ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

نقل في تاريخ الإسلام : عن حمّاد بن زيد (١) قال : سمعت أيّوب السجستاني (٢) وقد قيل له : ما لك لا تنظر في الرأي ؟ فقال : قيل للحمار : ألا تجترّ ؟ قال : أكره مضغ الباطل (٣) .

وفيه وفي غيره عن مالك قال : قال ابن أبي سلمة بن هرمز (٤) ـ وهو شيخ مالك ـ لعبداللّه‏ بن يزيد بن هرمز (٥) ـ وهو من أكابر علماء المدينة ـ :

__________________

(١) هو حمّاد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي البصري ، يكنّى أبا إسماعيل ، أصله من سجستان ، كان عثمانيّاً ، وكان كثير الحديث ، سمع من أنس بـن سيرين ، وعمرو بن دينار ، وأيوّب السختياني وغيرهم ، وروى عنه : إبراهيم بن أبي عبلة ، وسفيان ، وشعبة ، ولد سنة ٩٨ هـ ، ومات سنة ١٧٩ هـ .

انظر : منتهى المقال ٣ : ١١١ / ٩٨٨ ، الطبقات لابن سعد ٧ : ٢٨٦ ، طبقات خليفة : ٣٨٦ / ١٨٩٥ ، العبر ١ : ٢١١ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٥٦ / ١٦٩ ، تقريب التهذيب ١ : ١٩٧ / ٥٤١ .

(٢) هو أيّوب بن أبي تميمة السختياني أو السجستاني ، يكنّى أبا بكر العنزي البصري ، واسم أبيه كيسان ، سمع الكثيرين ، منهم : سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وأبا العالية ، وغيرهم ، وروى له : البخاري ، ومسلم ، وأبو داوُد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، مات سنة ١٣١ هـ ، وقيل : ١٣٢ هـ في الطاعون بالبصرة .

انظر : رجال الطوسي : ١٥٠ / ١٦٠ ، الطبقات لابن سعد ٧ : ٢٤٦ ، طبقات خليفة : ٣٧٣ / ١٨١٨ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ١٥ / ٧ ، الجرح والتعديل ٢ : ٢٥٥ / ٩١٥ ، تقريب التهذيب ١ : ٨٩ / ٦٨٨ .

(٣) تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ٣٨١ ـ ٣٨٢ ، وفيه : أيّوب السختياني ، وأورده ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم ٢ : ١٠٧٣ / ٢٠٨٥ .

(٤) هو عبد العزيز بن عبداللّه‏ بن أبي سلمة ميمون ، مولى آل الهدير التّميّين ، يكنّى أبا الأصبغ الماجشون ، سكن بغداد ، وحدّث عن : ابن شهاب ، وابن المنكدر ، وعبداللّه‏ ابن دينار ، كما حدّث عنه : وكيع ، والليث بن سعد ، والطيالسي ، مات سنة ١٦٤هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٧ : ٣٢٣ ، طبقات خليفة : ٤٧٩ / ٢٤٨١ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٤٣٦ / ٥٦٠١ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٣٠٩ / ١٠٢ .

(٥) عبداللّه‏ بن يزيد بن هرمز الأصم ، يكنّى أبا بكر ، مولى لبني ليث ، جالسه مالك

٨١

الرجل يستفتيني فأفتيه برأيي ، قال : لا واللّه‏ ، حتّى تعلم ، لو جاز ذلك لجاز للسقّائين (١) .

أقول : هذا صريح أيضاً في أنّ المستفاد من الرأي ليس بعلم حتّى عندهم أيضاً ، كما ظهر ممّا مرّ من الآيات والأخبار آنفاً ، ويؤيّده ما ذكره محمّد بن شعيب (٢) عن الأوزاعي ، أنّه كان يقول : من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام ، وإنّ العلم ما جاء عن أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما لم يجئ من الصحابة فليس بعلم . ويقول : الذي كان عليه الصحابة لزوم الجماعة واتّباع السنّة (٣) .

أقول : ولم يكن كلّ الصحابة أيضاً على اتّباع السنّة كما ظهر وسيظهر ، فليس العلم إلاّ ما ظهر أنّه من الكتاب أو السنّة .

وفي التاريخ المذكور أيضاً : عن مالك أنّه قال : قال لي ابن هرمز : يا مالك ، لا تمسك بشيء من هذا الرأي الذي أخذت منّي ، فإنّي واللّه‏ ، وربيعة الرأي فجرنا ذلك (٤) .

__________________

كثيراً وأخذ عنه ، كان أحد فقهاء المدينة ، مات سنة ١٤٨ هـ .

انظر : التاريخ الكبير ٥ : ٢٢٤ / ٧٣٣ ، التاريخ الصغير ٢ : ٨٤ ، الجرح والتعديل ٥ : ١٩٩ / ٩٢٤ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٧٩ / ١٥٩ .

(١) تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، كتاب المعرفة والتاريخ ١ : ٦٥٥ .

(٢) هو محمّد بن شعيب بن شابور الدمشقي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، مولى بني اُميّة ، سكن بيروت ، روى عن النعمان بن المنذر ، والأوزاعي ، ويحيى بن الحارث الذّماري ، وروى عنه ابن المبارك ، وأبو عتبة الحجازي ، وكثير بن عبيد ، وكان من أعلم الناس بالأوزاعي وبحديثه وفتياه ، وكان يفتي في مجلس الأوزاعي ، ولد سنة ١١٦ هـ ، ومات سنة ١٩٨ هـ .

انظر : طبقات خليفة : ٥٧٩ / ٣٠٤٠ ، الجرح والتعديل ٧ : ٢٨٦ / ١٥٤٨ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٧٦ / ١٢٢ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٥٨٠ / ٧٦٧٢ .

(٣) تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٤٩٠ ـ ٤٩٢ .

(٤) تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ١٥٩ ، كتاب المعرفة والتاريخ ١: ٦٥٥ .

٨٢

وفيه : عن مالك أنّه كان يقول : إنّما أنا بشر أُخطئ وأُصيب ، فانظروا في رأيي ، فكلّ ما وافق الكتاب والسنّة فخذوه وإلاّ فاتركوه . وسأله رجل عن البتّة (١) ، فقال : هي ثلاث ، فأراد الرجل أن يكتب ذلك في لوحه ، فقال : لا تكتب فعسى في العشيّ أن أقول : إنّها واحدة (٢) .

وفيه : عن الوليد بن مزيد (٣) أنّه قال : سمعت الأوزاعي يقول : عليك بآثار من سلف ولو رفضك الناس ، وإيّاك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول ، فإنّ الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم (٤) .

وكان يقول : إنّا لا ننقم على أبي حنيفة (٥) أنّه رأى ، بل كلّنا نرى ،

__________________

(١) البتّ : القطع ، وطلاق البتّة : طلاق البائن ، وطلّقها ثلاثاً بتّة ، أي : لا رجعة بعدها .

انظر : الصحاح ١ : ٢٤٢ ، والقاموس المحيط ١ : ١٩١ ، ومجمع البحرين ٢ : ١٩ ـ بتت ـ .

(٢) تاريخ الإسلام (حوادث ١٧١ ـ ١٨٠) : ٣٢٧ .

(٣) في النسخ : الوليد بن يزيد ، والظاهر ما أثبتناه ، وهو الوليد بن مزيد العذري ، يكنّى أبا العبّاس البيروتي ، روى عن الأوزاعي ، وعبدالرحمن بن جابر ، وعبداللّه‏ بن شوذب وغيرهم ، وروى عنه ابنه العبّاس ، وأبو مسهر وغيرهما ، واختلف في وفاته على أقوال منها : أنّه مات سنة ١٨٣ هـ ، وقيل : ٢٠٣ هـ .

انظر : التاريخ الكبير ٨ : ١٥٥ / ٢٥٤١ ، الجرح والتعديل ٩ : ١٨ / ٧٧ ، سير أعلام النبلاء ٤١٩ / ١٤٧ ، تقريب التهذيب ٢ : ٣٣٥ / ٨٧ ، تهذيب التهذيب ١١ : ١٣٢ / ٢٥٢ .

(٤) أورده تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٤٩٠ ، وابن عبدالبرّ في جامع بيان العلم ٢ : ١٠٧١ / ٢٠٧٧ اختصاراً .

(٥) هو النعمان بن ثابت بن زوطي ، يكنّى أبا حنيفة ، إمام الحنفيّة ، أصله من أبناء فارس ، ولد ونشأ بالكوفة ، وزوطي كان مملوكاً لبني تيم ، وروى عن أبي حنيفة جمع كثير ، ولد سنة ٨٠ هـ ومات سنة ١٥٠ هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٦ : ٣٦٨ ، المعارف لابن قتيبة : ٤٩٥ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢٣ / ٧٢٩٧ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ٢١٦ / ٣٣١ ، وفيات الأعيان ٥ : ٤٠٥ / ٧٦٥ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٩٠ / ١٦٣ ، تقريب التهذيب ٢ : ٣٠٣ / ١٠٨ .

٨٣

ولكنّا ننقم عليه أنّه رأى الشيء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فخالفه (١) .

وكان يقول : إنّا نتحدّث أن ما ابتدع أحد بدعة إلاّ سُلب وَرعه (٢) .

أقول : انظر إلى هذا الرجل الذي يذمّ الرأي مطلقاً ، ثمّ يعترف بأنّه قد يعمل به .

وأمّا ما نسبه إلى أبي حنيفة ، فقد ذكر الزمخشري أنّه خالف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتاويه أزيد من أربعمائة موضع (٣) .

وقد نقل ابن عبد البرّ أنّ أبا حنيفة لم يكن يعتمد على الحديث إذا لم يكن موافقاً للقرآن أو إجماع الاُمّة ، وكان يسمّيه الخبر الشاذّ ، وأنّه لأجل هذا أيضاً وقع في الرأي والقياس (٤) .

ومع هذا نقل الذهبي (٥) عن ابن حزم أنّه قال : جميع الحنفيّة مجمعون على أنّ مذهب أبي حنيفة أنّ ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي (٦) ، حتى نقل الذهبي أنّ وكيعاً (٧) قال : سمعت أبا حنيفة

__________________

(١ و٢) تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٤٩٢ .

(٣) ربيع الأبرار ٣ : ١٩٧ بتفاوت في الألفاظ .

(٤) لم نعثر عليه .

(٥) هو محمّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، الحافظ المؤرّخ الشافعي مع ميله الشديد إلى آراء الحنابلة ، له كتب تقارب المائة ، منها : سير أعلام النبلاء ، وميزان الاعتدال ، ودول الإسلام ، ولد في دمشق سنة ٦٧٣ هـ ، ومات فيها سنة ٧٤٨ هـ .

انظر : الوافي بالوفيات ٢ : ١٦٣ ٥٢٣ ، طبقات الشافعيّة للسبكي ٩ : ١٠٠ / ١٣٠٦ ، شذرات الذهب ٦ : ١٥٣ .

(٦) تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٣١٠ .

(٧) هو وكيع بن الجرّاح بن فليح بن عدي الرواسي الكوفي ، يكنّى أبا سفيان ، وأصله من نيسابور ، سمع سليمان الأعمش ، وابن جريح ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري

٨٤

يقول : البول في المسجد أحسن من بعض القياس) (١) (٢) .

ونقل أنّ زفر بن الهذيل (٣) ـ من أصحاب أبي حنيفة ـ رجع عن الرأي وأقبل على العبادة (٤) .

ونقل أيضاً عن داوُد الطائي (٥) أنّه كان من أصحاب الرأي ، وكان يجالس أبا حنيفة ، ثمّ عمد إلى كتبه فغرّقها في الفرات ، وعمد إلى العبادة ، وتخلّى عن الناس (٦) .

__________________

وغيرهم ، وحدّث عنه : ابن معين ، وبنو أبي شيبة ، وعبداللّه‏ بن المبارك ، وكان يفتي بقول أبي حنيفة ، وقد سمع منه شيئاً كثيراً ، ولد سنة ١٢٧ هـ ومات سنة ١٩٧هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٦ : ٣٩٤ ، الجرح والتعديل ١ : ٢١٩ ، فهرست ابن النديم : ٢٨٣ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٤٦٦ / ٧٣٣٢ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ١٤٤ / ٢٢٩ . سير أعلام النبلاء ٩ : ١٤ / ٤٨.

(١) ما بين القوسين في «م» بتقديم وتأخير .

(٢) تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٣١٠ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٤٠١ .

(٣) هو زُفر بن الهذيل العنبري التميمي الكوفي ، يكنّى أبا الهذيل ، صاحب أبي حنيفة ، وغلب عليه الرأي ، ولد سنة ١١٠ هـ ، ومات سنة ١٥٨ هـ .

انظر : رجال الطوسي : ٢١١ / ٢٧٥٠ ، نقد الرجال ٢ : ٢٥٩ / ٢٠٣٥ ، قاموس الرجال ٤ : ٤٥٢ / ٢٩٢٥ ، المعارف : ٤٩٦ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٧١ /٢٨٦٧ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٨ / ٦ ، تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٣٨٩ .

(٤) تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٣٨٩ .

(٥) هو داوُد بن نصير الطائي الكوفي ، يكنّى أبا سليمان ، من أهل الرأي ومن أصحاب أبي حنيفة ، سمع الحديث وتفقّه وعرف النحو وأيّام الناس ، ولم يتكلّم بشيء من ذلك ، ثمّ اختار العزلة .

ولد بعد المائة بسنوات ، واختلف في وفاته على أقوال منها : أنّه مات سنة ١٦١ هـ .

انظر : رجال الطوسي : ٢٠١ / ٢٥٦١ ، نقد الرجال ٢ : ٢٢٢ / ١٩٠٢ ، الطبقات لابن سعد ٦ : ٣٦٧ ، المعارف : ٥١٥ ، التأريخ الكبير ٣ : ٢٤٠ / ٨١٩ ، وفيات الأعيان ٢ : ٢٥٩ / ٢٢٥ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٢٢ / ١٥٨ ، تاريخ الإسلام (حوادث ١٦١ ـ ١٧٠) : ١٧٦ / ١٠٨ .

(٦) تاريخ الإسلام (حوادث ١٦١ ـ ١٧٠) : ١٧٧ ـ ١٧٨ .

٨٥

أقول : قد نقل جماعة عن رجل من أصحاب الصادق عليه‌السلام أنّه قال : دخلت على أبي حنيفة ، فرأيت حوله كتباً عظيمة ، فقال : هذه كلّها في الطلاق ، فقلت : ما فعلت شيئاً ، قد ذكر اللّه‏ ما كفى في قوله عزوجل : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) (١) .

فقال لي : إذا ادّعيت هذا فأخبرني عن رجل زنى تسعة وتسعين زنية (٢) جزء منه حرّ وجزء منه رقّ ، فكيف يحدّ ؟

قلت : لقد روى لنا الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان يضرب بتمام السَّوْط وبنصفه وبثلثه وبربعه ، وهكذا على قدر الحاجة .

قال الرجل : فلمّا سمع أبو حنيفة ذلك منّي غضب ، وقال : سأسألك عمّا لا تقدر على جوابه ولو بعد حين : أيّ شيء تقول في سمكة اُخرجت من البحر فكان رأسها كذا وكذا وجسدها كذا وكذا ؟

فقلت : أيّ شيء تريد تكون ؟ روى لنا الصادق عليه‌السلام أنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كلّ ما كان له فلس فكلوه ، وما لم يكن له فلس فاجتنبوه» فسكت ولم يحر جواباً (٣) .

وفي التاريخ المذكور أيضاً: أنّ الشعبي كان يذمّ الرأي ويفتي بالنصّ (٤) .

ونقل فيه : عن مجالد (٥) أنّه قال : سمعت الشعبي يقول : لعن اللّه‏

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٢٩ .

(٢) لم ترد في «ن» و«س» .

(٣) لم نعثر على صريح ألفاظه ، وانظر : رجال الكشّي : ٤٤٨ / ٧١٨ ، والاختصاص : ٢٠٦ ، وبحار الأنوار ٤٧ : ٤٠٩ / ١٢ .

(٤) تاريخ الإسلام (حوادث ١٠١ ـ ١٢٠) : ١٣٠ .

(٥) هو مجالد بن سعيد بن مجالد بن عمير الهمداني ، يكنّى أبا عمير ، كان نسّابة ،

٨٦

أرأيت (١) .

وعن الهذلي (٢) أنّه قال : قال الشعبي : أرأيتم لو قُتل الأحنف بن قيس (٣) وقُتل طفل كانت ديتهما سواء ، أم يفضّل الأحنف لعقله وفضله ؟ قلت : بل سواء ، فقال : فليس القياس بشيء (٤) .

وكان يقول أيضاً : إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرّمتم

__________________

روى عن الشعبي ، ومسروق ، ومرّة الهمداني ، وروى عنه : الثوري ، وشعبة ، وحمّاد بن زيد ، ويحيى بن سعيد القطّان وغيرهم ، واختلف في وفاته على أقوال منها : أنّه مات سنة ١٤١ هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٦ : ٣٤٩ ، طبقات خليفة : ٢٨٢ / ١٢٥٥ ، المعارف : ٥٣٧ ، الجرح والتعديل ٨ : ٣٦١ / ١٦٥٣ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٨٤ / ١٢٣ .

(١) تاريخ الإسلام (حوادث ١٠١ ـ ١٢٠) : ١٣٠ ، وفيه رأيت بدل أرأيت ، وأورده أبو نعيم في حلية الأولياء ٤ : ٣٢٠ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٤ : ٣١١ ، ضمن ترجمه الشعبي ذيل رقم ١١٣ ،

(٢) هو سُلمى ـ وقيل : روح ـ بن عبداللّه‏ بن سُلمى البصري الهذلي ، يكنّى أبا بكر ، روى عن الشعبي ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وقتادة ، وعكرمة وغيرهم ، وروى عنه : ابن جريح ، وابن المبارك ، ووكيع ، وابن عيينة وغيرهم ، مات سنة ٦٧ هـ .

انظر : المنتظم ٨ : ٢٣٠ / ٨٥٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ١٩٤ / ٣٤١٨ ، تهذيب التهذيب ١٢ : ٤٧ / ١٨٠ ، تقريب التهذيب ٢ : ٤٠١ / ٩٤ .

(٣) هو الضحّاك أو صخر بن قيس بن معاوية السعدي التميمي ، يكنّى أبا بحر ، يلقّب بالأحنف ، كان يضرب به المثل في الحِلم ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وشهد معه صفّين ، وسمّي الأحنف لعوج في رجليه ، وكان من سادات التابعين أدرك عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يره ، توفّي سنة ٦٧ هـ .

انظر: رجال الكشّي : ٩٠ / ١٤٥ و٩٢ / ١٤٦، أعيان الشيعة ٧: ٣٨٣، قاموس الرجال ١ : ٦٨٧ / ٦٣٣ ، الطبقات لابن سعد ٧ : ٩٣ ، المعارف : ٤٢٣ ، الاستيعاب ١ : ١٤٤ / ١٦٠ ، وفيات الأعيان ٢ : ٤٩٩ / ٣٠٥ .

(٤) تاريخ الإسلام (حوادث ١٠١ ـ ١٢٠) : ١٣١ ، حلية الأولياء ٤ : ٣٢٠ .

٨٧

الحلال (١) .

وسأله رجل عن شيء فلم يكن عنده فيه شيء ، فقيل له : قل فيه برأيك ، فقال : وما تصنع برأيي ؟ بُلْ على رأيي (٢) .

وفيه : إنّ أبا حصين عثمان بن عاصم ـ من أعاظم علمائهم ـ قال شاكياً عن أهل الرأي : إنّ أحدهم ليفتي في المسألة التي لو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر (٣) .

وفيه أيضاً : إنّ يونس بن عبيد (٤) كان يقول : لأن ألقى اللّه‏ بالزنا والسرقة أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه‏ برأي عمرو بن عبيد (٥) .

وفيه وفي غيره : عن سعيد بن عبدالعزيز (٦) أنّ مكحولاً كان إذا سئل يقول : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏ ، هذا رأيي والرأي يخطئ ويصيب . وكثيراً ما كان يسئل عن شيء فيقول : لا أدري . وكان يقول : لأن اُقدّم فيضرب

__________________

(١) وجدناه في عدّة الاُصول للشيخ الطوسي ٢ : ٦٩٠ ، وحلية الأولياء ٤ : ٣١٩ ، والفصول في الاُصول للجصّاص ٤ : ٦٧ ، والمحصول ٥ : ٧٨ .

(٢) تاريخ الإسلام (حوادث ١٠١ ـ ١٢٠) : ١٣٠ ، وأورده ابن سعد في طبقاته ٦ : ٢٥٠ ، وأبو نعيم في حليته ٤ : ٣١٩ .

(٣) تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ١٧٤ .

(٤) يونس بن عبيد بن دينار البصري ، مولى لعبد القيس ، حدّث عن الحسن البصري ، وابن سيرين ، وعطاء وغيرهم ، وروى عنه : شعبة ، وسفيان ، وحمّاد بن سلمة ، وسواهم ، مات سنة ١٣٩ هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٧ : ٢٦٠ ، الجرح والتعديل ٩ : ٢٤٢ / ١٠٢٠ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٨٨ / ١٢٤ .

(٥) تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ٥٧٥ بتفاوت يسير .

(٦) سعيد بن عبدالعزيز بن أبي يحيى التنوخي الدمشقي ، يكنّى أبا محمّد ، حدّث عن مكحول ، والزهري ، وإسماعيل بن عبيداللّه‏ . وحدّث عنه الوليد بن مسلم ، وأبو مسهر ، والشعبي ، والثوري ، ولد سنة ٩٠ هـ ، ومات سنة ١٦٧ هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٧ : ٤٦٨ ، طبقات خليفة : ٥٧٧ / ٣٠٢٤ ، الجرح والتعديل ٤ : ٤٢ / ١٨٤ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٢ / ٥ ، شذرات الذهب ١ : ٢٦٣ .

٨٨

عنقي أحبّ إليَّ من أن أليَ القضاء (١) .

وفي كتاب الجاحظ : عن مسروق أنّه قال : لا أقيس شيئاً بشيء ، أخاف أن تزلّ قدمي بعد ثبوتها (٢) .

ثمّ قال الجاحظ : إنّ العمل بالآراء ليس كالعمل باليقين ؛ لأنّها تصيب وتخطئ ؛ لأنّ الاُمّة أجمعت على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر شاور أصحابه في الأسرى ، واتّفق رأيهم على قبول الفداء منهم ، فأنزل اللّه‏ تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ ) (٣) الآية ، فقد بانَ من ذلك أنّ الرأي يصيب ويخطئ ، فلا يعطي اليقين ، فليس الحجّة إلاّ الطاعة للّه‏ ولرسوله ، وما أجمعت عليه الاُمّة من كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّها (٤) ، انتهى كلامه .

وقد روى الضياء المقدسي أيضاً في كتابه عن عمر ، أنّه قال : ما رأيت مثل من قضى بين اثنين بعد ورود هؤلاء الثلاثة : ( وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه‏ُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَـفِرُونَ ) (٥) ، ومن قوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٦) ، وقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (٧) (٨) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام (حوادث ١٠١ ـ ١٢٠) : ٤٨٠ ـ ٤٨١ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٦١ / ٥٨ ، وفيه بتفاوت ، حلية الأولياء ٥ : ١٧٩ .

(٢) حكاه عنه النباطي في الصراط المستقيم ٣ : ٢٠٨ ، وأورده ابن عبدالبرّ في جامع بيان العلم ٢ : ٨٩٣ / ١٦٧٨ .

(٣) سورة الأنفال ٨ : ٦٧ .

(٤) حكاه عنه الإربلي في كشف الغمّة ١ : ٣٦ .

(٥) سورة المائدة ٥ : ٤٤ .

(٦) سورة المائدة ٥ : ٤٥ .

(٧) سورة المائدة ٥ : ٤٧ .

(٨) وجدناه في كنز العمّال ٥ : ٨٠١ / ١٤٤٢٣ .

٨٩

ونقل السخاوي في كتاب المقاصد الحسنة أنّ الشافعي قال : لقد ألّفت هذه الكتب ولم آل فيها (١) ولا بدّ أن يوجد فيها الخطأ ؛ لأنّ اللّه‏ يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (٢) ، فما وجدتم في كتبي هذه ممّا يخالف الكتاب والسنّة فقد رجعت عنه (٣) .

أقول : إنّ أكثر هؤلاء لم يخافوا إلاّ عمّا يخالف الكتاب والسنّة ، وغفلوا عن الذي ينادي به الكتاب والسنّة ، كما ظهر من عدم جواز الاعتماد على الرأي مطلقاً ، وإن كان في شيء لم نجد مخالفته ولا موافقته لما في الكتاب والسنّة ، فافهم .

وقد نقل الذهبي : أنّ المهديّ العبّاسي كتب إلى الأمصار يزجر أن يتكلّم أحد من أهل الأهواء في شيء منها (٤) .

ونقل أيضاً عن ابن سفيان (٥) أنّه قال : سألت هُشيماً (٦) عن التفسير ،

__________________

(١) في النسخ : ولم أر فيها ، وما أثبتناه من المصدر .

(٢) سورة النساء ٤ : ٨٢ .

(٣) المقاصد الحسنة : ٣٤ / ١٥ .

(٤) تاريخ الإسلام (حوادث ١٦١ ـ ١٧٠) : ٤٣٩ بتفاوت ، وفيه الاُمراء بدل الأهواء .

(٥) هو سعيد بن يحيى بن مهدي الحميري الحذّاء الواسطي ، يكنّى أبا سفيان ، عامّي المذهب ، عنده أحاديث قليلة رواها عن معمّر ، وعوف الأعرابي ، والضحّاك بن حمزة ، وهُشيم وجماعة ، كما روى عنه : إسحاق بن راهويه ، وابنا شيبة ، وأحمد بن سنان وغيرهم ، ولد سنة ١١٢ هـ ، ومات سنة ٢٠٢ هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٧ : ٣١٤ ، طبقات خليفة : ٦١٠ / ٣١٩٥ ، الجرح والتعديل ٤ : ٧٤ / ٣١٣ ، ميزان الاعتدال ٢ : ١٦٣ / ٢٢٩٥ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٤٣٢ / ١٥٩ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٨٧ / ١٦٦ .

(٦) هُشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي الواسطي عامّي المذهب ، حدّث : عن منصور بن زاذان ، وسليمان التيمي ، وأيّوب السختياني وغيرهم ، وروى عنه : ابن حنبل ، ووكيع ، ويحيى بن معين وسواهم ، له كتب منها : السنن في الفقه ، كتاب

٩٠

كيف صار فيه اختلاف ؟ فقال : قالوا فيه برأيهم ( (١) فاختلفوا (٢) .

أقول : هذا صريح في أنّهم أدخلوا الرأي في الدين بحيث فسّروا القرآن على وفقه ، ولم يبالوا باستلزامه التحريف والتغيير في كلام اللّه‏ ومراده ، حتّى روى جمع أنّ رجلاً سأل ابن عمر ، فقال له : ما تقول في مولاكم زيد بن أسلم (٣) ؟ فقال : ما نعلم به بأساً إلاّ أنّه يفسّر القرآن برأيه (٤) ، ومن تتبّع تفاسير القوم وجد أكثرها من هذا القبيل ، وإلى ردّ هذا وبيان ضلالته ورد ما رواه النسائي والترمذي وأبو داوُد في صحاحهم : عن جندب (٥) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قال بالقرآن برأيه فأصاب الحقّ

__________________

التفسير ، كتاب القراءات ، ولد سنة ١٠٤ هـ ، ومات سنة ١٨٣ هـ .

انظر : الجرح والتعديل ٩ : ١١٥ / ٤٨٦ ، فهرست ابن النديم : ٢٨٤ ، تاريخ بغداد ١٤ : ٨٥ / ٧٤٣٦ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ١٣٨ / ٢١٣ ، سير أعلام النبلاء ٨ : ٢٨٧ / ٧٦ .

(١) من هنا إلى ص٩٧ هامش ٢ سقط من «ن» .

(٢) تاريخ الإسلام (حوادث ١٨١ ـ ١٩٠) : ٤٣٥ .

(٣) هو زيد بن أسلم العدوي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، وقيل : أبا أسامة ، مولى عمر بن الخطّاب تابعي ، كان يجالس عليّ بن الحسين عليهما‌السلام كثيراً ، وحدّث عن ابن عمر ، وأبيه أسلم ، وجابر ، وغيرهم ، وروى عنه : مالك ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وسواهم ، وله تفسير القرآن ، مات سنة ١٣٦ هـ .

انظر : رجال الشيخ : ١١٤ / ١١٣٠ ، منتهى المقال ٣ : ٢٨٦ /١٢١٦ ، قاموس الرجال ٤ : ٥٣٤ / ٣٠٢٣ ، طبقات خليفة : ٤٥٧ / ٢٣٢٤ ، الجرح والتعديل ٣ : ٥٥٥ / ٢٥١١ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٣١٦ / ١٥٣ ، شذرات الذهب ١ : ١٩٤ .

(٤) الجرح والتعديل ٣ : ٥٥٥ / ٢٥١١ ، تاريخ مدينة دمشق ١٩ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ / ٢٣٢٩ ، تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ٤٣١ ، تهذيب التهذيب ٣ : ٣٤٢ / ٧٢٨ .

(٥) هو جندب بن عبداللّه‏ بن سفيان البجلي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، وينسب إلى جدّه ، وروى عنه : الحسن بن أبي الحسن ، ومحمّد بن سيرين ، وأنس بن سيرين وغيرهم ، بقي إلى حدود سنة ٧٠ هـ .

انظر : الطبقات لابن سعد ٦ : ٣٥ ، طبقات خليفة : ١٩٧ / ٧٣٤ ، الجرح والتعديل

٩١

فقد أخطأ» (١) .

وقد مرّ غيره من الأخبار الصريحة ، وسيأتي أيضاً ، ومنه يظهر أن لا اعتماد على أقوال مفسّريهم ما لم يكن منوطاً بحديث معتمد عليه ؛ حيث يأتي ما يدلّ على وضعهم روايات في تفسير بعض الآيات .

وقد روى جمع : أنّ قتادة المفسّر دخل على أبي عبد اللّه‏ الصادق عليه‌السلام فسأله الإمام عليه‌السلام عن تفسير بعض الآيات ، فلم (٢) يكن عنده صواب جواب ، ففسّر له الإمام عليه‌السلام إيّاها على ما أخذه من آبائه الكرام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله العالم العلاّم ، ثمّ قال : «يا قتادة ، إن كنت قد (٣) فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت آخذه (٤) من أفواه الرجال فقد هلكت وأهلكت» (٥) ، الخبر ، وغيره أيضاً كثير .

وقال الشهرستاني (٦) في كتاب «الملل والنحل» عند ذكر اختلاف الناس والشُبه التي توقعهم فيه ، ما خلاصته : إنّ مبنى جميع الاختلافات على إضلال الشيطان ، وأنّ الشُبه الواقعة لبني آدم فإنّما هي من وساوس الشيطان ، التي نشأت من شبهاته (٧) .

__________________

٢ : ٥١٠ / ٢١٠٢ ، الثقات ٣ : ٥٦ ، الاستيعاب ١ : ٢٥٦ / ٣٤٠ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ١٧٤ / ٣٠ .

(١) فضائل القرآن للنسائي : ٧٧ / ١١١ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٣٢٠ / ٣٦٥٢ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٠٠ / ٢٩٥٢ ، جامع الأحاديث ٧ : ٧٥ / ٢٠٩٧٠ .

(٢) في النسخ المعتمدة : «لم» والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصواب .

(٣) في نسخة «ش» والمصدر : «إنّما» .

(٤) كذا في النسخ ، وفي المصدر : « أخذته» .

(٥) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٣٤٩ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٢١ ، وفيها عن أبي جعفر عليه‌السلام .

(٦) في نسخة «ش» ورد : «محمّد الشهرستاني» .

(٧) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٨ .

٩٢

ثمّ نقل : أنّ أوّل شبهة (وقعت في الخليقة) (١) شُبهة إبليس ، ومصدرها استبداده في الرأي في مقابلة النصّ ، واختياره الهوى في معارضة الأمر ، واستكباره بالمادّة التي خلق منها ـ وهي النار ـ على مادّة آدم ـ وهي الطين ـ وقياسه شيئاً بشيء .

قال : ومن هذه الشبهة انشعبت سبع شبهات وصارت في الخلق وسرت في أذهان الناس حتّى صارت مذاهب بدعة وضلال .

ثمّ قال : وتلك الشبهات مذكورة في شروح الأناجيل الأربعة وبعض مواضع التوراة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود وامتناعه منه هكذا .

قال الشيطان للملائكة : إنّي سلّمت أنّ البارئ تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر لا يُسأل عن قدرته وإرادته ومشيئته ، وأنّه مهما أراد شيئاً قال له : كن فيكون ، وهو حكيم إلاّ أنّه يتوجّه على مساق حكمته أسئلة ، قالت الملائكة : ما هي ؟ قال : إنّها سبع :

الأوّل : إنّه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عنّي ويحصل فَلِمَ خلقني أوّلاً ؟ وما الحكمة في ذلك ؟

الثاني : إنّه إذ خلقني على مقتضى مشيئته وإرادته فلِمَ كلّفني بمعرفته وطاعته ؟ وما الحكمة فيه بعد أن لا ينتفع بطاعة ، ولا يتضرّر بمعصية ؟

الثالث : إذ خلقني وكلّفني بالمعرفة والطاعة فالتزمت هذا التكليف فعرفت وأطعت فَلِمَ كلّفني بطاعة آدم والسجود له ؟ وما الحكمة في هذا التكليف بالخصوص بعد أن لا يزيد هذا في معرفتي وطاعتي ؟

الرابع : إنّه إذ خلقني وكلّفني على الإطلاق وبخصوص هذا التكليف ،

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

٩٣

فإذا لم أسجد فَلِمَ لعنني وأخرجني من الجنّة ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحاً إلاّ قولي : لا أسجد إلاّ لك ؟

الخامس : إنّه إذ خلقني وكلّفني مطلقاً وخصوصاً فلم أطع فلعنني وطردني فلِمَ طرّقني إلى آدم حتّى دخلت الجنّة ثانياً ، وغررت آدم وحوّاء حتّى أكلا من الشجرة وأخرجهما من الجنّة ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنّة لاستراح آدم منّي وبقي خالداً في الجنّة ؟

السادس : إنّه إذ خلقني وكلّفني عموماً وخصوصاً ولعنني وطردني ، ثمّ طرّقني إلى الجنّة ، وكانت الخصومة بيني وبين آدم فَلِمَ سلّطني على أولاده هذا النحو من التسلّط الكامل ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم (١) عنها ، فيعيشوا سامعين مطيعين طاهرين ، كان أليق بالحكمة ؟

السابع : سلّمت هذه كلّها لِمَ إذا استمهلته أمهلني ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح منّي الخلق ، وما بقي شرّ في العالم ؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشرّ ؟ (٢) .

قال الشهرستاني : قال شارح الإنجيل : إنّ اللّه‏ أوحى إلى الملائكة قولوا له : أمّا تسليمك الأوّل أنّي إلهك وإله الخلق ، فأنت فيه غير صادق ولا مخلص ؛ إذ لو صدقت في ذلك ما حكمت عليَّ بـ (لِمَ) فأنا اللّه‏ الذي لا إله إلاّ أنا لا اُسأل عمّا أفعل والخلق مسؤولون (٣) .

أقول : ليس المراد بهذا الكلام ما توهّمه الأشاعرة (٤) والجبريّة من أنّ

__________________

(١) في «ش» : يختالهم .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦ ـ ١٨ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٨ .

(٤) الأشاعرة أو الأشعرية : فرقة معروفة ، أصحاب أبي الحسن الأشعري ، من آرائهم : أنّ

٩٤

المعنى : إنّ اللّه‏ لا يُسأل عمّا يفعل حيث لا حكم عليه ولو جبّر (١) ، بل المراد : أنّ اللّه‏ عزوجل حكيم عليم لا يفعل إلاّ ما فيه المصالح العظيمة ، والحِكم الجسيمة وإنْ لم نعلم نحن بذلك ؛ لِجهلنا وعجزنا ، ولا كلام للجاهل على العالم ، بل يجب علينا أن نقطع بأنّ جميع أفعاله على وجه العدل والحكمة والصواب وإن لم ندرك نحن من تلك الوجوه شيئاً .

فلو كان الشيطان صادقاً في دعواه تسليم علم اللّه‏ وقدرته ، وأنّه الإله الحكيم الذي لا يفعل إلاّ ما هو الأحسن الأصوب ، لَعلم أنّ كلّ ما فعله ربّه جلّ شأنه هو الحقّ الذي فيه المصالح العظيمة ، وأنّ عدم إدراكه لها ليس لعدمها ، بل لخفائها عليه ، لقصوره عن كمال العلم، فلم يكن يتكلّم بما تكلّم.

هذا ، مع أنّه من تأمّل صادقاً علم أنّ شُبهه كلّها مبنيّة على آراء استحسانية وقياسات خيالية ، يظهر كمال سخافتها عند معرفة حكمة إيجاد الخلق والاطّلاع على مصالح وضع التكليف ، فإنّ مجمل ذلك ـ كما يستفاد على ما سيأتي ، بل مرّ أيضاً من كلام علماء أهل البيت الذين أخذوا علومهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الآخذ من اللّه‏ عزوجل ـ أنّ (٢) من عمدة أسباب إيجاد هذا العالم ووضع دار التكليف : أن يتبيّن ـ تبياناً تماماً ـ المطيع لإرادة ربّه فيما خلقه اللّه‏ عزوجل لأجله من إجابة ما أمره به على مقتضى حكمته ومشيئته من العاصي عن ذلك ، يتميّز عياناً الطيّب المستحقّ للطيّبات من المثوبات

__________________

تكليف ما لا يطاق جائز ، وأنّ كلّ موجود يصحّ أن يُرى والبارئ تعالى موجود فيصحّ أن يُرى ، ومذهبهم في الوعد والوعيد ، والأسماء ، والأحكام ، والسمع والعقل مخالف للمعتزلة من كلّ وجه .

انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٤ ، دائرة المعارف الإسلامية ٢ : ٢١٨ ، ومجمع البحرين ٣ : ٣٥١ .

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٨٧ ، ١٠٢ .

(٢) في «م» : أنّه .

٩٥

التي جعلها اللّه‏ بإزاء إطاعة ذلك المطيع من الخبيث الذي ليس كذلك .

وظاهر أنّ ذلك إنّما يكون بأنواع من الامتحان التي منها وضع دار الامتحان وتهيئة أسبابها ، مثلاً : لو لم يخلق اللّه‏ الشيطان لم يكن تتهيّأ بعض أسباب الامتحان ، ولا يتيسّر استدراجه بأنواع الامتنان بحيث ارتفع إلى ذلك المكان ، فلم يكن يظهر حينئذٍ تمام الحجّة عليه بإكمال النعمة عليه ، ولو لم يأمره بالسجود لم يظهر ما في صميم قلبه من خبائث الحسد والكبر والجحود ، ولم يتبيّن استحقاقه لنار الخلود ، ولا عدم كون صدور الخيرات ولا الوصول ـ بحسب الظاهر ـ إلى أرفع الدرجات دليلاً على القطع بالنجاة ، فإنّ في مكامن القلوب ومجاري النيّات ما لا يظهر إلاّ بعد الامتحانات ، كما ينادي بذلك ما مرّ ويأتي من أخبار حسن الخاتمة ، وقوله تعالى : ( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) (١) ، وأمثاله من الآيات .

ثمّ إنّ اللّعن والطرد كان جزاءه حيث امتنع ممّا وجب عليه أداؤه ؛ إذ ليس للعبد أن يؤثر هوى نفسه على رضا ربّه ، ويرجّح استحسان رأيه حتّى يضادّ اللّه‏ في مخالفة أمره .

وكذا لو لم يجعل له طريقاً إلى دخول الجنّة ثانياً فاتت بعض أسباب امتحان آدم عليه‌السلام أيضاً ، وكذا الحال لو لم يسلّط (٢) على أولاده ، على أنّ ذلك كان من كمال عدل اللّه‏ وكرمه ولطيف أفعاله ؛ حيث إنّه :

أوّلاً : لم يجعله محروماً عمّا سأله بإزاء أعماله وطلبه من بلوغ آماله .

وثانياً : أعطى بني آدم في مقابل تسلّطه عليهم ووصول ضرر وساوسه إليهم ما لم يخطر ببال أحد ، ممّا لم يكونوا يستحقّونه بدون ذلك ، كما ورد

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٩٨ .

(٢) في «ش» : «يسلّطه» .

٩٦

في أحاديث أهل البيت العلماء من اللّه‏ : «إنّ آدم شكى ذلك التسلّط إلى ربّه عزوجل ، فأعطاه أشياء عظيمة ، منها : أنّه قرّر لمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيّئة لا يجزى إلاّ مثلها ، ومنها : أنّه فتح باب التوبة لهم إلى حين الموت» .

وبالجملة : ذكر له تفصيلات عظيمة ولم يكن آدم يكتفي بها إلى أن قال له : «أغفر لهم ولا اُبالي ، فقال آدم : إذاً حسبي» (١) .

ولا يخفى أنّه لو لم يكن ذلك التسلّط ، لم تكن أيضاً تلك التفضّلات ، ولا أقلّ من تفاوت الدرجات وحصول المثوبات التي إنّما هي بإزاء ترك متابعة) (٢) ذلك العدوّ في حين تسلّطه ، فتأمّل بصيراً حتّى يتبيّن لك أنّ هذا هو أيضاً من أسرار حِكم خلقة الشيطان واستدراجه إلى حالة إظهار الطغيان .

هذا كلّه ، مع ما في جميع ذلك من الحِكم التي لا ندرك نحن أصلها ولا نصل إلى حدّ غورها ، بل لا يعلمها إلاّ هو .

لكنّ ذلك الشقيّ ؛ حيث غلب عليه الحسد الناشئ من الاستكبار الذي كان فيه من قلّة المعرفة والإخلاص ـ كما تبيّن ممّا مرّ ـ عميت عين بصيرته ؛ بحيث لم ينظر إلى قبح مخالفة ربّه ، وكفر منازعته في أمره ، فضلاً عن ملاحظة الحِكم وفهم الأسرار ، فشرع في المجادلة باستحسان رأيه والقياسات التي رتّبها بجهله ، حتّى في مقابل صريح أمر اللّه‏ عزوجل ، فكان ذلك اُمّ الفساد في العالم ؛ لأنّه أهلك به نفسه أوّلاً كما هو ظاهر ، ثمّ أضرّ به بني آدم ثانياً ؛ بحيث أهلك عالماً كثيراً منهم بإغوائه إيّاهم عن الحقّ

__________________

(١) انظر : تفسير القمّي ١ : ٤٢ ، وبحار الأنوار ١١ : ١٤٢ / ٨ ، والجواهر السنيّة : ١٢ .

(٢) من ص ٩١ إلى هنا سقط من «ن» .

٩٧

من جهة إلقاء ما هو مفاد شُبهه ، ومن قبيلها في ذهنهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ ) (١) ، الآية .

حتّى أنّ الشهرستاني قال : إذا تأمّلت شُبه العالم عرفت أنّ كلّها من قبيل هذه الشبه ، وأنّها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور ، فإنّ مرجع جملتها إلى إنكار الأمر والجحود بعد الاعتراف بالخلق، وإلى الهوى في مقابلة النصّ.

قال : وكلّ مجادلات أقوام الأنبياء من نوح إلى محمّد صلّى اللّه‏ عليه وعلى آله وعليهم السلام منسوج على هذا المنوال ؛ إذ لا فرق بين قولهم : ( أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) (٢) ، وقولهم : ( أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ) (٣) ، وقوله : ( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) (٤) ، وكذا لا فرق بين قوله : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) (٥) ، وبين قول من قال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) (٦) (٧) ، وكذا سائر شبههم .

ثمّ إنّه ذكر وجوه تشابه الشُبه ، لكن على غير بيانٍ شافٍ ، فنحن نشرح ما أجمله من الكلام ، بحيث يظهر منه حال المرام ولو بإدخال بعض ما ذكره في هذا المقام .

فاعلم أنّه ـ كما ظهر آنفاً ـ كان مبدأ الضلال ما صدر من الشيطان بسبب الاستبداد بالرأي واستعمال القياس في الدين ، كما مرّ قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٢١ .

(٢) سورة التغابن ٦٤ : ٦ .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤ .

(٤) سورة الإسراء ١٧ : ٦١ .

(٥) سورة الأعراف ٧ : ١٢ .

(٦) سورة الزخرف ٤٣ : ٥٢ .

(٧) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٨ ـ ١٩ .

٩٨

«أوّل من قاس إبليس» (١) وظاهر أنّ مثل ذلك خطأ وضلال .

أمّا أوّلاً : فلما مرّ من عدم مدخلية للعبد في تفتيش حكمة أمر ربّه ، فضلاً عن المجادلة فيما أمر به ، بل على اللّه‏ الأمر وعليه الإطاعة أيّ شيء كان ، لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون .

وأمّا ثانياً: فلأنّ إدخال العبد رأيه في أمر ربّه بمنزلة ادّعاء مشاركة نفسه في إرادات ربّه ، وفي حكم دعوى وصول فهمه إلى مراتب علم ربّه ، وذلك مع كونه كفراً في نفسه ـ كما هو ظاهر ـ مورث للغلوّ والتشبيه ، كما سيظهر .

وأمّا ثالثاً : فلكثرة وقوع الخطأ في الرأي ؛ لظهور قصور فهم العباد عن إدراك حكمة الأشياء وأسباب الأوامر والنواهي ، وهيهات أن يصل عقل أحد إلى قطرة من بحار علم اللّه‏ وحكمته .

قال أبو عبد اللّه‏ الصادق عليه‌السلام : «يابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يُشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطّاه ، تريد أن تعرف بها ملكوت السماوات والأرض ! » (٢) الخبر ، ولا ريب في كون الأمر على ما ذكره عليه‌السلام ، حتّى أنّ مبنى قياس الشيطان أيضاً كان على خطأ .

كما روي عن الصادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «إنّ إبليس قاس نفسه بآدم ، فقال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (٣) ، فلو قاس الجوهر الذي خلق اللّه‏ منه آدم عليه‌السلام بالنار كان ذلك أكثر نوراً وضياءً من النار» (٤) .

وفي رواية اُخرى : أنّ أبا حنيفة دخل على الصادق عليه‌السلام ، فقال ( عليه‌السلام ) (٥) : «بلغني أنّك تقيس ؟» فقال : نعم ، قال : «لا تقس ، فإنّ أوّل

__________________

(١) تقدّم في ص ٧٦ و٧٨ .

(٢) الكافي ١ : ٧٣ / ٨ (باب النهي عن الكلام في الكيفِيّة) ، التوحيد للصدوق : ٤٥٥ / ٥ .

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٢ .

(٤) المحاسن ١ : ٣٣٤ / ٦٧٩ ، بحار الأنوار ١١ : ١٤٧ / ١٧ .

(٥) بدل ما بين القوسين في «م» : «قال له : إنّه» .

٩٩

من قاس إبليس حين قال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) فقاس ما بين النار والطين ، ولو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف فضل ما بين النورين ، وصفاء أحدهما على الآخَر» (١) .

أقول : مراد الإمام عليه‌السلام الإشارة إلى ما صحّت روايته عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أخبر : «بأنّ اللّه‏ تعالى خلقه قبل سائر الخلق مع عليّ عليه‌السلام من نور عظمته» (٢) ؛ ولهذا قال ـ فيما صحّ روايته عنه عند المخالف والمؤالف ـ : «خُلقت أنا وعليّ عليه‌السلام من نور واحد» (٣) .

ثمّ إنّه خلق أرواح الأنبياء والأوصياء من النور أيضاً ، ثمّ أودع نور النبيّ وعليّ عليهما‌السلام صلب آدم عليه‌السلام ، فالأمر بالسجود كان لذلك النور ، مع ما كان في آدم من الكمالات الباهرة التي ذهل عنها ذهن إبليس فوقع في تيه التلبيس ، كالعلوم الكاملة المأخوذة من اللّه‏ ، كما أشار إليه بقوله سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (٤) ، ولا شكّ أنّ الأعلم أفضل ، وكالطينة الطيّبة التي كان أصلها من علّيّين ـ كما سيأتي في نقل حال طينة النبيّين ـ وكالنيّة الصادقة والإخلاص الخالص الذي كان له في طاعة ربّه ، كما أشار إليه عزوجل في أمثال قوله : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا ) (٥) ، وكغيرها من الصفات الحسنة التي لا يعلم بها إلاّ خالقها ؛ ولهذا اختصّ الخالق جلّ شأنه

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٧ / ٢٠ (باب البدع والرأي والمقائيس) ، الاحتجاج ٢ : ٢٧١ / ٢٣٨ .

(٢) الفضائل لابن شاذان : ١٢٩ .

(٣) الكافي ١ : ٤٤٦ / ٦ (باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم عليهم‌السلام ) ، علل الشرائع ١ : ١٣٤ / ١ باب ١١٦ ، معاني الأخبار : ٥٦ / ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٥٨ / ٢١٩ ، المناقب لابن شهرآشوب ٣ : ٣١١ ، مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي: ٥٠ ، تذكرة الخواصّ : ٥٠ ـ ٥١ .

(٤) سورة البقرة ٢ : ٣١ .

(٥) سورة آل عمران ٣ : ٣٣ .

١٠٠