مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

وأمّا ما تقدّمه فهو بظاهره ظاهر الانطباق على القول المحكيّ عن القاضي (١) ؛ ولكنّه لا يصلح دليلا لإثباته بعد إعراض المشهور عن ظاهره ، مع ما فيه من ضعف السند ، والمعارضة بما عرفت.

ويحتمل قويّا جريه مجرى التقيّة ؛ فإنّه نسب القول بذلك ـ في محكيّ المنتهى ـ إلى مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وأصحاب الرأي وأكثر الفقهاء (٢) ، ويؤيّدها أيضا كون راويه ـ وهو الحسين بن علوان ـ على ما قيل (٣) عامّيّا.

والمراد بالقبل ـ كما صرّح به في الحدائق (٤) وغيره (٥) ـ الذكر والبيضتان ، وبالدّبر حلقة الدّبر التي هي نفس المخرج.

ويشهد لذلك ـ مضافا إلى أنّه هو المتبادر منهما عرفا ـ مرسلة أبي يحيى ، المتقدّمة (٦).

__________________

(١) راجع : الهامش (٣) من ص ٣٩٩.

(٢) منتهى المطلب ٤ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٧ ، وراجع : بداية المجتهد ١ : ١١٤ ، وعيون المجالس ١ : ٣٠٩ ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف ١ : ٢٦٠ ، والذخيرة ٢ : ١٠٢ ، والمعونة ١ : ٢٢٩ ، والأم ١ : ٨٩ ، والحاوي الكبير ٢ : ١٧٢ ، والمهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٧١ ، والوجيز ١ : ٤٨ ، والوسيط ٢ : ١٧٤ ، وحلية العلماء ٢ : ٦٢ ، والتهذيب ـ للبغوي ـ ٢ : ١٥٠ ، والعزيز شرح الوجيز ٢ : ٣٤ ، وروضة الطالبين ١ : ٣٨٩ ، والمجموع ٣ : ١٦٨ و ١٦٩ ، والمغني ١ : ٦٥١ ، والشرح الكبير ١ : ٤٩٠ ، والهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ٤٣ ، والاختيار لتعليل المختار ١ : ٥٧.

(٣) القائل هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٧.

(٤) الحدائق الناضرة ٧ : ٦.

(٥) كالذكرى ٣ : ٧ ، والبيان : ١٢٤ ، وجامع المقاصد ٢ : ٩٣ و ٩٤ ، وروض الجنان ٢ : ٥٧٦ ، ومدارك الأحكام ٣ : ١٩١ ، وكفاية الأحكام : ١٦.

(٦) في ص ٣٩٩.

٤٠١

ثمّ إنّ ظاهر الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ التسالم على أنّه لا يجب على الرجل أن يستر في الصلاة أزيد ممّا يجب عليه ستره عن الناظر المحترم ، أي عورته ، بل ربما يظهر من كلماتهم في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة كونه من المسلّمات التي يكاد يلحق بالضروريّات ، فالخلاف في المقام بحسب الظاهر إنّما هو في تحديد العورة ، فمن زعم أنّه يجب عليه ستر ما بين السّرّة والركبة ذهب إلى أنّ مجموعه عورة ؛ استنادا إلى بعض الأخبار التي عرفتها مع ما فيها.

واحتمال التزامه بذلك في باب الصلاة من باب التعبّد لا لأجل كون المجموع عورة ، مع مخالفته لما حكوه عنه ، مدفوع : بأنّه لا دليل عليه بالخصوص في باب الصلاة ، كما أنّه لا دليل على ما حكي عن أبي الصلاح من وجوب ستر ما بين السّرّة إلى نصف الساق (١) ، سواء أراد به الوجوب التعبّدي أو من باب كون مجموع هذه المسافة عورة ، ولهذا احتمل في الجواهر (٢) رجوع هذا القول إلى القول السابق بالالتزام بوجوب الستر إلى نصف الساق من باب المقدّمة لا بالأصالة.

وكيف كان فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى ضعفه في حدّ ذاته على كلّ تقدير ـ منافاته لما رواه الصدوق في الفقيه عن أبي بصير أنّه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما يجزئ الرجل من الثياب أن يصلّي فيه؟ فقال : «صلّى الحسين بن علي عليهما‌السلام في ثوب قد قلص (٣) عن نصف ساقه وقارب ركبتيه ليس على منكبيه منه إلّا قدر جناحي الخطّاف ، وكان إذا ركع سقط عن منكبيه ، وكلّما سجد يناله عنقه فردّه

__________________

(١) راجع : الهامش (٤) من ص ٣٩٩.

(٢) جواهر الكلام ٨ : ١٨٤.

(٣) قلص الثوب : انضمّ وانزوى. لسان العرب ٧ : ٧٩ «قلص».

٤٠٢

على منكبيه بيده ، فلم يزل ذلك دأبه ودأبه مشتغلا به حتّى انصرف» (١) فإنّه نصّ في عدم اعتبار كون الثوب الذي يصلّي فيه الرجل واصلا إلى نصف الساق ، كما أنّه يدلّ على عدم وجوب ستر المنكبين ، وإلّا لم يكن يصلّي الحسين عليه‌السلام في مثل هذا الثوب الذي كان يسقط عن منكبيه حال الركوع.

فما في غير واحد من الأخبار من الأمر بجعل شي‌ء على عاتقه لو صلّى في سراويل ونحوه ممّا لا يستر المنكبين ـ كقوله عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن مسلم ، المتقدّمة (٢) في صدر المبحث : «إذا لبس السراويل فليجعل على عاتقه شيئا ولو حبلا» ومرفوعة عليّ بن محمّد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل يصلّي في سراويل ليس معه غيره ، قال : «يجعل التكّة على عاتقه» (٣) وصحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل ليس معه إلّا سراويل ، قال : «يحلّ التكّة منه فيطرحها على عاتقه ويصلّي» قال : «وإن كان معه سيف وليس معه ثوب فليتقلّد السيف ويصلّي قائما» (٤) وخبر جميل قال : سأل مرازم أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا معه حاضر ـ عن الرجل الحاضر يصلّي في إزاره مؤتزرا به ، قال : «يجعل على رقبته منديلا أو عمامة يتردّى به» (٥) ـ محمول على الاستحباب.

وكذا ما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «أدنى ما يجزئك أن

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٧ / ٧٨٤ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١٠.

(٢) في ص ٣٧٣.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٥ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ١٦٦ / ٧٨٢ ، التهذيب ٢ : ٣٦٦ / ١٥١٩ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩٥ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٣٦٦ / ١٥١٨ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

٤٠٣

تصلّي فيه بقدر ما يكون على منكبيك مثل جناحي الخطّاف» (١) محمول على الفضل ، بشهادة ما عرفت وغيره من الأخبار الدالّة على عدم وجوب ستر المنكبين أصلا.

مثل : خبر رفاعة عمّن سمع أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي في ثوب واحد يأتزر به ، قال : «لا بأس به إذا رفعه إلى الثديين» (٢).

وفي الحدائق بعد نقل الخبر كما ذكر قال : هكذا في التهذيب ، وفي الكافي : «إلى الثندوتين» بدل «الثديين» والثندوة بالمثلّثة : لحم الثديين أو أصله (٣).

وفي رواية سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «الرجل إذا اتّزر بثوب واحد إلى ثندوته صلّى فيه» (٤).

وما يفهم من هاتين الروايتين من المنع عن الصلاة في الثوب الواحد الذي يأتزر به إذا لم يرفعه إلى الثديين يحمل على الكراهة ؛ إذ لا قائل بحرمته بحسب الظاهر.

ويشهد له ـ مضافا إلى ذلك ـ صحيحة (٥) محمّد بن مسلم وغيرها من الأخبار الدالّة على جواز الصلاة في سراويل واحد ولو مع الاختيار ، كما هو ظاهر بعضها إن لم يكن صريحه ؛ إذ المتبادر منها إرادة لبسه على حسب ما هو المتعارف فيه ، وهو من السّرّة أو ما دونه ، فهذه الأخبار كادت تكون صريحة في عدم

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٦ / ٧٨٣ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٥ / ٩ ، التهذيب ٢ : ٢١٦ / ٨٤٩ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

(٣) الحدائق الناضرة ٧ : ٢٥.

(٤) الكافي ٣ : ٤٠١ / ١٥ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٥) تقدّمت الصحيحة في ص ٣٧٣.

٤٠٤

وجوب ستر ما فوق السّرّة عدا أنّه وقع فيها الأمر بجعل شي‌ء على عاتقه ، وقد عرفت آنفا أنّه محمول على الاستحباب.

وليس في تلك الأخبار إشعار بوجوب ستر ما يستره السراويل كي يتوهّم إمكان الاستشهاد بها للقول بوجوب ستر ما بين السّرّة إلى الركبة أو إلى نصف الساق ، فإنّها ليست مسوقة لبيان هذا الحكم ، فقضيّة الأصل عدم وجوب ستر ما عدا القبل والدّبر ، فيجوز أن يصلّي الرجل عريانا إذا ستر قبله ودبره ولكن (على كراهية) كما يدلّ عليه خبرا رفاعة وسفيان ، المتقدّمان (١).

ويؤيّده أيضا إطلاق اسم العورة على ما بين السّرّة والركبة في خبر الحسين بن علوان ، المتقدّم (٢).

وربما يستدلّ له : بالخروج عن شبهة الخلاف.

وهو لا يخلو عن وجه بعد البناء على المسامحة.

ويستحبّ له ستر سائر البدن الذي يعتاد ستره في المتعارف ، وهو الرأس وما تحت الرقبة إلى القدمين على حسب المتعارف ؛ لقوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٣).

والنبوي : «إذا صلّى أحدكم فليلبس ثوبيه ، فإنّ الله أحقّ أن يتزيّن له» (٤).

وخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ أنّه سأل أخاه

__________________

(١) في ص ٤٠٤.

(٢) في ص ٤٠٠.

(٣) الأعراف ٧ : ٣١.

(٤) المعجم الأوسط ـ للطبراني ـ ٩ : ٢٥٠ / ٩٣٦٨.

٤٠٥

موسى عليه‌السلام عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في سراويل وهو يصيب ثوبا؟ قال : «لا يصلح» (١).

ولو صلّى في ثوب واحد ، فالأفضل أن يعقده على عنقه.

كما يشهد له قوله عليه‌السلام في الخبر المرويّ عن الخصال : «تجزئ الصلاة للرجل في ثوب واحد يعقد طرفيه على عنقه ، وفي القميص الصفيق يزرّه [عليه]» (٢).

وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «أدنى ما يجزئك أن تصلّي فيه بقدر ما يكون على منكبيك مثل جناحي الخطّاف» (٣).

ولو اتّزر به ممّا دون ذلك أو صلّى في سراويل ، فالأولى أن يجعل على عاتقه شيئا ولو حبلا يرتدي به ، كما دلّت عليه المستفيضة المتقدّمة (٤).

(وإذا لم يجد ثوبا) يستر به القبل والدّبر (سترهما بما وجده ولو بورق الشجر) أو الحشيش ونحوه ، كما يدلّ عليه صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا وحضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال : «إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود ، وإن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم» (٥).

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٩١ / ٧١٧ ، الوسائل ، الباب ٥٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧.

(٢) الخصال : ٦٢٧ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٤٠٤ ، الهامش (١).

(٤) في ص ٣٧٣ و ٤٠٣.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٦٥ / ١٥١٥ ، و ٣ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ / ٩٠٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٤٠٦

ولا يخفى عليك أنّ تخصيص الحشيش بالذكر جار مجرى التمثيل بلحاظ أنّه هو الغالب فيما يوجد في مفروض السائل ، وإلّا فلا خصوصيّة له قطعا ، كما يفصح عن ذلك قوله عليه‌السلام عند بيان حكم نقيضه : «وإن لم يصب شيئا» إلى آخره ، فهذا ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في أنّ جواز الستر بالحشيش ونحوه مخصوص بحال الضرورة ، أم يعمّ حال الاختيار؟ فقد اختلفت كلماتهم في ذلك.

فذهب غير واحد إلى جواز التستّر بكلّ شي‌ء يتحقّق به الستر حتّى الطلي بالطين ونحوه اختيارا من غير فرق بين الثوب والحشيش والورق والطين وغيره ، بل ربما نسب هذا القول إلى المشهور (١).

والتزم بعض (٢) بالترتيب بين الثوب وغيره ، فلم يجوّز الستر بما عدا الثوب لدى التمكّن منه ، وعند تعذّره أجاز الستر بكلّ شي‌ء حتّى الطين.

وعن بعضهم أنّه جعل الطين متأخّرا عن غيره في الرتبة مع التزامه بتقدّم الثوب على ما عداه من الحشيش ونحوه (٣).

وفي الجواهر (٤) قوّى عدم الفرق بين الثوب وغيره في جواز الستر به اختيارا ، كما نسب إلى المشهور ، ولكن لم ير الطلي بالطين ونحوه من مصاديق الستر المعتبر في الصلاة وإن تحقّق به الاستتار عن الناظر المحترم ، كالاختفاء في

__________________

(١) كما في مستند الشيعة ٤ : ٢٢٦ ، ونسبه إلى الأكثر المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢١٢.

(٢) كالشهيد في البيان : ١٢٥.

(٣) الدروس ١ : ١٤٨ ، روض الجنان ٢ : ٥٧٧ ـ ٥٧٨ ، مسالك الافهام ١ : ١٦٧ ، غاية المرام ١ : ١٣٥ ، وحكاه عنها وعن غيرها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٧٤.

(٤) جواهر الكلام ٨ : ١٨٦ ـ ١٨٩.

٤٠٧

مكان مظلم أو الارتماس (١) في ماء وشبهه ممّا لا يخرج به الإنسان عرفا عن مصداق كونه عاريا ، ولكنّه مختف عن أعين الناظرين.

نعم ، لو حصل الستر بالطين على حسب ما يحصل الستر بغيره من الأشياء المنفصلة عن الجسد لا على سبيل الطلي ، اتّجه الاجتزاء به اختيارا كغيره.

ثمّ إنّه قد جعل غير واحد منهم من مصاديق الستر النزول في الوحل والرمس في الماء والدخول في حبّ أو تابوت أو حفيرة ونحوها ، وطال التشاجر فيما بينهم في تشخيص مراتب هذه الأشياء وكونها في عرض الطلي بالطين ، أو متأخّرة عنه في الرتبة ، أو متقدّمة عليه.

والتحقيق ما حقّقه في الجواهر (٢) من أنّه لا خصوصيّة للثوب لا في حقّ الرجل ولا في حقّ المرأة ، وذكره في النصوص والفتاوى جار مجرى العادة ، فالمدار على لبس ما يستر به جسد المرأة وعورة الرجل ممّا تجوز الصلاة فيه من غير فرق بين كونه ثوبا أو ورقا أو حشيشا أو جلدا أو قرطاسا أو قطنا أو صوفا منسوجا أو غير منسوج ، ولكن لا يكفي الطلي بالطين وأشباهه ، فلنا في المقام دعويان.

الأولى : أنّه لا فرق فيما يتحقّق به الستر بين مصاديقها التي لا يكون التلبّس بها من حيث هي ممنوعا عنه في الصلاة ، كالمتنجّس وأجزاء ما لا يؤكل لحمه.

الثانية : أنّه لا عبرة بالتلطّخ بالطين ونحوه أو الغور في الماء أو النزول في الوحل أو الدخول في الحفيرة والحبّ وأشباهه في حصول الستر المعتبر في

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : «ارتماس».

(٢) جواهر الكلام ٨ : ١٨٧.

٤٠٨

الصلاة.

لنا على الأولى : الأصل بعد منع ما يدلّ على اعتبار خصوص الثوب لدى التمكّن منه ؛ إذ لا شاهد عليه من نقل أو عقل.

ودعوى : أنّ المتبادر من إطلاق ما دلّ على اشتراط الستر في الصلاة إرادة الفرد الشائع المتعارف ، وهو الستر بالثوب ، ولا ينافيها وجوب الستر بغيره لدى التعذّر إمّا لاستفادته من الأدلّة الخاصّة الدالّة عليه ، أو لدعوى أنّ الستر بما عدا الثوب من حشيش ونحوه أيضا متعارف ولكنّه عند تعذّر الثوب ونحوه ، فالترتّب بين المصاديق عرفيّ تتنزّل عليه إطلاقات الأدلّة. هذا ، مع ما ورد في المرأة من الأخبار الدالّة عليه ، كصحيحة (١) زرارة ، الدالّة على أنّ أدنى ما تصلّي المرأة فيه درع وملحفة ، وغيرها من الأخبار الدالّة بظاهرها على اعتبار تستّرها بالثوب لدى الإمكان ، فيتمّ في غيرها بعدم القول بالفصل ، مدفوعة : بأنّه ليس فيما بأيدينا من الأدلّة إطلاق لفظيّ مسوق لبيان هذا الحكم كي يدّعى انصرافه إلى المتعارف المعهود ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وعلى تقدير التسليم فلا نسلّم انصرافه إلى نوع معهود ؛ فإنّ المتبادر من الأمر بستر العورة ليس إلّا إرادة ماهيّة الستر من حيث هي.

ولو سلّم الانصراف فهو بدويّ منشؤه أنس الذهن بالمتعارف ، ولذا لا يشكّ أحد في جواز التستّر بالألبسة المستحدثة التي لا تندرج في مسمّى الثوب.

وأمّا الأخبار الواردة في المرأة ـ كصحيحة زرارة وغيرها ـ فلم يقصد بها

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٣٨٢ ، الهامش (٢).

٤٠٩

الخصوصيّة لما تضمّنتها من الدرع والملحفة والخمار وغير ذلك ممّا اشتملته تلك الأخبار ، كما عرفته في محلّه ، فتخصيص ما تضمّنته تلك الأخبار بالذكر جار مجرى العادة ، وعلى تقدير إرادته بالخصوص ـ كما هو ظاهر بعضها ـ فمحمول على الاستحباب.

والحاصل : أنّ غاية ما يمكن استفادته من الأدلّة إنّما هو اعتبار ماهيّة الستر من حيث هي في الصلاة ، وأمّا اعتبار كونه بشي‌ء خاصّ ـ أي بالثوب ـ لدى التمكّن منه ، أو بكيفيّة خاصّة فلا يكاد يفهم من شي‌ء منها أصلا.

نعم ، قد يوهمه عبائر الأصحاب في فتاويهم وبعض معاقد إجماعاتهم المحكيّة ، كما في المتن وغيره ؛ حيث علّقوا الستر بورق الشجر والحشيش على ما إذا لم يجد ثوبا ، فيستشعر منه الاشتراط.

ولكنّك خبير بجري الشرطيّة مجرى العادة ، فلا يفهم منها التعليق ، بل المتأمّل في كلماتهم لا يكاد يشكّ في عدم إرادتهم الاشتراط ، كما أوضحه في الجواهر (١).

وكيف كان فلا دليل عليه ، والأصل ينفيه ، بناء على ما هو التحقيق من جريان أصالة البراءة في مثل المقام ، لا قاعدة الشغل ، كما زعمه غير واحد.

ولنا على الدعوى الثانية : أنّ المنساق من الأخبار الواردة في المرأة ، وكذا من صحيحة (٢) عليّ بن جعفر ، الواردة في العاري ، وغيرها من الأدلّة : أنّه يعتبر في صحّة الصلاة اختيارا أن لا يكون المصلّي عاريا ، بل لابسا لما يستر رأسه وجسده

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٤٠٦ ، الهامش (٥).

٤١٠

من درع ومحلفة أو ما هو بمنزلتهما في الساتريّة إن كان امرأة ، أو لما يستر عورته من ثوب أو حشيش أو غير ذلك إن كان رجلا ، ومن الواضح أنّه لا يخرج الشخص بطلي الطين أو الحنّاء ونحوه عن مصداق اسم العاري ، فكما يفهم من قوله عليه‌السلام : «أدنى ما تصلّي المرأة فيه درع وملحفة» (١) بطلان صلاتها حال كونها مكشوفة الجسد ، كذلك يفهم منه بطلان صلاتها عند عرائها عن اللباس وإن لطخت الطين أو الحنّاء على سائر جسدها ، أو وقفت في ماء كدر.

ولا ينافي ذلك ما ادّعيناه من أنّ ذكر الدرع والملحفة أو الخمار وغير ذلك في النصوص من باب المثال ؛ ضرورة أنّ الطين والماء ونحوه ليس شبه المذكورات في صيرورة الشخص بواسطته خارجا عن مصداق اسم العاري ، وكذا لا يكاد يخطر في الذهن إرادة مثل الطين والوحل والماء من عموم «الشي‌ء» في قوله عليه‌السلام في صحيحة (٢) عليّ بن جعفر : «وإن لم يصب شيئا يستر به عورته» كيف! ولو كان الطلي بالطين فضلا عن الغور في الماء ونحوه من مصاديق الستر المعتبر في الصلاة ، للزم تنزيل الأخبار المستفيضة الواردة في كيفيّة صلاة العاري جماعة وفرادى على الفرض النادر ؛ إذا الغالب تمكّنه من تحصيل ما يطلي على عورته من طين ونحوه ولو بمزج شي‌ء من التراب في فضالة طهوره بل في الماء الذي يتوضّأ به عند عدم الكفاية لهما ، فإنّ رعاية الستر أهمّ من الطهارة المائيّة ، كما لا يخفى وجهه.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في عدم حصول الستر المعتبر في الصلاة

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٨٢ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٤٠٦ ، الهامش (٥).

٤١١

بطلي الطين ونحوه.

نعم ، لا يبعد الاكتفاء بذلك في الستر الذي قصد به حفظ الفرج عن النظر ؛ حيث إنّ المقصود بالستر في ذلك الباب مجرّد المنع عن تعلّق الرؤية بالعورة ، سواء خرج بذلك عن مصداق العاري أم لا ، وهذا المعنى يحصل بالطلي بالطين ، كما يحصل بالستر باليدين وبالأليتين وبالبعد المفرط أو الاستتار في مكان مظلم ، وهذا بخلاف هذا المقام الذي يكون لبس الساتر من حيث هو مطلوبا بالذات ، ولا يكفي فيه مجرّد الستر بمعنى الاختفاء عن النظر ، كما في ذلك الباب ، فالاستشهاد للاجتزاء به في المقام بأخبار النورة لا يخلو عن نظر.

هذا ، مع أنّ الالتزام بكفاية طلي الطين أو النورة وأشباهه في ذلك الباب أيضا على إطلاقه لا يخلو عن إشكال ؛ لإمكان منع مساعدة العرف على إطلاق حفظ الفرج بمجرّد طلي الطين عليه ، إلّا أن يكون ما عليه من الطين من الكثرة بحيث يكون بمنزلة جسم مستقلّ مانع عن ظهور العورة لونا وحجما ، فتكون العورة حينئذ كالمدفونة ، فلا يبعد الالتزام بكفايته حينئذ في باب الصلاة أيضا.

ولعلّ أخبار النورة أيضا صدرت في مثل هذا الفرض ، فلا يستفاد منها كفاية مطلق الطلي ؛ لكونها حكاية فعل مجمل ، والله العالم.

(ومع عدم ما يستر به يصلّي عريانا) بلا خلاف في ذلك نصّا وفتوى ، إنّما الخلاف في أنّه هل يصلّي قائما مطلقا ، أو جالسا مطلقا ، أو (قائما إن كان يأمن أن يراه أحد ، وإن لم يأمن صلّى جالسا).

٤١٢

فعن السيّد المرتضى وغيره : أنّه يصلّي جالسا مومئا وإن أمن المطّلع (١).

وعن ابن إدريس أنّه يصلّي قائما مومئا في الحالين (٢).

ونسب التفصيل إلى المشهور (٣) ، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا (٤) ، وعن الغنية الإجماع عليه (٥).

والأصل في الخلاف اختلاف الأخبار ، ففي بعضها : «يصلّي قائما» على الإطلاق ، وفي بعضها : «يصلّي جالسا» كذلك ، وفي بعضها التفصيل.

فما يدلّ على أنّه يصلّي قائما : قوله عليه‌السلام في صحيحة عليّ بن جعفر ، المتقدّمة (٦) : «وإن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم».

وفي ذيل صحيحة ابن سنان ، المتقدّمة (٧) في المسألة السابقة : «وإن كان معه سيف وليس معه ثوب فليتقلّد السيف ويصلّي قائما».

وموثّقة سماعة ـ على ما عن التهذيب ـ في رجل يكون في فلاة من الأرض ليس عليه إلّا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء ، قال : «يتيمّم ويصلّي عريانا قائما ويومئ إيماء» (٨).

__________________

(١) جمل العلم والعمل : ٨٥ ، الفقيه ١ : ٢٩٦ ، ذيل ح ١٣٥٢ ، المقنعة : ٢١٦ ، التهذيب ٣ : ١٧٨ / ٤٠٣ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٧٦.

(٢) السرائر ١ : ٢٦٠ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٩٤.

(٣) نسبه إلى المشهور العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١١٦ ، المسألة ٥٧.

(٤) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٥٥ ، المسألة ١١٤ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٧٦.

(٥) الغنية : ٩٢ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٧٦.

(٦) في ص ٤٠٦.

(٧) في ص ٤٠٣.

(٨) التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٧١ ، وكذا في الاستبصار ١ : ١٦٨ / ٥٨٢ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

٤١٣

ولكن عن الكافي عوض «قائما» : «قاعدا» (١).

فهذه الرواية مضطربة المتن لا تنهض حجّة لأحد القولين لو لم نقل بأنّ ما في الكافي أوثق.

وممّا يدلّ على أنّه يصلّي جالسا صحيحة زرارة أو حسنته ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه ولم يجد شيئا يصلّي فيه ، فقال : «يصلّي إيماء ، وإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها ، وإن كان رجلا وضع يده على سوأته ثمّ يجلسان فيومئان إيماء ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما ، تكون صلاتهما إيماء برؤوسهما» قال : «وإن كانا في ماء أو بحر لجّي لم يسجدا عليه ، وموضوع عنهما التوجّه فيه ، يومئان في ذلك إيماء ورفعهما توجّه ووضعهما بوجهه (٢)» (٣).

وخبر أبي البختري ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما‌السلام أنّه قال : «من غرقت ثيابه فلا ينبغي له أن يصلّي حتى يخاف ذهاب الوقت ، يبتغي ثيابا ، فإن لم يجد صلّى عريانا جالسا يومئ إيماء ، يجعل سجوده أخفض من ركوعه ، فإن كانوا جماعة تباعدوا في المجالس ثمّ صلّوا كذلك فرادى» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٦ / ١٥ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) في الطبعة الحجريّة على كلمة «بوجهه» علامة نسخة بدل ، وهي لم ترد في الكافي والموضع الثاني من التهذيب ، وبدلها في الموضع الثاني منه : «توجّه».

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧ / ١٦ ، التهذيب ٢ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ / ١٥١٢ ، و ٣ : ١٧٨ / ٤٠٣ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

(٤) قرب الإسناد : ١٤٢ / ٥١١ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٤١٤

وخبر محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلّا ثوب واحد وأصاب ثوبه منيّ ، قال : «يتيمّم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا فيصلّي فيومئ إيماء» (١).

ويدلّ عليه أيضا الأخبار الآتية الواردة في كيفيّة صلاتهم (٢) جماعة.

وممّا يشهد للتفصيل : ما رواه ابن مسكان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يخرج عريانا فتدركه الصلاة ، قال : «يصلّي عريانا قائما إن لم يره أحد ، فإن رآه أحد صلّى جالسا» (٣).

ولعلّ هذه الرواية هي المرادة بما أرسله في الفقيه ، قال : وروي في الرجل يخرج عريانا فتدركه الصلاة أنّه «يصلّي عريانا قائما إن لم يره أحد ، فإن رآه أحد صلّى جالسا» (٤).

وصحيحة عبد الله بن مسكان ـ المرويّة عن محاسن البرقي ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل عريان ليس معه ثوب ، قال : «إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائما» (٥).

وعن نوادر الراوندي أنّه روى بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ / ١٢٧٨ ، و ٢ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ / ٨٨٢ ، الاستبصار ١ : ١٦٨ / ٥٨٣ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٢) أي : العراة.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦٥ / ١٥١٦ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

(٤) الفقيه ١ : ١٦٨ / ٧٩٣ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٥) المحاسن : ٣٧٢ / ١٣٥ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧.

٤١٥

قال : «قال عليّ عليه‌السلام : في العريان إن رآه الناس صلّى قاعدا ، وإن لم يره الناس صلّى قائما» (١).

ومقتضى الجمع بين الأخبار تنزيل الإطلاقات على ما في هذه الأخبار المفصّلة ، كما ربما يؤيّد ذلك ورود جلّ الأخبار التي ورد فيها الأمر بالصلاة جالسا في الموارد التي من شأنها عدم الأمن من المطّلع ، فما عن المشهور هو الأقوى.

ولكن قد يشكل ذلك بأنّ الذي يظهر من الأخبار هو التفصيل بين ما لو رآه أحد أو لم يره ، فلا يكفي في جواز الجلوس مجرّد احتمال وجود من يراه ، أو احتمال مجيئه في أثناء الصلاة ، وهذا بظاهره مخالف لظاهر ما هو المعروف من المشهور من التفصيل بين أمن المطّلع وعدمه ؛ لأنّه يصدق عدم الأمن في الصورتين المزبورتين.

ويمكن تنزيل النصوص على إرادة الشأنيّة ، أي كونه في مكان صالح لأن يراه الناس ، أي غير مأمون من اطّلاعهم ، كما يؤيّد ذلك فهم الأصحاب وفتواهم ، بل لعلّه هو المنساق إلى الذهن من قوله عليه‌السلام في صحيحة (٢) ابن مسكان : «إذا كان حيث لا يراه أحد».

ويحتمل بعيدا إرجاع كلمات المشهور إلى ما لا ينافي ظاهر الأخبار.

وكيف كان فلا ينبغي ترك الاحتياط في الصورتين المزبورتين بالجمع بين الصلاة قائما وقاعدا وإن كان الأوّل لا يخلو عن قوّة ، والله العالم.

__________________

(١) النوادر : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ / ٤٥٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٨٣ : ٢١٢ / ١.

(٢) تقدّمت الصحيحة في ص ٤١٥.

٤١٦

ثمّ إنّ المنساق من النصوص والفتاوى إرادة من لا يجوز له النظر إلى عورته من المطّلع ، فلا يعمّ الزوجين وشبههما على تأمّل ، والله العالم.

(وفي الحالين يومئ للركوع والسجود).

وربما يستشعر من إطلاق المتن عدم الفرق بين ما لو صلّى منفردا أو جماعة ، وستعرف أنّ الأقوى اختصاص هذا الحكم بغير المأمون ، بل قد يقال باختصاص رعاية القيام حال الأمن أيضا بالمنفرد دون المصلّي جماعة ، إماما كان أم مأموما ، فإنّه يصلّي عن جلوس مطلقا ، أمن من المطّلع أم لا ؛ لإطلاق ما يدلّ عليه. ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، كما سنشير إليه عند التكلّم في كيفيّة صلاة العراة جماعة.

وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في وجوب الإيماء بالركوع والسجود لغير المأموم في حالة الجلوس ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة.

وأمّا في حالة القيام فقد نسب إلى الأكثر أيضا القول بوجوب الإيماء (١).

وعن صريح بعض (٢) وظاهر آخرين القول بالركوع والسجود.

والأوّل أظهر ، كما يدلّ عليه صحيحة عليّ بن جعفر ، المتقدّمة (٣) التي كادت تكون صريحة في ذلك خصوصا بعد الالتفات إلى مقابلة قوله عليه‌السلام : «وإن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ وهو قائم» بما هو مذكور قبل هذه الفقرة من أنّه

__________________

(١) نسبه إلى الأكثر النراقي في مستند الشيعة ٤ : ٢٣١.

(٢) كالسيّد ابن زهرة في الغنية : ٩٢ ، وحكاه عنه النراقي في مستند الشيعة ٤ : ٢٣٢.

(٣) في ص ٤٠٦.

٤١٧

«إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود» كما لا يخفى.

واستدلّ للقول بوجوب الركوع : بالأصل ، وبأنّ القيام لا يكون إلّا في حال الأمن ، ومعه لا وجه لتركهما.

وفي الأوّل ما لا يخفى ، سواء أريد بالأصل الاستصحاب ، أو عمومات أدلّة الركوع والسجود ؛ إذ لا مجال للتشبّث بشي‌ء منهما في مقابل النصّ الخاصّ الذي هو بمنزلة الحاكم على العمومات.

وأمّا الثاني فهو بظاهره أوضح فسادا من الأوّل ؛ لكونه اجتهادا في مقابلة النصّ.

ولكنّه قد بالغ في تأييده وتشييده في الجواهر (١) بإيراد شواهد ومؤيّدات لإثبات إلغاء شرطيّة الستر في الصلاة من حيث هي في حقّ العاري ، وأنّه لا تجب رعايته إلّا من حيث الحفظ عن النظر ، وهو مخصوص بصورة عدم الأمن ، فالشارع أوجب الجلوس والإيماء للركوع والسجود في حال عدم الأمن ؛ لذلك ، لا لحصول شرط الصلاة ، فمع الأمن لا مقتضي لترك الركوع والسجود.

وفيه ـ بعد الغضّ عن بعض الخدشات المتوجّهة على ما ذكره من الشواهد والمؤيّدات ـ : أنّ مقتضاها طرح الصحيحة المزبورة من غير معارض مكافئ ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فتأمّل.

وليكن الإيماء برأسه ؛ فإنّه هو المتبادر من الأمر به بدلا عن الركوع والسجود ، مضافا إلى وقوع التصريح به في حسنة زرارة ، المتقدّمة (٢) ، فلا يكفي

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٢١٠ ـ ٢١٢.

(٢) في ص ٤١٤.

٤١٨

الإيماء بالعينين غمضا وفتحا لدى التمكّن من الإيماء بالرأس.

نعم ، يكتفى به لدى التعذّر ؛ لكونه من مراتب الإيماء ، التي لا يسقط ميسورها بمعسورها بمقتضى قاعدة الميسور.

مضافا إلى إمكان استفادته بتنقيح المناط من مرسلة محمّد بن إبراهيم ، الواردة في المريض ، التي رواها المشايخ الثلاثة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «يصلّي المريض قائما ، فإن لم يقدر على ذلك صلّى قاعدا ، فإن لم يقدر صلّى مستلقيا يكبّر ثمّ يقرأ فإذا أراد الركوع غمّض عينيه ثمّ سبّح فإذا سبّح فتح عينيه ، فيكون فتح عينيه رفع رأسه من الركوع ، فإذا أراد السجود غمّض عينيه ثمّ سبّح فإذا سبّح فتح عينيه ، فيكون فتح عينيه رفع رأسه من السجود ، ثمّ يتشهّد وينصرف» (١).

وما فيها من إطلاق الأمر بالتغميض منزّل على صورة العجز عن الإيماء بالرأس ، كما يأتي تحقيقه في محلّه إن شاء الله.

بل يمكن استفادته أيضا من الأدلّة المطلقة الآمرة بالإيماء ؛ فإنّ انصرافها إلى كونه بالرأس إنّما هو مع التمكّن ، كما أنّ صحيحة زرارة أيضا منزّلة على هذا التقدير ، فهذا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، كما أنّه لا ينبغي الاستشكال في الاكتفاء بمسمّى الإيماء بالرأس بدلا عن الركوع والسجود في الحالين ، ولكنّ الأحوط بل الأقوى أن يجعل سجوده أخفض من ركوعه ، كما حكي (٢) عن الأصحاب

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤١١ / ١٢ ، الفقيه ١ : ٢٣٥ / ١٠٣٣ ، التهذيب ٣ : ١٧٦ / ٣٩٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١٣.

(٢) الحاكي هو الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٣.

٤١٩

التصريح به ، وشهد به خبر أبي البختري ـ المتقدّم (١) ـ وغيره ممّا ستسمعه في مبحث القيام عند التكلّم في تكليف العاجز.

ولا يجب على من صلّى قائما أن يجلس حال الإيماء للسجود ، بل يومئ للسجود وهو قائم ، كما هو ظاهر صحيحة (٢) عليّ بن جعفر إن لم يكن صريحها.

فما عن السيّد عميد الدين ـ من أنّه كان يقوّي جلوس القائم ليومئ للسجود جالسا ؛ نظرا إلى كونه حينئذ أقرب إلى هيئة الساجد ، فيدخل تحت قوله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم» (٣) (٤) ـ ضعيف محجوج بما عرفت ، مضافا إلى ما اعترضه عليه جملة من المتأخّرين (٥) ـ على ما حكي (٦) عنهم ـ من أنّ الوجوب حينئذ انتقل إلى الإيماء ، فلا معنى للتكليف بالممكن من السجود. وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله.

نعم ، لو قال بذلك في الركوع أيضا ، لأمكن أن يستشهد له بما قد يتراءى من قوله عليه‌السلام في حسنة زرارة ، المتقدّمة (٧) : «ثمّ يجلسان فيومئان» إلى آخره ، فليتأمّل.

ونظيره في الضعف ما عن الشهيد في الذكرى من أنّه أوجب الانحناء فيهما

__________________

(١) في ص ٤١٤.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٤٠٦ ، الهامش (٥).

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٥ / ٤١٢.

(٤) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٣.

(٥) منهم : المجلسي في بحار الأنوار ٨٣ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٦) الحاكي هو البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٤٤.

(٧) في ص ٤١٤.

٤٢٠