مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

منها : صحيحة حريز ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم : «اللبن واللّبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكلّ شي‌ء ينفصل (١) من الشاة والدابّة فهو ذكيّ ، وإن أخذته منه بعد أن يموت (٢) فاغسله وصلّ فيه» (٣).

(وما كان نجسا في حياته) كالكلب والخنزير (فجميع ذلك منه نجس على الأظهر).

وما حكي عن السيّد رحمه‌الله ـ من القول بطهارة ما لا تحلّه الحياة من نجس العين (٤) ـ ضعيف ، وقد تقدّم تحقيق ذلك كلّه في كتاب الطهارة (٥).

(ولا تصحّ الصلاة في شي‌ء من ذلك) ولا في غير ذلك ممّا حلّ فيه الحياة لو جعل لباسا أو جزء لباس (إذا كان ممّا لا يؤكل لحمه ولو أخذه من مذكّى) عدا ما استثني ، بلا خلاف فيه على الظاهر في الجملة ، بل في الجواهر :إجماعا محصّلا ومحكيّا مستفيضا (٦) ، وفي المدارك : هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا منهم (٧).

__________________

(١) في المصادر : «يفصل».

(٢) في الكافي : «وإن أخذته منها بعد أن تموت».

(٣) الكافي ٦ : ٢٥٨ / ٤ ، التهذيب ٩ : ٧٥ ـ ٧٦ / ٣٢١ ، الاستبصار ٤ : ٨٨ ـ ٨٩ / ٣٣٨ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٣.

(٤) مسائل الناصريّات : ١٠٠ ، المسألة ١٩ ، وكما في جواهر الكلام ٥ : ٣٣١ ، وحكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٣٩٢.

(٥) ج ٧ ، ص ١٠١ ـ ١٠٣.

(٦) جواهر الكلام ٨ : ٧٥.

(٧) مدارك الأحكام ٣ : ١٦٤.

٢٢١

أقول : ولكنّ الظاهر أنّ كثيرا من الأصحاب لم يصرّحوا بعموم المنع عن كلّ شي‌ء ممّا لا يؤكل لحمه ، كما هو المدّعى ، بل خصّوا بعض الأجزاء بالذكر ، كالشعر والوبر والصوف ، فيشكل نسبة الكلّيّة إليهم ، بل قد يستظهر منهم خلاف ذلك ، فإنّه قد يقال بل قيل : إنّ اقتصار أساطين الأصحاب ـ قديما وحديثا إلى زمن بعض متأخّري المتأخّرين ـ على الجلد والشعر والوبر والصوف والعظم ظاهر في عدم البأس بغير ذلك من فضلاته (١).

ولكن يحتمل قويّا كون التخصيص جاريا مجرى التمثيل المناسب للّباس ، كما هو محلّ كلامهم.

ولكنّ الجزم بذلك ونسبة المنع إليهم على سبيل العموم لا يخلو عن إشكال.

وكيف كان فعمدة مستند الحكم على سبيل الكلّيّة : موثّقة ابن بكير ، المتقدّمة (٢) الدالّة على فساد الصلاة في كلّ شي‌ء ممّا حرم أكله من شعره ووبره وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه ، ووجوب إعادتها.

ويدلّ عليه أيضا في خصوص الشعر والوبر أخبار مستفيضة تقدّم جملة منها في مسألة الصلاة في جلد غير المأكول ، والظاهر أنّ المراد بالشعر والوبر فيها ما يعمّ الصوف ، مع أنّه لا قائل بالفصل بينها.

هذا ، مع أنّ عموم الموثّقة أغنانا عن مثل هذه الدعاوي ، وقد تقدّم فيما سبق

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٨ : ٦٨.

(٢) في ص ٢٠٠.

٢٢٢

التنبيه على أنّ شيئا من الأخبار التي يستشعر أو يستظهر منها الجواز لا يصلح لمعارضة الموثّقة وغيرها من أخبار المنع. اللهمّ إلّا أن يكون أخصّ منها مطلقا. وحيث إنّ مفاد الموثّقة عدم جواز الصلاة في شي‌ء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه فهذا هو الأصل في الباب لا يعدل عنه إلّا بنصّ خاصّ ، وسيأتي الكلام في الأدلّة الخاصّة.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : حكي عن الشهيدين وجماعة منهم : صاحب المدارك : القطع باختصاص المنع بالملابس ،فلو لم يكن كذلك كالشعرات الملقاة على الثوب ، لم تمنع الصلاة فيه (١).

وعن ظاهر الأكثر عموم المنع (٢) ، بل عن صاحبي الذخيرة والبحار نسبته إلى المشهور (٣).

وعن المحقّق الثاني التصريح بالمنع وإن كانت شعرة واحدة (٤).

حجّة القول بالمنع : خبر إبراهيم بن محمّد الهمداني ، قال : كتبت إليه يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة ، فكتب

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٥٢ ، مسالك الافهام ١ : ١٦٢ ، روض الجنان ٢ : ٥٧٣ ، مدارك الأحكام ٣ : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، وحكاه عنهم المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢٢١ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٨٢.

(٢) نسبه إلى أكثر الأصحاب السبزواري في كفاية الأحكام : ١٦ ، وحكاه عنها أيضا العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٤٥ و ١٤٦.

(٣) ذخيرة المعاد : ٢٣٤ ، بحار الأنوار ٨٣ : ٢٢١ ، وفيهما نسبته إلى الأكثر. وما في المتن كما في جواهر الكلام ٨ : ٧٦.

(٤) جامع المقاصد ٢ : ٨١ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٧٦.

٢٢٣

«لا تجوز الصلاة فيه» (١).

وموثّقة (٢) ابن بكير وغيرها من الأخبار التي ورد فيها النهي عن الصلاة في الشعر والوبر.

وتوهّم اختصاصه بالملابس بملاحظة لفظة «في» الظاهرة في الظرفيّة ، مدفوع : بعدم جريانه في الموثّقة ؛ لدخولها على الشعر والوبر وغيرهما ممّا لا يستقيم إرادة الظرفيّة بالنسبة إليه ، كالبول والروث ونحوهما ، فهذا كاشف عن أنّ المراد بها مطلق الملابسة والمصاحبة.

قال المحقّق البهبهاني ـ على ما حكي عنه ـ : ورواية ابن بكير أيضا ظاهرة فيه ؛ فإنّ الصلاة في الروث ـ مثلا ـ ظاهرة في المعيّة ، وتقدير الكلام : بإرادة الثوب الذي يتلوّث به غلط ؛ لأنّ الأصل عدم التقدير سيّما مثله ، وقد قرّر في الأصول أنّه إذا دار الأمر بين المجاز والإضمار ، فالمجاز متقدّم متعيّن (٣). انتهى.

ونوقش فيه : بأنّه لا ريب في ظهور لفظة «في» في الظرفيّة ، ولكن لمّا تعذّرت الحقيقة بالنسبة إلى الروث ونحوه حمل على أقرب المجازات ، وهو ظرفيّة المتلطّخ به ، بخلاف الشعر ؛ فإنّ الحقيقة ممكنة فيه ، فلا حاجة إلى صرفه ، بل ولا قرينة ؛ ضرورة عدم صلاحيّة التجوّز في الروث ـ لمكان تعذّر الحقيقة ـ للصرف ، كما هو واضح (٤).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢١٥ ، الهامش (١).

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

(٣) الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٧٧.

(٤) كما في جواهر الكلام ٨ : ٧٧.

٢٢٤

وفيه : أنّ ارتكاب التجوّز في الروث بحمله على إرادة المتلطّخ به هو الإضمار الذي صرّح المحقّق المزبور بأنّ المجاز خير منه.

لا يقال : إنّا لا نلتزم في المقام بالإضمار كي يكون مخالفا للأصل ، بل نقول : إنّه أطلق الروث وأريد منه الشي‌ء المتلطّخ به بعلاقة الحالّ والمحلّ أو غيرها من أنواع العلائق ، فلا إضمار.

لأنّا نقول : الإضمار في شي‌ء من موارده لا يخلو عن نوع من العلائق المصحّحة لإرادة المقدّر من المذكور ، وهذا لا يخرجه عن كونه إضمارا ، بل قد يقال : إنّه لا يراد في شي‌ء من موارد الإضمار إلّا هذا النوع من التصرّف.

وإن أبيت إلّا عن أنّه قسم آخر من أقسام المجاز وهو أقرب من التجوّز في كلمة «في» ، قلنا : لا شبهة في أنّ التوسّع في الظرفيّة بحيث تعمّ مطلق الملابسة والمصاحبة أقرب من إطلاق الروث وإرادة ما يتلوّث به ، بل لا شبهة في أنّه لا ينسبق إلى الذهن من الروث في الرواية إلّا إرادة نفسه ، فلا تجوّز فيه أصلا ، وإنّما التجوّز في لفظة «في» الداخلة عليه وعلى الشعر والوبر ، فبالنسبة إليه لا يمكن إبقاؤها على حقيقتها إلّا بارتكاب التقدير ، فيدور الأمر بينه وبين التوسّع في الظرفيّة بإرادة مطلق الملابسة الشاملة للمصاحبة ، والثاني أولى بلا شبهة ، وحيث إنّ كلمة «في» غير متكرّرة في الرواية فلا يمكن التفكيك بالحمل على الحقيقة بالنسبة إلى الشعر والوبر ، والمجاز في الروث وأشباهه ؛ لاستلزامه استعمال اللفظ في المعنيين.

ولكن لقائل أن يقول : إنّه عند تعذّر إرادة الظرفيّة الحقيقيّة بالنسبة إلى الروث لا تتعيّن إرادة مطلق المصاحبة منها بالنسبة إلى الجميع ؛ لجواز أن يكون المراد بها

٢٢٥

مطلق الظرفيّة الشاملة للحقيقيّة والمجازيّة التي يكفي في تحقّقها أدنى ملابسة بأن يكون المقصود بها الظرفيّة في كلّ شي‌ء بحسب ما يناسبه في صدق الصلاة فيه في العرف ، وهذا ممّا يختلف حاله بحسب الموارد ، ففي بعضها يعتبر الصدق الحقيقي ، كما في الشعر والوبر والجلد ونحوها ، وفي بعضها المسامحي ، كما في الروث والبول ، ولا يكفي في شي‌ء منها مطلق المصاحبة بحيث تعمّ المحمول ، كعروة السكّين ونحوه.

وعلى تقدير تسليم ظهورها بعد تعذّر الحقيقة بالنسبة إلى الروث في مطلق التلبّس بحيث يعمّ مثل الشعرات الملقاة فهو أيضا أخصّ من مطلق المصاحبة ، ولذا اعترف بعض (١) بشمول الرواية لمثل الشعرات الملقاة ، فلم يجوّز الصلاة فيها ، ونفى البأس عن عروة السكّين ونحوها بدعوى خروجها عن منصرف الرواية.

وربما يؤيّد المنع عن الشعرات ـ بل يستدلّ به أيضا ـ الأخبار الآتية التي ورد فيها النهي عن الصلاة في الثوب الذي يلي جلود الثعالب ؛ إذ الظاهر أنّه لأجل ما يقع عليه من شعره.

ونوقش في ذلك : بأنّه علّة مستنبطة ، فلا عبرة به ، وفي الرواية الأولى أيضا :بضعف السند بالإضمار وجهالة بعض رواتها ، فعمدة المستند هي الموثّقة ، وهي أيضا قد عرفت أنّها لا تسلم عن الخدشة.

هذا كلّه ، مع معارضة هذه الأخبار بصحيحة محمّد بن عبد الجبّار ، قال :كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو

__________________

(١) لم نتحقّقه ، ولاحظ مستند الشيعة ٤ : ٣٠٩ و ٣١٣.

٢٢٦

تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب : «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض ، وإن كان الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه» (١).

ولكن يحتمل قويّا جري هذه الصحيحة مجرى التقيّة ، كما ستعرف.

هذا ، مع إمكان الالتزام بمفادها بناء على استثناء ما لا تتمّ فيه الصلاة من عموم المنع ، كما سيأتي الكلام فيه.

ولكن لا يخفى عليك أنّ الالتزام بجواز مثل القلنسوة المتّخذة من أجزاء ما لا يؤكل لحمه وما عليها من الشعر والوبر ، والمنع عن الشعرات الملقاة على الثوب في غاية البعد ، فالتفصيل في غاية الإشكال ، بل المتعيّن إمّا القول بالجواز مطلقا ، أو المنع كذلك.

وقد ظهر بما ذكر ـ من إمكان الخدشة في أدلّة المانعين ـ أنّ الأوّل لا يخلو عن قوّة ، ولكنّ الثاني أحوط ، بل لعلّه أقوى ؛ فإنّ دعوى ظهور الموثّقة في مطلق التلبّس الصادق على مثل الشعرات الملقاة قويّة جدّا مع اعتضادها بغيرها ممّا عرفت.

نعم ، لا يبعد دعوى انصرافها عن المحمول وإن لا يخلو هذا أيضا عن تأمّل.

اللهمّ إلّا أن يكون المحمول في كيس ونحوه ؛ فإنّه لا ينبغي حينئذ التأمّل في خروجه عن منصرف الرواية ، والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٠٧ / ٨١٠ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ / ١٤٥٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

٢٢٧

الثاني : صرّح غير واحد بخروج الإنسان عن موضوع هذا الحكم ،فلا بأس بالصلاة في فضلاته الطاهرة ، وهذا ممّا لا ينبغي الارتياب فيه من غير فرق بين فضلات نفسه وغيره ؛ لاستقرار السيرة على عدم التحرّز منها ، مع أنّ المنساق من الشي‌ء الذي جعل مقسما في الموثّقة ونحوها للمأكول وغير المأكول هو الحيوان الذي ينصرف إطلاقه عن الإنسان ، فإنّه وإن صدق على الإنسان لغة أنّه حيوان غير مأكول اللحم ولكن لا يطلق عليه ذلك عرفا.

مضافا إلى شهادة بعض الأخبار عليه.

ففي الصحيح عن ابن الريّان ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام : هل تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان وأظفاره من قبل أن ينفضّه ويلقيه عنه؟ فوقّع «تجوز» (١).

وصحيحه الآخر ، قال : سألت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره ثمّ يقوم إلى الصلاة من غير أن ينفضّه من ثوبه ، فقال : «لا بأس» (٢).

وخبر الحسين بن علوان عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام ، المرويّ عن قرب الإسناد ، قال : سئل (٣) عن البزاق يصيب الثوب ، قال : «لا بأس به» (٤).

ومقتضى ترك الاستفصال في الرواية الأولى والأخيرة : عدم الفرق بين كونه منه أو من غيره.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٧ / ١٥٢٦ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٢ / ٨١٢ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٣) المسؤول ـ في المصدر ـ هو الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

(٤) قرب الإسناد : ٨٦ / ٢٨٢ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

٢٢٨

ويشهد له أيضا بعض الأخبار الدالّة على جواز حمل المرضعة ولدها وإرضاعها في الصلاة ، كخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ أنّه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن المرأة تكون في صلاة الفريضة وولدها إلى جنبها يبكي هل يصلح لها أن تتناوله فتقعده في حجرها وتسكته وترضعه؟ قال : «لا بأس» (١) وخبر عمّار عن الصادق عليه‌السلام : «لا بأس أن تحمل المرأة صبيّها وهي تصلّي وترضعه (٢)» (٣) فإنّ حمل الصبي وإرضاعه وإسكاته لا ينفكّ عادة عن إصابة لعابه إلى ثدي المرضعة ، ودمعه إلى ثيابها عند بكائه.

ويؤيّده أيضا خبر الإسكاف (٤) ، قال : إنّ أبا جعفر عليه‌السلام سئل عن القرامل (٥) التي تضعها (٦) النساء في رؤوسهنّ يصلنه بشعورهنّ ، قال : «لا بأس بالمرأة ما تزيّنت به لزوجها» (٧) وعن مكارم الأخلاق عن زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سأله أبي ـ وأنا حاضر ـ عن الرجل يسقط سنّه فيأخذ سنّ إنسان ميّت فيجعله مكانه ، قال : «لا بأس» (٨) فإنّ إطلاق الروايتين وإن كان واردا مورد حكم آخر إلّا أنّ إطلاق نفي البأس مع غلبة وقوع الصلاة في السنّ والشعر المفروضين في الروايتين لو

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٢٥ / ٨٧٧ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ٢.

(٢) في التهذيب : «أو ترضعه وهي تتشهّد». وفي الوسائل : «وترضعه وهي تتشهّد».

(٣) التهذيب ٢ : ٣٣٠ / ١٣٥٥ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ١.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الاسكافي». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٥) القرامل : هي ما تشدّه المرأة في شعرها من الخيوط. مجمع البحرين ٥ : ٤٥٣ «قرمل».

(٦) في المصدر : «تصنعها».

(٧) الكافي ٥ : ١١٩ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٦٠ / ١٠٣٢ ، الوسائل ، الباب ١٠١ من أبواب مقدّمات النكاح ، ح ٢.

(٨) مكارم الأخلاق : ٩٥ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب المصلّي ، ح ٤.

٢٢٩

لم يدلّ على المطلوب فلا أقلّ من كونه من المؤيّدات ، كما أنّ الخدشة في الأخير ـ بأنّ غاية الأمر دلالته على جواز الصلاة إذا كان في الباطن ، وهذا ممّا لا كلام فيه ـ غير قادحة في مقام التأييد.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في خروج الإنسان عن منصرف أخبار المنع ، فلا ينبغي الاستشكال فيه حتى في مثل الثوب المنسوج من شعره فضلا عن شعراته الملقاة على الثوب ، ونحوها ممّا قضت السيرة بعدم التجنّب عنه.

الثالث : مقتضى عموم الموثّقة ، المعتضد (١) بإطلاق كلمات الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة : عدم الفرق في غير المأكول ـ الذي نهي عن الصلاة فيه ـ بين ذي النفس وغيره.

ودعوى انصراف إطلاق كلمات الأصحاب إلى ذي النفس وأنّ هذا هو المراد من العموم في الموثّقة بقرينة قوله عليه‌السلام في ذيلها : «ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» (٢) المشعر بكون ما هو المفروض موضوعا للحكم ما كان قابلا للتذكية ، وغير ذي النفس ليس كذلك ، مدفوعة : بمنع انصراف الإطلاق خصوصا بالنسبة إلى بعض أقسام غير ذي النفس ممّا كانت جثّته عظيمة ولحمه كثيرا ، كالجرّي والحيّة وأشباههما ؛ فإنّ دعوى انصراف الإطلاق عن مثل ذلك وشموله لمطلق ذي النفس مجازفة.

وإنّما ادّعينا مثل هذه الدعوى في الأخبار المانعة عن الصلاة في جلد

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : «المعتضدة».

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

٢٣٠

الميتة ؛ لبعض القرائن المقتضية لصرفها إلى إرادة ذي النفس ممّا تقدّمت الإشارة إليه ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّه لا قرينة مقتضية لذلك ، بل الأمر بالعكس ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا الموثّقة : فهي ـ كما تراها ـ قويّة الدلالة على العموم ؛ لوقوعها في مقام إعطاء الضابط وبيان مناط الحكم ، مع ما فيها من التعبير بالعموم مكرّرا بعبائر مختلفة ، فيشكل ارتكاب التخصيص فيها إلّا بنصّ صريح.

وما في ذيلها لا يصلح شاهدا لذلك ؛ لأنّ غايته الإشعار بأنّ ما فرض موضوعا للقضيّة ليس إلّا ما قابل التذكية ، وهذا ممّا لا يلتفت إليه في مقابل ما عرفت ، بل لمانع أن يمنع إشعاره بذلك ؛ فإنّ قوله عليه‌السلام : «ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» (١) كلام ذكر استطرادا لبيان عدم مدخليّة التذكية في ذلك ، وإناطة المنع بكون الحيوان في حدّ ذاته محرّم الأكل ، فالفقرة المذكورة على خلاف المطلوب أدلّ حيث يفهم [منها] (٢) إناطة الحكم بعنوان كونه غير المأكول لا غير مذكّى (٣).

نعم ، لا يبعد أن يقال : إنّه لا ينسبق إلى الذهن من قوله عليه‌السلام : «الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله» (٤) إلى آخره ، إلّا إرادة هذا الصنف من الحيوان الذي له وبر وشعروروث وألبان ، لا مطلقه ، وهو أخصّ من ذي النفس أيضا.

ولكن يتوجّه عليه ما أشرنا إليه من أنّ المتأمّل في الرواية لا يكاد يشكّ في كونها مسوقة لبيان إناطة الحكم بكونه مأكول اللحم وغير مأكول اللحم ، فالأشياء

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «منه». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في «ض ١٦» : «المذكّى».

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

٢٣١

المذكورة فيها جارية مجرى التمثيل.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ استفادة المنع عن مثل الحشرات والطيور من هذه الموثّقة لا تخلو عن تأمّل إلّا بضميمة عدم القول بالفصل ، وتماميّته في غير ذي النفس محلّ نظر ، فالقول بالجواز ـ كما يظهر من بعض (١) المتأخّرين ـ قويّ ، ولكنّ المنع مطلقا إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.

هذا كلّه فيما له لحم يعتدّ به بنظر العرف كالجرّي وأشباهه ، وأمّا ما لا لحم له عرفا ـ كالبقّ والبرغوث والقمّل والزنبور والخنافس وأشباهها ـ فلا ينبغي التأمّل في انصراف الأدلّة عنه.

ولذا لا يتوهّم أحد من العوامّ المنع عن الصلاة في الثوب المخيط بالإبريسم بل ولا في الحرير المحض بلحاظ كونه من فضلات غير المأكول ولا فيما أصابه شي‌ء من العسل أو شمعه مع معهوديّة اتّخاذ هذه الأشياء من غير المأكول ، ومغروسيّة المنع عن الصلاة في غير مأكول اللحم في أذهانهم.

فما عن بعض ـ من الاستشكال في الشمع ونحوه ممّا ليس فيه سيرة قطعيّة (٢) ؛ نظرا إلى عموم أدلّة المنع ـ ضعيف.

لا يقال : إنّ الموثّقة المزبورة ـ التي هي العمدة في هذا الباب ـ خالية عن ذكر اللحم ، وإنّما وقع فيها تعليق المنع على كون الشي‌ء محرّم الأكل ، وهو يصدق عرفا على كلّ حيوان لا يجوز أكله ولو مثل البقّ والبرغوث وإن لم يطلق عليه

__________________

(١) لاحظ مدارك الأحكام ٣ : ١٦١.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٦٩ عن الوحيد البهبهاني في شرحه على المفاتيح ، وهو مخطوط.

٢٣٢

اسم غير مأكول اللحم.

لأنّا نقول : أوّلا : إنّ المتبادر من الموثّقة أيضا ـ بعد الغضّ عن المناقشة المتقدّمة ـ ليس إلّا إرادة الحيوانات التي لا يؤكل لحمها ، كما يفصح عن ذلك مقابلة غير المأكول في الموثّقة بقوله عليه‌السلام : «وإن كان ممّا يؤكل لحمه» إلى آخره ، مع وقوع التعبير عنه فيما قبل هذه الفقرة بما أحلّ الله أكله.

وثانيا : أنّ الالتزام بعموم الموثّقة لكلّ حيوان ، وخروج مثل البقّ والبرغوث والقمّل ـ مثلا ـ لأجل السيرة ، أو دليل نفي الحرج ، أو الأدلّة الخاصّة كما في الحرير ـ مثلا ـ ليس بأولى من جعلها كاشفة عن أنّ المراد بالشي‌ء الذي جعل مقسما هو الحيوان القابل للاتّصاف بحلّيّة اللحم وحرمته ، فليتأمّل.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّه لا يستفاد من الموثّقة فضلا عن غيرها شمول المنع لمثل هذه الحيوانات ، فمقتضى الأصل جواز التلبّس بها.

هذا ، مع استقرار السيرة على عدم التحرّز عن فضلات هذا النحو من الحيوانات وأجزائها ولو في أقسامها المستحدثة الغير المتعارفة ، فليتأمّل.

الرابع : مقتضى إطلاق الموثّقة وغيرها من الأخبار ـ الخاصّة والعامّة ـ الناهية عن الصلاة في غير المأكول كمعاقد الإجماعات المحكيّة : عدم الفرق بين كون ما يصلّى فيه ممّا تتمّ الصلاة فيه وحده وبين غيره ، كالتكّة والقلنسوة والجورب ونحوها ، وقد نسب القول بذلك إلى الأكثر (١) ، بل المشهور (٢) ، خلافا

__________________

(١) نسبه إلى الأكثر العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٦٦.

(٢) نسبه إلى المشهور البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٧٨.

٢٣٣

للمحكيّ عن المبسوط والمنتهى والإصباح فالكراهة ، ولكن عن الأخير تقييدها بما إذا لم يكن هو ـ أي وبر ما لا يؤكل لحمه ، المعمول تكّة ونحوها ـ أو المصلّي رطبا (١) ، فكأنّه يلتزم بالمنع على تقدير الرطوبة ، فلا يبعد أن يكون ذلك مبنيّا على القول بنجاسة الأرانب والثعالب ، التي هي عمدة ما يتعلّق به النظر في هذا الباب.

وعن ابن حمزة أنّه قسّم ما لا تتمّ فيه الصلاة منفردا إلى ما تكره فيه ، وعدّ منها : التكّة والجورب والقلنسوة المتّخذات من شعر الأرنب والثعلب ، وما لا تكره فيه ، وعدّ منها الثلاثة من غير ما ذكر (٢).

وربما يظهر من المدارك اختيار الجواز حيث قال : اختلفت الأصحاب في التكّة والقلنسوة المعمولتين من وبر غير المأكول ، فذهب الأكثر ـ ومنهم : الشيخ في النهاية ـ إلى المنع منهما ؛ لما سبق في الجلود. وقال في المبسوط بالكراهة ، ومال إليه في المعتبر ؛ تعويلا على الأصل ، ورواية محمّد بن عبد الجبّار ، السابقة ، واستضعافا للأخبار المانعة ، وهو غير بعيد ، إلّا أنّ المنع أحوط (٣). انتهى.

ونقل في محكيّ المختلف عن الشيخ الاستدلال على الجواز ـ كما ذهب إليه في المبسوط ـ بأنّه قد ثبت للتكّة والقلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب من جواز الصلاة فيهما وإن كانا نجسين أو من حرير محض ، فكذا تجوز لو كانا من

__________________

(١) المبسوط ١ : ٨٤ ، منتهى المطلب ٤ : ٢١٥ ـ ٢١٦ ، إصباح الشيعة : ٦٤ ، وحكاه عنها صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ٢١٣.

(٢) الوسيلة : ٨٨ ، وحكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ٣ : ٢١٣.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، وراجع : النهاية : ٩٨ ، والمبسوط ١ : ٨٤ ، والمعتبر ٢ : ٨٣.

٢٣٤

وبر الأرانب وغيرها (١). انتهى.

ونوقش فيه : بأنّه قياس لا نقول به ، كما نوقش في الاستدلال بالأصل :بانقطاعه بالدليل.

ويدفعه أنّ الشيخ رحمه‌الله ـ على ما يظهر من سبك الاستدلال ـ جعل جواز الصلاة في التكّة والقلنسوة إذا كانا نجسين أو من حرير محض كاشفا عن أنّ مراد الشارع بكلّ شي‌ء نهى عن الصلاة فيه على الإطلاق في محاوراته إنّما هو إرادة ذلك الشي‌ء إذا كان ثوبا تتمّ فيه الصلاة وحده ، لا مثل التكّة والقلنسوة ، فلا ربط لهذا الاستدلال بالقياس ، بل مرجعه إلى ادّعاء استكشاف مراد الشارع في خصوص المورد من استقراء النواهي الشرعيّة المطلقة الواردة في الحرير وفي أبواب النجاسات على كثرتها حيث علم في تلك الموارد بقرينة منفصلة أنّ مراده بما يصلّى فيه ما عدا مثل التكّة وأشباهها ، فيكشف ذلك عن أنّ هذا المعنى متعارف في محاوراته ، مضافا إلى شهادة بعض الأخبار ـ النافية للبأس عمّا لا تجوز الصلاة فيه وحده ـ بصدق هذه الدعوى.

مثل : ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكّة الإبريسم والقلنسوة والخفّ والزنّار (٢) يكون في السراويل ويصلّى فيه» (٣) فإنّ مقتضى عموم قوله عليه‌السلام : «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده» إلى آخره : إنّما هو جواز الصلاة في كلّ شي‌ء من شأنه عدم

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ١٠١ ، المسألة ٤١ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٤٦.

(٢) الزنّار : ما يلبسه الذمّي يشدّه على وسطه. تهذيب اللغة ١٣ : ١٨٩ «زنر».

(٣) التهذيب ٢ : ٣٥٧ / ١٤٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

٢٣٥

جوازها فيه لو كان ممّا تتمّ فيه الصلاة.

ويؤكّد عمومه : الجمع في مقام التمثيل للقاعدة بين الخفّ وغيره ، حيث إنّ احتمال مانعيّة الخفّ عن الصلاة ـ بحسب الظاهر ـ إنّما هو بلحاظ كونه من جلد الميتة أو متنجّسا أو من غير المأكول ، فذكره في عداد الأمثلة ينفي احتمال كونه مسوقا لبيان ضابطة في خصوص الحرير ، ويجعله كالنصّ في العموم ، فهو بظاهره مسوق لبيان اختصاص الشرائط المعتبرة في لباس المصلّي ـ من عدم كونه متنجّسا أو حريرا أو متّخذا من جلد الميتة أو من غير مأكول اللحم ـ بما إذا كان ممّا تتمّ فيه الصلاة وحده ، فهذا الخبر بمدلوله اللفظي ناظر إلى الأدلّة المانعة عن الصلاة في الأشياء المزبورة ، فلا يصلح لمعارضتها شي‌ء من الأخبار الدالّة على المنع عن تلك الأشياء على الإطلاق وإن كانت النسبة بينه وبين كلّ واحدة من تلك الأخبار ـ كموثّقة ابن بكير ، المتقدّمة (١) ، ونحوها ـ العموم من وجه ؛ لأنّ الحاكم مقدّم على المحكوم عليه على كلّ حال ، فلا يلاحظ بينهما النسبة ، كما تقرّر في محلّه ، فهذه الرواية من أقوى ما يمكن أن يستدلّ به للقول بالجواز.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة محمّد بن عبد الجبّار ـ كما أشار إليه في المدارك في عبارته المتقدّمة (٢) ـ قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب. «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض ، وإن كان الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه» (٣).

__________________

(١) في ص ٢٠٠.

(٢) في ص ٢٣٤.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٢٢٧ ، الهامش (١).

٢٣٦

ولكنّ الاستدلال بهذه الصحيحة مبنيّ على ما هو المشهور من عدم الفرق بين وبر الأرانب وغيرها ممّا لا يؤكل لحمه ، وإلّا فلا تدلّ بالنسبة إلى وبر غير الأرانب إلّا على نفي البأس عن المحمول ، وهو خارج عن محلّ الكلام.

ولكنّك ستعرف عدم الفرق بين الأرانب وغيرها ، فلا قصور في دلالتها على المدّعى.

ويؤيّدها ما في كشف اللثام عن بعض الكتب مرسلا عن الرضا عليه‌السلام : «وقد تجوز الصلاة فيما لم تنبته الأرض ولم يحلّ أكله مثل السنجاب والفنك والسمّور والحواصل إذا كان فيما لا يجوز في مثله وحده الصلاة» (١).

ولكن يعارضها خبر عليّ بن مهزيار ، قال : كتب إليه إبراهيم بن عقبة : عندنا جوارب وتكك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة ولا تقيّة؟ فكتب : «لا تجوز الصلاة فيها» (٢) ونحوه رواية أحمد بن إسحاق الأبهري (٣).

وخبر إبراهيم بن محمّد الهمداني قال : كتبت إليه : يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة ، فكتب : «لا تجوز الصلاة فيه» (٤).

__________________

(١) كشف اللثام ٣ : ٢١٤.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٠٦ / ٨٠٦ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٠٦ / ٨٠٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ذيل ح ٣ ، وفيهما مثله.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢١٥ ، الهامش (١).

٢٣٧

وهذه الأخبار وإن كانت مضمرة لكنّها معتضدة بموافقة المشهور ومخالفة الجمهور ، مع أنّ احتمال كون المكتوب إليه غير المعصوم في غاية البعد خصوصا في خبر عليّ بن مهزيار ، فيشكل رفع اليد عنها بعد الاعتضاد بما عرفت.

وربما يؤيّدها أيضا ما يستشعر من بعض الأخبار المتقدّمة (١) الواردة في شعر الإنسان وغيره من معروفيّة المنع عن استصحاب أجزاء غير المأكول لدى الشيعة من صدر الشريعة ، فلا يكافؤها الصحيحة المتقدّمة (٢) ، فإنّها وإن كانت أقوى من حيث السند ولكنّها موهونة بمخالفة المشهور وموافقة الجمهور ، مع ما فيها من القرائن الداخليّة والخارجيّة المورثة لغلبة الظنّ بصدورها تقيّة ، فإنّ ما تضمّنته من المنع عن الحرير المحض مطلقا حتّى في مثل التكّة التي وقع عنها السؤال ـ كما يقتضيه إطلاق الجواب ـ والرخصة في الصلاة في الوبر مشروطا بالذكاة موافق للمحكيّ عن أحمد بن حنبل (٣) الذي شاعت التقيّة منه في زمان العسكري عليه‌السلام على ما قيل (٤) ، وفي الأخبار المتقدّمة وغيرها أيضا شهادة بكون المورد مظنّة للتقيّة ، فيشكل الاعتماد على مثل هذه الصحيحة على تقدير سلامتها عن المعارض ، حيث إنّها شبيهة بقول الناس ، وقد أمرنا في بعض الأخبار بطرح ما يشبه قولهم (٥) ، فهي لا تصلح لتخصيص العمومات فضلا عن مكافئة الأخبار

__________________

(١) في ص ٢٢٨.

(٢) في ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧ و ٢٣٦.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٨٥.

(٤) القائل هو صاحب الجواهر فيها ٨ : ٨٦.

(٥) التهذيب ٨ : ٩٨ / ٣٣٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٦.

٢٣٨

الخاصّة.

وكذا لا يعارض تلك الأخبار رواية الحلبي ، المتقدّمة (١) ؛ لكونها أخصّ مطلقا من تلك الرواية.

ولو نوقش في هذه الأخبار : بالإضمار ، لاتّجه الالتزام بجواز الصلاة فيما لا تتمّ فيه الصلاة منفردا ؛ أخذا بإطلاق تلك الرواية ، ولكن لا يستفاد من تلك الرواية إلّا نفي البأس عن مثل التكّة وأشباهها إذا كانت ملبوسة ؛ لأنّ هذا هو المتبادر من نفي البأس عن الصلاة فيها ، فلو قلنا بأنّ المتبادر من موثّقة ابن بكير أو غيرها هو المنع عن مصاحبة غير المأكول مطلقا ، للزم التفصيل في مثل هذه الأشياء بين ما إذا كانت ملبوسة أو محمولة.

اللهمّ إلّا أن يدّعى استفادة نفي البأس عن حمل ما لا تتمّ فيه الصلاة من الرخصة في لبسه بالفحوى.

وفيه تأمّل.

وقد تلخّص ممّا ذكر أنّ القول بالمنع مطلقا مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة.

الخامس : قال العلّامة في محكيّ المنتهى : إنّه لو شكّ في كون الصوف أو الشعر أو الوبر من مأكول اللحم ، لم تجز الصلاة فيه ؛ لأنّها مشروطة بستر العورة بما يؤكل لحمه ، والشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط (٢).

أقول : قوله : «لأنّها مشروطة بستر العورة» إلى آخره ، مبنيّ على المسامحة

__________________

(١) في ص ٢٣٥.

(٢) منتهى المطلب ٤ : ٢٣٦ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٦٧.

٢٣٩

من جهتين.

الأولى : أنّه جعل كونه من مأكول اللحم شرطا ، مع أنّ الشرط كونه ممّا عدا ما لا يؤكل لحمه ، لا كونه من مأكول اللحم ، فكأنّه أراد بما يؤكل لحمه ما يقابل ما لا يؤكل لحمه بحيث يعمّ الثوب المعمول من القطن والكتّان ونحوهما ، أو أراد كونه كذلك إذا كان من حيوان ، لا مطلقا.

الثانية : أنّه خصّه بما يستر به العورة ، مع أنّه شرط في مطلق ما يصلّى فيه ، كما يدلّ عليه أدلّته ، لا في خصوص الساتر.

ولو لا ابتناء العبارة على المسامحة ، لكان الدليل أخصّ من المدّعى ؛ حيث إنّه لا يقتضي إلّا عدم جواز الاجتزاء به ساترا للعورة ، لا عدم جواز الصلاة فيه على الإطلاق ، كما هو المطلوب.

فمحصّل هذا الدليل : أنّ الصلاة مشروطة بعدم كون ما يصلّى فيه ممّا لا يحلّ أكله ، فلا بدّ في مقام الامتثال من الجزم بحصولها كذلك ، ولا يكفي الاحتمال.

وناقش فيه صاحب المدارك ؛ فإنّه ـ بعد أن نقل عبارة المنتهى ، المتقدّمة (١) ـ قال : ويمكن أن يقال : إنّ الشرط ستر العورة ، والنهي إنّما تعلّق بالصلاة في غير المأكول ، فلا يثبت إلّا مع العلم بكون الساتر كذلك.

ويؤيّده صحيحة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء يكون

__________________

(١) في ص ٢٣٩.

٢٤٠