ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

القياس من مختصره بلفظة «اختلاف اُمّتي رحمة للناس» (١) .

والظاهر أنّ مرادهم بيان ورود «اُمّتي» بدل «أصحابي» في آخر الحديث المذكور ، ولم نجده هكذا في رواية أصلاً ، حتّى أنّ السيوطي قال في جامعه : إنّ هذه العبارة ممّا ذكروها بغير سند ، ثمّ قال : ولعلّها خرجت في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا (٢) ، ولا يخفى تكلّفه إن كان توجيهاً لكونها بقيّة الحديث ، وإلاّ فلا يبعد أن يكون مراده ـ بل مرادهم أيضاً ـ ورودها حديثاً برأسه .

وعلى أيّ تقدير لا شكّ في اشتهار هذه العبارة الأخيرة على الألسنة اليوم اشتهاراً زائداً ، بحيث كتب بعضهم كتاباً في بيان مسائلهم المختلفة وسمّاه كتاب الرحمة في اختلاف الاُمّة ، مع ما عرفت ممّا فيها عندهم ، بل ما في أصل الحديث أيضاً ؛ ولهذا قال بعضهم : إنّ كثيراً من الأئمّة زعموا أنّ أصل الحديث لا أصل له ، حتّى أنّ بعضهم اعترض عليه : بأنّ الاختلاف لو كان رحمة لكان الاتّفاق عذاباً (٣) .

وقد روى أيضاً ما بمضمونه ابن عساكر ، وصاحب كتاب الإبانة بإسناد فيه ضعفاء أيضاً ، عن عمر ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا قال : «سألت ربّي فيما

__________________

الكردي الدويني النحوي الاُصولي ، وله كتب منها : المختصر ، والكافية ، والشافية ، ولد سنة ٥٧٠ هـ ، ومات سنة ٦٤٦ هـ .

انظر : وفيات الأعيان ٣ : ٢٤٨ / ٤١٣ ، سير أعلام النبلاء ٢٣ : ٢٦٤ / ١٧٥ ، العبر ٣ : ٢٥٤ ، شذرات الذهب ٥ : ٢٣٤ .

(١) حكاه عن بعضهم السخاوي في المقاصد الحسنة : ٤٧ ، والسيوطي في جامع الأحاديث ١ : ١٢٤ / ٧٠٦ ، وكذا ملاّ عليّ القاري في الأسرار المرفوعة : ١٠٨ ـ ١٠٩ / ١٧ .

(٢) جامع الأحاديث ١ : ١٢٤ / ٧٠٦ .

(٣) انظر : صحيح مسلم بشرح النووي ١١ : ٩١ ـ ٩٢ ، المقاصد الحسنة : ٤٧ .

٢١

يختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى اللّه‏ إليّ : يا محمّد ، إنّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء ، بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدىً» (١) .

وكذلك روى الدارقطني وغيره عن عمر أيضاً أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «أصحابي كالنجوم، فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» (٢) (وفي رواية : «فبأيّهم أخذتم اهتديتم ) (٣) (٤) .

وقد صرّح جمع منهم بأنّ في بعض أسناده حمزة بن أبي حمزة النصيبي (٥) ، وهو متّهم بالكذب .

وفي بعض أسناده بعض المجاهيل ، حتّى قال البزّار : إنّه منكر لا يصحّ (٦) .

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ١٩ : ٣٨٣ / ٢٣٣٥ ، فردوس الأخبار ٢ : ٤٣٨ / ٣٢١٩ ، جامع الاُصول ٨ : ٥٥٦ / ٦٣٦٩ ، الجامع الصغير ٢ : ٣٦ / ٤٦٠٣ .

(٢) المؤتلف والمختلف للدار قطني ٤ : ١٧٧٨ ، جامع بيان العلم ٢ : ٩٢٥ / ١٧٦٠ ، وفيهما عن جابر .

(٣) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٤) الكامل لابن عدي ٣ : ٢٦٣ / ١٣٣ ، جامع بيان العلم ٢ : ٩٢٤ / ١٧٥٩ ، وفيهما عن ابن عمر .

(٥) حمزة بن أبي حمزة بن ميمون النصيبي الجعفي الجزري ، وقد ضعّفوه كثيراً حتّى قالوا : إنّ حديثه ليس بشيء لا يساوي فلساً وأنّه منكـر الحديث لا تحلّ الرواية عنه .

انظر : الضعفاء الصغير للبخاري : ٣٩ / ٨٨ ، الضعفاء الكبير ١ : ٢٩٠ / ٣٥٦ ، الجرح والتعديل ٣ : ٢١٠ / ٩١٩ ، كتاب المجروحين ١ : ٢٦٩ ، الكامل لابن عدي ٣ : ٢٦٣ / ١٣٣ / ٥٠٢ ، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ١ / ٢٣٧ / ١٠١٨ ، ميزان الاعتدال ١ : ٦٠٦ / ٢٢٩٩ ، تهذيب التهذيب ٣ : ٢٥ / ٣٨ .

(٦) حكاه عنه ابن حزم في الإحكام في اُصول الأحكام ٦ : ٢٤٤ .

٢٢

وقال ابن حزم (١) : إنّه مكذوب موضوع باطل (٢) .

أقول : مع قطع النظر عن كلامهم في الإسناد ، وضوح عدم استقامة ما فهمه القوم ـ حتّى ممّا ذكروه مسنداً ، أعني هذه العبائر الثلاث ـ عقلاً ونقلاً ، بل على مسلك القوم أيضاً كما سيظهر ، كالشمس في رابعة النهار ، بحيث أن لا مخلص لهم عن ذلك إلاّ أن يلتزموا كونها إمّا موضوعة ، أو المراد غير المعنى الذي فهموه منها .

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما فهموه منها خلاف صريح محكمات الآيات القرآنية ، كما مرّ بعضها ويأتي بعض .

وأمّا ثانياً : فلأنّه خلاف جميع ما مضى ويأتي من صحاح الأخبار النبويّة وأمثالها ، التي وصلت حدّ المتواترات (٣) المعنوية ، لا سيّما الأخبار التي وردت في خصوص ذمّ الاختلاف ، وما ورد في ذمّ بعض الأصحاب ولو على سبيل الإجمال ، كما سيأتي في أحاديث الحوض وغيرها في مقالات المقصد الثاني ، بل ربّما يقال : لم نجد حديثاً إلاّ منافياً لهذا .

وأمّا ثالثاً : فلما ذكره صاحب كتاب الاستغاثة (٤) ، حيث قال : إنّ هذا

__________________

(١) هو عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري ، يكنّى أبا محمّد ، يعرف بابن حزم ، وقيل : إنّه تفقّه أوّلاً للشافعي ، ثمّ قال بنفي القياس ، والأخذ بظاهر النصّ وعموم الكتاب والحديث ، واشتهر بهذه العقيدة ، له كتب نحو أربعمائة مجلّد ، منها : المحلّى ، والإحكام في أُصول الأحكام ، والفصل في الملل والأهواء وغيرها ، ولد سنة ٣٨٣ هـ ، ومات سنة ٤٥٦ هـ .

انظر : معجم الأدباء للحموي ١٢ : ٢٣٥ / ٤٤٨ ، وفيات الأعيان ٣ : ٣٢٥ / ٤٤٨ ، سير أعلام النبلاء ١٨ : ١٨٤ / ٩٩ ، شذرات الذهب ٣ : ٢٩٩ .

(٢) الإحكام في اُصول الأحكام ٦ : ٢٤٤ .

(٣) في «م» : التواترات .

(٤) في «ن» : الاستيعاب ، وهو تصحيف .

٢٣

القول لا يخلو من أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قاله لأصحابه وغيرهم ، أو قاله لأصحابه دون غيرهم ، أو قاله لغير أصحابه .

فإن قالوا : إنّه قاله للصحابة وغيرهم ، أو قاله للصحابة دون غيرهم ، قيل لهم : فهل يستقيم في الكلام الفصيح المحكم أن يقول لأصحابه : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، وكذا قوله : «اختلاف أصحابي رحمة لكم» ، أما ترون ، محال هذا الكلام ما أبينه ؟ .

وإن قالوا : إنّه قاله لغير الصحابة ، قيل لهم : هل معكم بهذا خبر معروف مجمع عليه ، فارووه ؟ أم هو شيء تتخرّصونه بعقولكم واستدلالكم ؟ فغير مقبول ذلك منكم ؛ لأنّ الصحابة هم الذين رووه ، بل إنّما رواه عمر وكذا ابن عباس ، فلو كان قاله لغيرهم لكان قد ذكروا ذلك الخبر ، وكانوا يقولون أو يقول : إنّ الرسول قال لجميع من أسلم غير الصحابي : «أصحابي كالنجوم» إلى آخره ، ولمّا لم يكن في نقلكم شيء من هذا التخصيص ، بطل ادّعاؤكم في ذلك (١) ، ثمّ ذكر إيرادات أُخَر أيضاً .

وأمّا رابعاً : فلأنّه يلزم حينئذٍ أنّ كلّ من اتّبع قول بعض الجهّال ، بل الفسّاق من الصحابة أو المنافقين منهم ، وترك العمل بقول بعض العلماء الصالحين منهم ، يكون مهتدياً ومن أهل النجاة ، وهو خلاف السنّة الثابتة ومحكم القرآن ، بل بديهيّ البطلان .

وأمّا خامساً : فلأنّه يلزم حينئذٍ أن يكون التابع لقتلة عثمان ، والذي قعد عن نصرته تابعاً للحقّ ومهتدياً ؛ ضرورة كون أكثرهم من المهاجرين والأنصار ، وكذا يكون هكذا من اتّبع عثمان في امتناعه [عن (٢) ] دفع مروان

__________________

(١) كتاب الاستغاثة : ١٨٥ ـ ١٨٦ بتفاوت .

(٢) زيادة يقتضيها السياق .

٢٤

إلى خصومه ، أو خلع نفسه ، وغير ذلك ، وكذا يلزم أن يكون أتباع عائشة وطلحة ، والزبير ، ومعاوية ، والخوارج الذين بغوا على عليّ عليه‌السلام وقاتلوه ، مهتدين وعلى الحقّ ، وكذا أتباع عليّ عليه‌السلام ، حتّى لو أنّ رجلاً حارب مع معاوية ـ مثلاً ـ إلى نصف النهار ، ثمّ عاد في نصفه الآخر فحارب مع عليّ عليه‌السلام إلى آخر النهار ، لكان في الحالين جميعاً مهتدياً تابعاً للحقّ ، بل يجري هذا بعينه في أفعال يزيد (بن معاوية ) (١) وأتباعه من قتل الحسين عليه‌السلام ، وسبي آل محمد عليهم‌السلام ، ونهب أهل المدينة وغيرها ممّا صدر منه ومن سائر بني أُميّة من سبّ عليّ عليه‌السلام وغير ذلك ؛ حيث تبعوا في ذلك معاوية وأمثاله من الصحابة (أنّه حقٌ) (٢) ، والتوالي بأسرها باطلة ضرورة واتّفاقاً ، بل فيه استلزام تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أخبر به : من كون بعضهم ظالماً على بعض ، ولعنه ، وذمّه ، وقدحه ، وطعنه قتلة عليّ والحسين عليهما‌السلام ، ومن عادى أهل بيته الطاهرين ، ونحو ذلك .

ولو قيل : إنّ بعض ما ذُكر إنّما هو خلاف صريح القرآن وسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومتابعة الصحابي إنّما هي فيما لا نصّ فيه ؟

قلنا : نحن لا نجري هذا الكلام ، إلاّ فيما لم يكن بزعمكم خلاف الكتاب والسنّة ممّا وجّهتم فعل فاعله بالاجتهاد ، وأكثر هذه المواضع عندكم كذلك ، وإلاّ لزمكم تضليل جماعة كثيرة من الصحابة ، لا سيّما محاربي عليّ عليه‌السلام ، فتأمّل حتّى تفهم أنّ مع هذا أيضاً يلزم هذا القائل أن يحكم بضلال بعض الصحابة ، وارتكابه خلاف الكتاب والسنّة ، وذلك مع هدمه كثيراً من قواعدهم يفسد عليهم عموم هذا الحديث أيضاً ، فافهم .

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «ش» .

(٢) ما بين القوسين أثبتناه من «س» و«ش» .

٢٥

وأمّا سادساً : فلأنّه يستلزم أن لا يكون عند القوم كلّ من لم يقل بخلافة أبي بكر وأبطل رأي أصحاب السقيفة مبطلاً ، بل يجب أن يكون محقّاً مهتدياً ؛ لاقتدائه في ذلك بسعد بن عبادة (١) الذي لا شكّ ولا خلاف في كونه من كبار الصحابة ، وفي عدم بيعته لأبي بكر ولا لعمر أصلاً ، وبأمثاله ممّن سيظهر أنّه لم يبايع يوم السقيفة ، فإذن ، لا يرد لهم عتب على منكري الثلاثة ولا اعتراض وإن صحّحوا خلافتهم .

وأمّا سابعاً : فلأنّه يستلزم أن لا يجوز للقوم أيضاً عتاب على من إذا سَبّ أحداً من الصحابة ، أو أظهر عداوته ، أو تبرّأ منه ، أو شتمه ونحو ذلك ، فإنّ جميع هذا ممّا صدر من بعض الصحابة ، كمعاداة عثمان لجمع من الصحابة حتّى أخرج أبا ذرّ من المدينة ، وأهان غيره ، وكمعاداة جماعة كثيرة منهم (له) (٢) بحيث انجرّ إلى قتله ومنعه من الدفن ، حتّى أنّهم سمّوه نعثلاً ، وكسَبّ عليّ والحسنين عليهم‌السلام ، وابن عبّاس ، وعمّار ، ونظرائهم معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما من الصحابة الذين كانوا من مشاوريهما ، وكسبّ معاوية وعمرو ومن وافقهما من الصحابة عليّاً والحسنين عليهم‌السلام

__________________

(١) هو سعد بن عبادة بن دُليم بن أبي حليمة الأنصاري ، يكنّى أبا ثابت ، من أصحاب رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان سيّداً في الأنصار مقدّماً وجيهاً ، جواداً كريماً .

ولمّا بويع أبو بكر يوم السقيفة ، لم يرض سعد أن يبايع ، فقالوا له لمّا أبى البيعة : لا تساكننا في بلدٍ ، فنفي إلى حوران ، فرمي بسهم في الليل فقُتل ، فقالوا : إنّ الجنَ رمته ، وقيل : إنّ الذي رماه المغيرة بن شعبة ، وقيل : شخصان آخران غيره كُلّ واحدٍ رماه بسهمٍ واشيع إنّ الجنّ رمته .

مات سنة ١٥ هـ بأرض الشام .

انظر : أعيان الشيعة ٧ : ٢٢٤ ، الإمامة والسياسة ١ : ٢٧ ، الاستيعاب ٢ : ٥٩٤ /٩٤٤ .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «م» وفي «ش» زيادة : (بل) .

٢٦

وعمّاراً وعبد اللّه‏ بن العبّاس ، وأمر معاوية الناس بالتبرّي من عليّ عليه‌السلام ، ولعنه جهاراً .

فعلى هذا من اقتدى بهؤلاء في التبرّي ، والسبّ ، وعداوة الصحابي ، لا سيّما الذي ظهر عليه عيبه ولو بدخول الشبهة عليه ، لزم أن يكون محقّاً مهتدياً عند القوم ، بحيث لا عتب عليه ولا وزر من غير استثناءٍ لأحدٍ ؛ ضرورة عدم [وجود (١) ] صحابيّ أزيد مناقب ولا أظهر حُسن حال من عليّ والحسنين عليهم‌السلام ، وقد سبّهم من ذكرناه ، والقوم لم يزيدوا إلاّ بالترضية (٢) من الطرفين .

وأمّا ثامناً : فلأنّه يستلزم رضا اللّه‏ بكلّ قبيح صدر من الصحابة ، ومشروعيّة الشيء ونقيضه جميعاً إذا استندا (٣) بفعلهم ، وذلك سفسطة محضة .

وأمّا تاسعاً : فلأنّ الصحابة لو علموا بورود مثل هذا بهذا المعنى لكانوا أولى الناس بالعمل على وفقه ، فلا معنى حينئذٍ لما أشرنا إلى صدوره منهم : من منازعة بعضهم بعضاً ، والمقاتلة ، واستقباح بعضهم فعل بعض ونحو ذلك ، والتزام عدم علم عامّة أعيان الصحابة بمثل هذا حتّى من رواه أيضاً كعمر وابن عبّاس ممّا يضحك الثكلى (٤) .

وأمّا عاشراً : فلأنّ ما فهموه من العبائر المسندة المذكورة ـ مع استلزام (٥) المفاسد المزبورة ـ لا يجديهم نفعاً ؛ ضرورة أنّ عامّة اختلافهم

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق .

(٢) في «س» و«ش» : في الترضية .

(٣) في «ش» : استند .

(٤) في النسخ : يضحك به الثكلى .

(٥) في «ش» : التزام .

٢٧

من فقهائهم ، والمورد ـ كما عرفت ـ الصحابة دون غيرهم ، ودون إثبات عدم الفرق خرط القتاد ، فانسحاب الحكم إلى الغير تحكّم (صرف) (١) ساقط في مقابل الكتاب والسنّة ، وكأنّه لأجل هذا غيّر العبارة مَنْ نَقَله بقوله : «اختلاف أُمّتي رحمة للناس» ، لكن لم يعلم أنّ هذا أكثر فساداً ، وأعظم قباحةً ، وأوضح شناعةً ؛ لأنّه :

أوّلاً : خلاف ما هو موجود في كتب حفّاظ الحديث كما مرّ ، فضلاً عن حال السند ، بل الظاهر ممّا ذكرناه من الأخبار الثلاث أنّ من روى هكذا إمّا متوهّم ، أو كاذب متعمّد ، وما مرّ من كلام السيوطي محض توجيه بعيد لدفع الجزم بالوضع ، لا كونه قابلاً للاستدلال به أو الاعتماد عليه . نعم ، ربّما يقال : إنّ مراده أنّه حديث آخَر وارد هكذا ، كما سيأتي مؤيّداً له عن الصادق عليه‌السلام .

وثانياً : يرد عليه جميع ما أوردناه آنفاً مع زيادة مفاسد اُخَر عظيمة ، بحيث لا يمكن لهم التوجيه والدفع ، حتّى أنّ أدنى ما يرد عليهم مناقضة صريحة للأحاديث التي اتّفق على نقلها وصحّتها المخالف والمؤالف ، التي منها : إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بافتراق الاُمّة إلى نيف وسبعين فرقة ، واحدة منها ناجية والباقون كلّهم هالكون وفي النار ؛ إذ لا يتبادر من الرحمة إلاّ خلاف النقمة ، فيستلزم ترتّب الثواب وترك العقاب ، وهو مناف للهلاكة ، بل يلزم ممّا ذكروه عدم جواز تضليلهم أحداً من طوائف الإسلام ؛ لاستناد كلٍّ منهم إلى شيء زعمه حجّة ثابتة وإن كان مخطئاً واقعاً ، بل ولو كان مستندُه شبهة واضحة البطلان ، بل ولو كانت خلاف الضرورة الدينية واقعاً ، وعند (كلّ) (٢)

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «س» ، «ش» ، «ن» .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

٢٨

من سواه ، كما هو مقتضى توجيههم أفعال معاوية ، لا سيّما معاداته لعليّ عليه‌السلام وسبّه وشتمه ؛ إذ لا شبهة مطلقاً في حُسن حال عليّ عليه‌السلام كتاباً وسنّةً وإجماعاً من الصحابة وغيرهم ، كما هو ظاهر ، بل مسلّم عندهم أيضاً .

ولا يخفى أنّه حينئذٍ يلزمهم أن يحكموا بعدم ضلالة الشيعة مطلقاً ولو صدر منهم السبّ ؛ ضرورة أنّ استنادهم في ذلك إلى ما هو أقوى من شُبه معاوية ، بل ما هو قويّ في نفسه ؛ إذ أدنى ما هو لهم عدم كون روايات مخالفيهم حجّة عليهم ، لا سيّما في مقابل ما تواتر عندهم من روايات أئمّتهم عليهم‌السلام ، بل بعض أخبار خصومهم أيضاً .

ثمّ إنّ المفاسد كثيرة يكفي ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، فإذَنْ الحقُّ الذي يجب أن يتمسّك به تارك الحميّة الجاهليّة ومتابعة الأسلاف عدمُ الاعتناء بأمثال هذه المنقولات المناقضة للكتاب والسنّة ، فضلاً عن استلزام المفاسد ، بل يجب طرحها أو توجيهها بما لا ينافي غيرها ، كأن يقال فيما نحن فيه مثلاً : إنّ المراد باقتداء الأصحاب قبول ما يروونه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعني : الثقات منهم ؛ لخروج غيرهم بآية نبأ الفاسق (١) وغيرها ممّا ذكره أصحاب دراية الحديث (٢) ، وكذا يقال : إنّ المراد بالاختلاف التردّد والتعاشر لتحصيل المعارف ونحوها ، أو المراد قيام البعض مقام الآخَر ، كما أنّه كذلك أئمّة الإماميّة .

__________________

(١) إشارة لقوله تعالى في سورة الحجرات ٤٩ : ٦ : ( يَأَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا . . . ) .

(٢) انظر : الرعاية في علم الدراية : ٩١.

٢٩

ولا يخفى أنّه حينئذٍ يمكن حمل الأصحاب على الخواصّ الكمّل منهم كعليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام ونظرائهم الثابت صدقهم وعلمهم .

وممّا يدلّ على هذا الحمل أنّ هذا الخبر موجود في بعض كتب الشيعة ، ككتاب «بصائر الدرجات» رواه فيه عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، أنّه رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي آخره ، قيل : ومن أصحابك يا رسول اللّه‏؟ فقال : «أهل بيتي» (١) .

ولا يخفى أنّه حينئذٍ يمكن أن يقال أيضاً بأنّ المراد بالاختلاف حينئذٍ اختلاف أجوبة الأئمّة عليهم‌السلام بالنسبة إلى السائلين على جهة التقيّة ، وعلى قدر عقول السائلين وتفاوت أفهامهم ؛ حيث كانوا هُمْ ، بل والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً مكلّفين بذلك ، كما سيأتي في محلّه ، وليس المراد اختلافهم فيما بين أنفسهم ، فإنّ أقوالهم وأفعالهم جميعاً واحدة ، كما سيظهر .

لكن لا يخفى أنّ هذا المعنى إنّما يجري في هذا الخبر ، وأمّا خبر «اختلاف اُمّتي» فمعناه ـ إن صحّت الرواية ـ ما ذكرناه أوّلاً في المراد بالاختلاف ، كما يدلّ عليه ما في كتاب احتجاج الطبرسي : عن عبد المؤمن الأنصاري (٢) ، عن أبي عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام إنّه قال في حديث «اختلاف أُمّتي » : «أنّه حقٌّ ، لكنّ الناس لم يفهموا معناه ؛ إذ ليس المراد اختلافهم في

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٣١ / ٢ .

(٢) عبد المؤمن بن القاسم بن قيس الأنصاري الكوفي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، من أصحاب السجّاد والباقر والكاظم صلوات اللّه‏ عليهم ، وهو من فقهاء الشيعة ، ثقة هو وأخواه عبد الغفّار ، وعبد الواحد ، له كتاب يرويه جماعة منهم سفيان بن إبراهيم الحارثي ، توفّي سنة ١٤٧ هـ وهو ابن إحدى وثمانين سنة .

انظر : رجال البرقي : ١٧ ، ورجال النجاشي : ٢٤٩ / ٦٥٥ ، ورجال الطوسي : ١٤٢ / ١٥٢٨ وتنقيح المقال ٢ : ٢٢٧ / ٧٤٨٠ ، ومنتهى المقال ٤ : ٢٥٩ / ١٨٢٠ .

٣٠

الدين ، إنّما الدين واحد ، بل إنّما المراد اختلافهم في البلدان لتحصيل الدين ، كما قال اللّه‏ عزوجل : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (١) » (٢) ، الآية .

فتأمّل حتّى تعرف أنّ هؤلاء القوم كثيراً ما يروون الرواية من غير فهم ما هو المراد بها ـ وسنذكر أخباراً من هذا القبيل جميعاً أو أشتاتاً ـ وكذا قد يسقطون بعض أجزاء الحديث ليحصل به إجمال ينفعهم . ولا تغفل عن دلالة حديث «البصائر» على عدم استبعاد حمل لفظ «الصحابة» في بعض الأخبار على كون المراد أهل بيته ؛ حيث إنّهم أفضلهم وأمسّهم به وأطوعهم له .

واعلم أيضاً أنّ تأويل الصادق عليه‌السلام في حديث اختلاف الاُمّة يوجب الجزم بورود الخبر ؛ إذ ربّما قال عليه‌السلام ذلك مماشاةً معهم حذراً من تكذيب ما اشتهر بينهم ؛ إذ يكفي في إظهار توهّمهم فيه بيان معناه الصحيح .

وبالجملة : إن سلّمنا صحّة الحديث أيضاً فهذا هو معناه قطعاً ؛ لما ذكرنا من مفاسد المعنى (٣) الذي فهموه ، فافهم .

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا بيّنّا عدم إمكان التشبّث أيضاً هاهنا بالإجماع استناداً إلى اشتهار الاختلاف ، وكون المدار عليه كما توهّمه بعضهم ؛ إذ ـ مع قطع النظر عمّا سيأتي ممّا ينادي بأن لا اعتناء أصلاً في دعوى الإجماع إلاّ على ما ثبت اتّفاق كلّ الفِرَق عليه ـ نقول : إنّ هذا أمر ظهر ورود النهي عنه

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٢٢ .

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٥٨ / ٢٢٩ بتصرّف .

(٣) في «م» زيادة : الأوّل .

٣١

(واضحاً و) (١) صريحاً في محكمات القرآن ، وثابتاً (٢) من السنّة ، واستلزامه المفاسد التي لا يمكن لهم التزامها ، مع ما سيأتي في محلّه أيضاً من اتّفاق عليّ والأئمّة الصادقين من ذرّيّته عليهم‌السلام ، وكلّ أصحابهم من علماء الإماميّة على ما هو مطابق الكتاب ، وما ثبت كونه دأب أهل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهمن لزوم أخذ الأحكام من اللّه‏ ورسوله لا غير ، وعلى أنّ الاختلاف من البِدَع الحادثة بسبب ترك متابعة هؤلاء الأئمّة المعيّنين لتعليم أحكام الدين ، بل إنّ حدوثه مسلّم عند كلّ المسلمين .

فتأمّل في جميع ما ذكرناه حتّى تعلم أنّ الاختلاف الذي وقع فيه القوم في غاية وضوح البطلان حتّى عندهم ، ومع هذا يريدون تصحيحه ولو بالباطل ؛ حيث لا يسعهم الإقرار بالبطلان ، فافهم .

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد «ش» و«ن» .

(٢) في «ن» و«ش» : ثابتات .

٣٢

الفصل الثاني

في بيان أنّ منشأ التفرّق والاختلاف إنّما هو تفاوت أفراد المدركات ، مع الوقوع بسبب خطوات الشيطان وتلبيساته في الشبهات ، مثل ما مرّ من متابعة الآراء (١) والأسلاف والهوى والشهوات ، وكالتمسّك في الدين بالظنّ والتخمين ، ممّا يدخل تحت الاعتبارات العقليّة والاجتهادات الظنّيّة ، وما يفيده الرأي والقياس والاستحسان (٢) ، وأمثال هذه التخيّلات التي منها الاعتماد على ما استقرّ عليه الجمهور ، وصار من القول أو الفعل المشهور ؛ بحيث سمّاه الأكثرون إجماعاً وتلقّوه بالقبول ، وإن كان في الأصل بحسب خرص بعض العقول ، ونذكر فيه ما يدلّ على بطلان هذه الأشياء ، وعدم كونها من سنن الأنبياء .

لا يخفى أن لا مجال للشبهة في كون تفاوت مراتب الأفهام من أسباب اختلاف الخاصّ والعامّ ، وقد تبيّن ممّا سبق من البابين الأوّلين مفصّلاً أنّ متابعة الآباء ورغبة شهوات الدنيا كذلك أيضاً ، وكذا كونهما مذمومين بنصّ القرآن ، بل من عمدة خطوات الشيطان في إضلال الإنسان .

ولكن من أعظم خطواته ما أضلّ به زَهَدة (٣) العلماء أيضاً ؛ حيث

__________________

(١) في «ش» : الآباء .

(٢) في «ش» : الاستحسانات .

(٣) في «ش» : زبدة .

٣٣

زيّن لهم جواز التعبّد بما أشرنا إليه آنفاً ويأتي تفصيله أيضاً ، من التخيّلات العقليّة والاستنباطات الظنّيّة التي سمّوها اجتهاداً ، فإنّ عامّة من لم يأخذ مسائل دينه من العترة المقرونين بالقرآن ـ كما سيأتي ـ تشبّثوا غصباً عليهم ـ كما ذكرنا سابقاً ـ بالاعتماد في الدين على مقتضى دلالة الآراء والأهواء ؛ بحيث خَبطوا بذلك في الدين خَبطَ عَشْواء ، وتفرّقوا واختلفوا بذلك في جُلّ أحكام الملّة البيضاء ، حتّى صار كلّ واحد منهم كأنّه نبيّ شريعته ورسول (ملّته) (١) ، وحتّى كأنّ اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قصّرا عندهم في إكمال الدين وتبليغ أحكام المسلمين ، مع أنّ وضوح بطلان ذلك عقلاً ونقلاً كالشمس في رابعة النهار :

أمّا أوّلاً : فلأنّه مستلزم للتفرّق والاختلاف الذي تبيّن فساده ، وكونه علامة الضلالة والبطالة ، وما يستلزم ذلك (فهو) (٢) كذلك .

وأمّا ثانياً : فإنّه مستلزم لتكذيب اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو كفر صريح بالضرورة الدينيّة ، فالمستلزم لذلك (٣) أيضاً كذلك .

بيان الملازمة أنّهما أخبرا بإكمال الدين وإتمام النعمة والحجّة ، وتبيان كلّ شيءٍ ، وعدم التفريط في أمرٍ ، كما ينادي بذلك قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (٤) الآية ، وقوله فيه : ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) (٥) وقوله : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٦) وأمثالها ممّا

__________________

(١) في «ش» : أهل ملته .

(٢) في «ش» : فهو أيضاً .

(٣) في النسخ زيادة (له) والظاهر زيادتها، فتأمل .

(٤) سورة المائدة ٥ : ٣ .

(٥) سورة النحل ١٦ : ٨٩ .

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٣٨ .

٣٤

سيأتي مع الأخبار الدالّة على ذلك في محلّه ، لا سيّما ما سنذكره هاهنا من كلام عليّ عليه‌السلام وغيره ، ومن البيّن أنّ ما ادّعاه هؤلاء الجمع من بقاء أكثر الأحكام غير مبيّنةٍ يناقضه ، وهو مفاد التكذيب .

لا يقال : وجود أحكام كثيرة لا نعلمها نحن من الكتاب ولا من السنّة ثابت ، بحيث وصل إلى حدّ الضرورة ، ولا يمكن إنكاره .

لأنّا نقول : عدم علمكم بها لا يدلّ على عدم الإعلام ؛ إذ ليس بواجب على اللّه‏ ولا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله تبيان جميع الاُمور على جميع المكلّفين ، وإلاّ لم يحتج إلى بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً .

بل يكفي في ذلك ـ كما يأتي في محلّه مفصّلاً ـ أن يُعلّم اللّه‏ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما تحتاج إليه أُمّته ويُفهمه جميع ما في كتابه ، ويكون الناس مأمورين بالأخذ منه ، كما قد كان كذلك في زمان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينادي به قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (١) ، وقوله : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) (٢) وغيرهما من الآيات الصريحة والروايات الصحيحة . وأن يعلّم الرسولُ أيضاً كلّ ما علّمه اللّه‏ تعالى رجلاً قابلاً لذلك من اُمّته ؛ ليكون مرجعهم إليه في سائر أحكام اللّه‏ . . . وهلمّ جرّاً في كلّ عصر إلى آخر الزمان .

بل الحقّ ـ كما سيأتي أيضاً ـ أنّ هكذا كان ما جرت عليه عادة اللّه‏ من زمان آدم عليه‌السلام ، حيث أوصى إلى شيث ابنه وعلّمه ما علّمه ، وهكذا سائر الأنبياء إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأوصى هو إلى عليّ عليه‌السلام وعلّمه ما علّمه من الاُمور وعلم الكتاب ، وأودعه الحكمة وفصل الخطاب ـ كما سيأتي هذا أيضاً

__________________

(١) سورة الحشر ٥٩ : ٧ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨ .

٣٥

مفصّلاً ـ ولهذا كان عليّ عليه‌السلام ينادي على المنبر بقوله : «سلوني قبل أن تفقدوني» (١) ، وقوله : «لو ثنّيت لي الوسادة لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم» إلى قوله : «وأهل القرآن بقرآنهم» (٢) وأمثال ذلك .

وكذا أوصى عليّ إلى ابنه الحسن عليهما‌السلام وعلّمه ما علّمه ، وهكذا نسلاً بعد نسل وكابراً بعد كابر ، كما سيأتي أيضاً ، بل قد مرّ في أخبار أوّل الكتاب جملة مشبعة في جميع هذه المراتب المذكورة ، ومن أراد كمال الانكشاف وتمام الاستبصار فعليه بتتبّع ما نقله الإماميّة وغيرهم من الأحوال والأقوال عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام .

ولكنّ الذين تركوا بعد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ المعالم من عالمها ، وشرب الموارد من مناهلها ، فلم يعبأوا أبداً بشأن اُمناء الرحمن وعلماء القرآن (٣) ، أعني : العترة المقرونين بالقرآن (٤) ، كما سيأتي واضح البيان ، وجنحوا مع هذا للّذين لم يكن لهم ضرس قاطع في الدين ، فضلاً عن معرفة أحكام ربّ العالمين ، كأنّهم لم يسمعوا قول اللّه‏ عزوجل : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٥) ، وقوله : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢٨٠ الخطبة ١٨٩ ، التوحيد للصدوق : ٣٠٥ ، الإرشاد للمفيد ١ : ٣٣٠ ، الأمالي للمفيد : ١٥٢ / ٣ ، الاختصاص : ٢٣٥ و٢٣٦ و٢٣٧ ، الأمالي للطوسي : ٥٨ / ٨٥ ، المناقب للخوارزمي : ٩١ / ٨٥ ، العمدة لابن البطريق: ٣٣٦ / ٥٦١، فرائد السمطين ١: ٣٤١ .

(٢) بصائر الدرجات : ١٥٢ ـ ١٥٤ / ١ ـ ٧ ، الاختصاص : ٢٣٥ ، الدرّ النظيم : ٢٦٢ ، وفيه : بتفاوت .

(٣) في «ش» : الفرقان .

(٤) في «ش» زيادة : في التمسّك .

(٥) سورة يونس ١٠ : ٣٥ .

٣٦

لَا يَعْلَمُونَ ) (١) وما بمعناها من الآيات والروايات ، فأمثال هؤلاء كيف يتصوّر أن لا تكثر عليهم أحكام لا يعرفونها من الكتاب والسنّة ؟ غير أنّ التقصير ليس إلاّ منهم كما تبيّن (٢) ، فحجة اللّه‏ تامّة عليهم ، وليسوا بمعذورين في الاجتهاد ؛ لتحصيلها من غير السبيل الذي أمر اللّه‏ به ، كما ينادي به ما مرّ من قوله تعالى : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (٣) .

وقد قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما رواه عنه المخالف والمؤالف ـ كما سيأتي أيضاً ـ : «إنّ اللّه‏ تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه إليه ، ولكنّه يقبض العلماء ، فاتّخذ الناس رؤساء جُهّالاً فاتّبعوهم ، فضلّوا وأضلّوا» (٤) .

كيف لا ! وقد نسب اللّه‏ عزوجل في صريح القرآن إلى الكفر والضلال والطغيان جماعةً من الاُمم التي سلكت هذا المسلك في سالف الزمان ، كما مرّ بعض أحوالهم في الفصل الأخير من فصول الباب السابق ، حتّى أنّ من تأمّل في الفصل المذكور عرف أنّ من شواهد بطلان هؤلاء موافقتهم لاُولئك المبطلين من الاُمم في كثير من العقائد بسبب الاشتراك في المسالك ، بل من أعظم الشواهد وأوضح الفضائح عليهم كون مبنى اجتهادهم هذا على (الاعتماد على) (٥) الظنّ والتخمين ، واتّخاذ الرأي

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ : ٩ .

(٢) في «م» زيادة : فهمه .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٥٣ .

(٤) الأمالي للمفيد : ٢٠ / ١ ، المسند للحُميدي ١ : ٢٦٤ / ٥٨١ ، مسند أحمد ٢ : ٣٤٦ / ٦٤٧٥ ، صحيح البخاري ١ : ٣٦ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٠٥٨ / ٢٦٧٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٣١ / ٢٦٥٢ ، وفيها هكذا : حتى إذا لم يترك عالماً اتّخذ . . . .

(٥) ما بين القوسين لم يرد في «ن» .

٣٧

والهوى في الدين ، وكلاهما من فسدة أعمال المبطلين حتّى من السابقين ، ومن مذامّ صريح السنّة والقرآن ، بل ممّا عدّه اللّه‏ تعالى من خطوات الشيطان ، وجعله من علائم البطلان في كلّ زمان .

ولنذكر هاهنا نبذاً من الآيات والروايات الدالّة على ذلك ، سوى ما مرّ ويأتي ، فإنّ جميعها لا يحصى ، ونذكر في ضمن ذلك أيضاً مجمل ما يدلّ على انحصار الحقّ فيما أنزل اللّه‏ ، فإنّ لتفصيله محلاًّ آخَر .

قال اللّه‏ عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) (١) ، وصراحته في انحصار التكليف بالأخذ من اللّه‏ ورسوله ـ الذي هو مقتضى الدخول في السلم دون غير ذلك ـ وأنّ ما سواه من خطوات الشيطان ، وكذا في تعميم الحكم بالنسبة إلى كلّ مؤمن ، كما هو مقتضى عدم جواز متابعة خطوات الشيطان أبداً ظاهرة على كلّ خبير بصير ، وستأتي في فصل الآيات أخبار في تفسير الآية ، بل غيرها أيضاً .

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٢) ودلالته أيضاً على كون خطوات الشيطان ـ التي تبيّن أنّها ما سوى الأخذ من اللّه‏ ورسوله ـ هي من الفحشاء والمنكر ظاهرة ، حتّى أنّ في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام تصريحاً بتفسير الفحشاء والمنكر بمن ليس حكمه من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨ .

(٢) سورة النور ٢٤ : ٢١ .

(٣) بصائر الدرجات ٥٤ / ٤ ، تفسير العيّاشي ٢ : ١٤٦ / ١٥٨٠ /٣٨ ، الكافي ١ : ٣٠٥ /٩ (باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل) .

٣٨

وممّا يشهد لما ذكرناه قوله تعالى : ( كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) إلى قـوله : ( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (١) وقوله : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) إلى قوله : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (٢) ؛ إذ لا شكّ أنّ القول بالاجتهاد المذكور من جملة ما لا يعلمون ؛ ضرورة عدم حصول العلم لهم بكونه حكم اللّه‏ الواقعي ؛ إذ المعلوم هو ما لا يحتمل الخطأ .

بل ربّما يقال : إنّه مختصّ ـ فيما سوى الضروريّات ـ بالمأخوذ من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يشهد له قوله تعالى : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (٣) ، مع ملاحظة قوله تعالى : ( قُلْ إنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إلَىَّ مِنْ رَّبِّىِ ) (٤) ، وقوله : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (٥) . وقوله : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٦) ، وأمثال هذه الآيات كما سيأتي ، ومن الروايات ما سيأتي أيضاً ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما العلم ثلاث : كتاب ناطق ، وسنّة ماضية ، ولا أدري» (٧) ، وكغيره ،

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٦٨ ـ ١٦٩ .

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٣٣ .

(٣) سورة البقرة ٢ : ١٥١ .

(٤) سورة الأعراف ٧ : ٢٠٣ .

(٥) سورة الأنعام ٦ : ٥٠ .

(٦) سورة النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤ .

(٧) المعجم الأوسط ١ : ٣٩٨ / ١٠٠٥ ، تاريخ مدينة دمشق ١٧ : ٣١٨ / ٢٠٩٤ ، مجمع الزوائد ١ : ١٧٢ ، وفيها عن ابن عمر مقطوعاً ، جامع الأحاديث ٦ : ٢٢٦ / ١٤٥١٦ ، بتفاوت يسير .

٣٩

فتدبّر .

وقال عزوجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) (١) .

ودلالته على كون الطاغوت من لم يحكم بما أنزل اللّه‏ ، وأنّ اللّه‏ أمر بترك متابعته ، وأنّ متابعته من الشيطان للإيقاع في الضلال واضحة .

وبمعناه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (٢) ؛ إذ العبادة هي الإطاعة ، كما يشهد له قوله تعالى : ( لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ) (٣) وقوله : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (٤) ، فإنّ أخبار المخالف والمؤالف صريحة في أنّ المراد أنّهم أحلّوا لهم حراماً ، وحرّموا عليهم حلالاً فأطاعوهم (٥) ، ومعلوم أنّ ذلك كان بآرائهم من غير الورود من اللّه‏ . هذا ، مع أنّ الاجتناب يعمّ التوقّي من كلّ باب ، فافهم .

وقال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٦٠ .

(٢) سورة النحل ١٦ : ٣٦ .

(٣) سورة مريم ١٩ : ٤٤ .

(٤) سورة التوبة ٩ : ٣١ .

(٥) المحاسن ١ : ٣٨٣ / ٨٤٧ ، تفسير العيّاشي ٢ : ٢٢٩ / ١٨١٢ و٢٣٠ / ١٨١٣ ـ ١٨١٦ ، الكافي ١ : ٤٣ /١ و٣ (باب التقليد) و٢ : ٢٩٢ / ٧ (باب الشرك) ، دعائم الإسلام ١ : ٢ ، روضة الواعظين : ٢١ ، مشكاة الأنوار ٢ : ١٧٧ / ١٥١٩ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٧٨ / ٣٠٩٥ ، المعجم الكبير ١٧ : ٩٢ / ٢١٨ ، شعب الإيمان ٧ : ٤٥ / ٩٣٩٤ ، السنن الكبرى ١٠ : ١١٦ ، تفسير الدرّ المنثور ٤ : ١٧٤ .

٤٠