ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

يابن مسلمة ! من هذا ؟ فقال : موسى ابنه ، فقال : لأجبهنّه (١) بين يدي شيعته ! !

فقال عبد اللّه‏ : مه ، لن تقدر على ذلك ، فقال : واللّه‏ ، لأفعلنّ ، ثمّ التفت إلى موسى عليه‌السلام ، فقال : يا غلام ، ممّن المعصية ؟

قال : «يا شيخ ، لا تخلو من ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه‏ وليس من العبد شيء ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله ، وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه‏ ؛ واللّه‏ أقوى الشريكين ، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه ، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه‏ شيء ، فإن شاء عفا وإن شاء عاقب» .

قال : فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما اُلقم في فيه حجر ، فقال له عبداللّه‏ : ألم أقل لك : لا تتعرّض لأولاد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذرّيّة بعضها من بعض (٢) .

أقول : وفي ذلك قال الشاعر :

لَم تَخلُ أفعالُنا اللاتي نُذمُّ بِها

إحدى ثلاثِ معانٍ حينَ نأتيها

إِمَّا تَفرُّد بارينا بصنعتِها

فَيسقط اللَّومُ عَنَّا حينَ ننشيها

أو كانَ يُشركُنا فِيها فَيَلحقُهُ

مَا سوفَ يَلحقُنا مِن لائمٍ فيها

__________________

(١) أي : لأذلّنّه ، أو اُنكّس رأسه .

انظر : النهاية ١ : ٢٣٧ ـ جبه ـ .

(٢) الأمالي للصدوق : ٤٩٥ / ٦٧٥ ، الفصول المختارة : ٧٢ ـ ٧٣ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ج٢) ، أعلام الدين : ٣١٨ ، الاحتجاج ٢ : ٣٣١ / ٢٦٩ ، روضة الواعظين ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ، الطرائف ٢ : ٢٠ ـ٢١ ، وفيها بتفاوت يسير ، وفي الاحتجاج : عبداللّه‏ بن مسلم ، وفي بقية المصادر لم يُذكر اسمه .

٢٨١

أو لم يَكن لإلهي في جِنايتِها

ذَنبٌ فَما الذنبُ إلاَّ ذنبُ جانيها (١)

وقد روي أنّ بعض أهل العدل وقف على جماعة من المجبّرة ، فقال لهم : أنا ما أعرف المجادلة والإطالة ، ولكنّي أسمع في القرآن قوله تعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) (٢) ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل أنّ الموقد للنار غير اللّه‏ ، وأنّ المطفئ للنار هو اللّه‏ ، فكيف تقبل العقول أنّ الكلّ منه ، وأنّ الموقد للنار هو المطفئ لها ؟ ! فانقطعوا ولم يردّوا جواباً (٣) .

وقال عدليٌّ أيضاً للمجبّر : إنّ اللّه‏ تعالى حكى في كتابه عن أهل المعاصي أنّهم يقولون في القيامة : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا *‏ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (٤) ، وكذا يقولون في النار : ( رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ) (٥) وأمثال ذلك من الآيات ، فلو كان كما تقولون فعلى من كانوا يدعون ؟ ولمن يلعنون ؟ ومن الذي يجعلون تحت أقدامهم ؟ وعلى من هذا التظلّم وممّن هذا التألّم ؟ (٦) .

نعم ، لو كنتم على بصيرة لعرفتم أنّكم من جملة مصداق هذه الآيات ؛ حيث ادّعيتم أنّ مذهبكم هذا أخذتموه من بعض سلفكم الذين

__________________

(١) لم نعثر على قائله ، وانظر : مصادر هامش ٢ ص٢٨١ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ٦٤ .

(٣) الطرائف ٢ : ٢٣ .

(٤) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٧ ـ ٦٨ .

(٥) سورة فصّلت ٤١ : ٢٩ .

(٦) الطرائف ٢ : ١٠ ـ ١١ .

٢٨٢

مثلكم في احتمال الوقوع في الخطأ والضلال .

ونعم ما قال رجل لبشر المريسي (١) من أعيان الجبريّة ، حيث قال له : حمارك أفهم منك وأعقل ؛ لأنّه إذا رأى جدولاً ووجد أنّه يقدر أن يطفره طفره ، وإلاّ فلا ، فهو يفرّق بين مقدوره وغير مقدوره وأنت لا تفرّق ! (٢) .

وقال رجل آخَر لجبريٍّ أيضاً : إنّك تقول بالقدر إذا ناظرت أحداً ، وإذا رجعت إلى منزلك فوجدت جاريتك قد كسرت كوزاً يساوي فلساً شتمتها وضربتها ، وتركت مذهبك لأجل فلس واحد ! (٣) .

ورأى مجبّر غلامه يفجر بجاريته فأراد أن يضربه ، فقال له : إنّ القضاء ساقنا ، فرضي عنه ! (٤) .

ونقل مثله عن جبريّ رأى رجلاً يفجر بامرأته (٥) .

ونقل أيضاً مثله عن قاض جبريٍّ سمع رجلاً يسبّ الخلفاء (٦) .

وقال رجل لجبريٍّ : ممّن الحقّ ؟ قال : من اللّه‏ .

قال له : فمن هو المحقّ ؟ قال : هو اللّه‏ .

__________________

(١) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المَريسي الفقيه الحنفي المتكلّم ، يكنّى أبا عبد الرحمن ، كان أبوه يهوديّاً ، ونقل أنّ يهودياً مرّ والناس مجتمعون على بشر ، فقال : لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة .

له كتب منها : الردّ على الخوارج ، والمعرفة ، وكفر المشبّهة وغيرها ، مات سنة ٢١٨ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ٧ : ٥٦ / ٣٥١٦ ، الأنساب ٥ : ٢٦٧ ، وفيات الأعيان ١ : ٢٧٧ / ١١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ١٩٩ / ٤٥ ، ميزان الاعتدال ١ : ٣٢٢ / ١٢١٤ ، لسان الميزان ٢ : ٤٩ / ١٦٣٨ .

(٢) لم نعثر عليه .

(٣ ـ ٥) الصراط المستقيم ٣ : ٦٥ .

(٦) لم نعثر عليه .

٢٨٣

قال فممّن الباطل ؟ قال : من اللّه‏ .

فقال له : فمن هو المبطل ؟ فانقطع ولم يحر جواباً (١) .

ونقل أيضاً أنّ جبريّاً استأذن من المأمون أن يناظر ثمامة ـ وكان عدليّاً ـ فأذن له ، فحرّك الجبريّ يده وقال : من حرّك هذه ؟ فقال ثمامة : حرّكها مَنْ اُمّه زانية ، فقال الجبريّ : شتمني يا مأمون في مجلسك ! فقال ثمامة : ترك هذا مذهبه يا مأمون ؛ لأنّه زعم أنّ اللّه‏ حرّكها فلأيّ سبب غضب وليس للّه‏ اُمّ ؟ فانقطع الجبريّ (٢) .

وأمثال هذه المَلازم على المجبّرة كثيرة بحيث لا يمكن إحصاؤها .

وقد ذكر بعض العلماء ما يزيد على سبعين نقضاً بيّناً واضحاً ليس هاهنا موضع ذكرها ، حتّى أنّه ذكر منها : أنّه يلزم على مذهبهم انقطاع حجّة الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّ النبيّ إذا قال للكافر : آمِن بي لما أظهره اللّه‏ من المعجزة على يدي ، يقول الكافر : إذا جاز أن يخلق اللّه‏ فيّ الكفر ويعذّبني من غير جرم ، فلِمَ لا يجوز أن يُظهر المعجزة في يدك وأنت كاذب ؟

وبعبارة اُخرى ، يقول الكافر للنبيّ حين دعوته : قل للّذي بعثك يخلق فيّ الإيمان والقدرة المؤثّرة فيه حتّى أتمكّن من الإيمان واُؤمن بك ، وإلاّ فكيف تكلّفني الإيمان ولا قدرة لي عليه ، بل خلق فيَّ الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة اللّه‏ تعالى ؟

ومن العجائب أنّ المجبّرة زعموا أنّ اعتقاد كون أفعال العباد منهم مستلزم لكون العباد شركاء للّه‏ ، وأنّ تعظيم الإله يقتضي أن تكون الأفعال

__________________

(١) الطرائف ٢ : ٢٤ ، الصراط المستقيم ٣ : ٦٠ ـ ٦١ .

(٢) الطرائف ٢ : ٣٣ ، الصراط المستقيم ٣ : ٥٩ .

٢٨٤

كلّها من اللّه‏ (١) . ولم يدركوا أنّ أيّ تعظيم للّه‏ في نسبة خسائس العبيد ورذائلهم إليه ! وأيّ نسبة بين جلال اللّه‏ الخالق وحقارة العبد المخلوق ؛ حتّى يتكمّل سبحانه بنسبة أفعالهم القاصرة وتدبيراتهم الناقصة إليه ! وكيف يتصوّر لعاقل أن يجوّز احتمال لزوم المشاركة المذكورة بين المخلوق وخالقه الذي في غاية الجلالة ، مع أنّ أدنى ذي فهم لا يرضى أن يحكم بأنّ سائس الملك شريك له في السياسة ؟ !

وأعجب من هذا أنّهم زعموا أيضاً أنّ الاعتقاد بأنّ العباد يقدرون أن يفعلوا أشياء باختيارهم يقتضي عجز اللّه‏ تعالى عن العباد ، حيث يقع منهم ما لا يريد من المعاصي (٢) ، ولم يدركوا أنّ أيّ عجز يلحق بالمالك إذا جعل عبده مختاراً لأفعاله ، سواء فعل العبد ما يكره المولى أو ما يحبّ ؛ إذ معلوم أنّ المولى إن أراد قهر عبده لقهره ، ولقد كفى في هذا قوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (٣) ، وكذا ما مرّ في التبيان ، فافهم .

ثمّ إنّ من هؤلاء المذكورين : النجّاريّة (٤) ، أصحاب الحسين بن محمّد النجّار (٥) وبشر المريسي ، ومحمّد بن عيسى الملقّب بالبرغوث (٦) .

__________________

(١) انظر : الطرائف ٢ : ٧ .

(٢) انظر : الطرائف ٢ : ٨ .

(٣) سورة النحل ١٦ : ٩ .

(٤) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١: ٨٨ ـ ٩٠ .

(٥) الحسين بن محمّد بن عبداللّه‏ النجّار الرازيّ ، من أجلّة المجبّرة ومتكلّميهم ، وكان حائكاً ، أو يعمل الموازين ، من أهل «قمّ» ، وله كتب منها : المخلوق ، الصفات والأسماء ، إثبات الرسل وغيرها ، مات سنة ٢٢٠ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٢٩ ، الأعلام ٢ : ٢٥٣ .

(٦) محمّد بن عيسى الجهمي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، وله كتب ، منها : الاستطاعة ،

٢٨٥

والضراريّة : أصحاب ضرار بن عمرو (١) ، وحفص الفرد (٢) ، وهؤلاء وافقوا المعتزلة في بعض المسائل ، كنفي الصفات الزائدة القديمة ، ووافقوا المجبّرة في القول بأنّ اللّه‏ خالق أعمال العباد كلّها خيرها وشرّها وحسنها وقبيحها ، وقالوا : إنّ العبد مكتسب لها ، كما هو مذهب الأشعري ، وجوّزوا حصول فعل بين فاعلين ، ولهم مذاهب اُخرى في سائر المسائل ، حتّى أنّ من مذهب ضرار وحفص : أنّ الحجّة بعد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإجماع فقط ، وأنّ كلّ ما نقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحكام الدين من أخبار الآحاد فغير مقبول ، وأنّ الإمامة تكون في غير قريش أيضاً ، حتّى قال ضرار : إذا اجتمع قرشيٌّ ونبطيٌّ يقدّم النبطيّ في الإمامة على القرشيّ ؛ لكونه أقلّ عدداً وأضعف وسيلةً ، فيسهل عزله إذا خالف الشرع .

ومن العجائب أنّهم زعموا أنّ للإنسان حاسّةً سادسةً يرى بها البارئ

__________________

والمقالات ، والاجتهاد وغيرها ، مات سنة ٢٤٠ ، وقيل : سنة ٢٤١ هـ .

انظر : سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٥٤ / ١٨٩ .

(١) ضرار بن عمرو ، يكنّى أبا عمرو القاضي ، من بَدَعيّة المعتزلة ، وتُنسب إليه فرقة الضراريّة، له كتب منها : إثبات الرسل ، المساواة ، الردّ على الخوارج ، تفسير القرآن وغيرها.

انظر : الضعفاء الكبير للعقيلي ٢ : ٢٢٢ / ٧٦٥ ، الفهرست لابن النديم : ٢١٤ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٤ / ١٧٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٢٨ / ٣٩٥٣ ، لسان الميزان ٣ : ٦٠٧ / ٤٣١٢ .

(٢) هو من أكابر المجبّرة ، يكنّى أبا عمرو ، وكان من أهل مصر ، وقدم البصرة فسمع بأبي الهذيل وناظره ، فقطعه أبو الهذيل ، وكان أوّلاً معتزليّاً ، ثمّ قال بخلق الأفعال ، وله كتب منها : الاستطاعة ، التوحيد ، الردّ على النصارى وغيرها ، يُذكر أنّه من أصحاب أبي يوسف ، المتوفّى في النصف الثاني من القرن الثاني .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٢٩ ، ميزان الاعتدال ١ : ٥٦٤ / ٢١٤٣ ، لسان الميزان ٢ : ٦١٦ / ٢٩٠١ ، الطبقات السَّنيّة في تراجم الحنفيّة ٣ : ١٧٧ / ٧٨٦ .

٢٨٦

تعالى في الجنّة (١) .

وأمثال هذه الخيالات الآرائيّة فيهم كثيرة .

ثمّ إنّ من الأصناف المذكورة الأشعريّة : أصحاب أبيالحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ (من ولد أبي موسى الأشعري) (٢) ، وأكثر من يسمّي نفسه بأهل السنَّة اليوم على طريقته في كثير من العقائد .

ومن مذهبه ما مرّ في بيان الصفاتيّة من إثبات الصفات الزائدة القديمة ، فقال : إنّ البارئ تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حيّ بحياة ، مريد بإرادة ، متكلّم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، وإنّ هذه صفات أزليّة قائمة بذاته تعالى ، لا يقال : هي هو أو غيره ، ولا لا هو ولا غيره .

قال : والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء دلالات على الكلام الأزلي ، والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزليّ .

قال الشهرستاني : وخالف في هذا جماعة الحشويّة من الصفاتيّة ؛ إذ حكموا بكون الحروف والكلمات قديمة .

قال : والكلام عند الأشعري معنى قائم بالنفس سوى العبارة ، وإطلاقه على العبارة عنده مجاز ، أو على سبيل الاشتراك اللفظي ، قال : فالمتكلّم عنده من قام به الكلام ، وعند المعتزلة من فعل الكلام .

ومذهبه في أفعال العباد أنّ للّه‏ قدرةً وللعبد قدرةً إذا كان صحيحاً ، ولكن قدرة العبد واستطاعته تكون مع الفعل ولا تكون قبل الفعل ، وقدرته التي تكون مع الفعل ليس لها تأثير في الفعل ، بل الفعل يصدر بقدرة اللّه‏

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٠ ـ ٩١ .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

٢٨٧

الغالبة ، ويسمّى هذا الفعل من العبد كسباً (١) .

وقد قال هذا فراراً عمّا يلزم الجبريّة المحضة كما مرّ ، لكن لا ينفعه واقعاً ؛ ضرورة أنّ وجود القدرة التي لا تأثير لها لا ينفع ، ولا يخرجه من الجبر إلى الاختيار .

وأمّا الباقلاّني (٢) فقد تخطّى عن هذا القدر قليلاً فقال : إنّ ذات الفعل من اللّه‏ ، إلاّ أنّه بالقياس إلى العبد يصير طاعة أو معصية (٣) .

وحاصل كلامه أنّ الصلاة والزنا يشتركان في أنّ كلّ واحد منهما حركة ، ولكن تتّصف حركات الزنا بالزنا ، وحركات الصلاة بالصلاة ، وأصل الحركة بقدرة اللّه‏ ، وصفتها بقدرة العبد .

وركاكته وعدم خلوصه عمّا يلزم غيره أيضاً ظاهرة على من له أدنى بصيرة .

ومن مذهب الأشعري أيضاً : أنّ إرادة اللّه‏ واحدة أزليّة متعلّقة بجميع (المرادات من أفعاله) (٤) الخاصّة وأفعال عباده ، من حيث إنّها مخلوقة ، لا من حيث إنّها مكتسبة لهم ؛ ولهذا قال : أراد الجميع خيرها وشرّها ونفعها وضرّها ، وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم ، وأمر القلم حتّى كتب في

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٥ ـ ٩٦ .

(٢) هو محمّد بن الطيّب بن محمّد الباقلاني البصري ثمّ البغدادي ، يكنّى أبا بكر ، المتكلّم المشهور ، كان على مذهب الأشعري ومؤيّداً اعتقاده وناصراً طريقته ، وسمع من أبي بكر بن مالك القطيعي ، وأبي محمّد بن ماسي ، وأبي أحمد النيسابوري ، وله كتب منها : تمهيد الأوائل ، إعجاز القرآن ، الإنصاف وغيرها ، ولد سنة ٣٣٨ هـ ، ومات سنة ٤٠٣ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ٥: ٣٧٩ / ٢٩٠٦ ، الأنساب ١: ٢٦٥ ، المنتظم ١٥: ٩٦ / ٣٠٤٤ ، وفيات الأعيان ٤ : ٢٦٩ / ٦٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ١٩٠ / ١١٠ ، الأعلام ٦ : ١٧٦ .

(٣) حكاه عنه الشهرستاني في الملل والنحل ١ : ٩٧ .

(٤) في «م» : (الإرادت من أفعال عباده) .

٢٨٨

اللوح المحفوظ ، فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل (١) .

ومن مذهبه : جواز تكليف ما لا يطاق (٢) .

ومن مذهبه : أنّ كلّ موجود يصحّ أن يرى ؛ لأنّ المصحّح للرؤية إنّما هو الوجود ، والبارئ تعالى موجود فيصحّ أن يرى ، ولكن لا يجوز أن تتعلّق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتّصال شعاع أو على سبيل الانطباع ، فإنّ ذلك مستحيل (٣) ، ولهذا قال الشهرستاني : إنّ له قولين في ماهيّة الرؤية :

أحدهما : أنّه علم مخصوص ، قال : ويعني بالخصوص أنّه متعلّق بالوجود دون العدم .

والثاني : أنّه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثّراً عنه .

وقال : إنّه أثبت له اليدين والوجه ونحوهما ممّا ورد به السمع من غير تأويل .

قال : وله قول في التأويل أيضاً (٤) .

ومن مذهبه أيضاً على ما نقل عنه الشهرستاني : أنّ الإيمان والطاعة بتوفيق اللّه‏ ، والكفر والمعصية بخذلانه ، لكن فسّر التوفيق بخلق القدرة على الطاعة ، والخذلان بخلق القدرة على المعصية ، بنحو ما يرجع إلى ما مرّ عنه في أفعال العباد ، وعند بعض أصحابه التوفيق هو : تيسّر أسباب الخير ، وضدّه الخذلان (٥) .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٦ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٦ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٠ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠١ .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٢ .

٢٨٩

ومذهبه في الإمامة : أنّها تثبت بالاتّفاق والاختيار دون النصّ والتعيين ، قال : إذ لو كان ثمّة نصٌّ لما خفي ، والدواعي تتوفّر على نقله .

قال : ولا نقول في عائشة وطلحة والزبير إلاّ أنّهم رجعوا عن الخطأ ، ولا نقول في معاوية وعمرو بن العاص إلاّ أنّهما بغيا على الإمام الحقّ فقاتلهم (علي) (١) مقاتلة أهل البغي.

قال : وأمّا أهل النهروان فهم الشراة المارقون عن الدين ؛ للخبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

قال : «وكان عليّ كرّم اللّه‏ وجهه على الحقّ في جميع أحواله يدور معه الحقّ حيث ما دار» (٣) بموجب دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له (٤) .

أقول : سيظهر فساد عامّة ما ادّعاه هاهنا لا سيّما دعوى عدم نقل التعيين مع توفّر دواعيه ، لما سيتّضح من كمال ظهور خلافه ، أي : كثرة نقل التعيين مع توفّر دواعي الإخفاء ، فتأمّل .

ثمّ إنّ من اُولئك الأصناف : الكرّاميّة ، أصحاب محمّد بن كرّام (٥) ،

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٢) انظر : الخصال للشيخ الصدوق ٢ : ٥٧٤ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٤ / ٢٨٨ ، الموطّأ ١ : ٢٠٤ / ١٠ ، صحيح البخاري ٦ : ٢٤٤ ، كتاب فضائل القرآن ، صحيح مسلم ٢ : ٧٤١ / ١٠٦٤ ، المحلّى لابن حزم ١١ : ٩٧ / ٢١٥٤ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٥ .

(٣) أشار إلى الحديث الوارد عن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بألفاظ مختلفة : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ . . .» .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣ .

(٥) محمّد بن كرّام بن عراق بن حزابة السجستاني (السجزي) سجن بنيسابور لأجل بدعته ثمانيّة أعوام ثمّ اُخرج وسار إلى بيت المقدس ، ومات فيها سنة ٢٥٥ هـ ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، إمام الكراميّة ، وله كتب منها : كتاب عذاب القبر .

انظر : الفرق بين الفِرَق : ٢١٥ / ١١٩ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ٥٢٣ / ١٤٦ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٢١ / ٨١٠٣ ، تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات ٢٥١ ـ ٢٦٠) : ٣١٠ / ٤٨٢ ، الأعلام ٧ : ١٤ .

٢٩٠

وهو مع كونه من الصفاتيّة ينتهي كلامه إلى القول بالتجسيم والتشبيه صريحاً ، وقد شاركه في القول بالتجسيم والتشبيه طوائف اُخرى أيضاً ما عدا الغُلاة الآتية .

قال الشهرستاني : يبلغ عدد تلك الطوائف إلى اثنتي عشرة (١) فرقة ، واُصولها ستّة ، منهم : الهيصميّة ، والواحديّة ، والإسحاقيّة ، والعابديّة ، والمضريّة ، والكهمشيّة ، وأصحاب أحمد الجهمي (٢) وغيرهم ، حتّى أنّ كثيراً من قدماء الحنابلة في بغداد كانوا على التجسيم ، حتّى نقلوا عن مضر وكهمش وغيرهما : أنّهم أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة ، إذا بلغوا في الرياضة إلى حدّ الإخلاص والاتّحاد المحض (٣) .

ونقل الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز الرؤية في الدنيا ، وأن يزورهم يزوره (٤) .

وحكي عن داوُد (٥) أنّه قال : اعفوني عن الفرج واللحية وسلوني عمّا وراء ذلك ! !

__________________

(١) وردت في النسخ : «عشر» خطأً فأثبتنا صوابها.

(٢) جميع هذه الطوائف التي ذكرت تعود إلى فرقة «الكرّاميّة» المنسوبة إلى محمّد بن كرّام الذي تقدّمت ترجمته آنفاً ، ولم يفرّد أهل التراجم لكلٍّ منها ترجمة مستقلّة .

انظر: الفِرَق بين الفرق : ٢١٥ ـ ٢٢٥ / ١١٩ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٨ ـ ١١٤.

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ ، وفيه : أحمد الهجيمي .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ ، فيه : وأن يزوره ويزورهم .

(٥) هو داوُد الجواربي ، ولم نعثر على ترجمة له .

انظر : ميزان الاعتدال ٢ : ٢٣ / ٢٦٦١ ، لسان الميزان ٣ : ٣٤ / ٣٣٠٣ .

٢٩١

وقال : إنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعين واُذن ، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ، ولحم لا كاللحوم ، ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء (١) .

وحكي عنه أنّه قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما وراء ذلك ، وله شعر قطط (٢) .

وأكثر هذه الأقوال مأخوذة من اليهود ، كما مرّ أنّ التشبيه قول معظمهم ، حتّى قالوا : إنّه بكى في الطوفان حتّى رمدت عيناه فعادته الملائكة (٣) (٤) .

وقد نصّ محمّد بن كرَّام على أنّ معبوده على العرش استقراراً ، وعلى أنّه في جهة فوق ذاتاً ، وأطلق عليه اسم الجوهر ، وأنّه مماسٌ للعرش .

وقال بعضهم : امتلأ العرش به ! وصار المتأخرون منهم إلى أنّه تعالى بجهة الفوق ومحاذاة للعرش .

وقالت العابديّة : أنّه بينه وبين العرش من البعد والمباينة والمسافة ما لا ينتهي .

وقال محمّد بن الهيصم (٥) : إنّ بينه وبين العرش بُعْداً لا يتناهى ، وإنّه

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ .

(٣) العبارة في المصدر هكذا : حتّى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٦ .

(٥) هو أبو عبداللّه‏ محمّد بن الهيصم ، شيخ الكرّاميّة في وقته ، ورأس طائفة

٢٩٢

مباين للعالم بينونة أزليّة ، ونفى التحيّز والمحاذاة ، وأثبت الفوقية والمباينة ، وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه (١) .

وقال بعضهم : نعني بكونه جسماً أنّه قائم بذاته .

ثمّ إنّ منهم من أثبت له النهاية من ستّ جهات .

ومنهم من أثبت له النهاية من جهة تحت .

ومنهم من أنكر النهاية وقال : هو عظيم ، ولهم في معنى العِظَم خلاف .

فقال بعضهم : معنى عظمته هو أنّه مع وحدته على جميع أجزاء العرش ، والعرش تحته ، وهو فوق كلّه على الوجه الذي هو فوق جزءٍ منه .

وقال بعضهم : معنى عظمته أنّه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد ، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش ، وهو العليّ العظيم (٢) .

وأمثال هذه الأقوال السخيفة عندهم كثيرة لا نطيل الكلام بذكرها .

وأكثرهم قالوا : نحن نُثبت القدر خيره وشرّه من اللّه‏ تعالى ، وأنّه أراد الكائنات كلّها خيرها وشرّها ، وخلق الموجودات كلّها حسنها وقبيحها ، ونُثبت للعبد فعلاً بالقدرة الحادثة يسمّى ذلك كسباً ، والقدرة الحادثة مؤثّرة في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للبارئ تعالى ، وتلك الفائدة

__________________

«الهيصميّة» المنسوبة إليه ، والتي مرّ ذكرها ضمن فِرَق الكرّامية .

وله أقوال يبدو أنّها تختلف عمّا نقل عن شيخ فرقتهم ابن كرّام الذي أسلفنا ترجمته ، كما ذكر ذلك في الوافي بالوافيات ٥ : ١٧١ / ٢٢٠٦ ، ولم نجد له ترجمة في غيره .

(١) انظر : الملل والنحل ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٩ .

٢٩٣

هي مورد التكليف ، والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب (١) .

ومن عقائد هؤلاء : أنّ الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ودون سائر الأعمال ، وفرّقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف ، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء ، فالمنافق عندهم مؤمن في الدنيا حقيقة ، مستحقٌّ للعقاب الأبدي في الآخرة .

ومن عقائدهم في الإمامة : أنّها تثبت بالإجماع دون النصّ والتعيين ، حتّى أنّهم جوّزوا عقد البيعة لإمامين في قُطرين (٢) .

قال الشهرستاني : إنّ غرضهم إثبات إمامة معاوية في الشام باتّفاق جماعة من الصحابة ، وإثبات إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بالمدينة والعراقين باتّفاق عامّة الصحابة .

قال : ومذهبهم اتّهام عليّ عليه‌السلام في الصبر على ما جرى بعثمان والسكوت عنه ، وتصويب معاوية فيما استند به في قتال عليّ عليه‌السلام من طلب قتلة عثمان (٣) ، ولهم أيضاً مقالات سخاف لا طائل في ذكرها .

فهؤلاء الذين ذكرناهم مع الذين قدّمنا ذكرهم من طوائف المعتزلة يرتقون ـ أي أعاظمهم ـ إلى ما يزيد على ثلاثين فرقة ، وأكثر عقائدهم فسادها ظاهر ، بل بالبداهة لكلّ ذي مسكة ، وحاشا أن يكون مبنى دين اللّه‏ على أمثال هذه السخافات الفاضحة ، ومع هذا يجري هاهنا أيضاً ما ذكرناه في المعتزلة ممّا ينادي بعدم كون الفرقة الناجية فيهم ، فلا تغفل .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٣ .

(٢ و٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٣ .

٢٩٤

المبحث الثالث : في بيان الفِرَق الذين عدّوهم من صنفي الخوارج والوعيديّة ؛ لاشتراكهم في تكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ، وكذا بيان الفِرَق الذين عدّوا من المرجئة ؛ لموافقتهم الخوارج في بعض المسائل المتعلّقة بالإمامة ، وهؤلاء يرتقي أعاظم طوائفهم وفِرَقهم إلى أزيد من عشرين فرقة ، كما سيظهر ، فيكون مع ما سبق بضعاً وخمسين (١) فرقة :

فمن هؤلاء الطوائف :

المحكّمة : وهم الخوارج الذين خرجوا على عليّ عليه‌السلام حين جرى أمر الحَكَمين (٢) وقاتلهم في نهروان ، ورأسهم كان : عبداللّه‏ بن الكوّاء (٣) وحُرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية (٤) ، وعروة بن جرير (٥) وغيرهم ،

__________________

(١) في «ن» : «وسبعين» .

(٢) في «م» : «حكم الحكمين» .

(٣) هو من رؤوس الخوارج ينسب إلى بني يشكر ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام عندما دخل إلى الخوارج وكلّمهم . . . حتّى قال لهم : « من زعيمكم » ؟ فقالوا : ابن الكوّاء .

انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٣٢٦ ، و٣٢٨ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٤٧٤ / ٤٥٢٥ ، لسان الميزان ٤ : ١٠٢ / ٤٧٦٦ .

(٤) حرقوص ـ بضمّ أوّله وسكون الراء وضمّ القاف ـ له ذكر في فتوح العراق ، وزعم أبو عمر أنّه ذو الخويصرة التميمي رأس الخوارج المقتول بالنهروان ، وقيل : إنّ الخوارج تزعم أنّ حرقوص بن زهير كان من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قُتل يوم النهروان .

انظر : الإصابة ١ : ٣٢٠ / ١٦٦١ ، و٤٨٥ / ٢٤٥١ .

(٥) لعلّه عروة بن حدير ، هو من رجال النهروان ، وأوّل من قال : لا حكم إلاّ للّه‏ ، وأوّل من حكّم بـ : «صفّين» ، أخذه عبيداللّه‏ بن زياد فقتله ، مات حدود سنة ٥٨ هـ .

انظر : الكامل للمبرّد ٣ : ١٠٩٧ ، المعارف : ٤١٠ ، الفرق بين الفِرَق : ٧٤ ، الأعلام ٤ : ٢٢٦ .

٢٩٥

وتابعوا أوّلاً عبداللّه‏ بن وهب الراسبي (١) (٢) .

وقد أشرنا إلى أنّهم يكفّرون أصحاب الكبار .

ومن بدعهم في الإمامة جوّزوا أن يكون الإمام من غير قريش ، وكلّ من ينصبونه برأيهم بشرط معاشرته الناس بالعدل واجتناب الجور ، وإلاّ وجب عزله أو قتله .

قيل : وهؤلاء أشدّ الناس قولاً بالقياس ، وتجويز أن لا يكون إمام في العالم أصلاً .

ومن صريح ما يدلّ على كفرهم تكفيرهم عليّاً عليه‌السلام ، حتّى أنّهم لعنوه بسبب التحكيم الذي هم ألجأوه إليه ، ثمّ قالوا : لا حكم إلاّ للّه‏ ، فلِمَ رضيت بتحكيم الرجال ؟ ! هذا ، مع أنّهم هم الحاكمون في هذه المسألة وهم رجال (٣) .

وتفصيل حكاياتهم وتبيان كفرهم وفسادهم مذكورة في كتب السير .

وبالجملة : بطلان مذاهب الخوارج وأتباعهم من ضروريّات سائر طوائف الإسلام .

ومنهم : الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق (٤) ، وهم الذين خرجوا في

__________________

(١) عبداللّه‏ بن وهب الراسبي الأزدي ، من رؤوس الخوارج الأباضيّة ، وكان مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفّين ، قُتل في النهروان سنة ٣٨ هـ ، ولم يذكروا أنّه روى شيئاً .

انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٥٢٤ ، لسان الميزان ٤ : ١٢ / ٤٥٩١ ، و١٩١ / ٤٨٩٨ ، الأعلام ٤ : ١٤٣ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٥ ـ ١١٧ .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٦ .

(٤) هو نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي الحروري ، يكنّى أبا راشد ، من رؤوس

٢٩٦

الأهواز وفارس في أيّام عبداللّه‏ بن الزبير والحجّاج .

ومن بدعهم ـ زائداً على سابقيهم ـ أنّهم صرّحوا بتصويب قاتل عليّ عليه‌السلام ، وكفّروا كثيراً من المسلمين كابن عبّاس وسائر أصحاب عليّ عليه‌السلام .

ومن مذهبهم تكفير عائشة وعثمان وأمثالهما أيضاً ، وكفّروا كلّ من لم يهاجر إليهم ، وأباحوا قتل أطفال مخالفيهم ونسوانهم ، وأسقطوا الرجم عن الزاني وسائر الأحكام التي لم يفهموها من القرآن .

ومن مذهبهم عدم جواز التقيّة في قول ولا عمل ، وجواز أن يبعث اللّه‏ نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته ، أو كان كافراً قبل بعثته ، وأجمعوا على أنّ من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر وخرج به عن الإسلام جملةً ، ويكون مخلّداً في النار مع سائر الكفّار ، واستندوا في ذلك إلى كفر إبليس ، فقالوا : ما ارتكب إلاّ كبيرة من الكبائر حيث اُمر بالسجود فامتنع ، وإلاّ فهو كان عارفاً بوحدانيّة اللّه‏ سبحانه (١) .

ثمّ منهم : النجدات (٢) أصحاب نجدة بن عامر الحنفي (٣) ، وقيل :

__________________

الخوارج ، وإليه تُنسب فرقة الأزارقة ، وكان من أهل البصرة ، أقام في سوق الأهواز يعترض الناس بما يحيّر العقل ، مات سنة ٦٥ هـ .

انظر : الحور العين : ١٧٧ ـ ١٧٨ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٢٤١ / ٨٩٩١ ، لسان الميزان ٧ : ١٦١ / ٨٨١٩ ، الأعلام ٧ : ٣٥١ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢١ ـ ١٢٢ بتفاوت يسير ، وانظر : الفرق بين الفِرَق : ٨٢ / ٦٩ .

(٢) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٨٧ / ٧٠ .

(٣) هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي ، من رؤوس الخوارج ، زائغ عن الحقّ ، وقد نُسبت إليه فرقة النجدات أو النجدية ، وقدم مكّة ، وله مقالات وأتباع انقرضوا ،

٢٩٧

عاصم ، وهؤلاء كانوا أيضاً في زمان الأزارقة ، واختصّوا أيضاً بمذاهب ، فإنّهم قالوا بكون الجاهل فيما سوى معرفة اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإقرار بما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من اللّه‏ معذوراً إلى أن تقوم الحجّة عليه ؛ ولهذا يقال لهم : العاذريّة لأنّهم عذروا بالجهالات في الأحكام الفروعيّة .

وقالوا : من نظر نظرة أو كذب كذبة صغيرة وأصرّ عليها فهو مشرك ، ومن زنى وشرب وسرق غير مصرٍّ عليه فهو غير مشرك .

ونقل عنهم : أنّهم قالوا بجواز التقيّة في القول والعمل كلّه وإن كان في قتل النفس .

وقيل : إنّهم أجمعوا على أنّه لا حاجة إلى إمام قطّ (١) .

ثمّ إنّ منهم : البيهسيّة أصحاب أبي البيهس الهيصم بن جابر (٢) ، وكانوا في زمان الحجّاج أيضاً ، ومنهم الشبيب (٣) المشهور بالشجاعة ،

__________________

وكان أوّل أمره مع نافع بن الأزرق ، ثمّ فارقه لإحداثه في مذهبه ، ولد سنة ٣٦ هـ ، ومات سنة ٦٩ هـ .

انظر : الحور العين : ١٧٠ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ١٢٥ / ١٨٩ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٢٤٥ / ٩٠١٣ ، لسان الميزان ٧ : ١٦٨ / ٨٨٣٢ ، شذرات الذهب ١ : ٧٦ ، الأعلام ٨ : ١٠ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٢ ـ ١٢٥ .

(٢) هو الهيصم بن جابر الضبعي من بني سعد بن ضبيعة ، رأس الفرقة البيهسيّة من الخوارج ، وكان من الأزارقة ، ثمّ كفّر ابن الأزرق وابن إباض في بعض ما ذهبا إليه ، وذلك في عهد الوليد الاُموي ، ثمّ قُتل وصُلب بالمدينة سنة ٩٤ هـ .

انظر : مقالات الإسلاميّين : ١١٣ ، الحور العين : ١٧٦ ، الأعلام ٨ : ١٠٥ .

(٣) هو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني النجراني الخارجي ، يكنّى أبا الضحّاك ، كان مع صالح بن مسرح رأس الصفرية ، فلمّا مات صالح أوصى إليه من بعده ، ولد سنة ٢٦ هـ ، وغرق في نهر الأهواز سنة ٧٧ هـ .

٢٩٨

وأكثرهم يقولون : لا محرّم سوى ما في قوله تعالى : «قُلْ لاَ أَجِدُ فىِ مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّماً» (١) الآية ، وإنّ ما سوى ذلك كلّه حلال .

وقال بعض فِرَقهم : إنّ الإمام إذا كفر كفرت الرعيّة الغائب منهم والشاهد ، وإنّ الرجل إذا أوقع حراماً ولم يعلم تحريمه فقد كفر .

وكذا قال هؤلاء البعض منهم بما مرّ في المفوّضيّة من قولهم : إنّ اللّه‏ تعالى فوّض إلى العباد ، وليس له في أعمال العباد مشيئة .

وفيهم مذاهب اُخرى متناقضات بحيث تبرّأ بعضهم من بعض ، حتّى قال بعضهم بتكفير من حصل له السكر ولو بالشراب الحلال (٢) .

ثمّ إنّ منهم : العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد (٣) ، وهؤلاء كالنجدات في مذاهبهم وبدعهم إلاّ أنّهم تفرّدوا ببعض الأشياء كإنكارهم كون سورة يوسف من القرآن ، وتكفير الأطفال حتّى يدعى إلى الإسلام ، ووجوب الدعاء إليه إذا بلغ ، وأمثال ذلك (٤) .

__________________

انظر : المعارف : ٤١٠ ، مقالات الإسلاميّين : ١١٥ ، وفيات الأعيان ٢ : ٤٥٤ / ٢٨٨ ، الأعلام ٣ : ١٥٦.

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٤٥ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٥ ـ ١٢٧ .

(٣) هو عبد الكريم بن عجرد ، أحد رؤوس الخوارج ، وهو كبير الطائفة المعروفة بالعجاردة ، وافق النجدات في بدعهم ، وقد اختلف في مبدأ أمره ، فقيل : إنّه من أصحاب عطيّة بن الأسود الحنفي ، وقيل : إنّه ينتسب إلى رجل يسمّى أبا سعيد ، ثمّ خالفه ، ولم يذكروا شيئاً عن وفاته أو غيرها .

انظر : مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ـ ٩٥ ، الحور العين : ١٧١ ، الوافي بالوفيات ١٩ : ٨٣ / ٨٣ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩ .

٢٩٩

ومنهم : الميمونيّة أصحاب ميمون (١) من العجاردة ، وتفرّدوا عنهم بأشياء :

منها : تجويز نكاح بنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات ، وأنّ اللّه‏ ليس له مشيئة في معاصي العباد ، وأنّ الخير والشرّ كلّه من العبيد (٢) .

ومنهم : الحمزيّة أصحاب حمزة بن أدرك (٣) ، وهم أيضاً من العجاردة ، وتفرّدوا عنهم بأشياء :

منها : جواز وجود إمامين في عصر واحد ما لم يجمع الكلمة ، ولم يقهر الأعداء (٤) .

ومنهم : الخلفيّة أصحاب خلف الخارجي (٥) ، وهم من خوارج كرمان ومكران ، وخالفوا الحمزيّة من العجاردة في القدر ، وأضافوا القدر خيره وشرّه إلى اللّه‏ ، ولهم مخالفات اُخَر أيضاً (٦) .

__________________

(١) هو ميمون بن خالد ، كان من العجاردة ، وهو من أهل بلخ ، وقد خرج عن العجاردة بسبب ميله إلى القدريّة .

انظر : مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ـ ٩٥ ، الحور العين : ١٧١ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٩ ، الوافي بالوفيات ١٩ : ٨٣ ـ ٨٤ .

(٣) هو حمزة بن أدرك أو أدرد أو أكرك ، ظهر سنة تسع وسبعين ومائة وغلب على خراسان وسجستان ومكران وقهستان وكرمان ، وكان له أتباع كثيرون ، وله معارك كثيرة مع بعض فِرَق الخوارج . . . وعاث في الأرض فساداً لا يقف في طريقه أحد إلاّ استحلّ دمه .

انظر : مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ، الحور العين : ١٧١ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠ .

(٥) كما في مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣ ، والوافي بالوفيات ١٩ : ٨٤ ، ولم نجد فيها أكثر ممّا ذكره المؤلّف .

(٦) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣٠ .

٣٠٠