ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

وأنّ اللّه‏ تعالى غير كلّ ما تتعقّله ، فلا تصفه إلاّ بما وصف هو به نفسه بأن تنزّهه عن (١) المشابهة بشيء (٢) كلّيّاً ، ولا تخرجه إلى حدّ التعطيل أيضاً ، وتعتقد فيه ما ذكر لنفسه من جميع الكمالات مع سلب النقائص التي هي في المخلوقات ، فتقول مثلاً : إنّه تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة لكن لا كالأشياء ؛ إذ لا يشبهه شيء منها بوجه أبداً ، وليس كمثله شيء أصلاً ، وتقول : إنّه عزوجل موجود ثابت عيناً لا كوجود المخلوقات الحادث المتنزّل العارض لها من الخارج ، وكذا تقول : إنّه جلّ وعلا قادر عالم لكن لا كقدرة سائر الموجودات وعلمها الحادثين ، الناقصين ، العارضين لها من غيرها ، وهلّم جرّاً في سائر صفات الذات الآتية .

وبالجملة : تقول : إنّه إله متعالٍ عن احتمال تطرّق نقص إليه في حال ، أو عجز من صفة كمال ، أو درك كنه حال من أحواله بتخيّل بال (٣) ، كلّ ذلك لأجل ما بيّنّاه من نفي التشبيه والتعطيل عنه ، وأنّه خلاف ما يتوهّم ويتصوّر ، كما ينادي به ـ سوى ما مرّ أيضاً ـ أخبار .

منها : صحيحة عبدالرحمن بن أبي نجران (٤) ، قال : سألت أبا جعفر الثاني عليه‌السلام عن التوحيد ، فقلت : أتوهّم شيئاً ؟ فقال : « نعم غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، ولا يُشبهه شيء

__________________

(١) في « م » زيادة : «المشاركة و» .

(٢) في « م » و«ش» زيادة : «من خلقه» .

(٣) في « م » زيادة : «من غيرها» .

(٤) هو عبد الرحمن بن أبي نجران التميمي الكوفي ، ثقة ، معتمد ، عدّه الشيخ رحمه‏الله في رجاله تارة من أصحاب الرضا عليه‌السلام ، واُخرى من أصحاب الجواد عليه‌السلام ، له كتب أخبر بها جماعة .

انظر : رجال الطوسي : ٣٦٠ / ٥٣٢٣ ، و٣٧٦ / ٥٥٦٧ ، تنقيح المقال ٢ : ١٣٩ / ٦٣٣٩ .

٣٨١

ولا تدركه الأوهام ، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصوّر ؟ إنّما يتوهّم شيء غير معقول ولا محدود » (١) .

(وفي رواية اُخرى : أنّه قيل له عليه‌السلام : يجوز أن يقال للّه‏ : إنّه شيء ؟ قال : « نعم يخرجه من الحدّين حدّ التعطيل وحدّ التشبيه » (٢) .

وقال الصادق عليه‌السلام حين سئل عن اللّه‏ عزوجل : « هو شيء بخلاف الأشياء » ، ثمّ قال للسائل : « ارجع بقولي إلى إثبات معنىً ، وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة غير أنّه لا جسم ولا صورة ، ولا يُحسّ ، ولا يُجسّ ، ولا يُدرك بالحواسّ الخمس ، لا تُدركه الأوهام ، ولا تنقصه الدهور ، ولا تُغيّره الأزمان » ، ثمّ قال عليه‌السلام : « لا بُدَّ من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه ؛ لأنّ من نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيّته وأبطله ، ومن شبّهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين الذين لا يستحقّون الربوبيّة فلابُد من إثبات أنّ له (ذاتاً بلا) (٣) كيفيّة ، لا يستحقّها غيره ، ولا يشارك فيها ، ولا يحاط بها ، ولا يعلمها غيره » (٤) .

وقال عليه‌السلام أيضاً : « من شبّه اللّه‏ بخلقه فهو مشرك ، إنّ اللّه‏ تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه » (٥) ) (٦) .

وقال الرضا عليه‌السلام : « ما توهّمتم من شيء فتوهّموا اللّه‏ غيره » ، قال :

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٤ / ١ (باب إطلاق القول بأنّه شيء) ، التوحيد : ١٠٦ / ٦ ، وفيهما بتفاوت يسير .

(٢) الكافي ١ : ٦٤ / ٢ (باب إطلاق القول بأنّه شيء) ، التوحيد : ١٠٤ / ١ و١٠٧ / ٧ .

(٣) ما بين القوسين غير موجود في الكافي .

(٤) الكافي ١ : ٦٥ / ٦ (باب إطلاق القول بأنّه شيء) بتفاوت يسير ، التوحيد : ٢٤٧ (باب الرد على التنوية والزنادقة) .

(٥) التوحيد : ٨٠ / ٣٦ ، بحار الأنوار ٣ : ٢٩٩ / ٣٠ ، نور البراهين ١ : ٢١٨ / ٣٦ .

(٦) ما بين القوسين مشطوب عليه في «س» .

٣٨٢

« اللّهمّ لا أصفك إلاّ بما وصفت به نفسك ، ولا اُشبّهك بخلقك ، أنت أهل لكلّ خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين » (١) .

وقال الكاظم عليه‌السلام : « إنّ اللّه‏ أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنهُ صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك » (٢) .

وعنهم عليهم‌السلام في أخبار ـ أخذنا من كلّ موضعٍ الحاجة ـ أنّهم قالوا : « سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، الذي لا يُحدّ ولا يُحسّ ولا يُجسّ ولا تُدركه الحواسّ ولا يحيط به شيء (لا تحويه أرضه ولا تقلّه (٣) سماواته) ، ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد » (٤) .

وقالوا أيضاً : « لا تضبطه العقول ، ولا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به مقدار » (٥) .

وقالوا «ولا يوصف بكيفٍ ولا أينٍ ولا حيث ، وكيف يوصف بذلك وهو الذي كَيَّفَ الكيف حتّى صار كيفاً وأَيَّنَ الأين حتّى صار أيناً وحيّث

__________________

(١) الكافي ١ : ٧٨ / ٣ (باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى) ، التوحيد : ١١٤ / ١٣ ، وفيهما ضمن الحديث وبتقديم وتأخير .

(٢) الكافي ١ : ٧٩ / ٦ (باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى) ، رجال الكشّي : ٣٤٨ / ٥٠٠ ، بحار الأنوار ٣ : ٢٦٦ / ٣١ .

(٣) في «م» : تعليه .

(٤) انظر : الكافي ١ : ٨١ / ١ (باب النهي عن الجسم والصورة) ، التوحيد : ٩٨ / ٤ ، كنز الفوائد ٢ : ٤١ ، بحار الأنوار ٣ : ٢٩٠ / ٥ ، نور البراهين ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ٤ .

وما بين القوسين لم يرد في هذه المصادر ، بل ورد ضمن حديثٍ آخَر في : التوحيد ٥٧ / ١٥ ، وبحار الأنوار ٤ : ٢٨٦ ، ونور البراهين ١ : ١٦٤ .

(٥) الكافي ١ : ٨١ / ٣ (باب النهي عن الجسم والصورة) ، علل الشرائع : ٩ / ٣ ، باب ٣ ، التوحيد : ٩٨ / ٥ ، وفيها ضمن الحديث .

٣٨٣

الحيث حتّى صار حيثاً » (١) .

وقالوا : « عجزت دونه العِبارة ، وكلّت دونه الأبصار ، وضلّ فيه تصاريف الصفات » (٢) .

وقالوا : « داخل في كلّ مكان ، وخارج من كلّ شيء» (٣) ، «قريب في بُعْده بعيد في قُربه» (٤) ، «لا خلقه فيه ولا هو في خلقه» (٥) .

وفي رواية : « داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج من شيء ، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره » (٦) .

وقالوا : « احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عُرف بغير رؤية ، ووُصف بغير صورة ، ونُعت بغير جسم ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال » (٧) .

وقد قيل للرضا عليه‌السلام : إذا لم يُدرَك اللّه‏ بحاسّة من الحواسّ ، فإذن أنّه لا شيء .

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٠ / ١٢ (باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى) ، التوحيد : ١١٥ / ١٤ ، بحار الأنوار ٤ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ / ٢٦ ، وفيها بتفاوت يسير .

(٢) الكافي ١ : ٨١ / ٣ (باب النهي عن الجسم والصورة) ، التوحيد : ٩٨ / ٥ .

(٣) انظر : الكافي ١ : ٨٠ ـ ٨١ / ١٢ (باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى) .

(٤) انظر : المحاسن ١ : ٣٧٣ / ٨١٨ ، الكافي ١ : ٦٧ / ٢ (باب أنّه لا يعرف إلاّ به) ، التوحيد ٢٨٥ / ٢ .

(٥) انظر : التوحيد : ٥٧ / ١٥ ، بحار الأنوار ٤ : ٢٨٦ / ١٨ .

(٦) المحاسن ١ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ / ٨١٨ ، الكافي ١ : ٦٧ / ٢ (باب أنّه لا يعرف إلاّ به) ، التوحيد : ٢٨٥ / ٢ .

(٧) الكافي ١ : ٨١ / ٣ ، (باب النهي عن الجسم والصورة) ، علل الشرائع : ٩ ـ ١٠ / ٣ ، باب ٩ ، التوحيد : ٩٨ / ٥ ، بحار الأنوار ٤ : ٢٦٣ / ١١ ، وفي التوحيد والكافي بتفاوت يسير .

٣٨٤

فقال : « ويلك لمّا عَجَزَتْ حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عَجَزَت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا بخلاف شيء من الأشياء » (١) .

والأخبار من هذا القبيل كثيرة ، وكفى ما ذكرناه لكشف الحقّ على مَنْ له أدنى بصيرة ، وموضع التفصيل كتب الحديث ، ولا يمكن هاهنا استقصاء نقلها وبيان متنها ، فلنكتف إذاً ببيان خلاصة قول هذه الطائفة في التوحيد والصفات ، المأخوذ من جميع ما عندهم من روايات الأئمّة السادات عليهم‌السلام حتّى ينكشف الحال أيضاً في معرفة الذات أوضح ممّا ظهر في ضمن هذه الروايات .

اعلم أنّ عندهم كمال التوحيد أن تعتقد أنّ اللّه‏ تعالى فرد واحد متفرّد بالوحدانيّة من جميع الجهات ، بمعنى أن تعلم أنّه أحديّ الذات ليست له أجزاء عقليّة ولا خارجيّة ولا وهميّة ، بل هو الذي لا يتطرّق إليه التركيب أصلاً ، وأنّه أحديّ المعنى ، ليست له صفات زائدة ، بل صفاته ـ كما سيظهر ـ عين ذاته ، بحيث لا يحتمل فيه التعدّد مطلقاً ، وأنّه أحديّ في المالك والخلق ، ليس له شريك في شيء رأساً ، ولا ندّ ولا ضدّ ولا صاحبة ولا ولد أبداً ، فهو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .

وبالجملة : التوحيد الكامل عندهم أن تصفه بجميع ما له من صفات الكمال وتنزّهه عمّا لا يليق به تعالى في الذات والصفات والأفعال ، بل

__________________

(١) الكافي ١ : ٦١ / ٣ (باب حدوث العالم وإثبات المحدث) ، التوحيد : ٢٥٠ ـ ٢٥١ / ٣ ، الاحتجاج ٢ : ٣٥٤ / ٢٨١ ، وفيها ضمن الحديث .

٣٨٥

لا تطيع إلاّ إيّاه ، ولا تشرك في عبادتك له ما سواه ؛ ولهذا قالوا : بأنّ أكمل أهل المعرفة والتوحيد ، بل الموحّد الحقيقي إنّما هم (١) أرباب العصمة ، ثمّ خُلّص المؤمنين ، وذلك أيضاً على حسب ما سيأتي من تفاوت درجات الإيمان ، وتغاير مراتب الناس في العرفان .

وهذا هو عمدة أسباب ما قطعوا به من كون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل المخلوقين ؛ لما هو ثابت عندهم من كونه أوّل الخلق خلقةً وإطاعةً ، حيث فطره اللّه‏ عزوجل قبل كلّ شيء من نور العظمة والمعرفة ؛ ولهذا لم يخالفه أبداً حتّى في ترك الأولى أيضاً ، ثمّ عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لكونهما من نور واحد ، ثمّ الأئمّة المعصومين من ذرّيّتهما الأوصياء المعلومين ؛ لكونهم أيضاً من ذلك النور وتلك الخلقة ، ثمّ بقيّة اُولوا العزم من النبيّين ، ثمّ سائر المعصومين من الأنبياء والأوصياء والمرسلين والملائكة أجمعين ولو على تفاوت مبيّن ، ثمّ خُلّص سائر المؤمنين وهلمّ جرّاً بنحو ما أشرنا إليه مجملاً ويأتي مفصّلاً إلى ما هو أدنى المراتب .

ثمّ إنّ عندهم أنّ صفاته سبحانه على قسمين : سلبيّة ، كعدم الجسميّة مثلاً ، وثبوتيّة ، ككونه عالماً مثلاً .

والثبوتيّة على نوعين ؛ لأنّها إمّا إضافيّة محضة كالرازقيّة مثلاً ، وتسمّى صفات الفعل ، وإمّا حقيقيّة سواء كانت ذات إضافة ككونه عالماً وقادراً مثلاً ، أو لا كالحياة والبقاء ، وتسمّى الجميع صفات الذات .

ومجمل الفرق بينها وبين صفات الفعل : إنّ كلّ صفة وجوديّة يكون

__________________

(١) في النسخ : هو .

٣٨٦

لها مقابل وجوديّ يمكن اتّصافه تعالى به كالرضا والسخط مثلاً ، فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات ؛ لأنّها ـ كما سيظهر ـ عين الذات ، وذاته ممّا لا ضدّ له ، فصفات الفعل ممّا لا كلام عندهم ، ولا شبهة في كونها زائدة حادثة خارجة عن الذات ؛ ولهذا لمّا قيل للصادق عليه‌السلام : لم يزل اللّه‏ متكلّماً ، قال : « إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ، كان اللّه‏ عزوجل ولا متكلّم » (١) أي : لم يوجد بعد الأصوات ولا النقوش ، ولا ألقى الكلام إلى قلب أحد ؛ ضرورة أنّ هذا إنّما هو المراد بكلامه تعالى وتكلّمه ، فكذا الحال فيما هو واضح من أنّ اللّه‏ كان ولا خلق ولا رزق ولا سخط ولا رضا ولا غيرها من أمثالها التي لا بُدَّ أن تُعدّ من صفات الفعل ؛ لما ذكرنا ، حتّى الإرادة على ما هو صريح كلام الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّ عامّة المتكلّمين فسّروا إرادة اللّه‏ : بأنّها العلم بالخير والنفع وما هو الأصلح ، فهي عندهم قديمة ومرجعها إلى العلم .

ولكنّ الذي ثبت عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّها وردت بمعان كلّها من صفات الفعل ، فإنّ مفاد كلامهم : أنّها قد تطلق بمعنى الأمر والرضا وما يقابل الكراهة ، وهذا مهما كانت متعلّقة بأفعال العباد ، يقال : يريد الصلاح والطاعة ، ويكره الفساد والمعصية ، أي : يأمر وينهى ، كما يقال : يحبّ ويرضى ، أي : يأمر ويثيب ، ويقال : يبغض ويسخط ، أي : ينهى ويعاقب .

قال عمرو بن عبيد للباقر عليه‌السلام : ما معنى قوله تعالى : ( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ) ؟ (٢) فقال عليه‌السلام : « الغضب هو العقاب ، يا عمرو ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٣ / ١ (باب صفات الذات) ، التوحيد : ١٣٩ / ١ ، بحار الأنوار ٤ : ٧١ ـ ٧٢ / ١٨ ، و٥٧ : ١٦١ / ٩٦ .

(٢) سورة طه ٢٠ : ٨١ .

٣٨٧

إنّه من زعم أنّ اللّه‏ عزوجل زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفةَ مخلوق ، إنّ اللّه‏ لا يستفزّه شيء ولا يغيّره » (١) .

وسيأتي إطلاقها أيضاً على تهيئة أسباب الفعل ، وعلى ما سيجيء من الخذلان ، وعلى بعض مراتب التقدير والكتابة في اللوح .

وقد تطلق ، وهي ما إذا كانت متعلّقة بأفعال نفسه بمعنى الإحداث والإيجاد في وقت تكون المصلحة فيه ، كما قال الكاظم عليه‌السلام : « إنّ الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللّه‏ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ؛ لأنّه لا يُروّي ولا يَهمُّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة اللّه‏ الفعل لا غير ذلك » (٢) .

وقال الرضا عليه‌السلام : « المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ اللّه‏ لم يزل شائياً مريداً فليس بموحّد » (٣) ، الخبر .

وقال الصادق عليه‌السلام : « العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء اللّه‏ ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم اللّه‏ ، فقولك : إن شاء اللّه‏ ، دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء كان الذي كما شاء ، وعِلْمُ اللّه‏ سابق للمشيئة » (٤) ، الخبر .

ولهذا لم يعبأ بكلام المتكلّمين أرباب النصوص من علماء الإماميّة ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٦ / ٥ (باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل) ، التوحيد : ١٦٨ / ١ ، بحار الأنوار ٤ : ٦٤ ـ ٦٥ / ٥ ، وفيها بتفاوت يسير .

(٢) الكافي ١ : ٨٥ / ٣ (باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل) ، التوحيد : ١٤٧ / ١٧ ، بحار الأنوار ٤ : ١٣٧ / ٤ .

(٣) التوحيد : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ / ٥ ، بحار الأنوار ٤ : ١٤٥ / ١٨ ، نور البراهين ٢ : ٢٤٣ / ٥ .

(٤) الكافي ١ : ٨٥ / ٢ (باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل) ، التوحيد : ١٤٦ / ١٦ ، بحار الأنوار ٤ : ١٤٤ / ١٥ .

٣٨٨

وسيأتي أيضاً أنّ القضاء والقدر وأمثالهما أيضاً كذلك بمعانيها المتعدّدة .

وأمّا صفات الذات كالقدرة والعلم والحياة وأمثالها ممّا لا اتّصاف للذات المقدّسة بضدّه ، فلا شكّ عندهم ـ كما هو مفاد متواتر أخبارهم ـ أنّها عين الذات ، لكن لا بالمعنى المفهوم بادئ الرأي ، بل بمعنى أنّه يترتّب على مجرّد الذات (البسيطة ما يترتّب على الذات) (١) والوصف في غيره تعالى مثل أن (يقولوا : إنّه) (٢) تعالى قادر بذاته بلا صفة زائدة ، ولا كيفيّة حادثة ، وبلا آلة ، أي : ذاته البسيطة كافية في إيجاد كلّ معدوم ، وإعدام كلّ موجود ، وفعل كلّ شيء كائناً ما كان على حسب إرادته واختياره ، بحيث لا يتطرّق إلى ساحة كمال قدرته شائبة العجز مطلقاً .

قالوا : وأمّا عدم تعلّق القدرة بالممتنع ، فإنّما هو لقصور الممتنع عن التكيّف بكيفيّة الوجود ـ مثلاً ـ لا غير ، ولهذا لمّا قيل للصادق عليه‌السلام : هل يقدر ربّك أن يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن يكبّر البيضة ولا يصغّر الدنيا ؟ قال : « إنّ اللّه‏ عزوجل لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون » (٣) .

وكذا يقولون : إنّه تعالى عالم بذاته بلا صفة زائدة ، ولا كيفيّة حادثة ، وبلا آلة ، ولا حدوث صورة ولا غير ذلك ، أي : ذاته البسيطة كافية في الاطّلاع على جميع الاُمور جزئيّاتها وكلّيّاتها ، بحيث لا يجهل شيئاً أصلاً ، ولا يتغيّر علمه بتفاوت ـ مثلاً ـ بالنسبة إلى ما كان أو يكون ، أو لغير ذلك

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «ن» .

(٢) بدل ما بين القوسين في « م » : «يقول : إنّ اللّه‏» .

(٣) التوحيد : ١٣٠ / ٩ ، بحار الأنوار ٤ : ١٤٣ / ١٠ ، نور البراهين ١ : ٣٣٢ / ٩ .

٣٨٩

مطلقاً .

وكذا يقولون : إنّه تعالى حيّ بذاته بلا صفة زائدة ، ولا كيفيّة حادثة ولا آلة ، أي : ذاته البسيطة كافية في إدراك كلّ الاُمور ، وإنشاء جميع الأشياء ، وصدور كلّ ما لم يصدر من غيره إلاّ بانضمام صفة الوجود ، ولهذا هو الموجود القائم بذاته الذي لا يجوز عليه الموت والفناء ، والواجب الوجود الذي ليس له بدء ولا انتهاء فهو قديم بذاته ، أزليٌّ لا ابتداء لوجوده ، أبديٌّ لا انتهاء لبقائه ، سرمديٌّ يمتنع عليه الفناء والعدم والتغيّر والتحوّل من حال إلى حال ، وهو الأوّل والآخر ، والسابق على العدم ، وما عداه مسبوق به ، فهو المتفرّد بالقِدَم .

قال الصادق عليه‌السلام لمّا سئل عن الأوّل والآخر : « هو الأوّل لا عن أوّلٍ قبله ولا عن بَدءٍ سبقه ، والآخر (١) لا عن نهاية كما يُعقل من صفة المخلوقين، ولكن قديمٌ أوّلٌ آخرٌ لم يزل ولا يزول بلا بَدءٍ ولا نهاية ، لا يقع عليه الحدوث ، ولا يحول من حال إلى حال ، خالق كلّ شيء » (٢) ، الخبر .

وهكذا عندهم حال سائر صفات الذات التي إن تأمّلت عرفت أنّ القدرة أصلها وأساسها ، ويتفرّع على إثباتها إثباتها .

قيل للرضا عليه‌السلام : إنّ قوماً يقولون : إنّ اللّه‏ عزوجل لم يزل عالماً بعلم ، قادراً بقدرة ، وحيّاً بحياة ، وقديماً بقِدَم ، وسميعاً بسمع ، وبصيراً ببصر ، فقال عليه‌السلام : « من قال ذلك ودان به فقد اتّخذ مع اللّه‏ آلهةً اُخرى ، وليس من ولايتنا على شيء » ، ثمّ قال عليه‌السلام : « لم يزل اللّه‏ عليماً قادراً حيّاً

__________________

(١) في النسخ : «وآخر» ، وما أثبتناه من المصدر .

(٢) الكافي ١ : ٩٠ / ٦ (باب معاني الأسماء واشتقاقها) ، التوحيد : ٣١٣ / ١ ، باب ٤٧ .

٣٩٠

سميعاً بصيراً لذاته ، تعالى عمّا يقول المشركون علوّاً كبيراً » (١) .

ثمّ على هذا لا تبقى شبهة في صحّة ما ذكرناه عن الإماميّة من أنّه يمتنع الاطّلاع على حقيقة هذه الصفات وكيفيّتها ؛ لامتناع الاطّلاع على كنه الذات وحقيقتها ، فإذاً إثباتك صفةً منها له ليس إلاّ بنفي ضدّها عنه مثلاً تقول : إنّه عالم ليس بجاهل أصلاً ، وقادر ، أي : ليس بعاجز مطلقاً ، وهكذا هلمّ جرّاً ، وهذا هو معنى ما ورد في الحديث من أنّ : «كمال التوحيد نفي الصفات عنه» ) (٢) ، لا ما توهّمه أكثر المخالفين .

فافهم حتّى تعلم أنّ عامّة ما سوى الإماميّة ، حيث إنّهم لم يعملوا بما عندهم من نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن التفكّر في ذات اللّه‏ تعالى (٣) ، ومع هذا لم يأخذوا أيضاً هذا العلم ممّن تعلّمه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي وصل إليه من اللّه‏ جلّ وعلا ، بل اكتفوا بالاعتماد على مقتضى الرأي والاستحسان ، وتوهّموا في فهم أكثر الصفات ، بحيث وقعوا في أنواع تيه الضلالات فتفرّقوا بذلك إلى ما ذكرناه عنهم سابقاً من أقوال سخيفات تمسّكوا فيها ببعض المتشابهات ، حتّى أوّلوا بها الآيات المحكمات .

ألا ترى أنّ فيهم من فرّط جدّاً ، بحيث شبّهه بخلقه من جهات ، حتّى قال بعضهم فيه بالجسميّة ، بل الجسميّة المركّبة من لحم ودم (٤) ، وبعضهم

__________________

(١) التوحيد : ١٣٩ / ٣ ، روضة الواعظين : ٣٧ .

(٢) انظر : الكافي ١ : ١٠٩ / ٦ (باب جوامع التوحيد) ، والتوحيد : ٥٦ / ١٤ ، وفيهما ضمن الحديث .

(٣) انظر : كتاب العظمة : ١٧ / ٢ ، وجامع الأحاديث ٤ : ١١٢ / ١٠٥٠٦ و١٠٥٠٧ .

(٤) مقالات الإسلاميّين : ٢٠٩ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ .

٣٩١

بالحلول والاتّحاد ولو مع بعض الآحاد (١) ، وبعضهم بالرؤية عياناً ولو أحياناً (٢) ، بل القول بالرؤية بالأبصار عندهم ـ كما مرّ ـ في غاية الاشتهار ، وبعضهم نفى عنه بعض أقسام العلم ، كمن قال بعدم علمه بالجزئيّات أو عدم علمه بغير ذاته أو بذاته أو عدم علمه بالشيء قبل وجوده (٣) ، حتّى أنّ بعضهم نفى عنه بعض أقسام القدرة (٤) أيضاً ، وأمثال ذلك من الأقوال الناشئة من التشبيه عندهم كثيرة .

وكذا إنّ فيهم من أراد أن ينفي عنه التشبيه فأفرط ، بحيث وقع في القول بتعطيله من جهات ، حتّى نفى عنه الوجود والتشبيه فضلاً عن العلم والقدرة وغيرهما ؛ استناداً إلى أنّه لو كان شيئاً ـ مثلاً ـ شارك الأشياء في مفهوم الشيئيّة ، وهلمّ جرّاً ، ولم يعلم أنّ ذلك مستلزم لنفي ذاته ، وأنّ الفرق واضح بين مفهوم الأمر وما صدق عليه ، والمفهومات الاعتباريّة ، والحقائق الموجودة ؛ ضرورة أنّ مفهوم الشيء ، والموجود ، والمخبر عنه وأمثالها مفهومات عامّة لا يخرج منها شيء من الأشياء لا ذهناً ولا خارجاً ، ومعان اعتباريّة يعتبرها العقل لكلّ شيء أيضاً ، فذات الواجب وإن لم يكن معقولاً لغيره ولا محدوداً بحدٍّ ولا مشتركاً مع غيره في حدّ ذاته إلاّ أنّه ممّا يصدق عليه مفهوم شيء وأمثاله .

__________________

(١) مقالات الإسلاميّين : ٢١٤ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨ .

(٢) انظر : مقالات الإسلاميّين : ٢١٣ ـ ٢١٤ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ ، والتمهيد لقواعد التوحيد لأبي الثناء الحنفي الماتريدي : ٧٩ ـ ٨٠ .

(٣) الملل والنحل ١ : ٨٧ .

(٤) انظر : اللوامع الإلهية : ١٧٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ : ٣٨٤ ، شرح المواقف ٨ : ٧٤ ، شرح المقاصد ٤ : ١٢١ .

٣٩٢

قال الرضا عليه‌السلام لبعض أصحابه : « ما تقول إذا قيل لك : أخبرني عن اللّه‏ عزوجل أشيء هو أم لا شيء ؟» قال : فقلت له : قد أثبت عزوجل نفسه شيئاً حيث يقول : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) (١) فأقول : إنّه شيء لا كالأشياء ؛ إذ في نفي الأشياء إبطاله ونفيه ، فقال لي : « صدقت وأصبت » ، ثمّ قال الرضا عليه‌السلام : « للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ، وتشبيه ، وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز ؛ لأنّ اللّه‏ لا يشبهه شيء ، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه » (٢) .

أقول : إلاّ أنّ مبنى كلام (٣) الجمهور على التشبيه كما مرّ ، بل الحقّ أنّ مدار معرفة عامّة الجّهّال على هذا ، بل ربّما يقال : لا ضلالة حتّى في غير معرفة اللّه‏ أيضاً إلاّ وفيها مدخليّة نوع تشبيه ، كأنواع القياسات ونحوها ؛ ولهذا مهما تأمّل صاحب البصيرة وجد مناط كلام الأئمّة عليهم‌السلام ، لا سيّما في باب المعرفة على التنزيه من التشبيه ، كما هو واضح ممّا ذكرناه من أخبارهم فضلاً عن غيرها ، حتّى في رواية أنّ الصادق عليه‌السلام قال : « سبحان اللّه‏ الذي لم يلد (٤) لأنّ الوليد يشبه أباه ، ولم يولد فيشبه من كان قبله ، ولم يكن معه من خلقه كفواً أحد ، تعالى عن صفة من سواه علوّاً كبيراً » (٥) .

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٩ .

(٢) التوحيد : ١٠٧ / ٨ ، بحار الأنوار ٣ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ / ١٩ ، نور البراهين ١ : ٢٧٠ / ٨ .

(٣) كلمة «كلام» لم ترد في « م » و« ش » .

(٤) في « م » زيادة : «ولم يولد» .

(٥) التوحيد : ١٠٣ / ١٩ ، بحار الأنوار ٣ : ٣٠٤ / ٤٢ ، نور البراهين ١ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ / ١٩ .

٣٩٣

ولنختم هذا بذكر خبر مشتمل صريحاً على كون مدار المخالفين في ترويج باطلهم حتّى في المعرفة على التمسّك بالمتشابهات وتأويل المحكمات :

قال صفوان بن يحيى (١) : سألني أبو قرّة (٢) : المحدّث ـ وهو من علماء المخالفين ـ أن اُدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتّى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا رُوينا أنّ اللّه‏ قسّم الرؤية والكلام بين نبيَّيْن ، فقسّم الكلام لموسى عليه‌السلام ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية ، فقال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « فمن المبلّغ عن اللّه‏ إلى الجنّ والإنس ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (٣) ، ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) (٤) و( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٥) ، أليس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : بلى ؟» قال : «كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً

__________________

(١) هو صفوان بن يحيى بيّاع السابري ، يكنّى أبا محمّد البجليّ ، ثقة بالاتّفاق ، من أصحاب الكاظم والرضا والجواد صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين ، وهو أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وأعبدهم ، ومن أصحاب الإجماع ، وهناك روايات كثيرة تدلّ على مدحه وجلالة قدره ، له كتب منها : كتاب الشراء والبيع ، والفرائض ، والوصايا وغيرها ، توفّي سنة ٢١٠ هـ .

انظر: الفهرست للطوسي: ١٤٥ / ٣٥٦، تنقيح المقال ٢ : ١٠٠ / ٥٧٨٠ من أبواب الصاد.

(٢) لم نعثر على ترجمة له ، ولعلّه هو صاحب شبرمة ، وكلاهما (أبو قرّة وشبرمة) مجهولان ، وسمّي المحدّث ؛ تمييزاً له عن أبي قرّة صاحب الجاثليق النصراني الذي كان يُسمّى بـ «يوحنا» . ويحتمل أن يكون موسى بن طارق القاضي المكنّى بأبي قرّة ؛ إذ هو معاصر للرضا عليه‌السلام ، ذكره ابن حجر في التقريب انظر تقريب التهذيب ٢ : ٢٨٤ / ١٤٧١ ، وانظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ٣ : ٢١٦ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٠٣ .

(٤) سورة طه ٢٠ : ١١٠ .

(٥) سورة الشورى ٤٢ : ١١ .

٣٩٤

فيُخبرهم أنّه جاء من عند اللّه‏ ، وأنّه يدعوهم إلى اللّه‏ بأمر اللّه‏ ويقول : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) و( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطتُ به وهو على صورة البشر ؟ أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند اللّه‏ بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخَر ! ! » .

قال أبو قرّة : فإنّه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ) (١) ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى ، حيث قال : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) (٢) ، أي : ما كذب فؤاد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما رأت عيناه ، ثمّ أخبر بما رأى فقال : ( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) (٣) فآيات اللّه‏ غير اللّه‏ ، وقد قال اللّه‏ : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) (٤) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به علم ووقعت المعرفة » ، فقال أبو قرّة : فتُكذّب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إذا كانت الروايات مخالفةً للقرآن كذّبتها » (٥) ، الخبر.

ودلالته على المطلوب ، مع الدلالة أيضاً على كثرة توهّمهم في فهم الآيات ، والاعتماد على الموضوعات ، وإنّ علم الكتاب وتأويل المتشابهات فإنّما هو عند هؤلاء الأئمّة السادات صلوات اللّه‏ عليهم ، وإنّهم أعلم بما هو حقّ المراد في كلّ موضع من مواقع استعمال الكلمات ، فمن الواضحات ؛

__________________

(١) سورة النجم ٥٣ : ١٣ .

(٢) سورة النجم ٥٣ : ١١ .

(٣) سورة النجم ٥٣ : ١٨ .

(٤) سورة طه ٢٠ : ١١٠ .

(٥) الكافي ١ : ٧٤ / ٢ (باب في إبطال الرؤية) ، التوحيد : ١١٠ / ٩ ، شرح اُصول الكافي للمازندراني ٣ : ٢١٥ ، الفصول المهمّة ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩ / ١٢٣ .

٣٩٥

ولهذا يوجد منهم في كلّ متشابه سألوهم عنه ما هو من أجلّ التأويلات .

فمن ذلك ما يظهر من بعض الأخبار من تأويل ما يدلّ على الرؤية برؤية القلب ، أي : كمال المعرفة واليقين ، أو رؤية ثوابه وعظمة صنائعه ، كما في الحديث أنّ الصادق عليه‌السلام سئل عن قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) فقال : « إنّما المراد إلى ثواب ربّها » (٢) .

وعن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ المعنى منتظرة لثواب ربّها » (٣) .

وقيل لأبي محمّد العسكري عليه‌السلام : هل رأى رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه ؟ فقال : « إنّ اللّه‏ تعالى أرى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ » (٤) .

وقيل لعليّ عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك حين عبدته ؟ فقال : « ويلك ! ما كنت أعبد ربّاً لم أره » ، فقيل له : وكيف رأيته ؟ فقال : « ويلك ، لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان » (٥) .

هذا هو خلاصة مذهب الإماميّة في باب التوحيد ، ومعرفة الذات والصفات على نحو ما ورد عن أئمّتهم عليهم‌السلام في متواتر الروايات .

فأمّا ما نُسب إلى بعضٍ من الإماميّة ، بل من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ : ٢٢ ـ ٢٣ .

(٢) انظر : التوحيد ١١٦ / ١٩ ، وفيه عن الرضا عليه‌السلام .

(٣) مجمع البيان ٥ : ٣٩٨ .

(٤) الكافي ١ : ٧٤ / ١ (باب في إبطال الرؤية) ، التوحيد : ١٠٨ / ٢ ، بحار الأنوار ٤ : ٤٣ / ٢١ ، الفصول المهمّة ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ / ١٢٢ .

(٥) الكافي ١ : ٧٦ / ٦ (باب في إبطال الرؤية) ، التوحيد : ١٠٩ / ٦ ، بحار الأنوار ٤ : ٤٤ / ٢٣ ، الفصول المهمّة ١ : ١٨٠ / ١٢٦ .

٣٩٦

كالهشامَين ـ مثلاً ـ من القول بالجسم والصورة ونحو ذلك ، فإنّما هو إمّا تهمة عليهم ، وإمّا أنّه كان قولهم قبل استبصارهم ودخولهم في مذهب الإماميّة ، ولا بأس أن بيّنّا هاهنا تفصيل ما هو حقيقة الحال في أمثال هذا المقال ، حتّى يظهر شأن ما سيأتي أيضاً من سائر ما نسب الناس إلى بعض الإماميّة من فاسدات الأقوال .

فاعلم أوّلاً أنّ أيّ شخص كان لا يخلو من حاسد يعين على شيوع ما ينقصه ويشينه في كلّ أوان ولو كان ذلك كذباً عليه وفرية ، وعلى وجه العدوان ، بل ربّما يتعمّد هو نفسه بالتهمة عليه ، ونقل السوء عنه صريحاً لا سيّما إذا كان مخالفاً له في المذهب أيضاً ، فإنّه حينئذٍ لا يتأنّى أصلاً عن قبول السوء فيه ، وتشهير نسبته إليه ولو من غير تحقيق ولا تفتيش مطلقاً ، بل ومع وجود قرائن الكذب أيضاً ؛ إذ لا عداوة كعداوة الدين .

وأيضاً كثيراً ما يتّفق أن يعتقد الإنسان بشيء باطل وقتاً من الأوقات ، ثمّ ينتقل عنه إلى الحقّ إلى حين الممات ، حتّى أنّه بنفسه أو غيره عنه قد ينقل ما ينادي بتغييره عمّا كان عليه من الفاسدات ، ومع هذا لا يعدل الجاهل بالحال ، أو الحُسّاد والأعادي الذين يريدون سوء الحال عن نسبته عمّا كان عليه أوّلاً من المقال .

ثمّ اعلم أيضاً أنّ في الناس من لا يفهم حقّ المراد من كلام الناس لا سيّما الوارد من العلماء الأعلام ، خصوصاً عند إجمالٍ في الكلام ، أو دقّةٍ في المرام ، أو بُعْدٍ عمّا هو مقتضى المقام ، فمثل هذا أيضاً يتوهّم كثيراً ، حيث ينسب إلى شخص شيئاً يزعم أنّه هو المفهوم من كلامه زعماً

٣٩٧

وليس ذلك كذلك واقعاً .

وقد قال الصادق عليه‌السلام : « ومنهم من يسمع الكلام منّي فلم يخرج من عندي حتّى يأوّله على غير تأويله » (١) .

وإذ قد عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ أكثر علماء الإماميّة ، لا سيّما المشهورين منهم المعتبرين ، كانوا دائماً محسودين ، حتّى من بعض أمثالهم وأقرانهم من إخوانهم المؤمنين ، فمن كان من الحُسّاد عليهم غير متديّن جرى على الفرية وغيرها ، فظاهر ـ كما ذكرنا ـ أنّ مثله ما هو مقصّر في الإزراء عليهم ، ونسبة النقائص إليهم ولو بالكذب والافتراء ، حتّى أنّ كلّ من تتبّع التواريخ بنظر الاعتبار ، وكذا كتب الرجال ـ التي ذُكر فيها أحوال علماء الأعصار ـ وجد صحّة ما ذكرناه ، بل تحقّقه كراراً ومراراً ، بحيث لا يمكن فيه الإنكار ، بل يستفاد منها أيضاً أنّ من كان منهم كاملاً في الشيطنة والنكراء لم يكن يتكلّم أيضاً إلاّ بوضع اغترّ به كلّ سامع له ، بحيث جزم بصدق ذلك الافتراء ، لا سيّما الذي كان مخالفاً لهم في دينهم راغباً في تشيينهم ، وأمّا من لم يكن بتلك المثابة من الجرأة ، فهو وإن تجنّب عن مثل التهم والفرية إلاّ أنّه بعلّة ما في قلبه على صاحبه لم يزل في قبول كلّ ما سمع عنه وقيل فيه ، وذكر نسبته إليه ولو سمعاً من أعاديه .

ولأجل هذه الوجوه كلّها اشتهر عن جمع من علماء الدين ، لاسيّما بين المخالفين من الأقوال والعقائد ما ينادي صريح كلامهم بكونهم منها بريئين .

__________________

(١) انظر : رجال الكشّي : ٢١٨ / ٢١٦ ، و٢٤٦ / ٢٨٧ ، وبحار الأنوار ٢ : ٢٤٦ / ٥٨ ، و٣٠٩ / ٧٣ .

٣٩٨

فمن هذا القبيل ما نُسب إلى هشام بن الحكم ، وابن سالم ، بل مؤمن الطاق أيضاً ـ الذين هم من ثقات أجلّة أصحاب الأئمّة ، المشهورين في كثرة إلزامهم علماء العامّة وإفحامهم كلّ من تكلّم معهم ، لا سيّما في التوحيد والإمامة ـ من القول بالتجسيم والتصوير (١) ، وإلى جماعة كثيرة من القمّيّين ـ الذين أكثرهم من ثقات ، رواة الأخبار الممدوحين بنصّ الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، فضلاً عن توثيق العلماء الأخيار ـ من القول بالجبر والتشبيه ، وإلى جمعٍ من الشيعة الكوفيّين ـ الذين كان لهم تمام إخلاص وكمال اختصاص بأئمّة الدين صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين ـ من القول بالغلوّ والتفويض ، حتّى جعلوا منهم محمّد بن سنان (٢) ، والمفضّل بن عمر (٣) ، ويونس بن عبد الرحمن (٤) ، وأمثالهم من الفضلاء الذين جهدوا أكثر من

__________________

(١) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٦٥ / ٦٤ ، ٧١ / ٦٧ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٨٤ ـ ١٨٦ .

(٢) محمّد بن سنان الزاهري الخزاعي ، يكنّى أبا جعفر ، ثقة جليل القدر وعظيم المنزلة ، عدّوه من أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام ، ويظهر من الأخبار الكثيرة علوّ قدره وجلالته ، توفّي سنة ٢٢٠ هـ .

انظر : رجال الكشّي : ٥٥٦ ـ ٥٥٨ / ٩٧٧ ـ ٩٨٢ ، تنقيح المقال ٣ : ١٢٤ / ١٠٨٢٠ من أبواب الميم .

(٣) المفضّل بن عمر الجعفي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، من شيوخ أصحاب أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام وخاصّته وبطانته .

انظر : رجال الكشّي : ٣٨٦ ـ ٣٩٤ / ٥٨١ ـ ٥٩٧ ، تنقيح المقال ٣ : ٢٣٨ / ١٢٠٨٤ من أبواب الميم ، أعيان الشيعة ١٠ : ١٣٢ .

(٤) يونس بن عبد الرحمن مولى عليّ بن يقطين ، يكنّى أبا محمّد ، كان ثقةً وجهاً فقيهاً عظيم القدر والمنزلة ، ومن أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام ، وكان الرضا عليه‌السلام يشير إليه في العلم والفتيا . ولد في آخر أيّام هشام بن عبد الملك ، وتوفّي سنة ٢٠٨ هـ .

انظر : رجال الكشّي : ٥٣٧ ـ ٥٤٨ / ٩١٠ ـ ٩٥٥ ، تنقيح المقال ٣ : ٣٣٨ / ١٣٣٥٧ ، أعيان الشيعة ١٠ : ٣٢٦ .

٣٩٩

غيرهم في ذكر فضائل أئمّتهم عليهم‌السلام ، مع أنّ يونس ممّن نُسب إليه التشبيه (١) أيضاً ، وإلى زرارة بن أعين الكامل من كلّ الجهات من القول بحدوث العلم والقدرة والحياة وأمثالها من صفات الذات (٢) ، وكذا أشباه ما ذُكر ممّا نُسب إلى بعض العلماء من الأفعال والأقوال والعقائد التي لا يبقى شكّ بعد التتبّع في كونهم منها برآء .

إذ لا كلام أوّلاً : في وجود أخبار عديدة في مشاهير كتب العلماء المعتبرين ، مرويّة بالطريق الذي فيه واحد أو أكثر من هؤلاء الجماعة المذكورين ، ومع هذا هي مشتملة على ما هو صريح في كون خلاف ما نُسب إليهم حقّاً ، بل كون ما نُسب إليهم كفراً .

ومن المعلوم بديهة أنّ الرجل الذي يعتقد بشيء قطعاً لا يروي صحّة خلافه أصلاً ، ولا أقلّ من روايته ما هو معتقده أيضاً فضلاً عن روايته ما يدلّ على كون معتقده كفراً ، ومن أراد ملاحظة تلك الأخبار كفاه الرجوع إلى اُصول الكافي ، وتوحيد الصدوق القمّي ، وقد ألّفنا سابقاً أيضاً رسالة منفردة في هذا الباب ، سمّيناها «تنزيه القمّيّين» (٣) ، وهي مجمع ما أشرنا إليه من روايات هؤلاء المذكورين .

ثمّ إنّه لا ريب ثانياً : في وجود أخبار صحيحة عن الأئمّة عليهم‌السلام صريحة في مدح هؤلاء الجماعة وحسن حالهم عند الأئمّة عليهم‌السلام ، بل جلالة

__________________

(١) الفرق بين الفِرَق : ٧٠ / ٦٦ ، الملل والنحل ١ : ١٨٨ .

(٢) الفرق بين الفِرَق : ٧٠ / ٦٥ ، الملل والنحل ١ : ١٨٦ .

(٣) انظر : تنزيه القمّيّين : (ضمن مجلّة تراثنا ، العدد ٥٢ : ١٩١) .

٤٠٠