مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

وعن الشيخ في الخلاف ، والقاضي في المهذّب : المنع عنها اختيارا (١).

واستدلّ عليه في محكيّ الخلاف بإجماع الفرقة ، وبأنّ القبلة هي الكعبة لمن شاهدها ، فتكون القبلة جملتها ، والمصلّي في وسطها غير مستقبل الجملة (٢).

وبما رواه ـ في الصحيح ـ عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تصلّى المكتوبة في جوف الكعبة ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخلها في حجّ ولا عمرة ، ولكن دخلها في فتح مكّة فصلّى فيها ركعتين بين العمودين ومعه أسامة ابن زيد» (٣).

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهم‌السلام قال : «لا تصلّ (٤) المكتوبة في الكعبة» (٥).

وعن الكليني في الكافي (٦) نحوه ، ثمّ قال : وقد روي في حديث آخر : «يصلّي إلى. ربع جوانبها إذا اضطرّ إلى ذلك» (٧).

وفي بعض النسخ : «في أربع جوانبها» بدل «إلى».

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٣٩ ، المسألة ١٨٦ ، المهذّب : ١ / ٧٦ ، وحكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٢٣ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٨.

(٢) الخلاف ١ : ٤٣٩ ، المسألة ١٨٦ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٢٤ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٩.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ / ١٥٩٦ ، و ٥ : ٢٧٩ / ٩٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ / ١١٠١ ، الوسائل الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٣.

(٤) في النسخ الخطّيّة ، والحجريّة : «لا تصلّى». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٤ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ذيل ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٣٩١ / ١٨ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٧) الكافي ٣ : ٣٩١ ، ذيل ح ١٨ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٢.

٤١

قال الشهيد رحمه‌الله في محكيّ الذكرى : هذا إشارة إلى أنّ القبلة إنّما هي جميع الكعبة ، فإذا صلّى في الأربع عند الضرورة فكأنّه استقبل الجميع (١).

أقول : ويحتمل بعيدا أن يكون المراد بقوله : «يصلّي» إلى آخره ، بيان الرخصة في فعل الصلاة إلى أيّ جانب من جوانبها الأربع ، لا الأمر بفعل الصلاة إلى الأربع جوانب ، أو فيها على اختلاف النسخ.

وعن الشيخ في موضع آخر روى الصحيحة المتقدّمة ـ في الموثّق ـ عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهم‌السلام ، قال : «لا تصلح الصلاة المكتوبة جوف الكعبة» (٢).

وعن موضع ثالث ـ في الصحيح. يضا مثله ، وزاد : «وأمّا إذا خاف فوت الصلاة فلا بأس أن يصلّيها في جوف الكعبة» (٣).

وأجيب : أمّا عن حكاية الإجماع : فبوهنه بمخالفة المشهور حتّى الحاكي في بعض كتبه (٤) الأخر ، بل لم ينقل الخلاف في المسألة إلّا عمّن سمعت.

وأمّا عن أنّ القبلة هي الكعبة بجملتها : فبأنّ القبلة ليس مجموع البنيّة ، بل

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٨٦ ، وحكاه عنه الشيخ الحرّ في الوسائل ، ذيل ح ٢ من الباب ١٧ من أبواب القبلة.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٨٣ / ١٥٩٧ ، وحكاه عنه الشيخ الحرّ في الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٥ ، بلفظ «تصلح» بدل «لا تصلح». وأيضا حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٩ كما في المتن.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ، ح ٩٥٤ وذيله ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٩ ، وأورد الرواية العاملي في الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٤) النهاية ١٠١٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٩.

٤٢

نفس العرصة وكلّ جزء من أجزائها ؛ إذ لا يمكن محاذاة المصلّي بإزائها منه إلّا قدر بدنه ، والباقي خارج عن مقابلته ، وهذا المعنى يتحقّق مع الصلاة فيها كما يتحقّق مع الصلاة في خارجها.

ونوقش في ذلك : بأنّه يجوز أن يكون المعتبر التوجّه إلى جهة القبلة بأن تكون الكعبة في جهة مقابلة المصلّي وإن لم تحصل المحاذاة لكلّ جزء منها ، فلا بدّ لنفي ذلك من دليل.

أقول : كفى دليلا لنفي هذا الاحتمال ـ أي عدم الاعتناء به ـ أصالة براءة الذمّة عن التكليف بأزيد من مسمّى الاستقبال الحاصل في الفرض بناء على ما هو التحقيق من أنّها هي المرجع عند الشكّ في الشرائط وأجزاء العبادات ، لا قاعدة الاشتغال.

ولكن لقائل أن يقول : إنّ المنساق من الأمر بالتوجّه إلى الكعبة واستقبالها في الصلاة ليس إلّا ذلك ، فلا مسرح للتمسّك بالأصل بعد ما ورد في الكتاب والسنّة من الأوامر المطلقة المتعلّقة باستقبالها والتوجّه نحوها ، الظاهرة في إرادته من الخارج.

ودعوى أنّ المتبادر منها ليس إلّا استقبال شي منها بحيث عمّ مثل الفرض مخالفة للوجدان.

اللهمّ إلّا أن يدّعى شمولها لمثل الفرض بتنقيح المناط ، لا بالأدلّة (١) اللفظيّة.

وفيه أيضا نظر ؛ لإمكان أن يكون المقصود باستقبال الكعبة تعظيمها ، و

__________________

(١) في «ض ١٦» : «بالدلالة» بدل «بالأدلّة».

٤٣

لا يبعد أن يكون جعلها أمامه في الصلاة أبلغ في التعظيم من أن يصلّي فيها ناويا به استقبال جزء منها مع كونه مستدبرا لجزء آخر.

وربما جعل بعض ذلك ـ أي لزوم الاستدبار ـ من مؤيّدات مذهب الشيخ ، بل من أدلّته ؛ ضرورة كون استدبار القبلة من منافيات الصلاة.

وفيه : أنّ الاستدبار إنّما يكون منافيا إذا كان موجبا لفوات الاستقبال الذي هو شرط للصلاة ، لا في مثل الفرض.

واحتمال كونه في حدّ ذاته من المنافيات مدفوع بالأصل ، ولكنّ المستدلّ بذلك ممّن يرى وجوب الاحتياط في الشرائط المحتملة ، فلعلّه مبنيّ على مذهبه.

وكيف كان فقد تلخّص ممّا ذكر أنّه يمكن أن يستدلّ للشيخ بإطلاق الأمر بالاستقبال ، الظاهر في إرادته من الخارج ، وإنكار ظهوره في ذلك مكابرة.

ولكن يتوجّه على الاستدلال : أنّ الإطلاق جار مجرى الغالب ، فلا ينسبق إرادته إلّا ممّن كان خارجا من الكعبة ، وأمّا من كان فيها فينصرف عنه هذا الخطاب ، وإنّما نلتزم بوجوب استقبال جزء منها ولو من فضائها بأن لم يصلّ ـ مثلا ـ عند الباب مستقبلا خارج الكعبة على وجه لم يكن بين يديه ولو في حال الركوع أو السجود شي من فضائها ؛ لما ثبت بإجماع ونحوه من وجوب استقبال شي منها في الصلاة مطلقا حتّى في مثل الفرض ، وإلّا فالأدلّة اللفظيّة ـ التي ورد فيها الأمر باستقبال الكعبة ـ قاصرة عن إفادة الاشتراط لمن يصلّي في جوفها ، فليتأمّل.

وأمّا الجواب عن الصحيحتين : فبمعارضتهما بموثّقة يونس بن يعقوب ،

٤٤

التي هي نصّ في الجواز ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حضرت الصلاة المكتوبة وأنا في الكعبة أفأصلّي فيها؟ قال : «صلّ» (١).

وما عن الشيخ من حملها على الضرورة (٢) ، في غاية البعد ، لا لمجرّد كونه تنزيلا للإطلاق على الفرد النادر ، بل لظهور استفهام السائل في إرادة اختيار إيقاع الصلاة فيها في مقابل الصلاة في خارجها ، فكأنّه قال : أفأصلّي فيها أو أخرج للصلاة؟ فكيف يصحّ حينئذ حمل إطلاق الجواب على الضرورة.

هذا ، مع أنّ تنزيل الحكم المطلق على إرادته في حال الضرورة أبعد من حمل النهي على الكراهة ، فمقتضى القاعدة حمل الصحيحتين على الكراهة ؛ جمعا بينهما وبين هذه الموثّقة التي كادت تكون صريحة في جوازها اختيارا ، كما يؤيّده فهم المشهور وفتواهم.

هذا ، مع أنّه ربما يستشعر من التعليل الواقع في الصحيحة الأولى بل يستظهر منه : الكراهة ؛ لعدم مناسبته للحرمة ، كما لا يخفى.

وأمّا الصحيحة الثانية : فالظاهر اتّحادها مع مارواه ثانيا وثالثا بلفظ «لا تصلح» الظاهر في الكراهة.

ودعوى ظهور هذه الكلمة أيضا في الحرمة ؛ نظرا إلى أنّ الصلاح ضدّ الفساد ، مدفوعة بأنّ المتبادر منها في الأخبار ليس إلّا الكراهة ، كلفظة «لا ينبغي» و

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٧٩ / ٩٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ / ١١٠٣ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٦.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٩٩ ، وحكاه عنه العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٦ من الباب ١٧ من أبواب القبلة.

٤٥

نظائرها ، فالروايات الثلاث المرويّة عن محمّد إمّا متّحدة وقد حصل الاختلاف في نقلها من الرواة بلحاظ النقل باللفظ أو بالمعنى ، أو من النّسّاخ إمّا سهوا أو لالتباس «يصلّى» بـ «يصلح» في الكتابة أو غير ذلك من أسباب الاختلاف.

وكيف كان فهي على تقدير الاتّحاد مجملة مردّد أمرها بين أن تكون بلفظ «لا يصلّى» الظاهر في الحرمة ، أو «لاتصلح» الظاهر في الكراهة فلا تنهض حجّة لإثبات أزيد من الكراهة ، وعلى تقدير تعدّد الروايات فلا تقصر الأخيرتان الظاهرتان في الكراهة عن مكافئة الأولى ، خصوصا مع أنّه رواها في الوسائل عن الشيخ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «تصلح صلاة المكتوبة جوف الكعبة» ثمّ قال : لفظة «لا» هنا غير موجودة في النسخة التي قوبلت بخطّ الشيخ ، وهي موجودة في بعض النسخ (١).

أقول : فعلى هذا هي نصّ في الجواز ، لكن لفظة «المكتوبة» في النسخة الموجودة عندي ساقطة ، والظاهر أنّه من سهو القلم.

وكيف كان فالأقوى ما هو المشهور من جوازها على كراهيّة.

لكن ربّما يؤيّد المنع لا لضرورة خبر محمّد بن عبد الله بن مروان ، قال :رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة فلم يمكنه الخروج من الكعبة ، قال : «استلقى على قفاه وصلّى (٢) إيماء» وذكر قول الله عزوجل (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣) (٤).

__________________

(١) الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٥ وذيله.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «يصلّي». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) البقرة ٢ : ١١٥.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٥٣ / ١٥٨٣ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب القبلة ، ح ٧.

٤٦

لكنّه مع ضعف سنده ممّا لم ينقل القول بمضمونه عن أحد ، فيجب ردّ علمه إلى أهله وإن كان ربّما يؤيّد مضمونه الرواية الآتية (١) الواردة في من صلّى على سطح الكعبة وإن كان العمل بتلك الرواية أيضا لا يخلو من إشكال ، كما ستعرف.

هذا كلّه في صلاة الفريضة اختيارا ، وأمّا اضطرارا فلا شبهة في جوازها ، فإنّ الصلاة لا تسقط بحال نصّا وإجماعا ، كما يشهد له أيضا ـ مضافا إلى ذلك ـ بعض الأخبار المتقدّمة (٢) ، كما أنّه لا شبهة في جواز التطوّع ، بل لا خلاف فيه ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع على استحباب النافلة فيها.

لكن عن كشف اللثام : إنّي لم أظفر بنصّ على استحباب كلّ نافلة ، وإنّما الأخبار باستحباب التنفّل لمن دخلها في الأركان وبين الأسطوانتين (٣).

أقول : فكأنّه أراد بذلك عدم دليل على استحبابها بالخصوص ، كما هو ظاهر الفتاوى ، وإلّا فيكفي في ذلك إطلاق ما دلّ على استحباب النوافل وأنّ «الصلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر» (٤) كما أنّه يكفي في إثبات استحباب مطلق النافلة فيها بالخصوص ما سمعته من نقل الإجماع بناء على قاعدة التسامح.

اللهمّ إلّا أن يكون غرض المجمعين من استحباب النافلة فيها الاستحباب

__________________

(١) في ص ٤٨.

(٢) في ص ٤٥.

(٣) كشف اللثام ٣ : ٣٠٥ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٥٠.

(٤) الخصال : ٥٢٣ / ١١ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٥٩٧.

٤٧

الثابت لطبيعة النافلة من حيث هي ، دفعا لتوهّم الكراهة ، الناشئ من ثبوتها للفريضة ، فليتأمّل.

(ولو صلّى على سطحها ، أبرز بين يديه) شيئا (منها ما يصلّي إليه) في جميع أحوال الصلاة ؛ فإنّ الاستقبال شرط في كلّ جزء منها ، فتجب رعايته على كلّ حال.

(وقيل) كما عن الصدوق في الفقيه ، والشيخ في الخلاف والنهاية ، والقاضي في المهذّب والجواهر (١) : (يستلقي على ظهره ويصلّي إلى البيت المعمور) لكن عن الأخير تقييده بما إذا لم يتمكّن من النزول (٢).

احتجّ الشيخ على ذلك في محكيّ الخلاف : بالإجماع.

وبما رواه عن عليّ بن محمّد عن [إسحاق] (٣) بن محمّد عن عبد السلام عن الرضا عليه‌السلام قال في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة ، فقال : «إن قام لم يكن له قبلة ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه إلى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء : البيت المعمور ، ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع غمّض عينيه ، فإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه ، والسجود على نحو ذلك» (٤) (٥).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٨ ، ذيل ح ٨٤٢ ، الخلاف ١ : ٤٤١ ، المسألة ١٨٨ ، النهاية : ١٠١ ، المهذّب ١ : ٨٥ ، جواهر الفقه : ٢٠ ، المسألة ٥٦ ، وكما في جواهر الكلام ٧ : ٣٥٣ ، وحكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٧.

(٢) المهذّب ١ : ٨٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٧.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «عيسى». وما أثبتناه من المصدر.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٢ / ٢١ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٦ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب القبلة ، ح ٢.

(٥) الخلاف ١ : ٤٤١ ، المسألة ١٨٨ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٢٥ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٧.

٤٨

وهذه الرواية أخصّ مطلقا ممّا دلّ على وجوب القيام والركوع والسجود وغيرها من الأفعال المنافية لهذه الكيفيّة ، فلا يصلح شي منها لمعارضة هذه الرواية. وتنزيلها على العاجز الذي فرضه الصلاة مستلقيا كما في آخر مراتب الضرورة ـ مع كونه في حدّ ذاته في غاية البعد ـ ينافيه قوله عليه‌السلام : «إن قام لم يكن له قبلة» فمقتضى القاعدة تخصيص سائر الأدلّة بها.

اللهمّ إلّا أن يناقش فيها بضعف السند ، وقصورها عن مرتبة الحجّيّة خصوصا مع إعراض المشهور عنها.

وما سمعته عن الشيخ من نقل الإجماع على مضمونها لا يصلح جابرا لضعف سندها بعد وهنه بمخالفة المشهور حتى الشيخ في مبسوطه (١) على ما حكي عنه ، فيشكل الاعتماد عليه في رفع اليد عن تلك العمومات.

فالأحوط تكرير الصلاة والإتيان بها قائما تامّة الأجزاء والشرائط وبالكيفيّة المذكورة في الرواية إن اضطرّ إلى فعلها فوق السطح ، وإلّا فالأولى والأحوط ترك فعل الفريضة فوق السطح ، بل مطلق الصلاة ؛ للنهي عنه في حديث المناهي عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصلاة على ظهر الكعبة» (٢) (و) إن كان القول (الأوّل أصحّ) بالنظر إلى ما تقتضيه الصناعة ؛ لما أشرنا إليه من عدم صلاحيّة الخبر المزبور ـ مع ما فيه من الضعف ـ لتخصيص سائر الأدلّة ، كقصور حديث المناهي عن إثبات الحرمة ، فيجوز الاجتزاء بصلاة

__________________

(١) المبسوط ١ : ٨٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٧٧.

(٢) الفقيه ٤ : ٥ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب القبلة ، ح ١.

٤٩

واحدة عن قيام لا لضرورة (ولا يحتاج أن ينصب بين يديه شيئا) حال الصلاة ؛ لما عرفت آنفا من أنّ القبلة هي الفضاء إلى السماء ، والفرض أنّه أبرز بين يديه شيئا منه (١).

خلافا للشافعي على ما حكي عنه ، فأوجبه (٢). ولا ريب في ضعفه.

(وكذا لو صلّى إلى بابها وهو مفتوح).

وقد حكي عن الشافعي (٣) في هذه الصورة أيضا المخالفة. وعن شاذان بن جبرئيل من أصحابنا موافقته (٤).

ولكن قال في الجواهر : ولا يخفى على المتأمّل في كلام شاذان في رسالته ـ المحكيّة بتمامها في البحار ـ أنّه ليس خلافا فيما نحن فيه ، بل الظاهر إرادته الكراهة من عدم الجواز ، كما في غير الكعبة من الأبواب المفتوحة ؛ لأنّه قد صرّح بجواز الصلاة في العرصة مع فرض زوال البنيان ، وصرّح بجوازها على السطح ، سواء كان بين يديه سترة من نفس البناء أو لا ، وغير ذلك ممّا هو كالصريح فيما ذكرنا ، فلاحظ وتأمّل (٥). انتهى.

(ولو استطال صفّ المأمومين في المسجد) الحرام (حتى خرج بعضهم عن سمت الكعبة ، بطلت صلاة ذلك البعض) لما عرفت فيما سبق

__________________

(١) أي : من البيت الحرام.

(٢) الأم ١ : ٩٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٥٥.

(٣) الأم ١ : ٩٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٥٥.

(٤) إزاحة العلّة عن معرفة القبلة ضمن بحار الأنوار ٨٤ : ٧٦ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٥٥.

(٥) جواهر الكلام ٧ : ٣٥٥ ـ ٣٥٦ ، وراجع : إزاحة العلّة ضمن بحار الأنوار ٨٤ : ٧٦ و ٧٧.

٥٠

من اعتبار مقابلة عين الكعبة عند مشاهدتها حقيقة أو حكما.

ولو استداروا ، صحّت ، كما يأتي شرح ذلك إن شاء الله في بحث الجماعة.

(وأهل كلّ إقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الذي على جهتهم ، فأهل العراق إلى العراقي ، وهو الذي فيه الحجر ، وأهل الشام إلى الشامي ، والمغرب إلى المغربي ، واليمن إلى اليماني) إذ لا تتحقّق المقابلة بينهم وبين الكعبة إلّا بما يسامتهم منها ، فهذا في الحقيقة بيان لما هم عليه في الواقع.

ولا تترتّب على تحقيقه ثمرة فرعيّة ؛ ضرورة أنّه يكفي لمن شاهد الكعبة حقيقة أو حكما استقبال جزء منها أيّ جزء يكون ، ومن لم يشاهدها يستقبل جهتها بالرجوع إلى الأمارات المؤدّية لاستقبال عينها أو جهتها ، أو استقبال الحرم أو المسجد أو جهتهما على الخلاف الذي عرفته فيما سبق من غير إناطة الحكم بكون الأمارات مؤدّية إلى استقبال طرف منها دون الآخر ، لكنّ الأمر في الواقع كما ذكر ؛ فإنّ المقابل للعراق ليس إلّا الطرف المشتمل على الركن العراقي ، وهكذا أهل سائر الأقاليم.

(وأهل العراق ومن والاهم) وسامتهم إذا أرادوا معرفة القبلة ، فلهم ـ على ما ذكره المصنّف رحمه‌الله وغيره (١) ، بل ربما نسبه بعض (٢) إلى الأصحاب ـ علائم ثلاث :

__________________

(١) كالعلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ٢٦.

(٢) الشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ١٩٥ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٢٨ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨٨.

٥١

الأولى : أنّهم (يجعلون الفجر) أي المشرق (على المنكب الأيسر) وهو مجمع العضد والكتف (والمغرب على الأيمن.

و) الثانية : يجعلون (الجدي) وهو مكبّر ، وربما يصغّر ليتميّز عن البرج المسمّى بهذا الاسم (محاذي خلف المنكب الأيمن) لا طرفه المقابل للمغرب.

(و) الثالثة : يجعلون (عين الشمس عند زوالها) وميلها عن دائرة نصف النهار (على الحاجب الأيمن). واعترض غير واحد على الأصحاب ـ الذين ذكروا هذه العلائم الثلاث لأهل العراق ـ : بعدم المناسبة بينها ؛ فإنّ مقتضى الأولى والثالثة : استقبال نقطة الجنوب ، ومقتضى الثانية : الانحراف عن نقطة الجنوب إلى طرف المغرب بمقدار معتدّ به.

وتنزيل كلماتهم على إرادة كون مجموع العلائم علامة لمجموع أهل العراق على سبيل الإجمال ، فتكون الأولى والثالثة علامة لبعضهم ، والثانية للباقين في غاية البعد.

والتزامهم باغتفار هذا المقدار من الاختلاف وعدم كونه قادحا في تشخيص السمت الذي يرونه قبلة للبعيد أيضا بعيد خصوصا مع تصريحهم بوضع الجدي خلف المنكب ، وعدم إشعار في كلامهم بالرخصة في وضعه بين الكتفين ، كما هو مقتضى الأمارتين الأخريين ، بل بعضهم (١) قيّده بحال ارتفاعه أو

__________________

(١) الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ١٥٥ ، والمقاصد العليّة : ١٩٤ ، والحاشية على الألفيّة ـ المطبوعة مع المقاصد العليّة ـ : ٤٩٩.

٥٢

انخفاضه كي يكون على دائرة نصف النهار ، مع أنّ الاختلاف الناشئ من اختلاف أحوال الجدي يسير.

أقول : ولكنّك خبير بأنّ غفلتهم عن هذا الاختلاف الفاحش أبعد ، فالظاهر أنّ جمعهم بين العلائم الثلاث ليس منشؤه إلّا بناؤهم على كفاية استقبال الجهة ، وعدم كون هذا المقدار من الاختلاف قادحا في تحقّق الاستقبال المعتبر في الصلاة ونحوها ، فكأنّهم ذكروا العلائم الثلاث لأن يتمكّن المكلّف في جميع أوقات الصلوات لدى الحاجة إلى معرفة القبلة من تشخيص جهتها ، فإذا أراد تشخيصها لصلاة الصبح ، يجعل المشرق ـ الذي يميّزه ببياضه أو حمرته ـ على يساره ، والمغرب على يمينه. ولعلّ عدول المصنّف رحمه‌الله عن التعبير بالمشرق إلى الفجر للإيماء إلى ذلك. وإذا أراد تشخيصها للظهرين ، فبالعلامة الأخيرة ، ومتى أراد تشخيصها للعشاءين أو لصلاة الليل ، فبالثانية.

وحيث إنّ الجدي كوكب محسوس ، ووضعه محاذيا لخلف المنكب ـ الذي فيه مظنّة الأقربيّة إلى مقابلة العين ـ أمر ميسور فلا ينبغي العدول عنه ، فلذا اعتبروا فيه كونه كذلك ، لا أنّه لا يجزئ إلّا ذلك.

وأمّا العلامتان الأخريان فتشخيص موضوعهما لدى الحاجة إليهما لا يكون غالبا إلّا على سبيل الحدس والتقريب ، فلا يتميّز بهما غالبا إلّا مطلق الجهة التي لا يعتبر لغير المتمكّن من مشاهدة العين حقيقة أو حكما إلّا مقابلتها ، فلم يعتبروا فيهما هذا النحو من التدقيقات كبعض العلائم الأخر التي سنشير إليها.

٥٣

وبما ذكرنا ظهر أنّ ما ذكره بعض (١) ـ من حمل المشرق والمغرب في كلماتهم على الاعتداليّين ـ لا يخلو من نظر ؛ لما أشرنا إليه من أنّ غرضهم ـ بحسب الظاهر ـ لم يتعلّق بذكر هذه العلائم إلّا لاستعمالها في موارد الحاجة في البراري والصحاري ونحوها من الموارد التي يتعذّر فيها غالبا تشخيص الاعتداليّين.

وكيف كان فالأقوى أنّه لا يعتبر للبعيد الغير المتمكّن من العلم باستقبال العين أزيد من تشخيص القبلة بمثل هذه العلائم المورثة للعلم بجهتها بالمعنى الذي عرفته فيما سبق.

وقد ذكر غير واحد لأهل العراق أيضا علائم أخر ، كجعل القمر على الحاجب الأيمن ليلة السابع عند الغروب ، وإحدى وعشرين عند الفجر ، وسهيل عند طلوعه مقابل المنكب الأيسر.

وذكروا لأهالي سائر الأقاليم علائم أخر مستخرجة من هذه العلائم بعد ملاحظة أوضاع بلادهم ، ومن غيرها من القواعد المبتنية على علم الهيئة من أرادها فليطلب من أهل خبرته.

ولم يصل إلينا نصّ في هذا الباب لتشخيص قبلة شي من البلدان ، عدا بعض الأخبار الواردة في الجدي.

كموثّقة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن القبلة ، قال : «ضع الجدي في قفاك وصلّ» (٢).

__________________

(١) العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٢٨.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٧ ، الهامش (٣).

٥٤

ومرسلة الصدوق ، قال : قال رجل للصادق عليه‌السلام : إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل ، فقال : «أتعرف الكوكب الذي يقال له : الجدي؟» قلت :نعم ، قال : «اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك» (١).

وخبر إسماعيل بن [أبي] (٢) زياد ـ المرويّ عن تفسير العيّاشي ـ عن جعفر ابن محمّد عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٣) قال : هو الجدي ، لأنّه [نجم] (٤) لا يزول ، وعليه بناء القبلة ، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر» (٥).

وعنه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٦) قال : «ظاهر وباطن ، الجدي عليه [تبنى] (٧) القبلة ، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر ، لأنّه نجم لا يزول» (٨).

نعم ، في صحيحتي زرارة ومعاوية بن عمّار ، المتقدّمتين (٩) في صدر المبحث تحديد القبلة بما بين المشرق والمغرب.

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٣٧ ، الهامش (٣).

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) النحل ١٦ : ١٦.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٦ / ١٢ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب القبلة ، ح ٣.

(٦) النحل ١٦ : ١٦.

(٧) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «بني». وما أثبتناه من المصدر.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٦ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٩) في ص ١٤.

٥٥

ولكنّك عرفت أنّه لا بدّ من ارتكاب التأويل فيهما بالحمل على ما إذا لم يمكن تشخيصها في سمت أقرب من ذلك.

وأمّا الأخبار الواردة في الجدي : فما عدا الأوّلين (١) منها مسوق في مقام الإرشاد والتنبيه على أنّ الجدي كوكب لا يزول ، أي ثابت في موضعه الخاصّ ، ولا يتغيّر مكانه تغيّرا فاحشا ، فبه يهتدي كلّ من يقصد التوجّه إلى سمت في برّ أو بحر ، وهذا لا يجدي فيما نحن بصدده.

وأمّا الخبران الأوّلان : فهما وإن كانا مسوقين لبيان علامة القبلة وكيفيّة الاهتداء إليها بالجدي لكنّهما أيضا لا يخلوان من إجمال ؛ ضرورة أنّ وضع الجدي في القفا أو على اليمين ليس علامة لمعرفة القبلة على الإطلاق ، فالروايتان واردتان بحسب ما يقتضيه حال السائل ، فلا يصحّ الاستشهاد بهما ما لم يحرز الموضع الذي هو محطّ نظر السائل.

نعم ، يستكشف من إطلاق الأمر بالاعتماد على علامة واحدة في جواب من قال : إنّي رجل مسافر : ابتناء الأمر على التوسعة.

وربّما ينزّل موثّقة محمّد بن مسلم على إرادة قبلة العراق بقرينة كون السائل ـ أي محمّد بن مسلم ـ عراقيّا كوفيّا ، فعلى هذا تنطبق هذه الرواية على سائر العلامات التي ذكروها لأهل العراق ممّا كان مقتضاها استقبال نقطة الجنوب إن كان المراد بوضعه في القفا جعله بين الكتفين ، دون ما ذكروه في الجدي من وضعه خلف المنكب الأيمن ، وإن كان المراد به الإطلاق بحيث عمّ مثل ذلك ، لكان

__________________

(١) أي : موثّقة محمّد بن مسلم ومرسلة الصدوق ، المتقدّمتين في ص ٥٤ ـ ٥٥.

٥٦

مقتضاه جواز جعله خلف المنكب الأيسر أيضا ، فيقتضي كون جهة القبلة في غاية السعة بحيث يقرب من ربع الدائرة ، ولا يظنّ بأحد الالتزام به عدا من زعم أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة مطلقا ، وقد عرفت ضعفه ، فالأولى إمّا الحكم بإجمال الرواية ، أو حملها على إرادة ما بين الكتفين ، كما لعلّه المتبادر منه ، فتنطبق على سائر العلائم.

وأمّا ما ذكروه في الجدي من وضعه خلف المنكب الأيمن : فلعلّه مبنيّ على ما تقتضيه قواعد الهيئة بالنسبة إلى بعض نواحي العراق ، فأطلقوا القول بذلك في العراق كلّه ، نظرا إلى كفايته في إحراز الجهة في جميع نواحيها.

واستدلّ بعض (١) لذلك ببناء مسجد الكوفة ، الذي هو من المشاعر العظام المعلوم وجوده في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، وصلاة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه ، وهو يوافق هذه العلامة.

ولكن قد يشكل ذلك بعدم ثبوت كونه بهذا الوضع في السابق ، مع أنّ الظاهر كونه مبنيّا بأمر خلفاء الجور ، ولم يثبت أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام صلّى فيه من غير تياسر ، بل الظاهر أنّه كان يتياسر حتّى اشتهر عند شيعته استحباب التياسر ، كما يفصح عن ذلك بعض الأخبار الآتية.

(و) ربما جعل بعض بناء هذه المساجد على غير جهة القبلة قرينة لتوجيه الأخبار الواردة ـ بحسب الظاهر ـ في أهل العراق ، الدالّة بظاهرها على أنّه

__________________

(١) الشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ١٩٧.

٥٧

(يستحبّ لهم التياسر إلى يسار المصلّي منهم قليلا).

كخبر المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة ، وعن السبب فيه ، فقال : «إنّ الحجر الأسود لمّا أنزل من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال كلّه اثنا عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة» (١).

ومرفوع عليّ بن محمّد ، قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : لم صار الرجل ينحرف في الصلاة إلى اليسار؟ فقال : «لأنّ للكعبة ستّة حدود : أربعة منها على يسارك ، واثنان على يمينك ، فمن أجل ذلك وقع التحريف على اليسار» (٢).

وعن نهاية الشيخ قال : من توجّه إلى القبلة من أهل العراق والمشرق قاطبة فعليه أن يتياسر قليلا ليكون متوجّها إلى الحرم ، بذلك جاء الأثر عنهم عليهم‌السلام (٣). انتهى.

وعن الفقه الرضوي : «إذا أردت توجّه القبلة فتياسر مثل (٤) ما تتيامن ، فإنّ الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال» (٥).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٦ ، الهامش (٣).

(٢) الكافي ٣ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٤٤ / ١٤١ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القبلة ، ح ١.

(٣) النهاية : ٦٣ ، وحكاه عنه العاملي في الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القبلة ، الرقم ٣.

(٤) في البحار : «مثلي».

(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٨ ، وحكاه عنه المجلسي في بحار الأنوار ٨٤ : ٥٠ / ٥.

٥٨

وربّما استظهر من العبارة المتقدّمة عن نهاية الشيخ ـ كخلافه والجمل والوسيلة (١) ـ : الوجوب ، كما استظهر ذلك أيضا من المبسوط حيث قال : ويلزم أهل العراق (٢) ، إلى آخره.

ولكن الظاهر أنّ مرادهم الاستحباب ، كما هو صريح المتن وغيره ، بل لعلّه المشهور ـ كما ادّعاه في الجواهر (٣) ـ نقلا وتحصيلا.

وكيف كان فالقول بالوجوب ـ على تقدير تحقّقه ـ ضعيف ؛ لقصور الأخبار عن إفادته ، بل ربما منع غير واحد من المتأخّرين استحبابه أيضا أو تردّد فيه إمّا لضعف سند الروايات كما في المدارك ، فإنّه بعد نقل الخبرين الأوّلين قال : والروايتان ضعيفتا السند جدّا ، والعمل بهما لا يؤمن معه الانحراف الفاحش عن حدّ القبلة وإن كان في ابتدائه يسيرا (٤). انتهى ، أو لأجل الإشكال الذي أورده سلطان المحقّقين نصير الملّة والدين قدس‌سره ـ على ما حكي (٥) عنه ـ على المصنّف رحمه‌الله لمّا حضر مجلس درسه يوما واتّفق الكلام في هذه المسألة من أنّ التياسر أمر إضافيّ لا يتحقّق إلّا بالإضافة إلى صاحب يسار متوجّه إلى جهة ، فإن كانت تلك الجهة محصّلة ، لزم التياسر عمّا وجب التوجّه إليه ، وهو حرام ؛ لأنّه خلاف مدلول الآية ، وإن لم تكن محصّلة ، لزم عدم إمكان التياسر ؛ إذ تحقّقه

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢٩٧ ، المسألة ٤٢ ، الجمل والعقود (ضمن الرسائل العشر) : ١٧٦ ، الوسيلة : ٨٥.

(٢) المبسوط ١ : ٧٨.

(٣) جواهر الكلام ٧ : ٣٧٤.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ١٣٠.

(٥) الحاكي هو ابن فهد الحلّي في المهذّب البارع ١ : ٣١٢ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨٥.

٥٩

موقوف على تحقّق الجهة التي يتياسر عنها ، فكيف يتصوّر الاستحباب!؟ بل المتّجه حينئذ وجوب التياسر المحصّل لها ، فأجابه المصنّف رحمه‌الله في المجلس ـ على ما قيل (١) ـ بجواب إقناعي ، ثمّ كتب في المسألة رسالة في تحقيق الجواب ، فاستحسنه المحقّق المزبور.

وذكر في الحدائق أنّ ابن فهد نقل الرسالة المزبورة بعينها إلى كتابه المهذّب ، من أحبّ الوقوف على ذلك فليراجع الكتاب المزبور (٢).

وذكر بعض أنّ المصنّف رحمه‌الله بنى في تلك الرسالة هذا الحكم على القول بأنّ القبلة للبعيد الحرم (٣) ، فيشكل الالتزام حينئذ بذلك إن لم نقل بكون الحرم قبلة ، بل قد يشكل على هذا القول أيضا ؛ نظرا إلى أنّ الأمارات المنصوبة لتشخيص القبلة إن كانت مؤدّية إلى محاذاة عين الكعبة ، فالانحراف اليسير في العراق يوجب البعد الكثير عنها بحيث يخرج عن محاذاة الحرم أيضا ، وإلّا فلا يجدي ، ولذا قيل : جواب المصنّف رحمه‌الله غير حاسم لمادّة الإشكال (٤).

ويمكن التفصّي عن ذلك : بأنّ الأمارات المنصوبة للبعيد لا يحرز بها محاذاة العين حتّى يشكل الانحراف اليسير ، وإنّما يحرز بها السمت الذي يكون استقباله استقبالا للكعبة عند عدم مشاهدة العين بنحو من الاعتبار العرفي.

وقد أشرنا مرارا إلى أنّ الانحراف اليسير غير قادح في صدق استقبال

__________________

(١) القائل هو البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨٥.

(٢) الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨٥ ، وراجع : المهذّب البارع ١ : ٣١٢ ـ ٣١٧.

(٣) صاحب الجواهر فيها ٧ : ٣٧٥.

(٤) المجلسي في بحار الأنوار ٨٤ : ٥٣ كما حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٣٨٦.

٦٠