية بن عمّار ، قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام يصلّي في نعليه غير مرّة ، ولم أره ينزعهما قطّ (٢).

وصحيحة علي بن مهزيار ، قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام صلّى حين زالت الشمس يوم التروية ستّ ركعات خلف المقام وعليه نعلاه لم ينزعهما (٣).

وخبر عبد الله بن المغيرة ، قال : «إذا صلّيت فصلّ في نعليك إذا كانت طاهرة فإنّ ذلك من السنّة» (٤).

ورواية محمّد بن الحسين عن بعض الطالبيّين يلقّب برأس المذري ، قال :سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : «أفضل موضع القدمين للصلاة النعلان» (٥).

وعن كتاب العلل ـ في الصحيح أو الحسن ـ قال : «وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أقيمت الصلاة لبس نعليه وصلّى فيهما» (٦).

وهذه الروايات كما تراها مطلقة ، ولكنّ الأصحاب حملوها على النعل العربيّة ، فلعلّه لكونها الفرد المتعارف الذي ينصرف إليه الإطلاق.

وعن المدارك وغيره التعميم (٧). وهو أوفق بظاهر اللفظ وأنسب بما يقتضيه

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٥٨ / ١٥٧٣ ، التهذيب ٢ : ٢٣٣ / ٩١٩ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١ و ٥.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٣ / ٩١٦ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٣٣ / ٩١٨ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٣٣ / ٩١٧ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧.

(٥) الكافي ٣ : ٤٨٩ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٩.

(٦) علل الشرائع : ٣٣٦ (الباب ٣٣) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٦٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٧) مدارك الأحكام ٣ : ١٨٥ ، بحار الأنوار ٨٣ : ٢٧٥ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٨٢.

٣٧١

التسامح في أدلّة السنن ، والله العالم.

المسألة (السابعة : كلّ ما عدا ما ذكرناه) من الذهب والحرير وأجزاء ما لا يؤكل لحمه والمغصوب (تصحّ الصلاة فيه بشرط أن يكون مملوكا) عينا ومنفعة ، أو منفعة ، غير ممنوع من التصرّف برهن ونحوه (أو مأذونا فيه) فلا تصحّ الصلاة في المقبوض بالسوم الفاسد ونحوه ممّا لا يندرج عرفا في موضوع الغصب ولكنّه بحكمه شرعا ما لم يلحقه إذن المالك ، أي طيب نفسه بالتصرّف وإن لم يكن ثمّة إذن ؛ إذ العبرة نصّا وفتوى برضا المالك ، لا اللفظ ، وإنّما يعوّل على اللفظ الدالّ عليه من الإذن ونحوه من باب الكاشفيّة ، لا من حيث هو تعبّدا ، بل يكفي في ذلك رضاه تقديرا بمعنى أنّه لو علم بذلك لرضي به ، بلا إشكال فيه ولا تأمّل ، كما يشهد لذلك السيرة القطعيّة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح وتحقيق في المكان إن شاء الله.

(وأن يكون طاهرا ، وقد بيّنّا) تبعا للمصنّف رحمه‌الله (حكم) الصلاة في (الثوب النجس) مشروحا مفصّلا في كتاب الطهارة (١) ، فلا نطيل بالإعادة.

(ويجوز للرجل أن يصلّي في ثوب واحد) ساتر للعورة بلا خلاف فيه ، بل إجماعا ، كما ادّعاه بعض (٢).

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ الأخبار المستفيضة.

كصحيحة عبيد بن زرارة عن أبيه ، قال : صلّى بنا أبو جعفر عليه‌السلام في ثوب

__________________

(١) راجع : ج ٨ ، ص ٢٠١ وما بعدها.

(٢) العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٨٦.

٣٧٢

واحد (١).

وصحيحة زياد بن سوقة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا بأس أن يصلّي أحدكم في الثوب الواحد وأزراره محلولة ، إنّ دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حنيف» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) ، قال : سألته عن الرجل يصلّي في قميص واحد أو قباء طاق أو قباء محشوّ وليس عليه إزار ، فقال : «إذا كان عليه قميص صفيق أو قباء ليس بطويل الفرج فلا بأس ، والثوب الواحد يتوشّح به والسراويل كلّ ذلك لا بأس به» وقال : «إذا لبس السراويل فليجعل على عاتقه شيئا ولو حبلا» (٤).

وصحيحته الأخرى ، قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام صلّى في إزار واحد ليس بواسع قد عقده على عنقه ، فقلت له : ما ترى للرجل يصلّي في قميص واحد؟

فقال : «إذا كان كثيفا فلا بأس به ، والمرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفا» يعني إذا كان ستيرا ، قلت : رحمك الله ، الأمة تغطّي رأسها إذا صلّت؟ فقال : «ليس على الأمة قناع» (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٦ / ٨٤٨ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٥ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٧٤ / ٨٢٣ ، التهذيب ٢ : ٢١٦ / ٨٤٥ ، و ٣٥٧ / ١٤٧٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٢ / ١٤٩٢ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٣) في الكافي والوسائل نقلا منه : «عن أحدهما عليهما‌السلام». وما في المتن كما في التهذيب.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٣ / ١ ، وفي التهذيب ٢ : ٢١٦ / ٨٥٢ نحوه ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب لباس المصلّي ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩٤ / ٢ ، التهذيب ٢ : ٢١٧ / ٨٥٥ ، الوسائل ، الأبواب ٢٢ و ٢٨ و ٢٩ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١ و ٧ و ١.

٣٧٣

وما في بعضها من الأمر بوضع شي‌ء على عاتقه إذا لبس السراويل ـ كصحيحة محمّد بن مسلم ، المتقدّمة (١) وغيرها ـ محمول على الاستحباب ، كما ستعرفه عند التكلّم فيما يجب ستره إن شاء الله.

ويشترط في الثوب الذي يصلّي فيه إذا كان واحدا أن يكون ساترا للعورة ، كما دلّت عليه صحيحتا محمّد بن مسلم ، المتقدّمتان (٢) ، وغيرهما ممّا دلّ على وجوب الستر في الصلاة.

وأمّا إذا تعدّدت الثياب فلا يشترط ذلك في شي‌ء منها ، بل يكفي حصول الستر بمجموعها وإن كان كلّ واحد منها بانفراده غير ساتر ، بلا خلاف في ذلك على الظاهر وإن كان قد يوهمه ما حكي عن المقنعة من أنّه قال : لا تجوز الصلاة في قميص شفّ لرقّته حتى يكون تحته غيره كالمئزر والسراويل أو قميص سواه غير شفّاف (٣). ولكنّ الغالب على الظنّ أنّه لم يقصد الاشتراط بحيث لا يجوز على تقدير حصول الستر بهما معا ، وإلّا فضعيف محجوج بأنّه لا يساعد عليه شي‌ء من الأدلّة.

وهل يكفي في حصول الستر ـ المعتبر في الصلاة ـ كونه مانعا عن الاطّلاع على لون البشرة وما هي عليه من بياض أو سواد أو حمرة ونحوها ، أم لا يكفي ذلك ، بل يعتبر استتار حجمها أيضا؟ قولان ، حكي أوّلهما عن الفاضلين وأكثر

__________________

(١) في ص ٣٧٣.

(٢) في ص ٣٧٣.

(٣) المقنعة : ١٥٠ ، وحكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٥٩.

٣٧٤

المتأخّرين (١) ؛ للأصل ، وحصول الستر عرفا.

واستدلّ له أيضا بقول أبي جعفر عليه‌السلام ـ في خبر عبيد الله الواقفي (٢) ـ : «كلّا إنّ النورة سترة» جوابا لمن قال حين طلى النورة : رأيت الذي تكره (٣).

ونوقش ، أمّا في الأصل : فبأنّه إنّما يجري إذا كان الصلاة اسما لمطلق الأركان ، لا خصوص الصحيحة منها ، كما قال به بعض (٤) الفقهاء ؛ إذ على هذا القول يشكل جريان الأصل ، وثبوت كونها اسما لمجرّد الأركان ربما لا يخلو عن الإشكال.

وأمّا في دعوى حصول الستر : فبأنّ الحاصل هو ستر اللون دون ستر الحجم ، حيث إنّ حسّ البصر يقع على نفس البشرة من خلال الثوب ، وإلّا لامتنع رؤية حجمها ، فهي ليست مستورة على الإطلاق ، والذي يجب نصّا وفتوى إنّما هو الستر مطلقا ، لا الستر في الجملة ، وعند ظهور الحجم لا يقال في العرف : إنّه ستر عورته ، بعنوان الإطلاق.

وأمّا في خبر النورة : فبأنّه خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ حكاية الحجم هي أن يرى الحجم بنفسه خلف ثوب رقيق أو مثل الثوب الرقيق ، لا أن يرى النورة المطليّة على الحجم وشكل مجموع النورة والحجم ، ولذا تكون المرأة اللّابسة للثوب مستورة قطعا.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٩٥ ، تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٤٦ ، الفرع «ج» من المسألة ١٠٧ ، قواعد الأحكام ١ : ٢٧ ، وحكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٧.

(٢) في المصدر : «المرافقي».

(٣) الفقيه ١ : ٦٥ / ٢٥٠ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب آداب الحمّام ، ح ١.

(٤) العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٦٦.

٣٧٥

أقول : أمّا المناقشة في الأصل بعدم جريانه إلّا على القول بكون الصلاة اسما للأعمّ : فقد تقرّر في محلّه ضعفها إن أريد به أصالة البراءة وعدم التكليف ، وإن أريد به أصالة الإطلاق ، فهي في محلّها ، ولكنّ المقصود في المقام هو الأوّل.

وأمّا منع حصول الستر ـ بأنّه لا يقال في العرف : إنّه ستر عورته بعنوان الإطلاق ـ ففيه : أنّه على إطلاقه مجازفة ؛ فإنّ من لبس قميصا كثيفا ووقف في الشمس أو في الأمكنة المضيئة ربما يبدو للناظرين حجم عورته في الجملة ولا يعدّ ذلك من المنكرات ، مع أنّ من الواضحات لدى كلّ أحد وجوب حفظ الفرج وغضّ البصر ، فلو كان ذلك منافيا لتحقّق الستر في أنظار العرف لعدّ لديهم من المنكرات ، مع أنّه ليس كذلك بلا شبهة ، وهذا بخلاف ما لو كان الثوب رقيقا بحيث لا يكون حاجبا عمّا وراءه من حيث اللون والشكل ، فيقال عرفا حينئذ : إنّ عورته ظاهرة وهي مرئيّة من وراء الثوب وليست بمستورة ، وأمّا مع كثافة الثوب ، المانعة عن تمييز لون البشرة فلا يقال بمثل هذا القول ، بل يقال : يرى حجمها ، أو شكلها ، أو نحو ذلك ، فلا ينسب حينئذ الظهور أو الرؤية إلّا إلى أوصافها ، لا إلى نفسها أو بشرتها.

وكيف كان فالمدار على الصدق العرفي ، لا على التدقيقات الحكميّة.

وقد يقال في تقريب الاستدلال لكفاية استتار اللون ـ بعد تسليم عدم حصول الستر المطلق عند عدم استتار الحجم ـ بأنّ ستر اللون مجمع عليه ، بخلاف ستر الحجم ، والأصل عدم زيادة التكليف ، وبراءة الذمّة.

وفيه : أنّ الإجماع منعقد على وجوب ستر العورة على الإطلاق ، وإنّما الخلاف في أنّ الستر المطلق هل يحصل عرفا باستتار اللون ، أم لا؟ فالنزاع في

٣٧٦

تشخيص الموضوع ، لا في أصل الحكم ؛ كي يتّجه ما قيل من الاقتصار على القدر المتيقّن الذي انعقد عليه الإجماع.

هذا ، مع عدم انحصار مستند الحكم في الإجماع ؛ لإمكان استفادة وجوب الستر من جملة من الأخبار وإن لم تكن مسوقة لبيان هذا الحكم من حيث هو.

مثل : ما ورد (١) في العاري الذي لم يجد ثوبا من الأمر بستر عورته بما يجده من حشيش ونحوه ، وغير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ولكن لقائل أن يقول : إنّه لا يكاد يستفاد من مثل هذه الأخبار أزيد من وجوب الستر في الجملة ، وهو ممّا لا كلام فيه.

وأمّا الستر مطلقا ـ أي لونا وحجما ـ فلا يفهم اعتباره من مثل هذه الأدلّة ، بل لو كان لنا دليل مطلق مسوق لبيان هذا الحكم ، لأمكن الخدشة في دلالته على وجوب ستر الحجم : بأنّ المتبادر عرفا من الأمر بستر شي‌ء ليس إلّا إرادة ستر ذلك الشي‌ء على وجه لا يدرك بحسّ البصر ، مع قطع النظر عن القرائن الخارجيّة المشخّصة له أنّه ذلك الشي‌ء بأن يختفي ذلك الشي‌ء عن أعين الناظرين بحيث لا يميّزونه بعنوانه المخصوص به ، لا إخفاؤه رأسا على وجه ينافيه رؤية شكله من وراء الستر من غير أن يتميّز بها حقيقته الموقوف معرفتها على إدراك أوصافه الخاصّة ، لا عوارضه العامّة.

والحاصل : أنّ المتبادر من الأمر بستر شي‌ء ستره بعنوانه المخصوص به ، فمجرّد رؤية المرأة من بعيد من خلف الستر من غير أن يتميّز بواسطة الرؤية من

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٥ / ١٥١٥ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٣٧٧

حيث هي كونها جمادا أو إنسانا ـ مثلا ـ لو لا القرائن الخارجيّة المعيّنة لها من الحركة والتكلّم والهيئة ونحوها ليست منافية لإطلاق آية (١) غضّ البصر وحفظ الفرج.

فتلخّص ممّا ذكر : أنّ رؤية حجم الشي‌ء من وراء الستر على وجه لا يتميّز بها ذلك الشي‌ء عمّا يشابهه في الحجم بحيث يعرف ـ مثلا ـ أنّ المرئي لحم أو عظم أو خشبة ـ مثلا ـ ليست منافية لما ينسبق إلى الذهن من الأمر بستر ذلك الشي‌ء.

فمن هنا يظهر أنّ ما تقدّم آنفا في الردّ على من استدلّ على عدم وجوب ستر الحجم بأنّه خارج عن معقد الإجماع من أنّ الخلاف إنّما هو في تشخيص الموضوع لا في أصل الحكم ، لا يخلو عن نظر ؛ فإنّ القائل بكفاية ستر اللون لا يقول إلّا بوجوب ستر العورة من حيث هي ، لا من حيث كونها جسما ذا هيئة خاصّة ووضع كذائي ، فمراده بقوله : «إنّ الستر حاصل» حصوله بهذا المعنى ، وإلّا فمن الواضح عدم حصوله بعناوينه العامّة ، فالنزاع لدى التحقيق يؤول إلى الحكم الشرعي وإن كان في بادى‌ء الرأي في تشخيص الموضوع ، فعلى هذا يتّجه الاستدلال المزبور ، والله العالم.

وممّا يؤيّد القول المزبور بل يستدلّ به : الأخبار (٢) الدالّة على جواز الصلاة في قميص واحد إذا كان كثيفا ؛ فإنّ الكثافة قد لا تفيد ستر الحجم ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

حجّة القائلين باعتبار استتار الحجم : منع حصول الستر على إطلاقه عرفا و

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣٠.

(٢) منها ما تقدّم تخريجه في ص ٣٧٣ ، الهامش (٥).

٣٧٨

لا أقلّ من الشكّ فيه ، فيجب الاحتياط ؛ تحصيلا للجزم بحصول الستر الذي هو شرط في الصلاة.

وقد ظهر ما فيه ممّا تقدّم.

وأضعف منه الاستدلال بمرفوعة أحمد بن حمّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تصلّ فيما شفّ أو صفّ» (١) بناء على كونه «أو وصف» بواوين.

قال في محكيّ الذكرى : معنى شفّ : لاحت منه البشرة ، ومعنى وصف : حكى الحجم ، قال : وفي خطّ الشيخ أبي جعفر في التهذيب : «أو صفّ» بواو واحدة ، والمعروف بواوين من الوصف (٢). انتهى.

وفي الحدائق ـ بعد نقل كلام الذكرى ـ قال : إنّ الرواية التي وصلت إلينا في كتب المحدّثين نقلا عن التهذيب ، وفي كتاب التهذيب الذي بأيدينا إنّما هي بواو واحدة (٣).

أقول : فلا وثوق حينئذ بمعروفيّة كونه بواوين ، كما ادّعاه الشهيد حيث لم يعرف مأخذها ، بل الذي يغلب على الظنّ كونه بواو واحدة ؛ لموافقته لما حكي عن الكافي من روايته بواو واحدة ، إلّا أنّه بالسين ، ورواها عن محمّد بن يحيى رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تصلّ فيما شفّ أو سفّ» يعني الثوب الصقيل (٤) (٥).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٤ / ٨٣٧ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

(٢) الذكرى ٣ : ٥٠ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٢٧.

(٣) الحدائق الناضرة ٧ : ٢٧.

(٤) في الكافي : «المصيقل».

(٥) الكافي ٣ : ٤٠٢ / ٢٤ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

٣٧٩

وعن التهذيب أيضا تفسيره بالثوب الصقيل (١).

ووقوع هذا التفسير في الكافي يبعّد ما احتمله بعض (٢) في التهذيب من كونه من الشيخ ، فالظاهر أنّه من كلام الراوي بحسب ما فهمه من الرواية.

وكيف كان فيتوجّه على الاستدلال بالرواية أنّها ضعيفة السند مضطربة المتن غير متّضحة المفاد ، ولعلّ المراد بحكاية الحجم ـ على ما فسّره في الذكرى (٣) ـ حكايته من حيث لصوق الثوب بالجسم ، فيخرج عن محلّ الكلام ، ويحمل النهي ـ على تقدير ثبوت هذا التفسير ـ على الكراهة حيث لم ينقل عن أحد حرمته ، والله العالم.

(ولا يجوز للمرأة) الحرّة أن تصلّي (إلّا في ثوبين : درع وخمار ، ساترة جميع جسدها) بهما.

الدرع هو القميص ، والخمار ما يغطّي رأسها ، وذكرهما بالخصوص في النصوص والفتاوى جار مجرى التمثيل يراد بهما ثوبان يحصل بهما ستر جميع جسدها ، عدا ما ستعرف استثناءه ، بل لا خصوصيّة للثوبين أيضا ، فيكفي ثوب واحد ساتر لجميع جسدها ، بلا خلاف فيه على الظاهر بل ولا إشكال.

وقصر الجواز على الثوبين في العبارة كما في جملة من المعتبرة المستفيضة الآتية منزّل على ما هو المتعارف من مغايرة الثوب الذي تستر المرأة به رأسها لما تستر به سائر جسدها ، فالعبرة إنّما هي بستر ما يجب ستره من غير

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٤ ، ح ٨٣٧ وذيله ، وفيه : «يعني الثوب المصقل».

(٢) صاحب الجواهر فيها ٨ : ١٦١.

(٣) الذكرى ٣ : ٥٠.

٣٨٠