مصباح الفقيه - ج ١٠

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفكر
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨

ولا يقاس الواجب الذي تعذّر بعض محتملاته بالحرام الذي اضطرّ إلى ارتكاب بعض محتملاته ، حيث التزمنا في تلك المسألة بأنّ الاضطرار إذا تعلّق ببعض معيّن قبل أن يعلم إجمالا بحرمة شي‌ء مردّد بين ما اضطرّ إليه وغيره ، جاز له ارتكاب ذلك الغير أيضا ؛ للفرق بين المقامين ؛ فإنّ إحراز الموضوع في المحرّمات الشرعيّة شرط في تنجّز التكليف بالاجتناب عنها ، فلا يجب على المكلّف الاجتناب عن الخمر ـ مثلا ـ في مرحلة الظاهر إلّا بعد أن علم بخمريّته ، فوجوب الاجتناب عن الخمر في مرحلة الظاهر من آثار هذا العلم ، لا العلم بأنّ الخمر محرّمة في الشريعة ، فلا بدّ أن يكون هذا العلم صالحا للتأثير بأن يكون ـ على تقدير كونه إجماليّا ـ كلّ واحد من أطراف الشبهة على وجه لو علم بكونه هو ذلك الحرام لتنجّز في حقّه الأمر بالاجتناب عنه بأن يعلم بكون ذلك الشي‌ء بالفعل في حقّه حراما بحيث لو علمه بالتفصيل لوجب عليه التجنّب عنه ، فمتى اضطرّ إلى واحد معيّن قبل أن يعلم إجمالا بحرمة بعضها ، لا يؤثّر علمه الإجمالي في إحراز تكليف منجّز ؛ لتردّد المعلوم بالإجمال بين هذا الشي‌ء المعلوم إباحته بالفعل تفصيلا بواسطة الاضطرار سواء كان خمرا في الواقع أم لم يكن ، وبين الطرف الآخر الذي يشكّ في خمريّته.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّ تنجّز التكليف بالصلاة إلى القبلة أو مع الوضوء أو في ثوب طاهر ليس من آثار العلم بجهة القبلة إجمالا أو تفصيلا ، أو بكون أحد المائعين ماء مطلقا ، أو أحد الثوبين طاهرا ، بل من آثار العلم بأصل التكليف ، أي بوجوب صلاة مقيّدة بهذه القيود في الشريعة ، فإنّه متى علم المكلّف

١٠١

بذلك ألزمه عقله بالخروج عن عهدته مع الإمكان ، وعدم معذوريّته في مخالفته إلّا على تقدير عجزه عنه في الواقع ، فتشخيص موضوع الواجب وما يتعلّق به من الأجزاء والشرائط كلّها من المقدّمات الوجوديّة التي يجب الفحص عنها وتحصيلها مهما أمكن ولو بالاحتياط ، ولا يعذر المكلّف بعد إحراز أصل التكليف في مخالفة شي‌ء من ذلك إلّا على تقدير عجزه عنه واقعا ، ولا يكفي في ذلك مجرّد احتمال العجز ، سواء كان منشؤه العجز عن بعض محتملات الواجب عينا أو تخييرا ، أو احتمال عجزه عن بعض المحتملات ، أو عن أصل الواجب ، كيف! ولو جاز الرجوع إلى أصل البراءة في نفي وجوب سائر المحتملات عند العجز عن بعض معيّن أو مطلقا ، لجاز الرجوع إليه عند احتماله أيضا أو احتمال تعذّر أصل الواجب من غير فحص ؛ إذ لا يجب الفحص في الشبهات الموضوعيّة ، وهو واضح الفساد.

نعم ، حال الواجبات المشروطة بالنسبة إلى شرائطها الوجوبيّة حال المحرّمات في أنّ تنجّز التكليف بها من آثار العلم بتحقّق شرائطها لا بأصل التكليف ، فلا بدّ فيها أيضا من أن يكون العلم المتعلّق بحصول الشرائط صالحا للتأثير ، كما في المحرّمات.

ومن هذا القبيل ما لو قال الشارع مثلا : يجب إكرام كلّ عالم من أهل البلد ، أو تجب الصلاة على كلّ ميّت مسلم ، أو نحو ذلك ، فإنّ هذا النحو من التكاليف كلّها واجبات مشروطة بتحقّق موضوعاتها ، فلو لم يعلم المكلّف بوجود عالم في البلد لا يتنجّز في حقّه التكليف ، ولا يجب الفحص عنه ما لم يعلم بوجوده

١٠٢

إجمالا ، ويرجع في موارد الشكّ إلى أصل البراءة ، ومع العلم الإجمالي بوجود عالم مردّد بين أشخاص محصورة إلى قاعدة الاحتياط بشرط أن يكون العلم الإجمالي صالحا للتأثير ، لا مطلقا.

وهذا بخلاف ما لو تعلّق طلب مطلق بإكرام عالم مثلا ؛ فإنّه يجب حينئذ الفحص عن مصداق العالم والخروج عن عهدة التكليف بالموافقة القطعيّة مع الإمكان ، وإلّا فما هو الأقرب إليه فالأقرب ، حتّى أنّه لو لم يوجد عالم وتمكّن من تعليم أحد بحيث اندرج في موضوع العالم من غير مشقّة رافعة للتكليف ، وجب عليه ذلك من باب المقدّمة.

وهذا بخلاف الفرض الأوّل الذي جعل فيه العالم بنفسه موضوعا لوجوب الإكرام ، لا إكرامه من حيث هو متعلّقا للطلب كي يكون تحصيل العالم من المقدّمات الوجوديّة للواجب المطلق ، كما في الفرض الثاني ، فليتأمّل.

تنبيه : حكي عن الشهيد في الروض القول بأنّه إذا بقي من آخر وقت الظهرين أو العشاءين بمقدار أربع صلوات ، يختصّ الوقت بالأخيرة عند تردّد القبلة في الجهات الأربع ؛ لأنّها بمنزلة صلاة واحدة في عدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بها ، فعلى هذا لو بقي من آخر الوقت بمقدار خمس صلوات أو ستّ أو سبع ، عليه أن يصلّي الظهر إلى جهة أو جهتين أو ثلاث إلى أن يبقى مقدار أربع صلوات ، فيتضيّق حينئذ وقت العصر ، ويأتي بمحتملاتها إلى الجهات الأربع ، كما أنّه إن لم يبق إلّا بمقدار صلاتين أو ثلاث ، لا يأتي في ذلك الوقت إلّا بما يسعه الوقت من

١٠٣

محتملات العصر (١).

وفيه ما تقدّمت الإشارة إليه في المسألة السابقة من أنّ الوقت المختصّ بكلّ من الفرائض الأربع ليس إلّا بمقدار أداء الفريضة من حيث هي أو مع مقدّماتها الوجوديّة على احتمال ، دون المقدّمات العلميّة التي هي أجنبيّة عن المأمور به ، وإنّما يؤتى بها لتحصيل القطع بأداء الواجب.

نعم ، لو لم يكن الاستقبال شرطا اختياريّا ، بل كانت شرطيّته مطلقة بحيث يكون تعذّره موجبا لسقوط التكليف بالصلاة ولم يكن يكتفي الشارع فيه بالموافقة الاحتماليّة عند تعذّر تحصيل القطع ، لكان القول باختصاص مقدار الأربع من آخر الوقت بالأخيرة ومن أوّله بالأولى قويّا ، كما يظهر وجهه ممّا أسلفناه وجها لاختصاص الفريضتين من أوّل الوقت وآخره بمقدار أدائهما ، فراجع ، ولكنّ الفرض خلاف الواقع.

فالأظهر وجوب الإتيان بالفريضتين : الظهر والعصر جميعا عند بقاء مقدار صلاتين ولو اضطرارا بإدراك ركعة من الوقت ، وعند بقاء مقدار ثلاث فما زاد يراعى الاستقبال مهما أمكن أوّلا في جانب الظهر ثمّ في العصر ، فإذا بقي مقدار أربع ، صلّى الظهر ثلاثا إلى ثلاث جهات ، والعصر إلى جهة واحدة أيّ جهة شاء ، كما حكي القول بذلك عن الموجز الحاوي وكشف الالتباس (٢) ، وإذا بقي مقدار خمس فما زاد ، يأتي بالظهر أربعا ثمّ بالعصر بقدر ما يسعه الوقت.

__________________

(١) روض الجنان ٢ : ٥٢٤ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ١٧٥.

(٢) الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٦٦ ، وكشف الالتباس مخطوط ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٢٢.

١٠٤

وذلك لأنّ الظهر متقدّمة في الرتبة على العصر ، فإذا كان المكلّف قادرا على الإتيان بها مستقبلا للقبلة من غير أن يترتّب عليه محذور شرعي ، وجب عليه ذلك. وكونه موجبا لعدم رعاية الاحتياط في العصر لا يصلح عذرا في إهماله بالنسبة إلى الظهر المتقدّمة عليها في الرتبة بعد كون وجوب الاستقبال في العصر مشروطا بالتمكّن ، وعدم كون رعايته بالنسبة إليها أولى منها بالنسبة إلى الظهر ، كما هو الشأن في جميع الشرائط الاختياريّة التي دار الأمر بين إهمالها بالنسبة إلى الظهر أو العصر ، كالطهارة المائيّة والستر والاستقرار وغير ذلك ، فيجب في مثل الفرض الإتيان بظهر اختياريّة حتّى يتحقّق عجزه بالنسبة إلى العصر ، فيأتي بها بعد تحقّق العجز على حسب ما يقتضيه تكليفه.

نعم ، لو دار الأمر بين الإخلال بشرط اختياريّ في الظهر وآخر أهمّ منه في العصر ، أمكن الالتزام حينئذ بالتخيير أو أولويّة رعاية الأهمّ بل لزومها ؛ إذ لا يبعد أن يقال : إنّ رعاية الأهمّ ـ كرعاية أصل فريضة العصر ـ عذر شرعيّ في الإخلال بغير الأهمّ من الظهر ، وهذا بخلاف مثل المقام ونظائره ممّا لا أهمّيّة في البين ، فلا وجه حينئذ للإخلال بشرائط الظهر رعاية لأمر العصر المتأخّر عنها في الرتبة ، ولذا لا يتوهّم أحد في المستحاضة التي وظيفتها الوضوء لكلّ صلاة إذا لم تجد الماء إلّا لوضوء واحد أنّه يجوز لها حفظ الماء للعصر ، والدخول في الظهر بتيمّم.

(والمسافر) كالحاضر (يجب عليه استقبال القبلة) في الصلوات الواجبة (ولا يجوز له أن يصلّي شيئا من الفرائض) اليوميّة وغيرها (على الراحلة إلّا عند الضرورة) إذا كان ذلك مفوّتا للاستقبال أو غيره من الأمور

١٠٥

المعتبرة فيها ، كالطمأنينة والقيام والركوع والسجود ، بلا خلاف بين المسلمين على ما صرّح به في الجواهر (١).

ويشهد له ـ مضافا إلى إطلاقات أدلّة تلك الأمور أو عمومها ، والأخبار الخاصّة الواردة في المسافر ، الدالّة عليها ممّا يقف عليه المتتبّع ـ خصوص رواية عبد الله بن سنان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيصلّي الرجل شيئا من المفروض (٢) راكبا؟ قال : «لا ، إلّا من ضرورة» (٣).

وقد وصف هذه الرواية في المدارك (٤) بالموثّقة.

واعترضه في الحدائق : بأنّ في سندها أحمد بن هلال ، وهو ضعيف غال (٥).

وروايته الأخرى ـ موثّقة ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تصلّ شيئا من المفروض راكبا» قال النضر في حديثه : «إلّا أن تكون مريضا» (٦).

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يصلّي على الدابّة الفريضة إلّا مريض يستقبل القبلة ، ويجزئه فاتحة الكتاب ، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شي‌ء ، ويومى‌ء في النافلة إيماء» (٧).

وتخصيص المريض بالاستثناء بلحاظ أنّه هو الذي يضطرّ إلى الصلاة على

__________________

(١) جواهر الكلام ٧ : ٤٢٠.

(٢) في التهذيب : «الفروض».

(٣) التهذيب ٣ : ٣٠٨ / ٩٥٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٤.

(٤) مدارك الأحكام ٣ : ١٣٩.

(٥) الحدائق الناضرة ٦ : ٤٠٨.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٣١ / ٥٩٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٧.

(٧) التهذيب ٣ : ٣٠٨ / ٩٥٢ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ١.

١٠٦

الدابّة غالبا.

والمتبادر منه بواسطة المناسبة إرادة العاجز منه ، لا مطلق من كان مريضا ، فتخصيصه بالذكر من باب التمثيل أريد به غير المتمكّن ، كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى انسباقه إلى الذهن من مناسبة المقام ـ الرواية المتقدّمة (١) وغيرها ممّا ستعرف.

واستظهر بعض من إطلاق النصّ وكلام الأصحاب عدم الفرق بين ما وجب بالأصل أو بالعارض (٢) ، بل ربما يظهر من العبارة المحكيّة عن التذكرة والذكرى عدم الخلاف في ذلك.

قال في محكيّ التذكرة : لا تصلّى المنذورة على الراحلة ؛ لأنّها فرض عندنا.

ثمّ نقل عن أبي حنيفة أنّه لو نذرها وهو راكب يؤدّيها على الراحلة. ثمّ قال : وليس بشي‌ء (٣).

وعن الذكرى : لا تصحّ الفريضة على الراحلة اختيارا إجماعا ؛ لاختلال الاستقبال وإن كانت منذورة ، سواء نذرها راكبا أو مستقرّا على الأرض ؛ لأنّها بالنذر أعطيت حكم الواجب (٤). انتهى.

وفي المدارك ـ بعد أن حكى عن الذكرى التصريح بما سمعت (٥) ـ قال : ويمكن القول بالفرق ، واختصاص الحكم بما وجب بالأصل خصوصا مع وقوع النذر على تلك الكيفيّة ؛ عملا بمقتضى الأصل ، وعموم ما دلّ على وجوب الوفاء

__________________

(١) أي : رواية عبد الله بن سنان ، الثانية المتقدّمة في ص ١٠٦.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ١٣٩.

(٣) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٦ ، المسألة ١٤٢ ، وحكاه عنها صاحب الجواهر فيها ٧ : ٤٢١.

(٤) الذكرى ٣ : ١٨٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٤٢١.

(٥) حكاه عنه ملخّصا.

١٠٧

بالنذر.

ويؤيّده رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلّي كذا وكذا هل يجزئه أن يصلّي ذلك على دابّته وهو مسافر؟ قال : «نعم» (١).

وفي الطريق محمّد بن أحمد العلوي ، ولم يثبت توثيقه ، وسيأتي تمام البحث في ذلك إن شاء الله (٢). انتهى.

وقد حكي عن الفاضل في غير موضع من المنتهى والمختلف (٣) تصحيح الرواية (٤).

وعن شرح المفاتيح أنّه ربّما يظهر من ترجمة العمركي أنّ محمّد بن أحمد العلوي من شيوخ أصحابنا ، ويروي عنه الأجلّاء (٥).

هذا ، مع أنّ الخبر ـ على ما صرّح به في الجواهر (٦) ـ روي بطريقين ، أحدهما : ما ذكر ، والآخر : رواه الشيخ عن عليّ بن جعفر ، وطريقه إليه صحيح ،

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣١ / ٥٩٦ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٦.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ١٣٩.

(٣) راجع على سبيل المثال : منتهى المطلب ١ : ٥٢ ، ومختلف الشيعة ١ : ١٨ ـ ١٩ ، ضمن المسألة ٣ ، حيث أورد العلّامة رحمه‌الله فيهما رواية عليّ بن جعفر وصحّحها ، وفي سندها محمّد ابن أحمد العلوي.

(٤) حكاه عنه الوحيد البهبهاني في الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٤ ، والعاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٠٥.

(٥) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٧ : ٤٢١ ، وكما في الحاشية على مدارك الأحكام ـ للوحيد البهبهاني ـ ٢ : ٣٣٤ ، وشرح المفاتيح مخطوط.

(٦) جواهر الكلام ٧ : ٤٢٢.

١٠٨

فالقدح في سند الرواية ضعيف.

وأضعف منه الخدشة في دلالتها بعدم صراحتها في المدّعى بل ولا ظهورها إلّا من حيث العموم لحالتي الاختيار والضرورة ، فيمكن تخصيصها بالأخيرة ، جمعا بينها وبين الخبرين المتقدّمين الدالّين على المنع.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ هذه الرواية لو لم نقل بكونها صريحة في المدّعى بلحاظ أنّ المنساق من السؤال إرادته في حال السعة والاختيار فلا أقلّ من قوّة ظهورها في الإطلاق ، فكيف يعارضها إطلاق الخبرين المنصرف في حدّ ذاته عن مثل المقام قطعا ، فضلا عن أن يترجّح عليهما ، بل المتبادر منهما ليس إلّا إرادة الفرائض اليوميّة ، وإنّما نلتزم بعدم جواز سائر الصلوات الواجبة بالأصالة اختيارا في المحمل ؛ لعموم ما دلّ على شرطيّة الاستقبال ونحوه ، لا للخبرين ، وهذا بخلاف النافلة التي عرضها الوجوب بنذر وشبهه ممّا لا يقتضي إلّا وجوبها على حسب مشروعيّتها وملحوظيّتها للجاعل ، فلا يجب عليه إلّا فعلها كذلك بحيث يصدق عليه اسم الوفاء.

اللهمّ إلّا أن ينعقد الإجماع على أنّه متى عرضها الوجوب أعطي حكم الواجبات بالأصالة ، ولا يكفي في إثبات ذلك ما ادّعاه الشهيد رحمه‌الله من الإجماع على أنّه لا تصحّ الفريضة على الراحلة اختيارا (١) ؛ لانصراف كلمات المجمعين عن مثل الفرض ولا أقلّ من عدم الجزم بإرادتهم له ، وعلى تقدير ثبوته ، فالمتّجه بطلان النذر المتعلّق بفعلها على الراحلة لو نذرها بالخصوص أو نذرها مطلقة

__________________

(١) راجع الهامش (٤) من ص ١٠٧.

١٠٩

بحيث قصد شمولها له على حسب مشروعيّتها قبل النذر ، لا بطلان الصلاة عليها ، حيث إنّ أدلّة وجوب الوفاء بالنذر لا تقتضي إلّا إيجاب ما التزم به الناذر ، والمفروض عدم صلاحيّة ما تعلّق به قصده للوجوب ، وما يصلح له لم يقصده الناذر ، فالقول بصحّة النذر في مثل الفرض وإعطاء المنذور حكم الواجب لا يخلو عن إشكال.

ولو عرض للفريضة وصف النفل كالمعادة والمأتيّ بها احتياطا ، انسحب حكمها على الأشبه ، فلا يجوز فعلها على المحمل اختيارا ، فإنّ المنساق من أدلّتها خصوصا المأتيّ بها احتياطا إنّما هو شرعيّة الإتيان بتلك الطبيعة الواجبة على ما هي عليه من الأجزاء والشرائط استحبابا ، فلا يختلف بذلك حكمها ، ومن هنا يتّجه جريان أحكام الخلل والشكوك فيها مع اختصاصها بالفرائض.

ثمّ إنّ المنع عن الفريضة على الراحلة إنّما هو مع الاختيار ، وأمّا لدى الضرورة فيجوز قطعا ، كما يشهد له ـ مضافا إلى عموم أدلّة نفي الحرج بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ـ خصوص الأخبار المتقدّمة.

وما رواه الشيخ عن محمّد بن عذافر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في وقت الفريضة لا تمكنه الأرض من القيام عليها ولا السجود عليها من كثرة الثلج والماء والمطر والوحل أيجوز له أن يصلّي الفريضة في المحمل؟ قال : «نعم هو بمنزلة السفينة إن أمكنه قائما ، وإلّا قاعدا ، وكلّ ما كان من ذلك فالله أولى بالعذر ، يقول الله عزوجل (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١)» (٢).

__________________

(١) القيامة ٧٥ : ١٤.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٣٢ / ٦٠٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٢.

١١٠

وعن جميل بن درّاج ـ في الصحيح ـ قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الفريضة في المحمل في يوم وحل ومطر» (١).

وعن الحميري ـ يعني عبد الله بن جعفر ـ قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام :روى ـ جعلني الله فداك ـ مواليك عن آبائك «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى الفريضة على راحلته في يوم مطير» ويصيبنا المطر ونحن في محاملنا والأرض مبتلّة والمطر يؤذي ، فهل يجوز لنا يا سيّدي أن نصلّي في هذه الحال في محاملنا أو على دوابّنا الفريضة إن شاء الله؟ فوقّع عليه‌السلام «يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة» (٢).

وعن مندل بن علي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على راحلته الفريضة في يوم مطير» (٣).

ومرسلة الفقيه ، قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي على راحلته الفريضة في يوم مطير» (٤).

وعن الطبرسي في الاحتجاج عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عجّل الله فرجه : أنّه كتب إليه يسأله عن رجل يكون في محمله والثلج كثير بقامة رجل ، فيتخوّف إن نزل الغوص فيه وربما يسقط الثلج وهو على تلك الحال ولا يستوي له أن يلبد شيئا منه لكثرته وتهافته هل يجوز أن يصلّي في المحمل الفريضة؟ فقد فعلنا ذلك أيّاما فهل علينا فيه إعادة أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣٢ / ٦٠٢ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٩.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٣١ / ٦٠٠ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٥.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٣١ / ٥٩٩ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ٨.

(٤) الفقيه ١ : ٢٨٥ / ١٢٩٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ذيل ح ٨.

١١١

«لا بأس به عند الضرورة والشدّة» (١).

والمراد بالضرورة ـ على ما ينسبق إلى الذهن من النصوص والفتاوى ـ إنّما هو الضرورة العرفيّة الصادقة عند استلزام النزول عن الراحلة والإتيان بصلاة اختياريّة مشقّة شديدة لا تتحمّل عادة أو خوفا على نفس أو مال يعتدّ به أو نحو ذلك ممّا يعدّ بنظر العرف تكليفا حرجيّا.

وكأنّ هذا هو المراد بالضرورة الشديدة الواردة في بعض الأخبار المتقدّمة (٢) ، لا ما هو أخصّ من ذلك ـ كما قد يتوهّم ـ بشهادة عمومات أدلّة نفي الحرج وغيرها ممّا عرفت ، مع أنّه أنسب بإطلاق استثناء المريض الجاري مجرى الغالب ، كما لا يخفى.

ولا ينافي ذلك خبر منصور بن حازم ، قال : سأله أحمد بن النعمان فقال : أصلّي في محملي وأنا مريض؟ قال : فقال : «أمّا النافلة فنعم ، وأمّا الفريضة فلا» قال : وذكر أحمد شدّة وجعه ، فقال : أنا كنت مريضا شديد المرض فكنت آمرهم إذا حضرت الصلاة فينحّوني (٣) فأحتمل بفراشي فأوضع وأصلّي ثمّ أحتمل بفراشي فأوضع في محملي (٤) ، فإنّه محمول على ما إذا لم يستلزم مشقّة شديدة ؛ لعدم صلاحيّة هذه الرواية مع إضمارها لمعارضة ما عرفت.

__________________

(١) الاحتجاج : ٤٨٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ١١.

(٢) في ص ١١١.

(٣) في التهذيب بدل «فينحّوني» : «ينيخوابي». وفي الوسائل : «ينيخوني».

(٤) التهذيب ٣ : ٣٠٨ / ٩٥٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ح ١٠.

١١٢

ويمكن حمله على الاستحباب ، كما حكي ذلك عن الشيخ (١) ، بل هذا أولى إن لم يكن قوله : «أنا كنت مريضا» إلى آخره ، من كلام أحمد ، بل من كلام الإمام عليه‌السلام ، فإنّ ذكره لهذا الكلام حكاية لفعله بعد أن ذكر أحمد شدّة وجعه يجعله كالنصّ في أنّ مراده بالمنع من الفريضة في المحمل ما يعمّ مثل الفرض الذي هو بحسب الظاهر من موارد الضرورة التي يعمّها أدلّة نفي الحرج وغيرها ممّا سمعت ، بل الظاهر أنّ ذكر أحمد شدّة وجعه ليان أنّه يشقّ عليه الإتيان بصلاة المختار ، فاقتصر الإمام عليه‌السلام في جوابه على حكاية فعله ؛ كي يعلم أنّه ينبغي تحمّل مثل هذه المشاقّ في مقام أداء الفرائض ، وعدم المسامحة في أمرها ، فيتعيّن حمله على الاستحباب ، كما أنّه قد نلتزم بذلك مع قطع النظر عن هذه الرواية أيضا ؛ لما أوضحناه في مبحث التيمّم من أنّه متى كانت الأعذار المسوّغة للتكاليف الاضطراريّة من قبيل المشقّة ونحوها من الأمور التي يجوز ارتكابها شرعا فهي رخصة لا عزيمة ، فيجوز تركها ، والإتيان بوظيفة المختار ، فهي أفضل وأوفق بغرض الشارع ، فليتأمّل.

(و) متى اضطرّ إلى أن يصلّي شيئا من الفرائض على الراحلة صلّاها كذلك مراعيا فيها سائر ما يعتبر في الفريضة من الشرائط والأجزاء ، كالاستقبال والاستقرار والركوع والسجود ونحوها بحسب الإمكان ؛ لإطلاق أدلّتها ، فلا يجوز الإخلال بشي‌ء منها إلّا بمقدار الضرورة ، فعليه أن (يستقبل القبلة) مع التمكّن.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠٨ ، ذيل ح ٩٥٣ ، وحكاه عنه العاملي في الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب القبلة ، ذيل ح ١٠.

١١٣

(فإن لم يتمكّن) من الاستقبال بالجميع (استقبل القبلة بما أمكنه من صلاته) لأنّه شرط في جميع أجزائها ، فتجب رعايته في الجميع.

(وينحرف إلى القبلة كلّما انحرفت الدابّة.

و إن لم يتمكّن) إلّا من مجرّد الانحراف إلى القبلة والتوجّه إليها لحظة من غير ثبات واستقرار بحيث يعدّ عرفا من أفراد المتمكّن من الاستقبال الذي ينسبق إلى الذهن من أدلّته ، كخائف اللصّ والسبع الذي لا يأمن من ضررهما لو توجّه إلى القبلة بمقدار يعتدّ به (استقبل) القبلة (بتكبيرة الإحرام) التي هي افتتاح الصلاة وركنها ، ولها نوع استقلال وملحوظيّة شرعا وعرفا ، ولا يتوقّف أداؤها على زمان يعتدّ به ، فتجب رعاية الاستقبال فيها حتّى في مثل الفرض ، بخلاف غيرها من الأجزاء ، فإنّها إمّا غير ملحوظة على سبيل الاستقلال ، أو أنّها مستقلّة بالملاحظة ، كالقراءة والركوع ونحوهما ، ولكن يتعذّر أو يتعسّر رعاية الاستقبال فيها في مثل الفرض.

(ولو لم يتمكّن من ذلك) أيضا (أجزأه الصلاة وإن لم يكن مستقبلا) بلا خلاف يعتدّ به في شي‌ء ممّا ذكر على ما صرّح به في الجواهر (١).

ويشهد له جملة من الأخبار الآتية في الصلاة في السفينة وغيرها.

ويدلّ على وجوب رعاية الاستقبال في التكبيرة بالخصوص ـ مضافا إلى ما ذكر ـ صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «الذي يخاف اللصوص والسبع يصلّي صلاة المواقفة إيماء على دابّته» قال : قلت : أرأيت إن لم يكن المواقف على

__________________

(١) جواهر الكلام ٧ : ٤٢٥.

١١٤

وضوء كيف يصنع ولا يقدر على النزول؟ قال : «ليتيمّم من لبد سرجه (١) أو عرف دابّته فإنّ فيها غبارا ويصلّي ، ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ولا يدور إلى القبلة ، ولكن أينما دارت به دابّته غير أنّه يستقبل القبلة بأوّل تكبيرة حين يتوجّه» (٢).

وفيها تنبيه على شدّة الاهتمام بالاستقبال حال التكبير ، ولزوم رعايته بالخصوص.

بل ربما استظهر بعض من قوله عليه‌السلام : «ولا يدور إلى القبلة» إلى آخره :سقوط شرطيّة الاستقبال في مثل الفرض بالنسبة إلى ما عدا التكبيرة (٣).

وليس بشي‌ء ؛ فإنّه بحسب الظاهر جار مجرى الغالب من كون الإلزام بالتوجّه إلى جهة خاصّة فيما عدا مقدار أداء التكبيرة في مثل الفرض تكليفا حرجيّا ، فلا يجب لذلك ، لا أنّه لا يجب أصلا حتى مع التيسّر.

ولو تمكّن من أن يستقبل ما بين المشرق والمغرب لا خصوص جهة الكعبة ، وجب عليه ذلك على الأظهر ؛ لقوله عليه‌السلام ـ في الصحيح ـ : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» (٤) المحمول على صورة عدم التمكّن من تشخيصها في سمت أخصّ من ذلك ، أو عدم التمكّن من استقبال جهته الخاصّة ؛ جمعا بينه وبين غيره من الأدلّة التي لا تقضي إلّا تقييده بصورة الضرورة ، الغير القاصرة عن

__________________

(١) في الفقيه : «من لبد دابّته أو سرجه». وفي التهذيب : «من لبد سرجه أو دابّته».

(٢) الفقيه ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ / ١٣٤٨ ، التهذيب ٣ : ١٧٣ / ٣٨٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب صلاة الخوف ، ح ٨.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ١٤٠.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٨٧ ، الهامش (١).

١١٥

شمول مثل الفرض.

ثمّ إنّ الكلام في سائر الشرائط والأجزاء كالكلام في الاستقبال من أنّه يجب تحصيلها لدى التمكّن. وما في الصحيحة المتقدّمة (١) من إطلاق الأمر بالإيماء للركوع والسجود جار مجرى الغالب.

(وكذا) الحكم في (المضطرّ إلى الصلاة ماشيا) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن بعض (٢) دعوى إجماع علمائنا عليه ، كما يشهد له ـ مضافا إلى ذلك ـ كون الأحكام المتقدّمة جارية على حسب ما تقتضيه القواعد الشرعيّة ، مع إشعار قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) (٣) وكذا الأخبار الكثيرة الواردة في صلاة الخوف بمساواتها ماشيا أو راكبا في الأحكام.

ولو دار الأمر بين أن يصلّي راكبا أو ماشيا ، فقد يقال بترجيح الثاني ؛ رعاية للقيام الذي هو من أهمّ أفعال الصلاة.

وعورض باحتمال ترجيح الركوب ؛ رعاية لشرطيّة الاستقرار ؛ حيث إنّ الراكب مستقرّ بالذات وإن تحرّك بالعرض ـ بخلاف الماشي ـ خصوصا إذا كان راكبا في محمل أو سرير يشبه سيره سير السفينة في الاستقرار ، فترجيح هذا النحو من القيام المقارن للمشي على الاستقرار الحاصل حال الركوب لا يخلو عن إشكال ، فالحكم موقع تردّد ، ومقتضى القاعدة : الاحتياط بالجمع بين الصلاتين.

لكن لا يبعد دعوى القطع من طريقة الشارع والمتشرّعة عملا وفتوى

__________________

(١) في ص ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) العلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٤ : ١٩١ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٠٩.

(٣) البقرة ٢ : ٢٣٩.

١١٦

بعدم الاعتناء باحتمال الأهمّيّة ، وأنّ المرجع في مثل الفرض ونظائره هو التخيير ، بل قد يقوى في النظر أنّ هذا هو مقتضى الأصل لا الاحتياط ؛ حيث إنّ الأمر دائر بين أن يكون الواجب أحد الأمرين عينا أو تخييرا ؛ إذ لم تثبت أهمّيّة أحد الأمرين ، فمن الجائز مساواتهما في الواقع ، وقد تقرّر في محلّه أنّ مقتضى الأصل التخيير عند دوران الأمر بينه وبين التعيين.

اللهمّ إلّا أن يقال : هذا إنّما هو في التكاليف الابتدائيّة ، لا في مثل المقام الذي تعلّق الوجوب بكلّ منهما عينا ثمّ علم إجمالا بواسطة الضرورة ارتفاع التكليف عن أحدهما المردّد بين المعيّن والمخيّر ؛ فإنّ مقتضى الأصل في مثل الفرض : بقاء أحدهما على ما كان من الوجوب العيني ، ومقتضاه وجوب الاحتياط عند تردّده بين الأمرين. وكون جريان الأصل في كلّ واحد منهما معارضا بجريانه في الآخر غير مانع عن جريانه بالنسبة إلى أحدهما على سبيل الإجمال ، الذي أثره ـ على تقدير بقاء وجوبه ـ وجوب الاحتياط.

ولا يعارضه حينئذ الأصل بقاء الآخر على ما كان ؛ للقطع بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما إمّا بارتفاع وجوبه رأسا ، أو صيرورته واجبا تخييريّا بعد أن كان عينيّا ، فليتأمّل.

وربما استشهد للقول بالتخيير أيضا بإطلاق قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) (١).

وفيه نظر ؛ فإنّ إطلاقه وارد مورد حكم آخر ، والله العالم.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٣٩.

١١٧

وهل تجوز المبادرة إلى الصلاة راكبا أو ماشيا مع سعة الوقت ، أم لا تجوز إلّا مع الضيق؟ وجهان لا يخلو أخيرهما عن قوّة ، لكن مع رجاء زوال العذر ، لا مطلقا.

اللهمّ إلّا أن يدّعى ظهور الأخبار المتقدّمة ـ الدالّة على جواز الصلاة على الراحلة لدى الضرورة ـ في أوسعيّة الأمر من ذلك ، ودوران الحكم مدار الضرورة حين الفعل ، لا مطلقا ، كما في التقيّة على ما عرفته في محلّه من مبحث الوضوء.

وفيه تأمّل ، وعلى تقدير التسليم فيتّجه الفرق بين الصلاة راكبا أو ماشيا في اعتبار الضيق في الأخيرة دون الأولى ، كما يستشعر ذلك بل يستظهر من المتن حيث إنّه لم يرد في الأخيرة نصّ خاصّ يفهم منه التوسعة وابتناء الترخيص على الضرورة حين الفعل ، بخلاف الأولى.

اللهمّ إلّا أن يدّعى القطع بمساواتهما في الحكم ، كما يستشعر ذلك من الآية (١) الشريفة وغيرها.

وربّما يستشهد لكفاية الضرورة حال الفعل في كلتا الصورتين : بإناطة الرخصة في الآية ونظائرها بعنوان الخوف الصادق عند تحقّقه حال الفعل.

وفيه نظر ؛ إذ الآية ـ على الظاهر ـ مسوقة في مقام بيان أصل التشريع من غير التفات إلى شرائطه ، فليتأمّل.

(ولو كان الراكب بحيث يتمكّن من الركوع والسجود وفرائض الصلاة هل يجوز له الفريضة على الراحلة اختيارا؟ قيل : نعم) كما عن

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٣٩.

١١٨

جماعة من المتأخّرين (١).

(وقيل : لا) وهو الأشهر ، بل قيل (٢) : إنّه المشهور ، بل عن مجمع البرهان :يكاد أن لا يكون فيه خلاف (٣).

(و) لكنّ الأوّل (هو الأشبه) فإنّ الأخبار الناهية عن الصلاة على المحمل منصرفة عن مثل الفرض ؛ فإنّ فرض التمكّن من الصلاة قائما تامّة الأجزاء والشرائط على ظهر الدابّة بحيث لم يكن سير الدابّة موجبا للخروج عن حدّ الاستقرار العرفي فرض نادر ينصرف عنه إطلاقات الأخبار قطعا.

كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى ذلك ـ جملة من الأحكام المذكورة في تلك الأخبار ، كالإيماء للركوع والسجود والاستقبال بالتكبيرة فقط ، أو نحو ذلك من الأحكام المخصوصة بحال الضرورة ، فيكشف الأمر بإيقاع الصلاة بهذه الكيفيّة عن أنّ المفروض موضوعا في تلك الأخبار ليس إلّا غير المتمكّن من الإتيان بها تامّة الأجزاء والشرائط.

ودعوى العموم اللغوي فيها بالنسبة إلى الأحوال عموما لا يتفاوت فيه النادر وغيره ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ؛ إذ لو سلّم إفادة نفي الطبيعة العموم بالوضع ، فهو بالنسبة إلى مصاديق تلك الطبيعة لا أحوالها ، فمثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ شيئا من المفروض راكبا» (٤) لو سلّمنا عمومه الوضعي ، فهو بالنسبة إلى

__________________

(١) منهم : العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٤٣ ، وحكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٧ : ٤٢٩.

(٢) القائل هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٤٢ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٦ : ٤١٤.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٦٣ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ١٠٥.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٠٦ ، الهامش (٦).

١١٩

كلّ صلاة صلاة ، وأمّا دلالته على المنع عن كلّ منها على كلّ تقدير سواء كانت تامّة أو ناقصة فإنّما هي بالإطلاق المنصرف عمّا لو كانت تامّة ؛ لندرتها.

واستثناء المريض أو حال الضرورة في بعض تلك الأخبار (١) لا يدلّ إلّا على إرادة العموم بالنسبة إلى أحوال المصلّي دون الصلاة.

وكونه متمكّنا من صلاة تامّة أو غير متمكّن منها من أحواله أيضا غير مجد بعد أن كانت هذه الحالة سارية في كلّ من المستثنى والمستثنى منه ، فهي من أحوال الفرد ، لا من أفراد العامّ.

هذا ، مع أنّ إفادة «لا» النافية أو الناهية العموم بالوضع من أصلها ممنوعة ، بل هي بالإطلاق ، كما تقرّر في محلّه.

وعن فخر المحقّقين الاستدلال على الفساد بقوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢) بتقريب أنّ المراد بالمحافظة المداومة وحفظها من المفسدات والمبطلات ، وإنّما يتحقّق ذلك في مكان اتّخذ للقرار عادة ، فإنّ غيره ـ كظهر الدابّة ـ في معرض الزوال ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جعلت لي الأرض مسجدا» (٣) أي مصلّى ، فلا يصلح إلّا فيما في معناها ، وإنّما عدّيناه إلى بالإجماع ولم يثبت هنا (٤).

وفيه : أنّ المحافظة على الصلاة عبارة عن عدم تضييعها ، والمواظبة على

__________________

(١) راجع ص ١٠٦.

(٢) البقرة ٢ : ٢٣٨.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب مكان المصلّي ، ح ٢.

(٤) إيضاح الفوائد ١ : ٧٩ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ١٤٣.

١٢٠