مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

منه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام بعينه» (١) (٢). انتهى.

وقال أيضا في مبحث الخلل في شرح قول المصنّف رحمه‌الله في الفرع الثالث : «إذا لم يعلم أنّه من جنس ما يصلّى فيه وصلّى ، أعاد» : هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب. وحكى استدلال العلّامة عليه أيضا ، ثمّ قال : ويمكن المناقشة فيه : بالمنع من ذلك ؛ لاحتمال أن يكون الشرط ستر العورة بما لا يعلم تعلّق النهي به (٣). انتهى.

أقول : كأنّه قدس سرّه زعم أنّ ما هو المعتبر في ماهيّة الصلاة من حيث هي هو مطلق الستر ، واشتراط كونه ممّا يؤكل لحمه نشأ من تعلّق النهي بالصلاة في غير المأكول ، فيختصّ اعتباره بما إذا تنجّز الخطاب بالاجتناب عنه ، وهو لا يكون إلّا مع العلم ، كما هو الشأن في سائر الشرائط المنتزعة من الأحكام التكليفيّة ، كإباحة اللباس ونحوه ، الناشى‌ء اعتبارها في صحّة الصلاة من النهي عن الغصب ، فتخيّل أنّ النهي المتعلّق بالصلاة في غير المأكول نهي نفسيّ سيق لبيان الحكم التكليفي ، واستفادة الاشتراط نشأت من امتناع كون العبادة محرّمة ، فتختصّ بصورة تنجّز التكليف.

ويحتمل أن يكون ملتزما بأنّ المتبادر من ذلك النهي ليس إلّا إرادة الحكم الوضعي ، أعني بطلان الصلاة الواقعة في غير المأكول ، ولكن يدّعى انصرافه إلى

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٧ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ١٦٧.

(٣) مدارك الأحكام ٤ : ٢١٤.

٢٤١

صورة العلم بالموضوع ، لا لدعوى أنّ الألفاظ أسامي للمعاني المعلومة ، بل بدعوى أنّ المتبادر عرفا من النهي عن شي‌ء إرادة المنع عن أفراده المعلومة ، أو أنّ محطّ نظره فيما ادّعاه ـ من عدم ثبوته إلّا مع العلم ـ ما شاع في ألسنة بعض المتأخّرين من التفصيل بين ما لو وقع التعبير عن جزئيّة شي‌ء أو شرطيّته بصيغة الأمر والنهي أو بصيغة الإخبار ، فعلى الثاني يثبت اعتباره في ماهيّة المشروط على الإطلاق ، وعلى الأوّل يختصّ اعتباره بغير صورة الجهل والنسيان ونظائرهما.

ولكن قد ينافي هذا الاحتمال استشهاده بالصحيحة التي لا ينساق منها إلّا إرادة الحكم التكليفي ، فليتأمّل.

ويحتمل أيضا أن يكون نظره إلى التفصيل بين الشرط والمانع ، فيجب في الأوّل إحرازه في مقام الامتثال ، ويكفي في الثاني عدم العلم بتحقّقه ، فرأى طبيعة الستر من حيث هي شرطا ، ووقوع الصلاة في غير المأكول من الموانع ، فلا تثبت مانعيّته إلّا مع العلم.

ولكن يبعّد هذا الاحتمال أيضا ـ كسابقه ـ استشهاده بالصحيحة ، بل قد ينافيه ما ذكره في مبحث الخلل حيث عبّر عنه بلفظ الشرط (١) ، فليتأمّل.

وكيف كان فإن أراد الأوّل ـ كما هو الظاهر ـ ففيه أوّلا : أنّ دليل المنع غير منحصر ـ في النواهي المتعلّقة بالصلاة ـ في غير المأكول ، بل عمدته موثّقة (٢) ابن بكير ، التي وقع فيها التصريح بفساد الصلاة الواقعة على الإطلاق ، ولكن صاحب

__________________

(١) راجع الهامش (٣) من ص ٢٤١.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٠٠ ، الهامش (٢).

٢٤٢

المدارك حيث لا يعتمد على الموثّقة لا يتوجّه عليه هذا الاعتراض.

وثانيا : أنّ المتبادر من النواهي أيضا ليس إلّا ما أفاده الموثّقة من كونها مسوقة لبيان الحكم الوضعي ؛ فإنّ هذا هو المنساق إلى الذهن من الأوامر والنواهي المتعلّقة بكيفيّات العمل.

وثالثا : سلّمنا أنّ المتبادر منها إرادة الحكم التكليفي ـ أعني الحرمة النفسيّة ـ ولكن نقول : اختصاص الشرطيّة المستفادة منها بصورة العلم إنّما هو فيما إذا كانت المسألة من باب اجتماع الأمر والنهي ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، التي لا مانع عن تعلّق التكليف بها إلّا مزاحمة جهة الغصب بحيث لو لا المزاحمة لكانت مأمورا بها بالفعل ، وأمّا ما نحن فيه فهو من قبيل النهي في العبادات ، وقد تقرّر في محلّه أنّ تعلّق النهي ببعض أفراد العبادة كاشف عن خروج ذلك الفرد عمّا تعلّق به حكم تلك العبادة ، فلو قال الشارع : صلّ ، ثمّ قال : لا تصلّ في الحرير ، يكون كلامه الثاني مخصّصا لإطلاق كلامه الأوّل وكاشفا عن أنّ مراده بالأمر بالصلاة هو الصلاة في غير الحرير ، فلو صلّى في الحرير غافلا أو ناسيا ، لم تصحّ ؛ فإنّه وإن لم يتنجّز في حقّه النهي ولكن عمله غير مأمور به ، وهذا بخلاف مسألة الاجتماع ، التي نشأ البطلان من قبل المزاحمة ، وتمام التحقيق موكول إلى محلّه.

وإن أراد ما احتملناه في عبارته من دعوى الانصراف ، ففيه : أنّ هذه الدعوى وإن صدرت من بعض في مطلق النواهي الشرعيّة لكنّها عارية عن الشاهد ، بل الشواهد بخلافها ؛ فإنّ المتبادر من تحريم الخمر ، مثلا ـ سواء كان بصيغة النهي أو بلفظ الحرمة ـ إنّما هو إرادة ما هو خمر في الواقع ، وإحراز

٢٤٣

الموضوع ـ كالعلم بالحكم ـ شرط عقليّ لتنجّز التكليف لا لتحقّقه.

وأمّا التفصيل بين ما ثبت اعتباره بصيغة الإخبار أو الإنشاء : فبعد الغضّ عن فساده في حدّ ذاته كما تقرّر في محلّه ، وأنّ الموثّقة التي هي الأصل في هذا الباب هي بصيغة الإخبار ، أنّ هذا التفصيل إنّما يجدي في حقّ الغافل والناسي ونحوهما ، لا في حقّ الملتفت ، كما فيما نحن فيه.

وأمّا التفصيل بين الشرط والمانع : فقد يقال : إنّه أيضا ممّا لا يرجع إلى محصّل ؛ لأنّ عدم المانع أيضا شرط لا بدّ من إحرازه في مقام الإطاعة ؛ ضرورة أنّ الشكّ في اقتران الصلاة بما ينافيها شكّ في صحّتها وموافقتها للأمر ، فلا يحصل الجزم بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به يقينا إلّا على تقدير إحراز انتفاء الموانع.

نعم ، كثيرا مّا يكون عدم المانع موافقا للأصل ، بخلاف الشرائط الوجوديّة المأخوذة من أجزاء المقتضي ، وهذا غير مجد في المقام ؛ فإنّه إن أمكن إحراز عدم كون ما يصلّى فيه ممّا لا يؤكل بالأصل اجتزى‌ء به ، سواء سمّي ذلك العدم شرطا ، أو وجود غير المأكول مانعا ، وإلّا فالإطاعة مشكوكة لا محالة ، سواء قلنا بأنّ وجود غير المأكول مانع أو عدمه شرط ، ومن الواضح أنّه لا يمكن إحراز عدم وقوع الصلاة في غير المأكول بالأصل ؛ إذ ليس له حالة سابقة معلومة.

نعم ، لو استفيد من أخبار المنع أنّ المعتبر في الصلاة هو أن لا يستصحب المصلّي وقت ما يصلّي شيئا ممّا لا يؤكل لحمه بحيث يكون عدم الاستصحاب صفة معتبرة في المصلّي ، أمكن إحرازه بالأصل ؛ فإنّ المصلّي قبل تلبّسه بالمشكوك لم يكن مستصحبا لغير المأكول ، فتستصحب حالته السابقة التي أثرها

٢٤٤

جواز الدخول في الصلاة ، كما أنّه لو استفيد من الأدلّة اعتباره صفة في لباس المصلّي بأن يكون مفادها أنّه يشترط فيما يلبسه المصلّي أن لا يكون من غير المأكول ولا مصاحبا لغير المأكول ، جرى الأصل بالنسبة إلى ما على الثوب من الشعرات الملقاة أو الرطوبات المشتبهة ، لا بالنسبة إلى أصله لو كان من حيث هو مشتبه الحال.

ولكنّك خبير بأنّ المتبادر من الأدلّة إنّما هو اعتباره في الصلاة ؛ فإنّ المتبادر من المنع عن الصلاة في غير المأكول هو المنع عن إيقاع الصلاة فيه ، لا عن استصحابه حال الصلاة أو عن مصاحبته للّباس ، فهي ـ بمقتضى ظواهر الأدلّة ـ من قيود نفس الصلاة ، لا المصلّي أو لباسه كي يمكن إحرازه بالأصل في صورة الشكّ ، ولا أقلّ من إجمال الأدلّة وعدم ظهورها في كونه قيدا للمصلّي أو لباسه حتّى يدّعى إمكان إحرازه بالأصل ، ومجرّد احتماله غير مجد في مقام الإطاعة ، كما هو واضح.

هذا ، ولكن يتوجّه على ما ذكر أنّه مبنيّ على اعتبار عدم استصحاب غير المأكول قيدا إمّا للصلاة أو للمصلّي أو لما يصلّى فيه ، وهو عبارة أخرى عن الاشتراط ، فهذا التفصيل إنّما يتّجه على تقدير استفادة الشرطيّة من الأخبار الناهية عن الصلاة في غير المأكول ، وأمّا إن قلنا بأنّ مفادها ليس إلّا مانعيّة لبس غير المأكول أو مطلق التلبّس به عن صحّة الصلاة ، فلا مجال لهذا الكلام ؛ فإنّ عدم استصحاب غير المأكول على هذا التقدير لم يؤخذ قيدا في شي‌ء من المذكورات ؛ إذ لا أثر لعدم المانع من حيث هو ، فإنّ المانع ما كان وجوده مؤثّرا في البطلان ، لا

٢٤٥

عدمه دخيلا في الصحّة ، فتسمية عدم المانع شرطا مسامحة ، كيف! وقد جعلوه قسيما للشرط.

نعم ، هو شرط عقليّ بمعنى أنّ العقل ينتزع من مانعيّة الوجود شرطيّة العدم ، فيراه من أجزاء العلّة بنحو من الاعتبار ، لا على سبيل الحقيقة ؛ إذ لا يعقل أن يكون العدم جزءا من شي‌ء حقيقة ، فصحّة الصلاة وسقوط الأمر المتعلّق بها من آثار الإتيان بأجزائها جامعة للشرائط المعتبرة في قوام ذاتها عند انتفاء ما يؤثّر في فسادها ، فالمعتبر في صحّة الصلاة هو أن لا يوجد المانع عنها حين فعلها ، فعدم وجود المانع حال فعل الصلاة هو الشرط في صحّتها ، وهو موافق للأصل ، لا اتّصافها بوجودها بلا مانع كي يقال : إنّ هذا ممّا ليس له حالة سابقة حتّى تستصحب ، واستصحاب عدم وجود ما يمنع عن فعل الصلاة أو عدم استصحاب المصلّي لما لا يؤكل لحمه غير مجد في إثباته ؛ لعدم الاعتداد بالأصول المثبتة ، ولو أمعنت النظر فيما بيّنّاه وجها لحجّيّة الاستصحاب عند التكلّم في الشكّ في وجود الحاجب في باب الوضوء في مسألة من توضّأ وكان بيده سير أو خاتم (١) ، وكذا لو تأمّلت فيما حقّقناه في آخر كتاب الطهارة عند البحث عن جريان أصالة عدم التذكية في الجلد المشكوك كونه من الميتة (٢) ، لحصل لك مزيد إذعان وزيادة بصيرة في تنقيح مجاري الأصول.

فالمهمّ في المقام ـ على ما ذكرناه ـ هو البحث عن أنّه هل يستفاد من

__________________

(١) راجع ج ٣ ، ص ٦٠.

(٢) راجع ج ٨ ، ص ٣٧٦.

٢٤٦

الأخبار اعتبار عدم التلبّس بغير المأكول قيدا في شي‌ء من المذكورات كي يجرى على منواله ، أم لا يستفاد منها إلّا أنّ وجود غير المأكول مع المصلّي وتلبّسه به مخلّ بصلاته ومانع عن صحّتها؟

فأقول : قد أشرنا آنفا إلى أنّ المتبادر من الأوامر والنواهي المتعلّقة بكيفيّات العبادات إرادة الحكم الوضعي من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والفساد ، ولكن كثيرا مّا يعبّر عمّا يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط إن كان بصيغة الإنشاء بلفظ الأمر ، وعن الموانع بلفظ النهي ، فالمنساق إلى الذهن من النهي عن التكتّف في الصلاة أو لبس غير المأكول أو التكلّم والقهقهة وأشباه ذلك ليس إلّا إرادة أنّ إيجاد هذه الأشياء من حيث هي في الصلاة يخلّ بها ويفسدها ، لا أنّ عدمها من حيث هو اعتبر قيدا في ماهيّتها ، وهذا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه.

ولكن هذا فيما إذا تعلّق النهي بإيقاع فعل آخر في الصلاة ، كما في الأمثلة المزبورة ؛ حيث إنّ ظاهره كون ذلك الفعل ـ الذي تعلّق النهي به ـ مفسدا ، وأمّا إذا تعلّق النهي بالصلاة المقيّدة بقيد ، كما فيما نحن فيه ـ حيث إنّه ورد في جلّ الأخبار النهي عن الصلاة في غير المأكول ، لا عن لبسه حال الصلاة ـ فربّما يتأمّل في دلالته على مانعيّة القيد الذي بملاحظته تعلّق النهي بها ؛ حيث إنّ المتبادر من النهي عن الصلاة في غير المأكول ونظائره ليس إلّا إرادة فساد تلك الصلاة ، وهو أعمّ من أن يكون منشؤه وجود ذلك القيد أو فقد شرط ملزوم له ، فلو قال : لا تصلّ مستدبر القبلة ، أو مكشوف العورة ، لا يستفاد منه إلّا فساد الصلاة مع الاستدبار وكشف

٢٤٧

العورة ، وأمّا أنّه لذاتهما أو لما هو ملزوم لهما ـ وهو فوات الاستقبال والستر ـ فلا دلالة عليه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المتبادر من هذا التركيب أيضا ليس إلّا مانعيّة ذلك القيد ، وأنّ الفساد ينشأ منه بنفسه ، لا ممّا هو ملزوم له.

نعم ، معهوديّة شرطيّة الاستقبال وستر العورة قد تمنع في مثل المثالين عن هذا الظهور ، فلو لا هذه المعهوديّة لم يكن مجال للتأمّل في ظهور المثالين أيضا في ذلك ، بل مع هذه المعهوديّة أيضا قد يدّعى دلالتهما عليه.

وربما يؤيّد إرادة المانعيّة من أخبار الباب ـ مضافا إلى ما ذكر ـ ما في بعض الأخبار من تعليل المنع عن الصلاة في غير المأكول بأنّ «أكثره مسوخ» (١) فإنّ ظاهره أنّ كونه كذلك منقصة فيه مقتضية لعدم لبسه في الصلاة ، فوجوده مخلّ بها ، لا أنّ عدمه من حيث هو اعتبر قيدا في صحّتها.

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في أنّ مفاد أخبار الباب بأسرها ليس إلّا مانعيّة التلبّس بغير المأكول حال الصلاة عن صحّتها ، لا شرطيّة عدمه وإن كان قد يدّعى ظهور قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن بكير ، المتقدّمة (٢) : «لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله» في الشرطيّة.

لكن يدفعه أنّ وقوع الصلاة فيما أحلّ الله تعالى أكله ليس بشرط فيها بلا شبهة ؛ ضرورة جواز الصلاة في القطن والكتّان ، فالمراد بقوله عليه‌السلام : «حتّى يصلّى في غيره» إلى آخره ، بحسب الظاهر بيان وجوب إعادة الصلاة التي صلّاها

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢١٤ ، الهامش (٤).

(٢) في ص ٢٠٠.

٢٤٨

في وبر غير المأكول وشعره وجلده وروثه وألبانه ، وتقييد الصلاة بكونها في غيره ممّا أحلّ الله أكله مبنيّ على فرض تلبّسه بأجزاء الحيوان ، فأريد بذلك بيان وجوب كون ما يصلّى فيه على تقدير كونه من الحيوان ممّا يحلّ أكله ، فوجوب كونه من حلال الأكل مشروط بتلبّسه حال الصلاة ، ولكن تلبّسه في حدّ ذاته ليس بشرط في الصلاة.

فمحصّل هذا الاشتراط الترخيص في لبس ما يحلّ أكله في الصلاة دون غيره ، لا شرطيّته لها ، فهذا ممّا يؤكّد مانعيّة غير المأكول ، ولا يثبت شرطيّة عدمه من حيث هو ، حيث إنّ مقتضاه أنّ التلبّس بغير المأكول مضرّ دون التلبّس بالمأكول.

نعم ، ربما يحتمل أن يكون المراد بما أحلّ الله تعالى أكله ما عدا ما لا يؤكل لحمه مطلقا بحيث يعمّ مثل القطن والكتّان ، فيكون التعبير بما أحلّ الله أكله ؛ للجري مجرى العادة في مقام التعبير بلحاظ المقابلة ومناسبة المقام ، فعلى هذا التقدير يمكن إبقاء «حتى يصلّى في غيره» على ظاهره من الشرطيّة بالنظر إلى ما يعتبر وجوده في الصلاة من الساتر.

ولكن هذا الاحتمال ـ مع مخالفته للظاهر ـ لا يناسب جعل هذه الفقرة غاية لعدم قبول الصلاة الواقعة في الأشياء المعدودة من أجزاء ما لا يحلّ أكله من روثه وألبانه وبوله ، كما لا يخفى ، ولا أقلّ من عدم ظهور الرواية في هذا المعنى كي يصحّ الاستدلال بها لإثبات اعتبار أمر زائد على ما استفدناه من الأخبار الناهية.

وربما يستدلّ للقول بالجواز في المشكوك إذا كان مأخوذا من يد

٢٤٩

المسلمين وسوقهم : بالأخبار الدالّة على جواز الصلاة فيما يشترى من السوق ، المتقدّمة في آخر كتاب الطهارة عند البحث عن حكم جلود الميتة (١).

وفيه : أنّ تلك الأخبار مسوقة لبيان عدم الاعتناء باحتمال كون ما يشترى من السوق غير مذكّى ، لا مطلق الاحتمالات المنافية لجواز الصلاة فيه خصوصا إذا لم يكن المحتمل على تقدير تحقّقه منافيا لإسلام البائع ، ككون الثوب المتّخذ منه منسوجا من وبر الأرانب أو حريرا محضا أو غير ذلك ممّا يجوز بيعه واستعماله في الجملة ، كما لا يخفى على من راجعها.

وقد تعرّضنا في الأزمنة السابقة لبيان ما يرد على الاستدلال بتلك الأخبار مفصّلا في رسالة مستقلّة مشتملة على ما استفدناه في هذه المسألة من سيّد مشايخنا دام ظلّه العالي ، وفيها فوائد جليلة ، لكنّها مبتنية (٢) على عدم الفرق بين استفادة الشرطيّة أو المانعيّة في عدم جواز الصلاة في المشكوك على التفصيل المتقدّم.

وقد يستدلّ له أيضا : بقوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (٣).

وهو لا يخلو عن وجه بناء على ما قوّيناه من استفادة المانعيّة من أخبار الباب ؛ إذ الظاهر شمول الرواية للتكاليف الغيريّة أيضا كالنفسيّة من غير فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، كما تقرّر في محلّه ، فمقتضى إطلاقها عدم لزوم

__________________

(١) راجع ج ٨ ، ص ٣٨٧ و ٣٨٨.

(٢) في «ض ١٢» : «مبنيّة».

(٣) غوالي اللآلى‌ء ١ : ٤٢٤ / ١٠٩ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، ح ٤.

٢٥٠

التحرّز عمّا يشكّ في مانعيّته ، سواء كان من حيث الحكم أو الموضوع.

وأمّا على تقدير استفادة الشرطيّة فلا مجال لتوهّم الاستدلال بهذه الرواية وأشباهها ؛ ضرورة أنّه بعد فرض مساعدة الدليل على أنّ وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل لحمه اعتبره الشارع قيدا في ماهيّتها على سبيل الاشتراط وجب إحراز تحقّقها كذلك ؛ لأنّ الشكّ فيه مرجعه إلى الشكّ في إتيان المأمور به الذي علم بوجوبه ، فليس المكلّف في سعة منه ، وهذا بخلاف ما لو كان وجود غير المأكول مانعا ، فإنّ الشكّ فيه حينئذ شكّ في طروّ المنافي ، لا في الإتيان بما تعلّق به التكليف ، فليتأمّل.

وقد تلخّص ممّا ذكر أنّ الأظهر جواز الصلاة في المشكوك ، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالتجنّب عنه ، إلّا مع غلبة الظنّ بكونه من المأكول ، فإنّه لا ينبغي التردّد ـ حينئذ ـ في جواز الصلاة فيه ؛ لاستقرار السيرة خلفا عن سلف على لبس الثياب المعمولة من الصوف والوبر ، المحمولة إليهم من البلاد النائية مع قضاء العادة بأنّ عامّة الناس لا يعرفون كونها ممّا يحلّ أكله إلّا على سبيل الظنّ الناشى‌ء من الحدس والتخمين ، لا العلم الغير القابل للتشكيك ، ولذا صرّح بعض (١) القائلين بالمنع بكفاية مطلق الظنّ ؛ تشبّثا بالسيرة القطعيّة ، وهو لا يخلو عن قوّة وإن كان الأحوط بل الأقوى على القول بالمنع اعتبار غلبة الظنّ وبلوغه إلى حدّ يقرب الوثوق وسكون النفس ، كما هو الغالب في الثياب المأتيّ بها من البلاد النائية ، التي يتعارف لبسها بلا فحص.

__________________

(١) لم نتحقّقه.

٢٥١

وكذا لا ينبغي الارتياب في جواز الصلاة في الثوب الذي يشكّ في اقترانه بشي‌ء من فضلات غير المأكول من لعابه أو شعره الملقى على الثوب أو نحو ذلك ، خصوصا إذا كان الشكّ في أصل وجوده ، لا في صفة الموجود ؛ لاستقرار السيرة على الصلاة فيما لبسه المصلّي من الثياب من غير فحص ، مع أنّ العادة قاضية بأنّه قلّما يحصل الوثوق بخلوّها عن مثل ذلك ، وكون التكليف بتحصيل الجزم بذلك حرجا شديدا ، ولذا جزم غير واحد من القائلين بالمنع عن المشكوك بنفي البأس عمّا على الثوب والبدن من الأشياء المشتبهة من الرطوبات والشعرات ونحوها.

ولكن ينبغي بل يتعيّن ـ على القول بالمنع ـ الاقتصار على الأشياء المزبورة ممّا قضت به السيرة القطعيّة ويشقّ التحرّز عنه ، دون ما لا سيرة في نوعه ولا تعسّر في التجنّب عنه ، كقراب السيف وأشباهه ، والله العالم.

بقي الكلام فيما استثني من عموم ما دلّ على المنع عن الصلاة في غير المأكول ، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ الأخبار الخاصّة الواردة في الباب كثيرة ، لكنّها قلّما تسلم عن المعارض في مواردها ، بل ربما كان كثير منها مخالفا للمشهور أو المجمع عليه بيننا ، بل لا يكاد يوجد ما تطابقت النصوص والفتاوى على جواز الصلاة فيه ممّا لا يؤكل لحمه (إلّا) وبر (الخزّ الخالص) من وبر الأرانب والثعالب ونحوه ، فإنّه قد ورد فيه أخبار كثيرة دالّة على جواز الصلاة فيه ، سليمة عن المعارض ، ولم ينقل عن أحد من الأصحاب التصريح بالمنع عنه ، بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع على الجواز (١) ، وقد ادّعى في الجواهر

__________________

(١) السيّد ابن زهرة في الغنية : ٦٦ ، والمحقّق في المعتبر ٢ : ٨٤ ، والعلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٦٨ ، المسألة ١٢٢ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٧٤ ، والشهيد في الذكرى ٣ : ٣٥ ، وحكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٠.

٢٥٢

أنّ عليه الإجماع بقسميه ، وأنّ المحكيّ منه ـ كالنصوص ـ متواتر (١).

وأمّا جلده : فقد وقع الخلاف فيه ، وربما نسب (٢) إلى المشهور فيه أيضا القول بالجواز. وفي الحدائق ادّعى أنّه مشهور في كلام المتأخّرين ، وحكى عن ابن إدريس القول بالمنع ونفى عنه الخلاف (٣). وعن العلّامة في المنتهى (٤) متابعته.

وممّا يدلّ عليه في الوبر : صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : رأيت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يصلّي في جبّة خزّ (٥).

وصحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : رأيت أبا جعفر [الثاني] (٦) عليه‌السلام يصلّي الفريضة وغيرها في جبّة خزّ طارونيّ (٧) وكساني جبّة خزّ وذكر أنّه لبسها على بدنه وصلّى فيها وأمرني بالصلاة فيها (٨).

وصحيحة زرارة أو حسنته ، قال : خرج أبو جعفر عليه‌السلام يصلّي على بعض أطفالهم وعليه جبّة خزّ صفراء ومطرف (٩) خزّ أصفر (١٠).

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٨٦.

(٢) الناسب هو الصيمري في كشف الالتباس (مخطوط) كما في مفتاح الكرامة ٢ : ١٣٣.

(٣) الحدائق الناضرة ٧ : ٦٠ ، السرائر ١ : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٤) منتهى المطلب ٤ : ٢٤٠ ، الفرع الرابع ، وحكاه عنه السبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٢٥.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٠ / ٨٠٢ ، التهذيب ٢ : ٢١٢ / ٨٣٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٦) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٧) الطّرن : الخزّ ، والطارونيّ ضرب منه. القاموس المحيط ٤ : ٢٤٤.

(٨) الفقيه ١ : ١٧٠ / ٨٠٣ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٩) المطرف : «رداء من خزّ ، مربع ذو أعلام. القاموس المحيط ٣ : ١٦٨.

(١٠) الكافي ٦ : ٤٥٠ / ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣.

٢٥٣

وخبر إسماعيل ـ المرويّ عن أمالي ولد الشيخ ـ عن الرضا عليه‌السلام أنّه خلع على دعبل قميصا من خزّ وقال له : «احتفظ بهذا القميص فقد صلّيت فيه ألف ليلة كلّ ليلة ألف ركعة ، وختمت فيه القرآن ألف ختمة» (١).

وصحيحة الحلبي ، قال : سألته عن لبس الخزّ ، فقال : «لا بأس به ، إنّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام كان يلبس الكساء الخزّ في الشتاء ، فإذا جاء الصيف باعه وتصدّق بثمنه ، وكان يقول : إنّي لأستحيي من ربّي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت الله فيه» (٢).

وموثّقة معمّر بن خلّاد ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الصلاة في الخزّ ، فقال : «صلّ فيه» (٣).

ومقتضى ترك الاستفصال في الخبرين الأخيرين : عدم الفرق بين جلده ووبره.

ودعوى انصراف الإطلاق إلى خصوص الوبر ؛ لتعارفه ، غير مسموعة.

ونحوهما خبر يحيى بن [أبي] (٤) عمران أنّه قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في السنجاب والفنك والخزّ ، وقلت : جعلت فداك أحبّ أن لا تجيبني بالتقيّة في ذلك ، فكتب إليّ بخطّه «صلّ فيها» (٥).

__________________

(١) الأمالي ـ للطوسي ـ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ / ٧٤٩ ـ ٨٩ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٧ ، والباب ٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٩ / ١٥٣٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٢١٢ / ٨٢٩ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٥.

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٠ / ٨٠٤ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٦.

٢٥٤

وأوضح منهما دلالة عليه : رواية ابن أبي يعفور ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من الخزّازين ، فقال له : جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخزّ؟ فقال : «لا بأس بالصلاة فيه» فقال له الرجل : جعلت فداك إنّه ميّت وهو علاجي وأنا أعرفه ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «أنا أعرف به منك» فقال الرجل : إنّه علاجي وليس أحد أعرف به منّي ، فتبسّم أبو عبد الله عليه‌السلام ، ثمّ قال له : «أتقول : إنّه دابّة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقدت الماء ماتت؟» فقال الرجل : صدقت جعلت فداك هكذا هو ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «فإنّك تقول : إنّه دابّة تمشي على أربع وليس هو على حدّ الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء» فقال له الرجل : إي والله هكذا أقول ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «فإنّ الله تعالى أحلّه ، وجعل ذكاته موته كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها» (١).

وأصرح من ذلك في الدلالة على عدم الفرق بين الوبر والجلد : صحيحة سعد بن سعد ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن جلود الخزّ ، فقال : «هو ذا نحن نلبس» فقلت : ذاك الوبر جعلت فداك ، فقال : «إذا حلّ وبره حلّ جلده» (٢).

وهذه الصحيحة وإن كانت صريحة في نفي البأس عن الجلد وعدم الفرق بينه وبين الوبر ولكنّها غير صريحة في إرادته حال الصلاة.

فمن هنا قد يناقش في دلالتها على المدّعى بدعوى أنّها لا تدلّ إلّا على

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ / ١١ ، التهذيب ٢ : ٢١١ ـ ٢١٢ / ٨٢٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٤.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٢٠٣ ، الهامش (١).

٢٥٥

جواز لبسه ، وهو لا يستلزم جواز الصلاة فيه.

وقد يجاب عن ذلك : بأنّ مقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام : «إذا حلّ وبره حلّ جلده» : جواز الصلاة في جلده أيضا ؛ لأنّ لبس وبره في الصلاة حلال نصّا وإجماعا ، فكذا جلده بمقتضى الإطلاق.

وفيه نظر ؛ إذ الظاهر أنّ الكلام مسوق لبيان الملازمة بين حلّيّة الوبر والجلد من حيث الذات ، لا بحسب الأحوال.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ معروفيّة المنع عن الصلاة في غير المأكول ومعهوديّته في الشريعة توجب صرف السؤال عن الجلود إلى إرادة لبسها حال الصلاة ولا أقلّ من كون لبسها في هذه الحالة [ملحوظا] (١) في مقام السؤال والجواب ، ولا ينافيه الاقتصار في الجواب على قوله عليه‌السلام : «هو ذا نحن نلبس» فإنّ ما اتّخذه الإمام عليه‌السلام لباسا كان يصلّي فيه بحسب العادة.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ الباعث على السؤال عن الجلود بحسب الظاهر على ما هو المنساق إلى الذهن عند السؤال عنها إمّا احتمال نجاستها بلحاظ كونها متّخذة من الميتة ، أو كونها من أجزاء كلاب الماء المحتمل نجاستها عينا بلحاظ اندراجها في مسمّى الكلب ، أو احتمال المنع عنها تعبّدا بلحاظ كونها من أجزاء غير المأكول.

أمّا الجهة الأولى : فغير ملحوظة في هذه الرواية ، وإلّا لم يكن يعلّق حلّ الجلد على حلّ الوبر ؛ إذ لا ملازمة بينهما ، فإنّ جلد الميتة نجس لا يحلّ استعماله ،

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «ملحوظة». والظاهر ما أثبتناه.

٢٥٦

دون وبرها ، بل وكذا الاحتمال الثاني ، أي كونها نجس العين كسائر الكلاب ؛ إذ لا يبقى مجال لهذا الاحتمال بعد تعارف لبسها بين المسلمين والعلم بطهارة وبرها ومشاهدة كونه ملبوس الإمام عليه‌السلام ، فالملحوظ فيها ـ بحسب الظاهر ـ لم يكن إلّا الجهة الثالثة ، والمتبادر من السؤال عن الجلود من هذه الجهة إرادة لبسها في الصلاة ؛ لما أشرنا إليه من أنّ معهوديّة المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الجملة توجب صرف السؤال عن شي‌ء منها إلى الجهة التي فيها مظنّة المنع ، لا مطلق لبسه الذي لا منشأ لتوهّم المنع عنه من غير جهة نجاسته ، فليتأمّل.

واستدلّ له أيضا بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجل ـ وأنا عنده ـ عن جلود الخزّ ، فقال : «ليس بها بأس» فقال الرجل : جعلت فداك إنّها في بلادي ، وإنّما هي كلاب تخرج من الماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟» فقال الرجل : لا ، قال : «لا بأس» (١).

ونوقش في هذه الصحيحة أيضا : بأنّه ليس فيها تصريح بالصلاة.

ويمكن دفعه بأنّ المتبادر من نفي البأس عن جلود الخزّ إرادة نفي البأس عن الاستعمالات المتعارفة في نوعه ، فكما يفهم من ذلك نفي البأس عن لبسه مع عدم وقوع التصريح باللّبس أيضا ، فكذلك يفهم منه جواز اتّخاذه ثوبا شتويّا على حدّ سائر ثيابه التي يصلّي فيها ، كما هو المتعارف في نوعها ، فلو كان جوازه مخصوصا بغير حال الصلاة ، لم يكن يحسن إطلاق نفي البأس في مقام الجواب.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٥١ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٢٥٧

نعم ، لو كان السؤال متعلّقا بخصوص لبسه ، لأمكن دعوى أنّ إطلاق الجواب منزّل عليه من حيث هو. ولكنّه ليس كذلك ، بل السؤال تعلّق بنفس الجلود بلحاظ استعمالاتها المتعارفة ، ومن الواضح أنّ اتّخاذها ثوبا شتويّا يصلّى فيه من أوضح مصاديقها المتعارفة.

وإن أبيت إلّا عن الخدشة في دلالة هذه الصحيحة وسابقتها ، فلا أقلّ من كونهما مؤيّدتين لغيرهما من الأخبار المتقدّمة مع اعتضاد الجميع بالأخبار الدالّة على جواز الصلاة في وبره ، فإنّ ثبوت الرخصة في الوبر ممّا يقرّب نفي البأس عن جلده أيضا ؛ لاشتراكهما فيما يقتضي المنع ، أي كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

فالأقوى ما نسب إلى المشهور من جواز الصلاة في جلده أيضا كوبره ، بل قد يستفاد من خبر (١) ابن أبي يعفور الجواز في باقي أجزائه. ولعلّ عدم ذكر الأصحاب ذلك ؛ لعدم تعارف استعمال ما عداهما ، فالقول به لا يخلو عن قوّة.

بل ربّما يظهر من الخبر المزبور كونه ممّا يحلّ أكله.

ولكنّه يشكل الاعتماد على هذا الظاهر ؛ لمخالفته للمشهور بل المجمع عليه ، فإنّه لم ينقل الالتزام به عن أحد.

نعم ، ذهب صاحب الحدائق (٢) إلى حلّيّة صنف منه ، ونزّل الرواية عليه ، مستشهدا لذلك ببعض الأخبار التي تحقيقها موكول إلى محلّه.

وقد ذكر جماعة من علمائنا ـ على ما في الوسائل (٣) ـ أنّه ليس المراد هنا حلّ لحمه ، بل حلّ استعمال جلده ووبره والصلاة فيهما.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٥ ، الهامش (١).

(٢) الحدائق الناضرة ٧ : ٦٦ ـ ٦٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ذيل ح ٤ من الباب ٨ من أبواب لباس المصلّي.

٢٥٨

أقول : إرادة هذا المعنى غير بعيد عن سوق الرواية.

وكيف كان فلا يعارض هذه الأخبار ما عن الاحتجاج ممّا كتبه محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى الناحية المقدّسة : روي عن صاحب العسكر أنّه سئل عن الصلاة في الخزّ الذي يغشّ بوبر الأرانب ، فوقّع «يجوز» وروي عنه أيضا أنّه «لا يجوز» فأيّ [الخبرين] (١) نعمل به؟ فأجاب عليه‌السلام «إنّما حرم في هذه الأوبار والجلود ، فأمّا الأوبار وحدها فحلال» (٢) وعن نسخة «حلال كلّها» (٣) ؛ لقصورها عن المكافئة من وجوه ، مع معارضتها بغيرها من الأخبار الناهية عن الصلاة في وبر الأرانب عموما وفيما وقع فيه السؤال بالخصوص ، فيجب ردّ علمها إلى أهله.

وأضعف من ذلك ما عن كتاب البحار نقلا عن كتاب العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم (٤) أنّه قال فيه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يصلّى في ثوب ممّا لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه» فهذه جملة كافية من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ولا يصلّى في الخزّ» والعلّة في أن لا يصلّى في الخزّ أنّ الخزّ من كلاب الماء ، وهي مسوخ ، إلّا أن يصفّى وينقّى ـ إلى أن قال ـ : وعلّة أن لا يصلّى في السنجاب والسمّور والفنك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتقدّم (٥).

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الأمرين». والمثبت من المصدر.

(٢) الاحتجاج : ٤٩٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١٥ ، وفيهما : «فكلّ حلال» بدل «فحلال» كما يأتي في ص ٢٩١ أيضا.

(٣) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي الحدائق ٧ : ٦٤ : «وفي نسخة : فكلّها حلال».

(٤) ليس في المصدر «ابن هاشم».

(٥) بحار الأنوار ٨٣ : ٢٣٥ / ٣٢ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٢ ـ ٦٣.

٢٥٩

وعن المجلسي رحمه‌الله أنه بعد نقل الخبر المزبور قال : لعلّ مراده عدم جواز الصلاة في جلد الخزّ بقرينة الاستثناء ، وقد تقدّم القول في الجميع (١). انتهى.

أقول ـ مضافا إلى عدم وضوح حال هذا الكتاب لدينا ـ : إنّه لم يظهر منه كون ما تضمّنه من حكم الخزّ والسنجاب نقلا للرواية ، بل ظاهره كونه ممّا استنبط مصنّف هذا الكتاب باجتهاده ممّا نقله من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن غيره ممّا دلّ على المنع عن الصلاة في المسوخ ، فكأنّه زعم اختصاص المنع بالجلد دون الوبر والشعر بعد تصفيته وتنقيته ممّا عليه من الأجزاء الصغار الملتصقة بأصولهما ، والله العالم.

ثمّ إنّ الظاهر ـ كما صرّح به في الجواهر تبعا لما حكاه عن أستاده في كشفه (٢) ـ جريان الحكم فيما في أيدي التجّار ممّا يسمّى في زماننا خزّا ؛ لأصالة عدم النقل ، ويكفي في إحراز كونه ذلك الموضوع إخبار التجّار وغيرهم من المتصدّين لبيعه ممّن يوثق بهم وبمعرفتهم ؛ لاستقرار السيرة على التعويل على قول الثقات من أرباب الصنائع والبضائع في ما بأيديهم ، فمن أراد أن يشتري شيئا من الأدوية يرجع إلى العطّار الذي يثق به ، ويأخذ منه ذلك الدواء ، مع أنّه بنفسه لا يعرفه ، وكذا لو أراد شيئا من الأقمشة يرجع إلى التجّار ، كما يشهد على ذلك ـ مضافا إلى ذلك ـ أخبار الباب ؛ فإنّه لم يقصد بها بحسب الظاهر إلّا الرخصة في الصلاة في وبر الخزّ وجلده المتلقّى من أيدي التجّار ونظرائهم ، ومن الواضح أنّه

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٣ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٧ : ٦٣.

(٢) جواهر الكلام ٨ : ٩١ ، كشف الغطاء ٣ : ٢٨.

٢٦٠