ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

ومنهم من قال غير ذلك من الأقوال السخيفة التي لا حاجة لنا إلى ذكرها ؛ لظهور بطلان الجميع ما ذكرناه وما لم نذكر ؛ ضرورة كون انقراض الكلّ وزوالهم بالكلّيّة أدلَّ دليل على البطلان ، فضلاً عن ظهور سخافة شُبههم ، لا سيّما بعد ظهور فسوق جعفر وسفاهته ؛ ولهذا لم يمل إليه أحد من علماء ذلك الزمان .

وما ذكره الشهرستاني من نسبة الحسن بن عليّ بن فضّال (١) إلى هذا المذهب (٢) غلط صريح وتوهُّم فضيح ، كما ينادي [به] ما ذكره العلماء من أحوال ابن فضّال ، حتّى أنّ هذا الرجل قد توهَّم في مواضع عديدة عند نقل فِرَق الشيعة ونسب إليهم ما ليس فيهم ممّا يستفاد منه أنّه كان عارياً عن الاطّلاع على أحوال هؤلاء القوم .

وكفى في هذا أنّه ذكر أنّ عليّاً الهادي عليه‌السلام مشهده بقمّ (٣) ، مع أنّه من أوضح الواضحات أنّه في سامرّاء ، فمن لم يعرف مثل هذا كيف لا يخفى عليه غيره ؟ ! ولهذا نحن لم نعتمد في هذا المطلب على ما نقله ، حيث ظهرت لنا (٤) توهّماته ، وإنّما اكتفينا بما نقله في المطالب السابقة لكونهم من

__________________

(١) هو الحسن بن عليّ بن فضّال ، يكنّى أبا محمّد ، من أهل الكوفة ، كان جليل القدر عظيم المنزلة ، فاضلاً زاهداً ورعاً ، من مصنّفي الإمامة ، روى : عن موسى بن جعفر ، وابنه علي بن موسى عليهما‌السلام وكان خصّيصاً به ، وروى عنه : الفضل بن شاذان ، ومحمّد بن عبداللّه‏ التميمي ، وابن عقدة وآخرون ، وله كتب منها : كتاب الزيارات ، والبشارات ، والنوادر وغيرها ، مات سنة ٢٢٤ هـ .

انظر : قاموس الرجال ٣ : ٣١٦ / ١٩٧٧ ، تنقيح المقال ١ : ٢٩٧ / ٢٦٧٠ ، لسان الميزان ٢ : ٤١٨ / ٢٥٢١ ، الأعلام ٢ : ٢٠٠ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٧٠ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٩ .

(٤) في «س» و«ش» و«ن» : «علينا» .

٣٤١

أهل نحلته ، ومع هذا لا نبرئه عن التوهُّم هناك أيضاً ، فافهم .

وأما الفرقة الحادية عشرة فهم الذين قالوا بأنّ الإمامة بطلت بعد أبي محمّد الحسن عليه‌السلام ، حيث لم يظهر له ولد ، وارتفعت الأئمّة ، وليس في أرض اللّه‏ حجّة من آل محمّد عليهم‌السلام ، وإنّما الحجّة الأخبار الواردة عن الأئمّة المتقدّمين عليهم ، وزعموا أنّ ذلك سائغ إذا غضب اللّه‏ على العباد فجعله عقوبةً لهم (١) .

ومنهم : من أقرَّ بوجود الولد ، لكن قال : إنّه مات وسيجييء ، ويقوم بالسيف والعدل (٢) .

وهذه الفرقة قد زالت أيضاً بنوعيها وانقرضت بالكلّيّة ، لا سيّما حيث ظهرت فيما بعد آثار وجود القائم بن الحسن عليهما‌السلام في عرض مدّة الغيبة الصغرى ، مع ظهور كون مبناها على أمر واضح البطلان ، وتوهّم ضعيف البنيان ، مخالف لما سيأتي في محلّه من دلالة صريح العقل والنقل على لزوم وجود الإمام والمعلّم ما دام التكليف .

وأمّا الفرقة الثانية عشرة : فهم الذين يقال لهم : الغُلاة ، وقد ذكرنا تقريباً فيما سبق في الفصل الثاني من هذا الباب (٣) أنّ حقيقة الغلوّ إنّما هي توصيف شخص بما ليس له ذلك ، ولا هو في تلك المرتبة ، حتّى أنّ من ذلك ادّعاء إمامة من ليس بإمام .

غير أنّ المقصود في هذا المقام بيان طوائف الذين غلوا في حقّ

__________________

(١) الفصول المختارة : ٣٢٠ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٢) .

(٢) الفصول المختارة : ٣٢١ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٢) .

(٣) راجع ص ١٠٣ ـ ١٠٤ .

٣٤٢

بعضٍ من أئمّة الهدى عليهما‌السلام أو غيرهم ، فأخرجوهم عن حدّ العبوديّة إلى حدّ الاُلوهيّة ، أو ادَّعوا لهم بعض خصائص النبوّة كنزول الوحي ، أو خصائص الربّ جلّ شأنه كالقول بتفويض الخلق والرزق إليهم ، أو افتروا على اللّه‏ بالحلول فيهم ، أو الاتّحاد معهم ، أو نحو ذلك ممّا هو دائر على ألسنة كثير من ملاحدة الصوفيّة وأمثالهم الذين بنوا أساس عقائدهم على الآراء الظنّيّة والخيالات الهوائيّة ، كما مرّ نظيره في بعض أهل الملل السابقة والملاحدة الباطنية ، حتّى أنّهم قالوا صريحاً بسقوط العبادات وتحليل المحرَّمات وأمثال ذلك ممّا هو خلاف ضرورة الدين وما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بإجماع كافّة المسلمين ، وقالوا في النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ما لم يقله أحد منهم لا لنفسه ولا لغيره ، بل قالوا في غيرهم أيضاً ما لم يتجرّأ بدعواه نبيّ ولا وصيّ .

وبالجملة : في هذه الفرقة طوائف عديدة ظاهرة الكفر واضحة البطلان ، بحيث لا حاجة إلى الإطالة بالبيان ، من أراد تفصيل الحال وغاية كشف بطلان المقال ، فليرجع إلى كتب السير والرجال .

فمنهم السبائيّة : أصحاب عبداللّه‏ بن سبأ (١) اليهودي الذي قال في

__________________

(١) هو عبداللّه‏ بن سبأ ، رأس الطائفة السبئية ، كانت تقول باُلوهيّة عليّ عليه‌السلام . أصله من اليمن ، رحل إلى الحجاز ، فالبصرة ، فالكوفة ، مات سنة ٤٠ هـ .

انظر : البدء والتاريخ ٥ : ١٢٩ ، لسان الميزان ٤ : ٢٢ / ٤٦١٨ ، تهذيب تاريخ مدينة دمشق الكبير ٧ : ٤٣١ ، والأعلام ٤ : ٨٨ .

في حاشية « س » و«ش» ورد : قد كان ابن سبأ هذا أوّل من شهر بالقول بفرض إمامة عليّ عليه‌السلام ، وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وكفرهم ، ومن هاهنا قال بعض مخالفي الشيعة : إنّ أصل التشيّع والرفض مأخوذ من اليهودية ، ثمّ غلا في عليّ عليه‌السلام ، فأحرقه بالنار كما يدلّ عليه بعض الأخبار . منه عفي عنه .

٣٤٣

عليّ عليه‌السلام بالاُلوهية ، حيث قال له : أنت أنت يعني الإله ، وادّعى لنفسه النبوّة فأحرقه عليّ عليه‌السلام بالنار (١) ، ثمّ انشعب أصحابه في عليّ عليه‌السلام إلى أقوال سخيفة على حسب الخيالات الوهميّة المأخوذة من قول بعض غُلاة اليهود في يوشع ، وغُلاة النصارى في عيسى عليه‌السلام .

ومنهم المخمّسة (٢) : الذين قالوا باُلوهية النبيّ ورسالة سلمان ، ثمّ بانتقال الاُلوهيّة إلى فاطمة وعليّ عليهما‌السلام ، ثمّ إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام .

ومنهم العلبائيّة : الذين أنكروا ربوبيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا بذلك في عليّ عليه‌السلام ، وزعموا أنّه الذي أرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال بعضهم : إنّه ظهر مرّة بصورة محمّد ومرّة بصورته (٣) .

ومنهم الخطّابيّة : أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأجدع الأسدي (٤) الذي قال في الصادق عليه‌السلام بالاُلوهيّة ، فلعنه ودعا عليه فقُتل هو

__________________

(١) انظر : رجال الكشّي : ١٠٦ ـ ١٠٧ / ١٧٠ ، الفرق بين الفِرَق : ٢٣٣ / ١٢٢ ، التبصير في الدين : ١٢٣ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٧٤ .

(٢) المخمّسة : هم أصحاب أبي الخطّاب ، وإنّما سمّوا المخمّسة لأنّهم زعموا أنّ اللّه‏ عزوجل هو محمّد ، وأنّه ظهر في خمسة أشباح وخمس صُور مختلفة ظهر في صورة محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام. . .

انظر : المقالات والفِرَق : ٥٦ / ١١١ .

(٣) وهم من أصحاب بشار الشعيري ، أو أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي .

انظر : المقالات والفِرَق : ٥٩ / ١١٤ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٧٥ .

(٤) هو محمّد بن أبي زينب الأجدع الأسدي ، يكنّى أبا الخطّاب ، وأبا زينب البزّاز ، أو البرّاد ، ويكفي في خبث سيرته وكفره ما أشار إليه المؤلّف .

انظر : رجال الكشّي : ٣٥٨ / ٥٠٩ ـ ٥٢٥ ، مجمع الرجال ٥ : ١١٥ ، نقد الرجال ٤ : ٣٢٨ / ٥٠٩٢ .

٣٤٤

وأصحابه (١) .

ومنهم غير هؤلاء كأصحاب بنان (٢) الذي كذب على عليّ بن الحسين ، والمغيرة بن سعيد الذي كذب على أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام ، ومحمّد بن بشير (٣) الذي كذب على موسى بن جعفر عليه‌السلام ، وأصحاب عليّ ابن حسكة (٤) ، وفارس بن حاتم القزويني (٥) ، ومحمّد بن نصير الفهري (٦) ،

__________________

(١) انظر : الفِرَق بين الفرق : ٢٤٧ / ١٢٨ ، التبصير في الدين : ١٢٦ ـ ١٢٧ .

(٢) لعلّه بنان التبّان روى الكشّي في ذمّه روايات :

منها : رواية أبي جعفر عليه‌السلام يقول : « لعن اللّه‏ بنان التبّان ، وإنّ بناناً لعنه اللّه‏ كان يكذب على أبي ، أشهد أنّ أبي عليّ بن الحسين كان عبداً صالحاً » .

انظر : رجال الكشّي : ٣٦٧ / ٥٤١ .

(٣) هو محمّد بن بشير مولى بني أسد من أهل الكوفة ، ونُسبت فرقة الهسموية إليه ، وكان صاحب شعبذة ومخاريق معروفاً بذلك ، وكانت معه أشياء عجيبة من صنوف الشعبذة ما لم يروا مثلها ، ولعنه أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام .

انظر : رجال الكشّي : ٥٣٢ ـ ٥٣٧ / ٩٠٦ ـ ٩٠٩ ، قاموس الرجال ٩ : ١٣٥ / ٦٤٨٩ ، المقالات والفِرَق : ٩١ / ١٧٨ .

(٤) هو عليّ بن حسكة الحوار ، كان اُستاذ القاسم الشعراني اليقطيني ، من الغُلاة الكبار ، ملعون ، وكان يدّعي أنّه باب ، وهو من الكذّابين المشهورين .

انظر : رجال الكشّي ٥٦٩ / ١٠٠١ ، قاموس الرجال ٧ : ٤٠٢ / ٥٠٧٥ ، تنقيح المقال ٢ : ٢٧٦ / ٨٢١١ .

(٥) هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني ، خبيث إلى منتهى الخباثة ، وقد أطبق علماء الرجال والأخبار على ذمّه وتكفيره ولعنه ، وإنّه من الكذّابين المشهورين ، وله كتب كلّها تخليط .

انظر : رجال الكشّي : ٥٧٠ ـ ٥٧٤ / ١٠٠٣ ـ ١٠١١ ، قاموس الرجال ٨ : ٣٥٩ / ٥٨٦١ . تنقيح المقال ٢ : ١ / ٩٣٩٣ من أبواب الفاء .

(٦) هكذا في النسخ ، ولعلّه محمّد بن نصير النميري، من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليّ، ولمّا توفّي أبو محمّد ادّعى مقام أبي جعفر محمّد بن عثمان، وأنّه

٣٤٥

ونظرائهم الذين غلوا في بقيّة الأئمّة .

وكلّهم متشاركون في إباحة المحرّمات وترك العبادات والقول بالتناسخ وأمثال ذلك (١) ، حتّى أنّ أكثر هؤلاء ادّعوا لأنفسهم النبوّة أيضاً ، وقد زال وانقرض عامّتهم بحيث لا يُعرف ، بل لا يوجد من نُسب إلى أحد منهم غير الحلاّجيّة المنسوبين إلى حسين بن منصور الحلاّج الصوفي (٢) الذي كان يتخصّص بإظهار التشيّع ، لكن قد صرّح جماعة بأنّ أصحابه كانوا ملاحدة زنادقة يموّهون بمظاهرة كلّ فرقة بدينهم ، ويدّعون للحلاّج الأباطيل ، ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزردشت المعجزات ، وكانوا يدّعون التحلّي بالعبادات مع تركهم الفرائض والصلوات ، ويدّعون انطباع الحقّ لهم ، حتّى أنّ فيهم من قال بأنّ اللّه‏ فوّض أمر الخلق والرزق والإماتة والإحياء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بعد أن خلقهم هو واصطفاهم ، مع استفاضة الأخبار المنقولة عن الأئمّة ، بل تواترها

__________________

صاحب إمام الزمان وادّعى البابيّة، وفضحه اللّه‏ تعالى بما ظهر منه من الإلحاد والجهل، ولعنه أبو جعفر محمّد بن عثمان له وتبرّأ منه ، وإليه نُسبت فرقة النصيريّة.

انظر : قاموس الرجال ٩ : ٦٢٢ / ٧٣٣٦، تنقيح المقال ٣ : ١٩٥ / ١١٤٥٠ .

(١) انظر : رجال الكشّي : ٥٣٢ ـ ٥٣٧ / ٩٠٦ ـ ٩٠٩ .

(٢) هو الحسين بن منصور الحلاّج ، يكنّى أبا مغيث ، من أهل البيضاء ، وهي بلدة بفارس ، ونشأ بواسط العراق ، والناس في أمره مختلفون ، وكثرت الوشايات به إلى المقتدر العبّاسي فأمر بالقبض عليه ، فسُجن وعُذّب ، وقُطعت أطرافه الأربعة ، ثمّ حُزّ رأسه واُحرقت جثّته ، ولمّا صارت رماداً اُلقيت في دجلة ، ونُصب رأسه على جسر بغداد ، هلك سنة ٣٠٩ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٤١ ـ ٢٤٢ ، معجم البلدان ١ : ٦٢٨ / ٢٣٦٣ ، وفيات الأعيان ٢ : ١٤٠ / ١٨٩ ، سير أعلام النبلاء ١٤ : ٣١٣ / ٢٠٥ ، مرآة الجنان ٢ : ١٨٩ ، الأعلام ٢ : ٢٦٠ .

٣٤٦

في تكفير القائل بهذا (١) ، كما سيظهر .

وبالجملة : اشتراك طوائف هذه الفرقة فيما هو خلاف ضرورة (٢) الدين ، لا سيّما دعوى سقوط ما جاء به سيّد المرسلين ممّا لا شكّ فيه ، فافهم .

المطلب الثالث :

في بيان الفرقة الموجودة التي بيّنّا سابقاً أنّها هي من النوع الثاني من القسم الثاني الذي سبق ذكره ، أي : الذين خالفوا ـ كما مرّ ـ جميع ما ذُكر من الفِرَق كلّها لا سيّما الموجودة منها ، بحيث لا توجد فرقة واحدة من فِرَق الاُمّة تشاركها في أصل أساس دينها ، أعني : الذين يقال لهم اليوم : الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، واشتهروا بذلك (٣) عند المخالف والمؤالف .

أمّا تسميتهم بالشيعة ؛ فلأنّهم يعتقدون ـ كما مرّ ويأتي ـ وجوب موالاة عليّ عليه‌السلام ومشايعته من كلّ وجه ، وعلى أيّ حال ، بمعنى : أنّه لم يزل من حين وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يجب التمسك بعليّ عليه‌السلام ومتابعته في كلّ شيء ، ولم يجز مخالفته مطلقاً وإن اتّفق كلّ الصحابة على خلافه ؛ ولهذا يوجبون التبرّي من كلّ من خالفه وعانده ، لا سيّما من عاداه ومن حاربه ، وهكذا حال سائر أئمّتهم المعلومين عندهم .

وأمّا تسميتهم بالإماميّة ؛ فلاعتقادهم لزوم وجود إمام معصوم

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ١٣٤ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٥) ، ورد فيه اختصاراً ، وانظر تفصيله في : بحار الأنوار ٢٥ : ٣٤٥ .

(٢) في « م » : «ضروريّ» .

(٣) في « م » : «واشتهر هذا» .

٣٤٧

مفروض الطاعة من اللّه‏ ، ونصٍّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ زمان مادام التكليف .

وأمّا تسميتهم بالإثني عشريّة ؛ فلما هو ظاهر من كون عدد أئمّتهم اثني عشر .

وخلاصة تفصيل مذهبهم ـ بحيث يتبيّن منه مواضع تفرّدهم عن جميع ما سواهم لا سيّما الفِرَق الموجودة ، حتّى يظهر منه كونهم هم الفرقة الناجية ؛ لما ظهر سابقاً من لزوم كون الفرقة الناجية كذلك ؛ حيث إنّ ذلك هو مناط التمييز دون المشتركات ـ أنّهم يقولون أوّلاً : أن لا مدخل للرأي في الدين مطلقاً ؛ حيث إنّ أصله ـ كما تبيّن سابقاً ـ كان من الشيطان ، ثمّ دار بين أتباعه في كلّ زمان ولم يثبت ، بل لم يكن عليه اعتماد نبيّ ولا وصيّ ، بل صريح القرآن ومنقولات أهل الأديان يناديان بأنّه هو سبب كثرة الاختلاف بين الناس ، وكان أهل الحقّ لم يزالوا يتبرّؤون منه في دينهم حذراً من الالتباس ؛ ولهذا صريح مذهب هذه الفرقة أنّ اللّه‏ تعالى لمّا أرسل رسوله محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّةً على الأنام أنزل عليه في كتابه جميع الأحكام ، وبيّن له كلّ اُمور الشريعة صغيرها وكبيرها بالتمام ، بحيث لم يحتج بسبب ذلك العلم والتبيين إلى رأي ولا ظنّ ولا تخمين ، كما أخبر بذلك في أمثال قوله سبحانه : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١) .

ثمّ لـم يجـوّز للخلائق ، ولم يأمرهم في إطاعة الخالق إلاّ بالتسليم له ، والأخذ منه ، والانتهاء إليه دون غير هذا ، حتّى أنّه قد عدّ غيره من خطوات الشيطان في آيات من القرآن ، كما نادى بكلّ ذلك في أمثال قوله

__________________

(١) سورة النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤ .

٣٤٨

عزوجل : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) (١) ، وقوله سبحانه : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٢) .

وقد صار من ضروريّات الدين أنّ هذا كان طريق علم صحيح دائراً بين المسلمين في عصر خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولهذا لم يكن بينهم بسبب ذلك خلاف ولا اختلاف ، وكانوا جميعاً على مذهب واحد مأخوذ من اللّه‏ ورسوله من غير التفات إلى المطالبة بدليل من خارج ، ولا المعارضة ببرهان جارح ، بل كان هو عليهم حجّةً ناطقاً ، وقوله برهاناً قاطعاً .

وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بلّغ أيضاً ما دام حيّاً كلّ مّا احتاجت إليه اُمّته في زمانه على طبق ما وصل إليه من ربّه ، وبعين ما تعلّمه من اللّه‏ عزوجل إلى أن كملت أيّامه ، وقربت رحلته ، وبقيت ممّا لم يصل إلى الخلائق من أحكام الخالق ؛ لعدم مسيس حاجتهم إلى السؤال والتعلّم أشياءَ مستورة عن عامّة أهل الإيمان ، مطويّة تحت خبايا القرآن ، محتاجاً بيانها إلى الترجمان ، فعلّمها جميعاً بأمر من اللّه‏ حتماً ـ حيث كان إتمام التبليغ عليه واجباً ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (٣) ـ أكمل الاُمّة ، وأقربهم إليه من كلّ جهة ، أعني : عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه‏ عليه نحو ما تعلّم هو من اللّه‏ عزوجل ؛ ولهذا أفرده من بين كافّة اُمّته بالأسرار والعلوم التي أقرّ كلّ أحد حتّى أعدائه بخلوّ غيره عنها ، وبأن جعله في الدعاء يوم

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨ .

(٢) سورة الحشر ٥٩ : ٧ .

(٣) سورة الأنفال ٨ : ٤٢ .

٣٤٩

المباهلة شريكاً ، واتّخذه وصيّاً له (١) ووزيراً ، وسلّمه الكتب السماويّة وسائر مواريث الرسل ـ التي يأتي أنّها كانت عنده بتسليم بعضهم بعضاً ، وكان كذلك دأب سائر الأنبياء والمرسلين ـ ونصبه يوم الغدير لمّا بيّن أوّلاً لاُمّته أنّه من خصائص نفسه من كونه مولى للمؤمنين ، وجعله أحد الثقلين المقترنين ، والخليفتين الغير مفترقتين ، والمستمسكين المنجيين اللّذين قد ألزم رقاب الناس باتّفاق الناس أن يتمسّكوا بهما جميعاً ؛ لكيلا يضلّوا بعده أبداً ، حتّى أنّه عبّر عنه (٢) هاهنا بالعترة لفظاً ؛ لتبيين مدخلية سائر الأوصياء المعلومين أيضاً ، وإشعار لزوم هذا التمسّك ما دام التكليف باقياً . هذا ، مع سائر النصوص والفضائل الدالّة على إمامته ، كما سيأتي مفصّلاً .

ولهذا لم يكن عليّ عليه‌السلام طول مدّة تعلّق الأمر إليه محتاجاً إلى غيره أبداً ، ولا إلى العمل بالرأي (٣) في شيء من اُمور الدين ومعالم المسلمين ، كما ينادي بذلك قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني » (٤) ورجوع سائر الخلفاء وغيرهم إليه دون العكس ، حتّى أنّ عمر بن الخطّاب كان ينادي كراراً ومراراً بقوله : لولا عليّ لهلك عمر (٥) .

__________________

(١) كلمة «له» لم ترد في « م » .

(٢) كلمة «عنه» لم ترد في « م » .

(٣) في « م » و«ش» : زيادة : «وأمثاله أصلاً» .

(٤) نهج البلاغة : ٢٨٠ ، الخطبة ١٨٩ ، بصائر الدرجات : ٢٨٦ / ١ ، و٢٨٧ / ٧ ، و٢٨٨ / ١٤ ، روضة الواعظين ١ : ١١٨ .

(٥) الكافي ٧ : ٤٢٧ (باب النوادر) ذيل ح ٦ ، التهذيب ١٠ : ٤٩ ـ ٥٠ / ١٨٦ ، خصائص الأئمّة : ٨٥ ، المناقب للخوارزمي : ٨١ ، ذخائر العقبى : ٨٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٨ و١٤١ ، و١٢ : ٢٠٥ ، الجوهرة في نسب الإمام عليّ وآله : ٧٢ ، فيض القدير شرح الجامع الصغير ٤ : ٣٥٧ / ٥٥٩٤ .

٣٥٠

ثمّ إنّ من مذهبهم أنّ هذا لم يكن منحصراً بزمان (١) وجود عليّ عليه‌السلام حتّى تحتاج الاُمّة فيما بعد إلى التعبّد بالرأي وأمثاله ، بل إنّ اللّه‏ عزوجل كما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعلّم عليّاً كلّ ما تعلّم هو منه لا سيّما ما كانت الاُمّة تحتاج إليه ، وأن يتّخذه وصيّاً له وإماماً لاُمّته ، كذا أمره أن يأمر عليّاً عليه‌السلام أن يعلّم ولده الحسن ، وكذا الحسين عليهما‌السلام كلّ ما تعلّم هو من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يتّخذ الحسن عليه‌السلام بعده وصيّاً له وإماماً للخلق ، ويسلّمه ما سلّمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكتب وسائر مواريث الأنبياء ، وأن يتّخذ الحسن أخاه الحسين عليهما‌السلام وصيّاً له وإماماً للخلق بعده ، وأن يفعل الحسين عليه‌السلام مثل ذلك بولده عليّ ابن الحسين زين العابدين عليهما‌السلام ، وكذا زين العابدين بالنسبة إلى ولده محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام ، والباقر بالنسبة إلى ولده جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام ، والصادق بالنسبة إلى ولده موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام ، والكاظم بالنسبة إلى ولده عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، والرضا بالنسبة إلى ولده محمّد بن عليّ الجواد عليهما‌السلام ، والجواد بالنسبة إلى ولده عليّ بن محمّد الهادي عليهما‌السلام ، والهادي بالنسبة إلى ولده الحسن بن عليّ العسكري عليهما‌السلام ، والعسكري بالنسبة إلى ولده الحجّة بن الحسن محمّد المهديّ الذي هو الإمام الثاني عشر وهو القائم المنتظر صاحب هذا الزمان .

وقد فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبر عليّاً عليه‌السلام بالحال ، وأمره أن يعمل بهذا المنوال ، حتّى أنّه قام بالناس مراراً ، وأخبرهم بلزوم وجود خصوص اثني عشر أئمّة الهدى في هذه الاُمّة ، كما يشعر بتعدّدهم حديث العترة ،

__________________

(١) في «ش» : «في زمان» .

٣٥١

وذكر أنّهم من قريش ، بل من عترته ، وأنّهم الأعلم والأتقى ، وأنّ المهدي منهم ، بل ذكر لبعضهم ـ كما سيأتي بيانه مفصّلاً ، لا سيّما في الفصل الحادي عشر من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ـ أنّهم من نسل الحسين عليه‌السلام ، حتّى يأتي فيه أنّ بعض الثقات المتديّنين من خواصّ الصحابة والتابعين ، بل غيرهم أيضاً نقلوا تصريحه أيضاً بأساميهم .

وكذلك عليّ عليه‌السلام ائتمر بما أمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبر الحسن عليه‌السلام ومن لا بُدَّ من إخباره من الخواصّ بما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره وأكدّ عليه وأوصى إليه ، وأرشدهم وأشهدهم عليه ، وعلّمه ، وسلّمه جميع ما تعلّم وتسلّم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل أخبر عامّة الناس أيضاً ببعض هذه الأحوال ولو على سبيل الإجمال ، وهكذا بعينه فعل الحسن وكذا الحسين عليهما‌السلام ، وكذا كلّ واحد واحد من هؤلاء الأئمّة والأوصياء المذكورين ، كما سيأتي في فصل الوصيّة ؛ ولهذا لم يحتج أحد منهم طول مدّته أبداً إلى العمل بالرأي والقياس ، والاعتماد (١) على الظنّ واجتهادات الناس ، بل كان مآل مستند كـلام كـلّ واحـد : أخبرني آبائي عـن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللّه‏ عزوجل ، حتّى أنّه قيـل لبعض منهم : أرأيت إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها ؟ ، فقال : « مه ، لسنا من أرأيت في شيء ، كلّ ما قلنا لكم فهو قول اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢) .

__________________

(١) في « ن » : «والعمل» بدل «والاعتماد» .

(٢) انظر : بصائر الدرجات : ٣٢٠ / ٨ ، والكافي ١ : ٤٧ / ٢١ (باب البدع والرأي والمقائيس) .

٣٥٢

وقال الباقر عليه‌السلام : « لو كنّا نفتي الناس برأينا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوارثها كابر عن كابر » (١) ، وما بهذا المعنى كثير فوق التواتر .

وبالجملة : كان مناط جميع أقوالهم وأفعالهم علماً قطعيّاً ، واصلاً إليهم من اللّه‏ تعالى كتاباً وسماعاً ، على ما سيأتي بيانه في فصل علومهم وغيره ، ولهذا ليس لأحد شبهة في أنّ كلّ واحد منهم كان طول زمانه فائقاً على جميع أهل عصره في العلم والورع والصدق والسداد ، بحيث كان مرجع العلماء في كلّ مكان ، ولم يعجز عن مناظرة وسؤال كلّ ما كان ، حتّى أنّه قد كتب المخالف والمؤالف في مناقبهم ، مع كثرة أعدائهم وحُسّادهم من الخلفاء وغيرهم ما ملأ الخافقين ، وكثرت أتباعهم ورُواة الأخبار عنهم ، مع شدّة الخوف والتقيّة من مخالفيهم ، وإخفاء مذهبهم عن أعاديهم ، بحيث لم يبق موضع خالياً عنهم فيما بين المشرقين.

وفي الحقيقة هذه معجزة ظاهرة ، وآية باهرة عند أصحاب البصيرة ، حيث لم يتّفق أبداً في غيرهم دوام هذه الفضائل الجليلة بالخصوص بمثل هذا الترتيب المخصوص ، ومن ثَمَّ صار صريح خلاصة مذهب الفرقة المذكورة أنّ هؤلاء الأئمّة الأوصياء المعلومين كلّهم حجج اللّه‏ على الخلق أجمعين إلى يوم الدين ، بمثل ما كان كذلك جدّهم سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجوز إلاّ الأخذ منهم وأتباعهم في القول والفعل والتقرير ، وعدم مخالفتهم بوجه ولو في أمر صغير ، بل ولو قال بخلافهم كلّ صاحب قيل مستمسكاً بزعمه بأقوى كلّ دليل ؛ إذ لا رأي بعد البيان ، ولا ظنّ كالعيان ؛

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٣٢٠ / ٤ و٦ بتفاوت يسير .

٣٥٣

ولهذا قالوا عليهم‌السلام : « كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل » (١) ، « وكلّ حقٍّ عند الناس فهو المأخوذ منّا أهل البيت » (٢) .

وصار اتّفاق هذه الفرقة على عدم تحقّق الإيمان إلاّ بعد اعتقاد أنّ الحقّ إنّما هو ما حقّقوه ، أي : الأئمّة ، والباطل ما أبطلوه وإن لم يعلم وجهه ، بل وإن لم يعرف حال الحكم فيه ؛ لكفاية هذا الإجمال عند الجهل بالحال ، ولهذا ورد عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم قالوا : يكفي للمؤمن أن يقول قولي : قول آل محمّد عليهم‌السلام فيما وصل إليّ وفيما لم يصل (٣) .

واتّفقوا أيضاً على أن لا اختلاف عند أئمّتهم في شيء من أمر الدين ؛ إذ لا خلاف فيما كان وارداً من اللّه‏ على نهج اليقين ، وأنّ حكم اللّه‏ واحد لا يختلف ، فحلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة (٤) ، لا يكون غيره ولا يجوز .

وإنّما منشأ الاختلاف الحاصل بين الناس هو : أنّه لمّا ترك عامّة الاُمّة اتّباع أهل البيت الطاهرين ، ولم يتوجّهوا إلى اقتفائهم في استكمال اُمور الدين ، فلم يتمسّكوا برأس العترة ورئيسهم الذي هو عليّ عليه‌السلام أمير المؤمنين ، ولا ببقيّة الأئمّة المذكورين الذين كانوا ـ كما ذكرنا ـ مستودعي علوم سيّد المرسلين ، واتّخذوا من عند أنفسهم خلفاء جُهّالاً ، ورؤساء ضلاّلاً ، ومع هذا صرفوا عامّة أوقاتهم من حين وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٥٣١ / ٢١ ، مختصر بصائر الدرجات : ١٩٨ / ١٧٩ ، الفصول المهمّة للعاملي ١ : ٥٢٦ / ٧٦٩ .

(٢) انظر : المحاسن ١ : ٢٤٣ / ٤٤٨ ، الكافي ١ : ٣٢٩ / ١ (باب أنّه ليس شيء من الحقّ في يد الناس . . .).

(٣) انظر : مختصر بصائر الدرجات : ٢٢٨ / ٢٢٨ ، و٢٢٩ / ٢٣١ ، و٢٣١ / ٢٣٤ .

(٤) في «س» و«ش» و«ن» زيادة : «كذلك» .

٣٥٤

على فتح البلاد ، وتسخير العباد ، وحيازة الأموال ، والدخول في الأعمال وأمثالها من الأشغال ، منعهم ذلك ، لا سيّما بعد زوال جمّة من عرفاء الصحابة بسبب الحروب وغيرها عن محافظة كثير من سنن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل أكثرها وعامّة الأحكام المأخوذة منه ، كما ينادي بذلك كلام نقلة أحوال الصحابة والتابعين ، بل كفى في هذا اختلافهم في أكثر متعلّقات أمثال الصلاة والأذان ونحوهما التي كانت تصدر منه كلّ يوم مراراً على رؤوس الأشهاد ، حتّى نقل جمع من المخالفين صريحاً أنّ أنس بن مالك كان يبكي في الأواخر ويقول : لم يبق ممّا كان في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير هذه الصلاة ، وهي أيضاً قد ضُيّعت وغيّرت (١) .

ولهذا لمّا التفتوا أخيراً إلى تنقيح المسائل الشرعيّة ، وتحقيق المعالم الدينيّة ، لم يجدوا إلاّ قليلاً من المسائل المعلومة من محكمات القرآن والسنّة الثابتة من سيّد الإنس والجانّ ، فاضطرّ جماعة ممّن زعم أنّه من أهل العلم والفهم إلى استنباط سائر المسائل الواردة عليهم ـ ممّا لم يجدوا منه بُدّاً ، فظنّوه مستنداً ـ من محتملات المتشابهات ، ومفترعات الروايات ، ومخترعات أوهامهم الكاسدة ، وآرائهم الفاسدة ، وقياسات عقولهم الناقصة الشيطانيّة التي لا مدخل لشيء منها ـ كما مرّ ويأتي ـ في الاُمور الشرعيّة ، وكلّ واحد منها بمعزل عن استعلام الأحكام الإلهيّة السماعيّة ، فاختار كلّ فريق منهم برأيه طريقاً ، وزعموه ركناً وثيقاً ، فحصل بذلك ما هو دائر بين الناس من الاختلاف ، وشاع بينهم النزاع والخلاف ؛ بحيث انجرّ إلى تضليل بعضهم بعضاً ، بل تكفيرهم ، كما في الحديث الذي مرّ سابقاً ممّا رواه

__________________

(١) انظر : الطرائف ٢ : ٧١ ، الصراط المستقيم ٣ : ٢٣١ ، صحيح البخاري ١ : ١٤١ ، تهذيب الكمال ١٩ : ٣٦٧ ذيل الرقم ٣٨٠٩ .

٣٥٥

المخالف والمؤالف من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّ اللّه‏ تعالى لا يرفع العلم الذي أنزله انتراعاً ينتزعه إليه ، ولكن يقبض العلماء فاتّخذ الناس رؤساء جُهّالاً فأفتوهم على غير علم فضلّوا وأضلّوا » (١) .

نعم ، شرذمة قليلة من الاُمّة تمسّكوا بعد نبيّهم بوصيّه أمير المؤمنين رئيس العترة وأعلم الاُمّة ، كسلمان ، وأبي ذرّ ، والمقداد ، وعمّار ، وحذيفة ، وجابر ، ومالك (٢) ، وحارث (٣) ونظرائهم ممّن ستأتي أسماؤهم ، وأخذوا منه سماعاً كلّ ما احتاجوا إليه من أحكامهم ، كما سمع هو من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللّه‏ عزوجل بعين ما كان دأبهم في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فبقوا على حالتهم

__________________

(١) تقدم تخريجه في ص ٣٧ ، هامش (٤) .

(٢) هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي ، المعروف بالأشتر ، أمير ، من كبار الشجعان ، كان رئيس قومه ، وقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب عليّ عليه‌السلام ، شهد يوم الجمل وأيّام صفّين مع عليّ عليه‌السلام ، وولاّه عليٌّ عليه‌السلام مصر فمات في الطريق مسموماً ، وتأسّف أمير المؤمنين عليه‌السلام لموته ، وقال : « لقد كان لي مثل ما ( كما ) كنت لرسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله » ، وقال أيضاً : « رحم اللّه‏ مالكاً وما مالك عزّ عليّ به هالكاً لو كان صخراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فِنداً . . . » ، توفّي سنة ٣٧ هـ .

انظر : رجال الكشّي : ١٣٨ / ١١٨ ، خاتمة تفصيل الوسائل للحرّ العاملي : ٣٠ / ٤٥٣ ، تنقيح المقال ٢ : ٤٨ / ١٠٠٢٥ ، قاموس الرجال ٨ : ٦٤٣ / ٦٢٠٧ ، الإصابة ٣ : ٤٨٢ / ٨٣٤١ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٤ / ٦ ، الأعلام ٥ : ٢٥٩ .

(٣) لعلّه الحارث بن عبداللّه‏ بن كعب بن أسد الأعور الهمداني ، يكنّى أبا زهير ، من أَولياء أمير المؤمنين ، وعدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام من ثقاته العشرة ، وكان من مقدّمي أصحاب عليّ عليه‌السلام في الفقه والعلم بالفرائض والحساب ، وهو الذي قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن أو منافق قُبلا

توفّي سنة ٦٥ هـ أيّام ابن الزبير .

انظر : تنقيح المقال ١ : ٢٤٢ / ١٠٢٧ ، قاموس الرجال ٣ : ٨ / ١٦٤٢ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ١٥٢ / ٥٤ ، تهذيب التهذيب ٢ : ١٢٦ / ٢٤٨ .

٣٥٦

السابقة من العمل بالعلم الوارد من اللّه‏ عزوجل بلا وقوع في الخلاف ، ولا حاجة إلى التشبّث بالرأي الموجب للاختلاف .

وكذا تمسّك من بقي من هؤلاء ومن تبعهم في طريقتهم هذه من حين وفاة (١) عليّ عليه‌السلام بوصيّه الحسن عليه‌السلام ، وكانوا يأخذون منه ما احتاجوا إليه سماعاً منه عن أبيه ، عن جدّه ، عن اللّه‏ عزوجل ، وهكذا كان بعينه حال الموجودين من هؤلاء ، ومن كان يتبعهم بعد الحسن عليه‌السلام من التمسّك بوصيّه الحسين عليه‌السلام ، وبعد الحسين من التمسّك بوصيّه وولده عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، وبعده من التمسّك بوصيّه وولده محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام ، وهلمّ جرّاً إلى آخرهم وقائمهم المهديّ المنتظر (عجّ) .

ولم يكن يجوز الاعتماد عند هؤلاء القوم في كلّ عصر أبداً إلاّ على المأخوذ المسموع من الوصيّ الإمام عليه‌السلام ، الآخذ عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن اللّه‏ عزوجل ؛ ولهذا لمّا اطّلع أهل البصيرة على حقيقة هذه الطريقة عرفوا حقّيّتها ، وجزموا أنّ أهلها هم الفرقة الناجية ؛ لما بيّنّاه من اختصاصهم بالتمسّك في كلّ شيء بما ورد من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا غير ، وإن اتّفق عليه رأي جميع ما سواهما ، فشرعوا يدخلون في دين اللّه‏ أفواجاً مع مصادمتهم من بحار ضلالة مخالفيهم ، وظلمات جور أعاديهم أمواجاً ، بحيث لم يكن يمكنهم الوصول إلى الإمام عليه‌السلام إلاّ بعد تمهيدات من خوف الطغاة اللئام إلى أن انكسرت شوكة بني اُميّة ، وذلك في أواخر زمان الباقر عليه‌السلام ، فشرع علماء هؤلاء القوم بإكثار الوصول إلى خدمة أئمّتهم عليهم‌السلام ، وسؤال المسائل منهم ، وشرع الأئمّة عليهم‌السلام أيضاً في إنفاذ الأحكام إليهم ، وبيان معالم الدين

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر : «شهادة» أنسب .

٣٥٧

لهم ، وربّوهم كمال التربية مع وجود بعض حالات الخوف والتقيّة .

وقد كان دأب هؤلاء العلماء في كلّ عصر أنّ كلّ من وصل منهم في موسم الحجّ وغيره إلى خدمة إمامه عليه‌السلام ، وتعلّم من علومه ما تعلّم كتبه فرجع إلى بلاده وروى ما تعلّم لأصحابه ، حتّى انتشرت أخبارهم في البلاد ، وشاعت علوم الأئمّة وآثارهم بين العباد ، حتّى أنّه كُتبت من عصر الصادق عليه‌السلام ـ الذي راج العلم في أوانه لضعف شوكة أهل جور زمانه ـ أربعة آلاف كتاب حديث إلى عصر أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام ، كلّ كتاب لمؤلّف واحد من رواتهم ، وزاد عدد ثقات الرواة منهم عن الاُلوف ، حتّى أنّ فيهم مثل أبان بن تغلب (١) ، وزرارة بن أعين (٢) ، وحمران بن

__________________

(١) أبان بن تغلب بن رباح الكوفي البكري الجُرَيْريّ ، يكنّى أبا سعيد ، ثقة ، جليل القدر ، عظيم الشأن في أصحابنا ، لقي أبا محمّد عليّ بن الحسين ، وأبا جعفر ، وأبا عبداللّه‏ عليهم‌السلام ، وروى عنهم ، وكانت له عندهم خطوة .

وقال له أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « اجلس في المدينة وأفت الناس ، فإنّي اُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك » .

وقال أبو عبداللّه‏ عليه‌السلام لمّا أتاه نعيه : « أما واللّه‏ ، لقد أوجع قلبي موت أبان » . وصنّف كتاب «الغريب في القرآن» ، توفّي سنة ١٤١ هـ في حياة أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام .

انظر : رجال الكشّي : ٣٩٥ / ٦٠١ ـ ٦٠٤ ، رجال النجاشي : ١٠ / ٧ ، تنقيح المقال ١ : ٣ / ١٩ ، قاموس الرجال ١ : ٩٧ / ١٧ ، الفهرست لابن النديم : ٢٧٦ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٠٨ / ١٣١ ، تاريخ الإسلام (حوادث ١٤١ ـ ١٦٠) : ٥٥ ، تهذيب التهذيب ١ : ٨١ / ١٦٦ .

(٢) هو زرارة بن أعين بن سُنسن الشيباني الكوفي ، اسمه عبد ربّه ، وزرارة لقبه ، يكنّى أبا الحسن ، عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وثاقته وجلالته وعظم شأنه متّفق عليه ، وتظافرت الروايات بذلك ، بل تواترت . وأمّا الأخبار الواردة في ذمّه فهي من باب التقيّة ولأجل المحافظة عليه من شرّ الأعداء .

توفّي سنة ١٥٠ هـ .

٣٥٨

أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وجابر بن يزيد ونظرائهم ممّن صرّح علماء : المؤالف والمخالف بتوثيقهم وكمال علمهم ، مع نصّ المخالف بتشيّعهم ، بل غلوّهم فيه ، كما سيأتي مفصّلاً من كتاب ميزان الاعتدال وغيره .

وقد روى أبان هذا ثلاثين ألف حديث عن الصادق عليه‌السلام (١) ، وروى جابر عنه وعن أبيه أزيد من خمسين ألف حديث (٢) ، وأمّا زرارة وأمثاله فلا تحصى رواياتهم ، حتّى أنّ كثيراً من علماء المخالفين كأبي حنيفة ، والثوري ، والأعمش وأمثالهم داروا (٣) يراجعون هؤلاء الأئمّة ، ويقتبسون من أنوار علومهم ، ويروون عنهم ، بل عن بعض أصحابهم أيضاً ؛ ولهذا صارت غزارة علوم كلّ واحد واحد من هؤلاء الأئمّة عليهم‌السلام مسلّمة عند كلّ علماء الاُمّة ، وطارت فضائل أحوالهم وغرائب آثارهم ونقلة أخبارهم شرقاً وغرباً ، بحيث صنّف جمّ غفير من أصحاب هؤلاء الأئمّة وسائر من تأخّر عنهم من علماء الأُمّة كتباً كباراً في الاُصول والفروع من متعلّقات التوحيد والنبوّة والإمامة والعدل والمعاد ، وخلق الأرواح والأجساد ، والحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، والتفسير والدعاء ، والقصص والمواعظ ، والآداب والأخلاق وغيرها من أنواع العلوم ، وأنحاء الحجج ، وحلّ المشكلات ، وأقسام أحوال ما في الأرضين والسماوات ، وقد نقلوا في تلك الكتب لكلّ مبحث من الاُمور المذكورة أدلّة علميّة مأخوذة من ألسنة

__________________

انظر : الكشّي : ١٣٣ ـ ١٦٠ / ٢٠٨ ـ ٢٦٩ ، تنقيح المقال ١ : ٤٣٨ / ٤٢١٣ ، أعيان الشيعة ٧ : ٤٦ ، الفهرست لابن النديم : ٢٧٦ .

(١) رجال النجاشي : ١٢ .

(٢) انظر : رجال الكشّي : ٢٦٦ / ٣٤٢ .

(٣) أي : اتّفقوا واجتمعوا .

٣٥٩

اُولئك الأئمّة عليهم‌السلام من غير حاجة لهم إلى الاستناد إلى الخيالات الظّنيّة المأخوذة من الرأي والقياس الذي بيّنّا غير مرّة أنّ أصل ذلك من الشيطان الموقع في الوسواس ، ثمّ اشتهر منه بين سائر أصناف الناس .

ومن هذا ظهر أيضاً أنّهم هم مصداق ما مرّ من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله: « لا تزال طائفة من اُمّتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرّهم خذلان من خذلهم » (١) ؛ إذ من البيِّن أنّ مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الطائفة إنّما هو الطائفة المحقّة التي ذكرنا في حديث الثلاث والسبعين (٢) .

وقد تبيّن ممّا ذكرنا وجود جميع خصوصيّات كلّ واحد من الخبرين في هؤلاء الجماعة دون غيرهم ، كما هو ظاهر من ملاحظة أحوالهم وأحوال من سواهم ، كما ذكرنا مجملاً منها ، ومن أراد تحقيق صدق ما ذكرناه وتفصيل مقالاتهم يكفيه الرجوع إلى واحد من تلك الكتب الذي هو مسمّى بـ : بحار الأنوار ، فإنّه سيجده مشتملاً على بيان جميع ما أشرنا إليه على النهج المأخوذ من الأئمّة أهل بيت العلم والنبوّة ، وفيه من الآيات القرآنيّة والأخبار النبويّة لا سيّما المأخوذة من العترة الهادية ما لا يحصى عدداً بحيث صار ما فيه من روايات الإماميّة فقط أضعاف مضاعفة جميع الروايات التي حوتها كتب مخالفيهم ، حتّى أنّه لم يكتب كتاب مثله في الإسلام ، والشاهد على هذا تتبّع ما فيه .

وبالجملة : مدار هذه الطائفة إنّما هو على متابعة قول هؤلاء

__________________

(١) الصراط المستقيم ٣ : ٨٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥٢٣ / ١٩٢٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٥٠٤ / ٢٢٢٩ وفيه : بتفاوت يسير ، ومرّ الحديث أيضاً في ص ٢٢١ .

(٢) انظر: الفصل الرابع وص٢٢١ .

٣٦٠