مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

القبلة ـ في كلّ تكبيرة؟ قال : «أمّا في النافلة فلا ، إنّما تكبّر على غير القبلة الله أكبر» ثمّ قال : «كلّ ذلك قبلة للمتنفّل (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١)» (٢).

وعن تفسير العيّاشي أيضا عن حريز ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصّة (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٣) وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إيماء على راحلته أينما توجّهت به حيث خرج إلى خيبر ، وحين رجع من مكّة ، وجعل الكعبة خلف ظهره» (٤).

وعن أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٥) «إنّها ليست بمنسوخة ، وإنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر» (٦).

وعن الشيخ في النهاية عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٧) قال : «هذا في النوافل خاصّة في حال السفر ، فأمّا الفرائض فلا بدّ فيها من استقبال القبلة» (٨).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز النافلة راكبا أو ماشيا ، فإنّه وإن لم يقع في أكثرها التصريح بنفي شرطيّة الاستقبال ـ كبعض الأخبار المتقدّمة ـ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١١٥.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ٥٦ ـ ٥٧ / ٨١ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب القبلة ، ح ١٧.

(٣) البقرة ٢ : ١١٥.

(٤) تفسير العيّاشي ١ : ٥٦ / ٨٠ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ٢٣.

(٥) البقرة ٢ : ١١٥.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٨٥ ، الهامش (٢).

(٧) البقرة ٢ : ١١٥.

(٨) تقدّم تخريجه في ص ٨٥ ، الهامش (٤).

١٤١

إلّا أنّ المتبادر منها ـ خصوصا ممّا ورد في الماشي ـ إرادة فعلها متوجّها نحو المقصد.

ومقتضى إطلاق الجواب من غير استفصال في كثير من الروايات الواردة في الراكب أو الماشي ـ كصحاح الحلبي وعبد الرحمن بن الحجّاج وحمّاد بن عثمان ، المتقدّمات (١) ، وغيرها مثل ما عن المعتبر نقلا عن كتاب أحمد بن محمّد ابن أبي نصر عن حمّاد بن عثمان عن الحسين بن المختار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي وهو يمشي تطوّعا ، قال : «نعم» قال أحمد بن محمّد ابن أبي نصر : وسمعته أنا من الحسين بن المختار (٢) ، ونظائرها ممّا يقف عليه المتتبّع ـ : عدم الفرق بين كونه حاضرا أو مسافرا.

وتقييد إطلاق مثل هذه الروايات بالمسافر مع عدم وقوع الاستفصال في شي‌ء منها ، كتنزيل الإطلاق في رواية أحمد ونظائرها ـ ممّا لم يقع فيها التصريح بنفي شرطيّة الاستقبال ـ على إرادة ما لو كان متوجّها نحو القبلة ، أو الإهمال من هذه الجهة مع كون الصلاة ماشيا أو راكبا ملزوما غالبا للانحراف عن القبلة ، وعدم الانسباق إلى الذهن من سؤال السائل عن حكمها إلّا إرادة الإتيان بها متوجّها نحو المقصد ، في غاية البعد.

ولا ينافيه ورود كثير من الأخبار في المسافر أو في الصلاة في المحمل ، التي لا ينسبق إلى الذهن إرادتها إلّا في حال السفر ؛ فإنّ خصوصيّة مورد هذه

__________________

(١) في ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٧ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب القبلة ، ح ٦.

١٤٢

الأخبار لا تقتضي اختصاص الحكم به.

وأمّا ما يستشعر أو يستظهر من بعضها من الاختصاص ـ كقوله عليه‌السلام في حسنة معاوية بن عمّار ، المتقدّمة (١) : «لا بأس أن يصلّي الرجل صلاة الليل في السفر وهو يمشي» والخبرين اللّذين رواهما الشيخ والطبرسي في تفسير الآية من اختصاصها بالنوافل خاصّة في حال السفر ـ فلا ينبغي الالتفات إليه.

أمّا ما في الحسنة : فواضح ؛ لأنّ غايته الإشعار بذلك بواسطة التقييد ، وهو ليس بشي‌ء ، فلعلّه لأجل أنّ الحاجة إلى الصلاة ماشيا في الليل لا تتحقّق غالبا إلّا في السفر ، فالتقييد جار مجرى الغالب ، كما يؤيّد ذلك تركه في الفقرة الثانية ، وهو قوله عليه‌السلام : «ولا بأس إن فاتته صلاة الليل أن يقضيها بالنهار وهو يمشي» فإطلاق هذه الفقرة بنفسه شاهد للمطلوب.

والتقييد الواقع في الفقرة الأولى لا يقتضي صرفه عن ذلك بعد ما أشرنا إليه من جريه مجرى الغالب.

[و] أمّا الخبران : فمع ضعفهما سندا لا يصلحان لصرف الأخبار المطلقة عن إطلاقاتها.

بل قد يناقش فيهما بقصور الدلالة ؛ فإنّهما لا يدلّان إلّا على اختصاص الآية بالنوافل في السفر ، فلعلّ وجه الاختصاص ورودها فيها ، لا اختصاص الحكم بها.

وفيه نظر ؛ فإنّ ظاهرهما اختصاص حكمها بها بالإضافة إلى غيرها ، لا نزولها في خصوصها ؛ كي ينافيهما بعض الأخبار الدالّة على أنّها نزلت في قبلة

__________________

(١) في ص ١٤٠.

١٤٣

المتحيّر.

نعم ، يحتمل قويّا كون حال السفر في الخبرين جاريا مجرى التمثيل أريد به حال الحاجة إلى السير في الأرض ، كما هو الغالب في السفر ، لا حال السفر من حيث هو ، ولذا لا ينسبق إلى الذهن منه إلّا إرادة حال الضرب ، لا الاستقرار في المنزل ، مع أنّ حال السفر أعمّ منهما ، فليتأمّل.

وممّا يدلّ على المدّعى أيضا ـ مضافا إلى إطلاقات الأدلّة ـ خصوص صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابّة إذا خرجت قريبا من أبيات الكوفة أو كنت مستعجلا بالكوفة ، فقال : «إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول وتخوّفت فوت ذلك إن تركته وأنت راكب فنعم ، وإلّا فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ» (١) فإنّ ظاهرها جواز فعلها على ظهر الدابّة ، ولكنّ الأفضل إيقاعها على الأرض بالنزول عند عدم الاستعجال ، أو التأخير عند عدم خوف الفوت.

وقد أشرنا آنفا إلى أنّ عدم التصريح بنفي شرطيّة الاستقبال في مثل هذه الروايات غير قادح في الاستدلال ؛ حيث إنّ المنساق إلى الذهن منها إرادة الإتيان بها راكبا على حسب ما تقتضيه العادة من التوجّه نحو المقصد ، فلا ينبغي الاستشكال في جواز النافلة ماشيا وراكبا مطلقا في السفر والحضر ، كما هو المشهور.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ / ٦٠٥ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ١٢.

١٤٤

فما عن ابن أبي عقيل ـ من اختصاص ذلك بالمسافر (١) ـ ضعيف.

ولا فرق بين التكبير وغيره ، فلا يشترط الاستقبال في شي‌ء منها ، كما يدلّ عليه إطلاق جلّ الأخبار الدالّة على جواز النافلة ماشيا أو راكبا أينما توجّهت به الدابّة.

وخصوص قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي ـ على رواية الكافي ـ بعد أن سئل عن الاستقبال عند التكبير : «لا ، ولكن تكبّر حيثما كنت متوجّها» (٢).

وقوله عليه‌السلام في خبر زرارة ـ المرويّ عن تفسير العيّاشي ـ بعد السؤال عن التوجّه في كلّ تكبيرة : «أمّا في النافلة فلا ، إنّما تكبّر على غير القبلة الله أكبر» (٣) إلى آخره.

فما في بعض الأخبار من الأمر بالاستقبال حال التكبير ـ كصحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة بالليل في السفر في المحمل ، فقال : «إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة ثمّ كبّر وصلّ حيث ذهب بك بغيرك» قلت : جعلت فداك في أوّل الليل؟ فقال : «إذا خفت الفوت في آخره» (٤) وحسنة معاوية بن عمّار ، المتقدّمة (٥) التي قال عليه‌السلام فيها : «يتوجّه إلى القبلة ثمّ يمشي» الحديث ـ محمول على الاستحباب ؛ جمعا بينه وبين ما عرفت.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٣٨ ، الهامش (٢).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٣٨ ، الهامش (٥).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٤١ ، الهامش (٢).

(٤) التهذيب ٣ : ٢٣٣ / ٦٠٦ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ١٣.

(٥) في ص ١٤٠.

١٤٥

فما عن بعض من القول بوجوبه (١) ضعيف.

بل قد يتخيّل ضعف هذا القول ولو مع قطع النظر عن الخبرين الصريحين في خلافه ، بدعوى عدم صلاحيّة الروايتين الأخيرتين ـ الظاهرتين في اشتراط الاستقبال حال التكبير ـ لتقييد مطلقات الباب ، لا لإبائها عن التقييد ، كما لا يبعد دعواه في بعضها ، كخبر إبراهيم ، المتقدّم (٢) ، بل لما حقّقناه مرارا من أنّه لا مقتضي لحمل المطلق على المقيّد في المستحبّات.

ولكن يرد عليه : أنّ هذا فيما إذا كان الكلام المطلق مسوقا لبيان الحكم التكليفي ، لا لبيان كيفيّة العمل الذي لم تثبت مشروعيّة مطلقه ، كما فيما نحن فيه ، وإلّا فحاله حال الواجبات ، كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

وهل تجوز صلاة النافلة مستقرّا بلا استقبال اختيارا ، كما هو ظاهر المتن ، أم لا تجوز ، كما نسب إلى المشهور (٣)؟ فيه تردّد : من عدم معهوديّة الصلاة مستقرّا إلى غير القبلة لدى المتشرّعة ، بل لعلّهم يرونها من المنكرات ، خصوصا إذا كانت ذات ركوع وسجود ، فيكشف ذلك عن عدم ثبوت الرخصة فيها شرعا ، وإلّا لعرفها المتشرّعة ، بل شاع فعلها كذلك عند عروض الأشياء المقتضية لترك الاستقبال ، ومن أنّه لا عبرة بسيرة المتشرّعة في العدميّات ، ومغروسيّة كيفيّة خاصّة في أذهانهم لا تكشف عن عدم شرعيّة ما عداها ، وعدم معهوديّته لديهم يمكن أن يكون ناشئا من أفضليّة الاستقبال وسهولته وندرة الحاجة إلى التخطّي

__________________

(١) ابن إدريس في السرائر ١ : ٣٣٦ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٤٨.

(٢) في ص ١٣٩.

(٣) نسبه إلى المشهور الشهيد في غاية المراد ١ : ١١٧ ـ ١١٨ ، وصاحب كشف اللثام فيه ٣ : ١٥٠.

١٤٦

عنه لدى الاستقرار ، ككثير من المستحبّات السهلة التي جرت السيرة على المواظبة عليها.

وربما يستدلّ للاشتراط : بالتأسّي ، وتوقيفيّة العبادة ، وأنّ الأصل فيها الفساد ، وإطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (١) وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» (٢) وفي صحيحته الأخرى : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» (٣).

وفيما عدا الصحيحتين الأخيرتين ما لا يخفى بعد ما حقّقناه في محلّه من أنّ المرجع عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة أصل البراءة وأصالة العدم ، وأنّ شيئا من المذكورات لا يصلح مانعا عن ذلك.

والصحيحتان أيضا كذلك.

أمّا ثانيتهما ـ فمع ظهورها في الفريضة التي من شأنها وجوب الإعادة عند الإخلال بشي‌ء من أجزائها أو شرائطها ، كما يؤيّد ذلك عدّ الوقت من الخمس ـ أنّ إطلاقها وارد مورد حكم آخر ، فلا يستفاد منها أنّ مطلق الصلاة تعاد لكلّ من هذه الخمس.

وأمّا الصحيحة الأولى : فهي أيضا بحسب الظاهر واردة في الفريضة ، كما يشهد لذلك قول الراوي في ذيلها ـ بعد أن سأله عن حدّ القبلة ، وحدّدها

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، سنن الدارقطني ١ : ٢٧٢ / ٢٧٣ / ١ و ٢ ، و ٣٤٦ / ١٠ ، سنن البيهفي ٢ : ٣٤٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٨٧ ، الهامش (١).

(٣) الفقيه ١ : ١٨١ / ٨٥٧ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، ح ١.

١٤٧

الإمام عليه‌السلام بما بين المشرق والمغرب ـ : قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في (١) غير الوقت؟ قال : «يعيد».

هذا ، مع أنّه لا يستقيم تعميمها بالنسبة إلى النافلة ؛ لما عرفت من جواز النافلة اختيارا بلا استقبال في الجملة.

وإيقاع الصلاة مستقرّا أو ماشيا أو راكبا كفعلها اختيارا أو اضطرارا جالسا أو قائما أو نحو ذلك إنّما هو من أحوال كلّ صلاة التي هي النكرة في سياق النفي ، أي من أحوال أفراد العامّ ، لا من أفراده حتّى يقال : خرجت النافلة حال المشي والركوب عن تحت العامّ وبقي الباقي بحكمه ، فخروج بعض الأفراد في الجملة ـ أي بعض أحواله ـ كاشف عن عدم اندراج هذا الفرد في موضوع حكم العامّ ، أو كون الموضوع مقيّدا بغير هذه الحالة ، فيستكشف من جواز النافلة بغير القبلة ماشيا كون المراد بـ «لاصلاة» إمّا الصلاة الواجبة أو الصلاة المقيّدة بحال الاستقرار ، كما أنّ صحّة الصلاة بلا استقبال لدى الضرورة كاشفة عن أنّ المراد بها في حال التمكّن من الاستقبال ، لا مطلقا ، وليس تقييدها بحال الاستقرار أولى من تقييدها بالفريضة ، بل الثاني هو الأولى إن لم نقل بأنّه المتعيّن بمقتضى القرائن الداخليّة والخارجيّة.

لا يقال : إنّ خروج الفرد في بعض أحواله عن حكم العامّ لا يقتضي إلّا رفع اليد عن الحكم بالنسبة إلى ذلك الفرد في تلك الحالة ، لا مطلقا ، كما لو ورد الأمر بإكرام كلّ عالم ، وعلم من الخارج أنّ زيدا العالم لا يجب إكرامه في يوم الجمعة ؛ فإنّ هذا لا يقتضي إهمال الحكم بالنسبة إليه رأسا ، أو تقييد موضوع وجوب

__________________

(١) في الفقيه : «وفي».

١٤٨

الإكرام بالنسبة إلى كلّ عالم بغير يوم الجمعة.

لأنّا نقول : هذا إنّما هو في المثال ونظائره ممّا يستتبع العموم إطلاق أحواليّ بقاعدة الحكمة ونحوها ، لا في مثل المقام ؛ فإنّ إكرام كلّ عالم بمقتضى عمومه لا يدلّ إلّا على وجوب إكرام كلّ عالم في الجملة ، وهذا لا ينافي عدم وجوب إكرام بعضه أو جميعه في بعض الأحيان ؛ إذ لا مناقضة بين الإيجاب والسلب الجزئيّين ، وإنّما ينافي إطلاق وجوبه المستفاد من دليل الحكمة على تقدير جريان مقدّماته ، فيكون إكرام كلّ عالم بضميمة قاعدة الحكمة بمنزلة ما لو قال : أكرم كلّهم مطلقا ، فخروج البعض في بعض أحواله تخصيص لعمومه الأحوالي المستفاد من قاعدة الحكمة ، لا عمومه الأصلي الوضعي ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ عمومه الأحوالي نشأ من تسليط النفي على طبيعة كلّ فرد فرد على الإطلاق ، فلا يمكن التفكيك ؛ لأنّ صحّة بعض الأفراد في الجملة يناقض كون النفي مسلّطا على ماهيّته من حيث هي ، كما هو واضح.

هذا ، مع أنّه قد يقال في المثال أيضا : إنّ عدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة موجب لخروجه عن موضوع حكم العامّ مطلقا ، أي مانع عن ظهوره في شموله لهذا الفرد رأسا ؛ لأنّ مقتضى دليل الحكمة ليس إلّا وجوب إكرام كلّ عالم على الإطلاق بحيث يكون الإطلاق قيدا للإكرام ، لا صفة للوجوب ، فيكون معناه بضميمة دليل الحكمة : أنّ كلّ عالم يجب أن يكرم على الإطلاق ، أي دائما غير مشروط بحال أو زمان ، فخروج زيد في الجملة كاشف عن أنّه ليس منهم حيث لا يجب إكرامه على الإطلاق.

١٤٩

نعم ، لو كان مفاد دليل الحكمة أنّه يجب دائما أن يكرم بحيث يكون الإكرام في كلّ حال وزمان موضوعا للوجوب على وجه انحلّ إلى وجوبات عديدة كما هو معنى العموم الأحوالي ، لاتّجه ما ذكر ، لكن دليل الحكمة قاصر إلّا عن إثبات إطلاق متعلّق الطلب ، أي الإكرام ، لا إطلاق الطلب ـ أي وجوبه ـ كي يفيد عموما أحواليّا.

نعم ، ربما يستفاد من المناسبة بين الموضوع وحكمه كون العامّ من قبيل المقتضي ، وعدم ثبوت حكمه في بعض الأحوال والأوقات لعارض ، أو أنّه قد يكون خروج الفرد في بعض الأحوال بلفظ الاستثناء ونحوه ممّا يظهر منه إرادة العموم من العامّ بحسب الأحوال أو الأزمنة ، فيتّجه حينئذ الاقتصار على خصوص تلك الحالة ، والرجوع فيما عداها إلى حكم العامّ ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

ولكنّ الذي يقتضيه التحقيق عدم إهمال العامّ في المثال ونظائره بالنسبة إلى الفرد إلّا في خصوص تلك الحالة ؛ فإنّ إنكار ظهور الكلام في شموله لغير تلك الحالة كاد أن يكون مصادما للوجدان ، غاية الأمر أنّا إن لم نقل بظهوره في العموم الأحوالي نرتكب التقييد بالنسبة إلى هذا الفرد ، فإنّ قاعدة الحكمة القاضية بإرادة الإطلاق في كلّ فرد لا تقضي إلّا بإرادته في كلّ مورد على تقدير إن لم يدلّ دليل على خلافه ، فلا منافاة بين إرادة الحكم مطلقا في بعض الأفراد ومقيّدا في البعض.

ألا ترى أنّ ثبوت الخيار لأكثر أفراد البيع بل جميعها لا يمنع عن ظهور قوله

١٥٠

تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) في شموله له ، فيجب في سائر العقود الوفاء بها مطلقا ، وفي البيع بعد انقضاء خيار المجلس أو خيار الحيوان ، وفي غير زمان ظهور العيب مثلا.

وكيف كان فما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

ولكن لقائل أن يقول : لا نسلّم أنّ معنى «لا صلاة إلّا إلى القبلة» (٢) أنّه لا يتحقّق شي‌ء منها بلا استقبال ، بل معناه أنّه لا تتحقّق طبيعة الصلاة من حيث هي بلا استقبال ، فالكلام مسوق لنفي الجنس ، المستلزم للعموم السرياني ، لا لنفي الأفراد كي يفيد عموما اصطلاحيّا حتّى يقال : إنّ المتبادر من أفراد هذا العامّ هي أنواع الصلاة الواقعة في حيّز الأوامر الشرعيّة ، كصلاة الظهر والعصر ونحوهما ، وإنّ الإتيان بها مستقرّا أو غير مستقرّ من أحوال الفرد ، فخصوصيّة الأفراد غير ملحوظة فيها ، وإنّما الملحوظ جنسها ، فـ «لا صلاة إلّا إلى القبلة» يدلّ بظاهره على انتفاء ماهيّة الصلاة مطلقا عند انتفاء الاستقبال ، فلا يرفع اليد عن إطلاقه إلّا بمقدار دلالة الدليل ، وهو النافلة في حال المشي ، والمفروض أنّه ليس له عموم أفراديّ حتّى يقال : إنّ هذا الفرد خرج عن تحت العامّ ، بل عمومه سريانيّ نشأ من تعليق الحكم على الطبيعة ، ومعه لا مجال لهذا القول.

ولكن يتوجّه عليه : أنّ المتبادر من مثل هذا التركيب كون الواقع في حيّز كلمة «لا» نكرة ، لا اسم الجنس الذي أريد به الطبيعة المطلقة ، فالمتبادر من

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٨٧ ، الهامش (١).

١٥١

«لا رجل في الدار» أنّه لا شي‌ء من أفراد الرجل في الدار ، لا أنّ طبيعة الرجل غير موجودة فيها كي يكون عمومه عموما سريانيّا ، فليتأمّل.

وأضعف من الأدلّة المتقدّمة : الاستدلال له بعموم قوله تعالى (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ضرورة إجمال الآية في حدّ ذاتها ، وكون المراد بها الاستقبال فيما كان معهودا عندهم ، وهو حال مطلق الصلاة ، أو خصوص الفريضة ، كما يؤيّد الأخير مورد نزول الآية ، ويشهد بإرادتها بالخصوص الصحيحة الآتية (٢).

واستدلّ للقول بعدم الاشتراط : بالأصل.

وهو وجيه بعد ما عرفت من أنّه لا دليل يعتدّ به على الاشتراط بناء على ما هو التحقيق من أنّ المرجع عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة هو البراءة وما جرى مجراها من الأصول النافية للشرطيّة ، لا الاشتغال ، إلّا أنّك عرفت (٣) عند البحث عن كيفيّة صلاة الأعرابي أنّ مقتضى القاعدة مشاركة الفريضة والنافلة في جميع الأجزاء والشرائط ، عدا ما دلّ دليل خاصّ على اختصاصه بشي‌ء منهما ، ولذا لو لم تكن الأخبار الدالّة على جواز النافلة اختيارا بلا استقبال لا يكاد يشك أحد في شرطيّته في النافلة أيضا ، كالطهارة وإن كان دليله واردا في خصوص الفريضة.

ولكنّ الاعتماد على هذه القاعدة بعد ثبوت الفرق بينهما في الجملة مشكل ، فلا مانع عن الرجوع إلى الأصل الأوّلي المقرّر للشاكّ ، أي البراءة.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤ و ١٥٠.

(٢) في ص ١٥٣.

(٣) في ج ٩ ، ص ٦٧ وما بعدها.

١٥٢

ويدلّ عليه أيضا جملة من الأخبار :

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «استقبل القبلة بوجهك ، ولا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فإنّ الله عزوجل يقول لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الفريضة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١)» (٢) الحديث ؛ فإنّ ظاهرها اختصاص الحكم بالفريضة حيث إنّ دليله ـ على ما صرّح به الإمام عليه‌السلام ـ مخصوص بها.

وعن قرب الإسناد بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام أنّه سأله عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ فقال : «إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته ، وإن كانت نافلة لم يقطع ذلك ولكن لا يعود» (٣) ونحوه ما عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب الجامع للبزنطي صاحب الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : «إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى ولا يعتدّ به ، وإن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود» (٤) فإنّ ظاهرهما عدم انقطاع النافلة بالاستدبار ولو عمدا ، بل ظاهرهما إرادة حال العمد ، كما يشهد له تعلّق النهي به ، وهو محمول على الكراهة ؛ إذ لا حرمة فيه على تقدير عدم

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤ و ١٥٠.

(٢) الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٥٦ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، ح ٣.

(٣) قرب الإسناد : ٢١٠ / ٨٢٠ ، وفيه : «.. فقد قطع صلاته ، فيعيد ما صلّى ، ولا يعتدّ به ، وإن كانت نافلة ..». وعنه في الوسائل ، الباب ٣ من أبواب قواطع الصلاة ، ذيل ح ٨.

(٤) السرائر ٣ : ٥٧٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ٨ ، وفيهما مثل ما في خبر عليّ بن جعفر ، لا نحوه.

١٥٣

انقطاع الصلاة به ، كما هو مفاد الروايتين بلا شبهة.

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا التفتّ في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا» (١).

وظاهرها ـ كالخبرين المتقدّمين ـ اختصاص الحكم بالفريضة ، فلا يكون الالتفات الفاحش المنافي للاستقبال قادحا في النافلة ، وهذا ينافي شرطيّته لها ، فليتأمّل.

وخبر زرارة ـ المرويّ عن تفسير العيّاشي ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :الصلاة في السفر في السفينة والمحمل سواء؟ قال : «النافلة كلّها سواء تومئ إيماء أينما توجّهت دابّتك وسفينتك ، والفريضة تنزل لها عن المحمل إلى الأرض إلّا من خوف ، فإن خفت أومأت ، وأمّا السفينة فصلّ فيها قائما ، وتوخّ القبلة بجهدك ، فإنّ نوحا عليه‌السلام قد صلّى الفريضة فيها قائما متوجّها إلى القبلة وهي مطبقة عليهم» قال : قلت : وما علمه بالقبلة فيتوجّهها وهي مطبقة عليهم؟ قال عليه‌السلام : «كان جبرئيل عليه‌السلام يقوّمه نحوها» قال : قلت : فأتوجّه نحوها في كلّ تكبيرة؟ قال : «أمّا [في] النافلة فلا ، إنّما تكبّر على غير القبلة الله أكبر» ثمّ قال : «كلّ ذلك قبلة للمتنفّل (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢)» (٣).

وهذه الرواية وإن وردت في صلاة المسافر لكن ذيلها كادت تكون

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ / ١٠ ، التهذيب ٢ : ٣٢٣ / ١٣٢٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب قواطع الصلاة ، ح ٢.

(٢) البقرة ٢ : ١١٥.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٤١ ، الهامش (٢) وما بين المعقوفين من المصدر وكما تقدّم.

١٥٤

صريحة في أنّ جواز النافلة في السفينة والمحمل أينما توجّهت الدابّة والسفينة نشأ من أنّ ذلك كلّه قبلة للمتنفّل ، فلا مدخليّة لخصوصيّة المورد في ذلك.

ويؤيّده الأخبار الخاصّة المتقدّمة.

فالقول بالجواز ولو في حال الاستقرار على الأرض لا يخلو من قوّة ، إلّا أنّ عدم معهوديّة الصلاة مستقرّا إلى غير القبلة اختيارا لدى المتشرّعة ومخالفته للمشهور ـ كما ادّعاه غير واحد ـ أوجب التردّد فيه ، فالأحوط إن لم يكن أقوى تركه.

(و) على تقدير الجواز فـ (الأفضل استقبال القبلة بها) بلا شبهة.

قال في المدارك : أمّا أفضليّة الاستقبال بالنوافل : فموضع وفاق ، ويدلّ عليه التأسّي ، وعموم قولهم عليهم‌السلام : «أفضل المجالس ما استقبل [به] القبلة» (١) (٢). انتهى.

أقول : بل لو كان راكبا ، يستحبّ له النزول والصلاة على الأرض مستقرّا مستقبلا للقبلة لدى التمكّن منه ، كما يشهد لذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، المتقدّمة (٣) التي وقع فيها السؤال عن صلاة النافلة على ظهر الدابّة في الحضر : «إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول وتخوّفت فوت ذلك إن تركته وأنت راكب فنعم ، وإلّا فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ» إذ الظاهر إرادة الصلاة على الأرض بالكيفيّة المتعارفة ، أي مع الاستقرار والاستقبال.

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ٧٣ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٧٦ من أبواب أحكام العشرة ، ذيل ح ٣ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٣) في ص ١٤٤.

١٥٥

ولو صلّى على الراحلة ، يستحبّ الاستقبال بتكبيرة الإحرام خاصّة ؛ لقوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران ـ المتقدّمة (١) الواردة في صلاة الليل في المحمل ـ : «إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة ثمّ كبّر وصلّ حيث ذهب بك بعيرك».

وكذا لو صلّى ماشيا ، يستحبّ له ذلك ، بل يستحبّ له أيضا الركوع والسجود مستقبلا ، كما يدلّ عليهما قوله عليه‌السلام في حسنة معاوية بن عمّار أو صحيحته : «يتوجّه إلى القبلة ثمّ يمشي ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع حوّل وجهه إلى القبلة وركع وسجد» (٢).

بل عن الحلّي القول بوجوب الاستقبال حال التكبير ، ونقله عن جماعة من الأصحاب إلّا من شذّ (٣).

ولكنّك عرفت ـ فيما تقدّم ـ ضعفه ، وكون الأخبار الدالّة عليه محمولة على الاستحباب بشهادة غيرها ممّا هو نصّ في الجواز (و) لذا لا ينبغي الارتياب في أنّه (يجوز أن تصلّى) النافلة (على الراحلة) أينما توجّهت به دابّته ، وكذا ماشيا نحو المقصد من غير فرق بين حال التكبير وغيره (سفرا وحضرا).

وما عن بعض (٤) من تخصيصه بالسفر ، قد عرفت أيضا ـ فيما تقدّم ـ ضعفه ، فلا ينبغي الاستشكال في شي‌ء من ذلك.

__________________

(١) في ص ١٤٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٤٠ ، الهامش (٢).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٤٦ ، الهامش (١).

(٤) هو ابن أبي عقيل ، وتقدّم تخريج قوله في ص ١٣٨ ، الهامش (٢).

١٥٦

وإنّما الإشكال في جوازها مع الاستقرار على الأرض (إلى غير القبلة) اختيارا ، كما تقدّمت (١) الإشارة إليه ، وإن كان قد يقوى في النظر ـ بالنظر إلى ما تقدّم ـ جوازها مطلقا ولكن (على كراهية متأكّدة) حال الاستقرار ، بل مطلقا (في الحضر) لدى التمكّن من الاستقرار ، كما يدلّ على الأخير صحيحة عبد الرحمن ، المتقدّمة (٢) ؛ فإنّه وإن كان قد يتراءى من قوله عليه‌السلام : «فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ» أنّ هذا هو الأفضل ، لكن يظهر ممّا تقدّمه أنّ منشأ كون هذا الفرد أحبّ كراهة الصلاة على الراحلة للحاضر المتمكّن من الإتيان بها مستقرّا مستقبلا للقبلة ، فليتأمّل.

ويدلّ على الأوّل قوله عليه‌السلام في خبري عليّ بن جعفر والبزنطي ، المتقدّمين (٣) : «وإن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود».

(ويسقط فرض الاستقبال في كلّ موضع لا يتمكّن منه ، كصلاة المطاردة وعند ذبح الدابّة الصائلة والمتردّية بحيث لا يمكن صرفها إلى القبلة).

في المدارك : هذا الحكم ثابت بإجماع العلماء ، والأخبار [به] مستفيضة (٤).

ويأتي تحقيقه في محالّه إن شاء الله.

__________________

(١) في ص ١٤٦.

(٢) في ص ١٤٤.

(٣) في ص ١٥٣.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ١٤٩ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٥٧
١٥٨

(الرابع (١) : في أحكام الخلل).

(وهي مسائل) :

(الأولى : الأعمى يرجع إلى الغير ؛ لقصوره عن الاجتهاد ، فإن عوّل على رأيه مع وجود المبصر لأمارة وجدها) ممّا جاز له التعويل عليه مع وجود المبصر على التفصيل الذي عرفته سابقا بأن عمل على حسب ما يقتضيه تكليفه ، صحّت صلاته ، سواء صادفت جهة القبلة أم لا بشرط إن لم تخرج عمّا بين المشرق والمغرب.

وربّما يوهم إطلاق المتن صحّة صلاته مطلقا حتّى مع تبيّن خطئه وخروجه عمّا بين المشرق والمغرب ، فيختلف حينئذ حكمه مع غيره ، كما ستعرف.

ولكنّه ليس بشي‌ء ؛ إذ لا فرق بين الأعمى وغيره في وجوب الإعادة عند استبانة الخطأ الفاحش المفضي إلى الاستدبار ، كما يشهد له ـ مضافا إلى إطلاق

__________________

(١) أي : الموضع الرابع.

١٥٩

الأدلّة الآتية ـ خصوص صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعمى صلّى على غير القبلة ، فقال : «إن كان في وقت فليعد ، وإن كان قد مضى الوقت فلا يعد» (١).

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «الأعمى إذا [صلّى] (٢) لغير القبلة فإن كان في وقت فليعد ، وإن كان قد مضى الوقت فلا يعيد» (٣).

ولا يمكن تنزيل الخبرين على ما إذا صلّى مسامحة من غير أن يجد من نفسه الوثوق بالقبلة أو يعوّل في تشخيصها على أمارة ظنّيّة على حسب ما يقتضيه تكليفه ، فإنّه مع بعده في حدّ ذاته ينافيه عدم الإعادة بعد خروج الوقت.

(وإلّا) أي وإن لم يكن تعويله على رأيه بمقتضى تكليفه ، بل ناشئا من المسامحة (فعليه الإعادة) إن أخطأ ، سواء خرج عمّا بين المشرق والمغرب أم لا ؛ لأنّه لم يخرج عن عهدة تكليفه ، فلا يعذر في مخالفة القبلة التي هي شرط في الصلاة.

والأخبار الدالّة على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة إنّما هو في غير ما إذا تمكّن من تشخيص جهتها الخاصّة حال الشروع في الصلاة ، كما عرفته في محلّه.

ويشهد له ـ مضافا إلى ذلك ـ صحيح الحلبي أو حسنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الأعمى يؤمّ القوم وهو على غير القبلة ، قال : «يعيد ولا يعيدون فإنّهم قد تحرّوا» (٤).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٨.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «صار». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الفقيه ١ : ٢٤٠ / ١٠٥٩ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٩.

(٤) الكافي ٣ : ٣٧٨ / ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٦٩ / ٧٧١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب القبلة ، ح ٧.

١٦٠