ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

عمّا أخبرت به الرسل عن ربّها أيكون للّه‏ البداء فيه ؟ قال : « أما إنّي لا أقول لك : إنّه يفعل ، ولكن إن شاء فعل » (١) .

وقد ورد في الأخبار أيضاً أنّ البداء إنّما يكون فيما يكون إذا كان الشيء في مرتبة المشيئة والإرادة والقدر على ما مرّ (٢) في ذكر مراتب التقدير والكتابة في اللوح ، وأمّا إذا انتهى إلى حدّ إمضاء القضاء فلا بداء .

هذا خلاصة قول الإماميّة المأخوذ من الأئمّة عليهم‌السلام في البداء ، ومعناه وموضعه ، ومن أراد تفصيل ذلك أزيد ممّا ذكرناه فعليه بالرجوع إلى بعض كتبهم المفصّلة (٣) ، فتأمّل حتّى تعلم أنّ مخالفيهم اتّخذوا مذهب اليهود والفلاسفة في إنكار البداء .

ومع هذا طعنوا على الإماميّة بل بعضهم على الأئمّة عليهم‌السلام أيضاً ـ مع كونهم مسلَّمين في كلّ فضل علماً وعملاً عند كافّة الاُمّة ـ بما هو فرية صريحة عليهم ، فإنّ أكثرهم قالوا : قالت الرافضة : البداء جائز على اللّه‏ ، وهو أن يعتقد شيئاً ، ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسّكوا فيه بقوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) (٤) (٥) ، وفيه ما لا يخفى من ادّعاء جهله تعالى ببعض الأشياء : انتهى كلامهم .

وقد ظهر أنّه محض الافتراء على هذه الطائفة المنزّهة ربّهم عن جميع النقائص ، بل هم الذين نسبوا في كثير من الموارد إلى ربّهم

__________________

(١) الاُصول الستّة عشر (كتاب حسين بن عثمان بن شريك) : ٣٢٢ / ٥١٤ .

(٢) في ص ٤٣٧ .

(٣) انظر : بحار الانوار ٤ : ٩٥ / ٢ وما بعده .

(٤) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٥) التفسير الكبير للرازي ١٩ : ٦٦ .

٤٤١

ما لا يليق ، حتّى نفى جماعة منهم عنه تعالى بعض العلوم ، كما مرّ (١) في بيان مذاهبهم ، وهل البهتان والفرية إلاّ دأب العاجزين ؟

وأقبح من هذا وأفضح ما نقله الرازي عن سليمان بن جرير ، حيث حكى عنه أنّه قال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم أمر وشوكة ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروه ، قالوا : بدا للّه‏ تعالى فيه (٢) . انتهى .

ولا يخفى ما فيه من النصب والعداوة ، حتّى اجترأ عليهم بافتراء ما نزّههم عنه سائر علمائهم من نسبة الكذب في الدين إليهم ، وستُكتب شهادتهم ويُسألون .

ثمّ إنّ الذي هو خلاصة مذهب هذه الطائفة الإماميّة في خصوصيّات أحوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وسائر الأنبياء والأوصياء والمؤمنين وغيرهم ، وما يتعلّق بالكفر والإيمان والثواب والعقاب ، ولوازمها ولواحقها بناءً على ما تواتر عندهم من أخبارهم ، بل يدلّ عليه بعض منقولات غيرهم أيضاً كما سيأتي بعض ذلك : أنّهم يقولون : إنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الاثني عشر المعلومين عليهم‌السلام كلّهم خُلقوا من نور واحد وسنخ واحد ، وكلٌّ بمنزلة نفس الآخَر ذريّة بعضها من بعض ، ومن عادى أو جحد حقّ واحد منهم فقد عادى الجميع وجحد حقّهم جميعاً ، حتّى أنّهم متشاركون على التساوي في سائر ما آتاهم اللّه‏ تعالى من الكمال والحكمة ، والعلم

__________________

(١) في ص ٣٩١ .

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٦٥ ، وحكاه عنه الشهرستاني في الملل والنحل ١ : ١٦٠ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٤ : ١٢٣ .

٤٤٢

والمعرفة ، والحلم والزهادة ، وسائر لوازم العصمة ووجوب الإطاعة ، حتّى في محادثة الملك ولو بغير الرؤية المختصّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنّ لرسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله زيادة فضله ، وعلوّ رتبته عليهم بما اختصّ به من النبوّة وسبق الخَلق والخُلق ، والقدوة ، ونزول الوحي وأمثال ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير .

ثمّ لعليّ عليه‌السلام ذلك بعده بما اختصّ به أيضاً من السبق المذكور ، حتّى في الجهد والجهاد ، وحماية الإسلام ، وكسر الأصنام ، وإعانة سيّد الأنام وأمثال ذلك ممّا سيأتي ، حتّى أنّه اختصّ لذلك بإمارة المؤمنين التي مرّ ويأتي أنّها لم تكن ولا تكون لأحد غيره .

ثمّ للحسنين عليهما‌السلام لما لهما من المزايا التي منها : مزيد اتّحاد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحيث تصدّى الرسول بنفسه لتربيتهما ، وغير ذلك ممّا سيأتي أيضاً .

ثمّ للتسعة البقيّة من ذرّيّة الحسين المعلومين عليهم‌السلام ، لا سيّما القائم المهديّ عليه‌السلام الذي يملك الأرض شرقاً وغرباً ، ويملأها قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، على الأظهر (١) لما ورد صريحاً من أنّ آخرهم قائمهم ، وهو أفضلهم . واللّه‏ أعلم .

وكذلك فاطمة عليها صلوات اللّه‏ ، لها ما لهم ما سوى منصب الإمامة ، فإنّ اللّه‏ جعلها سيّدة النساء في الدنيا والآخرة ، حتّى أنّها أفضل من مريم اُمّ عيسى عليهما‌السلام، كما سيظهر .

__________________

(١) في حاشية نسخة « م » و« س » : وإنما قلنا : على الأظهر ؛ لأنّ بعض العلماء قالوا : بتفضيل كلّ إمام سابق على من بعده ، منه قدّس سرّه .

٤٤٣

وكذا يقولون ـ بحسب النصوص المتواترة عندهم المعتضدة بما رواه غيرهم ـ : إنّ اللّه‏ عزوجل لمّا يعلم بعلمه الكامل الأزليّ كمال قابليّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء من ذرّيّته المعلومين أزيد من سائر المخلوقين ، حتّى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربّين للارتقاء إلى أعلى مدارج القرب والكمال ، واستحقاق إعلاء شأنهم على سائر عبيده المشرّفين بالعزّ والإجلال ، حيث علم من حالهم أنّهم إذا خُلقوا يمتازون عن سائر عبيده بمزيد المعرفة والإخلاص والطاعة وسائر لوازم العبوديّة ، حتّى ورد : أنّه عزوجل حين خلق أرواحهم من النور الذي خلقهم منه سبّحوا اللّه‏ ومجّدوه ، وذلك قبل خلق (الخلق والسماوات والأرض) (١) ، ثمّ تعلّم من سواهم التسبيح والتقديس منهم ، فاقتضى عدله ولطفه وحكمته أن يتفضّل عليهم بما ينبغي أن يكونوا عليه ، فمنحهم ما منحهم ، حتّى أعطاهم ما لم يعط أحداً من العالمين ، فهُم أوّل كافّة الخلق إيجاداً ، وأقدمهم تنزيهاً للّه‏ تعالى وتوحيداً ، وأسبقهم لأمر ربّهم إيجاباً ، وأعرفهم عرفاناً ، واْكملهم إيماناً ، وأفضلهم عند ربّهم مكاناً ، وأعلاهم شأناً ، وأقربهم منزلةً وقرباناً ، بحيث إنّ اللّه‏ عزوجل لم يخلق خلقاً إلاّ أوجب عليه حبّهم وولايتهم والتصديق لهم ، كما أوجب عليه توحيده والإيمان به ، فمن أقرّ كان مؤمناً طيّب اللّه‏ ولادته ، ومن أنكر صار كافراً خبيث الانعقاد نطفته ، حتّى أنّ سائر الأنبياء والأوصياء والاُمم السابقين كانوا بهذا الأمر ـ أي : التزام حبّهم وتصديق قولهم ـ مكلّفين ، كما يستفاد من كتبهم أيضاً .

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « ن » : «الخلائق بالأرض بآلاف السنين» وفي «ش» : قبل خلق السماوات والأرضين» وفيها نسخة بدل : «قبل الخلائق بآلاف من السنين » .

٤٤٤

ولهذا أعطاهم اللّه‏ تعالى جميع كمالات الأنبياء ، وفضائل كلّ الأولياء والأوصياء ، وما كان عندهم من أعاظم الأسماء الحسنى ، والودائع التي في الكتب التي نزلت من السماء ، وأورثهم سائر مواريثهم مع زيادة الكمالات التي قرّرها اللّه‏ فيهم ، حيث أشهدهم على خلق الأشياء ، وأطلعهم على أسرار ما في الأرض والسماء ، وأخبرهم بما مضى وما هو آتٍ ، وأيّدهم بروح القدس وأملاك السماوات ، وأذن لهم في أنواع الشفاعات ، بل رخّصهم في كثير من اُمور أهل العرصات ، حتّى قسمة أصحاب النيران والجنّات ، بل قرّر لهم في هذه الدنيا التي جعلها دار محنة لهم وابتلاء أوّلاً أن يكون لهم فيها أيضاً تمام الدولة والشوكة أخيراً ؛ ولهذا جعل لهم ولأوليائهم الرجوع إلى الدنيا ؛ لانتقامهم من أعاديهم فيها قبل عذاب العقبى .

وتدلّ على جميع ما ذكرناه النصوص المتواترة عن العترة الطاهرة ، كما أشرنا آنفاً ، ما سوى ما مرّ في أوائل هذا الكتاب ، وما سيأتي في بيان فضائلهم .

وكذا يقولون ، أي الإماميّة : إنّ الأنبياء والأوصياء من لدن آدم عليه‌السلام وهلمّ جرّاً كلّهم كانوا معصومين كالملائكة المقرّبين لا يعصون اللّه‏ ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وأنّ ما ثبت صدوره عن بعض منهم فإنّما هو ترك الأولى لا غير ذلك ، كما حقّق في محلّه ، ككتاب تنزيه الأنبياء وغيره (١) ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليه ، وسيأتي فيما بَعْدُ أيضاً بعض بيان له ، مع أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أوصيائه جميعاً كانوا من هذا أيضاً سالمين .

__________________

(١) انظر : تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى : ١ ، الاعتقادات للصدوق : ٩٦ / ٣٦ ، (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج٥) .

٤٤٥

وكذا يقولون في جميع الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام : إنّ كلّ متأخّرٍ منهم كان منصوباً ، لا سيّما بالوصاية بنصّ المتقدّم عليه في أمر الدين ، بل بإخبار أكثر السابقين على وفق تعيين ربّ العالمين ، وإنّ الأرض لا تخلو من حجّةٍ معيّنٍ من اللّه‏ عزوجل من آدم عليه‌السلام إلى آخر العالَم ظاهراً كان أو مستوراً ، وسيأتي بيان نبذٍ من منافعه حال الستر التي منها : بقاء أهل الأرض بوجوده ، وانتفاعهم من ثمراتها ببركته .

وبالجملة : حيث إنّ اللّه‏ عزوجل علم بعلمه الكامل الأزلي كمال قابليّة الأنبياء والأوصياء ، لا سيّما نبيّنا وأوصيائه الاُمناء صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين ، وتمام استحقاقهم لمزيد الالتفات إليهم ، واللطف عليهم ، وتفوّقهم على من سواهم ، والإيصال إلى أعلى مراتب القرب والمنزلة ؛ لِما وجد فيهم من كمال الإخلاص والطاعة فعل بهم ذلك ، فاصطفاهم من بين سائر عبيده ومخلوقيه بما ذكرناه من العطايا الجزيلة ، والمراتب الجليلة مع تفضيل بعضهم على بعض بحسب القابليّة والاستحقاق ، وعلَّمهم جميع ما لا بُدَّ أن يعلموا ، بل زاد لبعضهم ما به يتفاضلون .

ثمّ جعلهم حجّةً منه على الخلق ، وقدوة أئمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون .

ثمّ أمر الخلائق بولايتهم ومتابعتهم والأخذ عنهم ، وترك مخالفتهم ، لم يرض بغير ذلك ، ولم يقبل إلاّ ذلك ؛ ولهذا جعل إطاعتهم إطاعته ، ومخالفتهم مخالفته ، حتّى أنّه جعل ذلك مناط الإيمان والكفر .

ومن البيّن الواضح أنّ هذا كلّه ممّا لا يخرجهم عن حدّ العبوديّة ، ولا ربط له بما هو من خصائص الاُلوهيّة ، بل إنّما هم عبيد مربوبون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، فمن رام غير ذلك فهو عند الإماميّة

٤٤٦

غالٍ ، كافر ، مفتر كذّاب ، كما أنّه كذلك من نزّلهم عن ذلك ، وهذا هو معنى قول عليّ عليه‌السلام حيث قال : « هلك فيّ اثنان : مفرط غالٍ ، ومفرط قالٍ » (١) ، وفي رواية : « محبّ غَالٍ ، ومبغض قَالٍ » (٢) .

وليس كما توهّمه الجُهّال الذين لم يعرفوا حالتهم ، حيث أنكروا إمامتهم ، ولم يتوجّهوا إلى ما ورد فيهم وصدر عنهم ، فافتروا على من عرفهم حقّ المعرفة من الإماميّة ، بأنّهم يزعمون في أئمّتهم خواصّ الاُلوهيّة ، وأنّهم الذين قال عليه‌السلام : « إنّه المفرط الغال » .

وقد بيّنّا سابقاً أنّ مدار أقوام من العامّة على نسبة الإماميّة إلى ما هو معلوم عند كلّ عارف بحالهم أنّه محض التهمة والفرية ، حتّى أنّه سيأتي في آخر الفصل الرابع من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ادّعاء ابن حجر في صواعقه أنّ الشيعة الإماميّة من المفرطين الوارد في هذا الخبر ، قال : لأنّهم أفرطوا في محبّة عليّ عليه‌السلام ، حتّى جرّهم ذلك إلى تكفير الصحابة ، وتضليل الاُمّة (٣) .

ولا يخفى أنّ هذا ممّا تضحك منه الثكلى ، كما سيأتي تمامه في محلّه ، إذ ـ مع قطع النظر عن كلّ شيء ـ لا كلام في كون مورد الخبر الغُلاة ، كما هو صريح فيما رواه أحمد بن حنبل وغيره عن عليّ عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يا عليّ ، إنّ فيك مثلاً من عيسى عليه‌السلام أبغضته اليهود حتّى بهتوا اُمّه وأحبّته النصارى حتّى أنزلوه المنزل الذي ليس له » ، قال

__________________

(١) نهج الإيمان : ٤٩٠ بتفاوت يسير .

(٢) نهج البلاغة : ٥٥٨ ، الحكمة رقم ٤٦٩ .

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٣٥ .

٤٤٧

الراوي : ثمّ قال عليّ عليه‌السلام : «ولهذا يهلك فيّ رجلان : محبّ يقرظني بما ليس فيّ ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني » (١) .

وذلك لأنّ النصارى إنّما قالوا في عيسى عليه‌السلام : إنّه إله ، وابن إله ، ونحو ذلك ممّا هو داخل في الغلوّ ، كما قيل مثله في عليّ عليه‌السلام أيضاً ، وأين هذا من المعنى الذي ذكره ذلك الرجل ؟ وممّا ينادي بما ذكرناه أنّ عليّاً عليه‌السلام قال في آخر قوله هذا ـ على ما في بعض الروايات ـ : « ألا إنّي لست بنبيّ ولا يوحى إليّ » (٢) ، الخبر ، فلا تغفل .

ثمّ إنّ الإيمان عند أهل العرفان لا يكون إلاّ بتصديق إمام الزمان ، نبيّاً كان أو وصيّاً ، كما هو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة » (٣) إلاّ أنّ له مراتب كثيرة بحسب القوّة والضعف علماً ، والنقص والكمال عملاً إلى أن ينتهي إلى ما صرّح به عليّ عليه‌السلام ، حيث قال : « لو كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً » (٤) ، وفي صريح روايات الأئمّة السادات :

__________________

(١) فضائل عليّ بن أبي طالب لأحمد بن حنبل : ١٤٤ / ٢٠٩ ، المسند لأحمد بن حنبل ١ : ٢٥٨ / ١٢٧٩ ، العمدة لابن البطريق : ٢١٠ / ٣٢٣ ، المناقب لابن المغازلي : ٧١ / ١٠٤ ، بتفاوت يسير فيها .

(٢) العمدة لابن البطريق: ٢١١ / ٣٢٤، المسند لأحمد بن حنبل ١: ٢٥٨ / ١٣٨٠ .

(٣) كمال الدين : ٤٠٩ / ٩ ، بحار الأنوار ٥١ : ١٦٠ / ٧ ، وفيهما عن أبي محمّد الحسن ابن عليّ . . . عن آبائه عليهم‌السلام ، نفحات اللاهوت للكركي : ٤١ و٥٠ ، شرح المقاصد للتفتازاني ٥ : ٢٣٩ .

(٤) المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ٤٧ ، الطرائف لابن طاووس ٢ : ٢٣٢ ، الفضائل لابن شاذان : ٣٨٤ / ١٦٢ ، شرح المائة كلمة للبحراني : ٥٢ ، عيون الحكم : ٤١٥ / ٧٠٥٩ ، الصراط المستقيم ١ : ٢٣٠ ، نهج الايمان : ٢٦٩ ، المناقب للخوارزمي : ٣٧٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧ : ٢٥٣ ، و١٠ : ١٤٢ ، و١١ : ١٧٩ ، جواهر المطالب للباعوني ٢ : ١٥٠ / ٦٠ .

٤٤٨

« إنّ الإيمان عشر درجات » (١) .

وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الناس عند أرباب النصوص من الإماميّة الماهرين في فهم أحاديث الأئمّة عليهم‌السلام بحسب مقتضى الجمع بينها على قسمين : مؤمن ، وغير مؤمن ، والمراد بالمؤمن في بعض موارده من يستحقّ بكمال إيمانه الجنّة الموعود بها من اللّه‏ عزوجل ، وفي بعضها من أمكن في حقّه دخول الجنّة ولو لم يستحقّها ، ففي الحديث ما خلاصته : أنّ المؤمن مؤمنان ، مؤمن صدق بعهد اللّه‏ عزوجل ووفى بشروطه ، وهو ممّن يشفع ولا يُشفع له ، ومؤمن كخامة الزرع يعوّج أحياناً ويقوّم أحياناً ، وكيفما كفته (٢) الريح انكفأ وذلك ممّن يشفع له (٣) ، الخبر . وفي رواية : «إنّ الجنّة لو كانت مقصورة على أهل العرفان لخلت كثير من مواضعها ، إنّ الجنّة يدخلها من يحلف بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولا (٤) يعرفه» (٥) ، يعني : كمال المعرفة .

وبالجملة : الظاهر أنّ الأخير هو صاحب أدنى مراتب الإيمان ، فحينئذٍ غير المؤمن ـ الذي في مقابله ـ إنّما يكون كافراً ، أي : من هو خالداً

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٧ / ٢ (باب آخر منه) ، بحار الأنوار ١٠٢ : ٢٩١ .

(٢) في بعض المصادر : كفّنه .

كفأ : كفأت الإناء وأكفأته إذا كببته وإذا أمَلْته .

انظر : النهاية لابن الأثير ٤ : ١٨٢ .

(٣) الكافي ٢ : ١٩٣ / ١ ، ٢ (باب في أنّ المؤمن صنفان) ، شرح الأخبار ٣ : ٥٠٨ / ١٤٥٩ ، تفسير نور الثقلين ٤ : ٢٦٠ / ٥٨ ، ٥٩ ، كنز الدقائق ٢ : ٥٢٢ ، بحار الأنوار ٦٧ : ١٩٢ / ٢ .

(٤) في «م» : «لم» بدل «لا» .

(٥) لم نعثر عليه .

٤٤٩

في النار ، غير قابل للجنّة بوجه ، سواء كان جاحداً ناصباً أم لا ، ولا يرد الاستشكال حينئذٍ بمن لم يسمع بالحقّ ، فإنّه ـ كما سيظهر ـ في حكم غير المكلّفين الذين هم تحت مشيئة اللّه‏ تعالى ؛ ولهذا قيل : إنّ اللّه‏ تعالى يعامل معه يوم القيامة بعلمه بإيمانه لو كان يسمع أو بكفره .

وأمّا على الأوّل ، وهو الأكثر مورداً ، لا سيّما في الكتاب والسنّة ، والأظهر إطلاقاً ، والأوضح معنىً ، والأضبط أفراداً ـ فغير المؤمن ـ الذي في مقابله ـ على قسمين أيضاً :

أحدهما : الكافر الذي يستحقّ خلود النار ، ولا يحلّ له دخول الجنّة أبداً .

وثانيهما : من لم يكن مثل هذا الكافر ولا مثل ذلك المؤمن ، بل واسطة بينهما ، وفي الحديث ـ كما سيأتي ـ أنّه يُسمّى ضالاًّ ، يعني : بالمعنى الأخصّ ، وإلاّ فكلّ كافر أيضاً ضالٌّ ؛ ولهذا قال عليه‌السلام : إنّه لا مؤمن يستحقّ الجنّة ولا كافر يستحقّ خلود النار ، بل مثل هذا من المرجون لأمر اللّه‏ وتحت مشيئته ، أي : أمره إلى اللّه‏ تعالى إن شاء أدخله بعدله النار وإن شاء أدخله الجنّة برحمته ، وقد قسّمه الإمام عليه‌السلام ـ كما سيأتي ـ على أربعة أصناف :

أحدها : ضعفاء العقول ومن بحكمهم من الذين لا يهتدون إلى الإيمان ؛ لعدم كمال استطاعتهم كالصبيان والمجانين والبلهاء من الرجال والنساء ، ومن لم تصل الدعوة إليه .

وثانيها : ضعفاء الدين ، أي : الذين دخلوا في الدين ، لكن من غير استقراره في قلوبهم واطمئنانهم إليه ، كالمؤلّفة قلوبهم ، ومن يعبد اللّه‏ على

٤٥٠

حرف ، وأشباههما ، وقد عبّر عنهم الإمام بالمرجون لأمر اللّه‏ ، كما سيظهر ، أي : المؤخّر أمرهم إلى مشيئة اللّه‏ فيهم ، وذلك من قبيل تسمية الخاصّ باسم العامّ ، وإلاّ فكلّ الضالّ المذكور هاهنا كذلك .

وثالثها : ضعفاء الأعمال ، أي : فُسّاق المؤمنين الذين أذنبوا واعترفوا بذنبهم وخلطوا الصالح بالسيّء .

ورابعها : المتساوي في الحسنات والسيّئات ، بحيث لا يرجّح أحدهما على الآخَر .

ففي أحاديثٍ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال ما خلاصته : « الناس على ستّة فَرِق يؤولون كلّهم إلى ثلاث فِرَق : الإيمان والكفر والضلال ، وهم أهل الوعيدين الذين وعدهم اللّه‏ الجنّة والنار ، المؤمنون والكافرون والمستضعفون الذين قال اللّه‏ : ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ) الذين ( لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ) إلى الكفر ( وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) إلى الإيمان ( فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) (١) والمرجون لأمر اللّه‏ إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم ، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخَر سيّئاً ، وأهل الأعراف» قيل : من هم ؟ قال : « قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته » (٢) .

أقول : والظاهر أنّ قوله تعالى في آخر سورة الحمد من قوله : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (٣) إلى آخر السورة إشارة إلى هذا ، بأن

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٩٨ و٩٩ .

(٢) انظر : الكافي ٢ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ / ١ و٢ (باب أصناف الناس) .

(٣) سورة الحمد ١ : ٧ .

٤٥١

يكون معناه أرشدنا إلى طريق كُمل الشيعة العدول الذين أنعمت عليهم في الدنيا بكمال معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الأوصياء من ولده ، ومتابعتهم ، وعدم مخالفتهم ، وفي الآخرة باستحقاق دخول الجنّة ورفع درجاتهم ، ولا تجعلنا من الذين جحدوهم ، وأنكروا حقّهم ، حتّى استوجبوا سخطك وعذابك وخلود النار ، ولا من الذين حرموا عن حقّ معرفتهم ، وكمال متابعتهم ، ووقعوا بذلك في الضلالة وإن لم يجحدوا ولم ينكروا ولم يكفروا ، فافهم .

واعلم أنّ إطلاق لفظة الشيعة من هذا القبيل أيضاً ، فإنّ أكثر استعمالها في عرف الأحاديث بمعنى المؤمن الكامل ، وقد يطلق على مطلق الإماميّ ، كما هو كذلك في العرف العامّ ، وأمّا ما بمعنى مطلق من قدّم عليّاً عليه‌السلام على الثلاثة فهو في العرف العامّ فقط .

وأمّا المسلم الحقيقي فهو عند الإماميّة بالمعنيين اللَّذَيْن ذكرناهما في المؤمن ، ومجازاً ما يشمل سائر أهل القبلة .

وبالجملة : مآل مذهب الإماميّة إلى وجوب إطاعة الأئمّة الاثني عشرعليهم‌السلام وجوب إطاعة اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإذعان بأنّ قولهم هو قول اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ ما لم يخرج منهم فهو باطل إلاّ أن يكون أصله منهم ، وأنّ كلّ ما علم أنّه منهم يجب التمسّك به ، ولا تجوز المخالفة بوجه ، وإلاّ فليقل ، قولي في هذه المسألة قول الأئمّة عليهم‌السلام وإن لم يصل إليّ ، لا يجوز غير ذلك عندهم ولا يكون لا سيّما الرأي والقياس وأمثالهما .

وهذا خلاصة ما ذكرناه في هذا المطلب من مذهب هؤلاء الطائفة وما تفرّدوا به من سائر الطوائف كلّهم ، فيجب ملاحظته حتّى يتبيّن على المنصف اللبيب أنّهم كما ذكرنا ، هم الطائفة المحقّة والفرقة الناجية ، وأنّهم

٤٥٢

المراد بقول رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تزال طائفة من اُمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم خذلان من خذلهم » كما مرّ (١) أيضاً ، وأنّه لأجل دخول مثل هؤلاء في إجماع جميع طوائف الاُمّة قطعاً ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تجتمع اُمّتي على الخطأ » (٢) كما بيّنّاه مجملاً ، وسيأتي في محلّه مفصّلاً ، ومن أراد تفصيل أقوالهم فعليه بتتبّع سائر الكتب مع ما سيأتي في هذا الكتاب من بيان بعضٍ من ذلك .

ومع هذا كلّه ، لا يخفى أنّ هؤلاء الطائفة أعذر عند اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة في كلّ شيء ممّا اعتقدوه وتمسّكوا به من سائر الطوائف ، مع قطع النظر عن سائر الأدلّة .

فإنّه إذا قيل لهم : من أين لكم جواز اتّخاذ هذه العقائد ، وبأيّ وجه حكمتم بصحّتها وتركتم غيرها ؟

قالوا : إنّك أرسلت نبيّاً وكتاباً ، وقلت فيه : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) فتمسّكنا بقوله ، ثمّ ممّا أتانا الرسول جزماً وقطعاً أنّه قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين اللَّذَيْن إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب اللّه‏ وعترتي أهل بيتي » (٤) ، الخبر .

فتمسّكنا بعده بهما وانتخبنا هؤلاء الاثني عشر ؛ للنصّ الثابت

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٢١ هامش (٣) .

(٢) المستصفى ٢ : ٣٩٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨ : ١٢٣ .

(٣) سورة الحشر ٥٩ : ٧ .

(٤) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٤٧ ، بصائر الدرجات : ٤٣٣ / ٣ ، الإرشاد للمفيد ١ : ٢٣٣ ، الأمالي للطوسي : ٥٤٨ / ١١٦٨ ، الطرائف ١ : ١٦٢ (حديث الثقلين) ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٨ ، المعجم الصغير للطبراني ١ : ١٣٥ ، مصابيح السنّة ٤ : ١٩٠ / ٤٨١٦ .

٤٥٣

من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا العدد ، ولما تبيّن لنا من دعواهم الإمامة والوصاية ، وتوصية كلّ واحد ونصّه على الآخَر .

مع ما وجدنا فيهم من الفضائل والكمالات ، حتّى الكرامات والمعجزات الدالّة على صدق دعواهم ، ومن اتّفاق المخالف والمؤالف والصديق والعدوّ بل تصريح أهل سائر المذاهب جميعاً على كونهم أعلم وأصلح وأصدق وأوثق من غيرهم ، ومع ما وجدنا في غيرهم من النقص في العلم والعمل ، والحسب والنسب ، لا سيّما بالنسبة إليهم ، ومن الاختلاف والعمل بالآراء وغير ذلك ممّا وجدناه مذموماً في الكتاب غير معمول به (١) في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما كان ثابتاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّ الحقّ في واحدٍ من المذاهب ، وما كان ظاهراً من تفرّد هؤلاء (٢) الجماعة عمّا سواهم جميعاً بأشياء ، منها : ترك العمل بالرأي الذي كان هو (٣) أساس الاختلاف والمعمول عند غيرهم جميعاً ؛ ولهذا تمسّكنا بهم وصدّقناهم وقدّمناهم واتّبعناهم .

فإن قيل : من أين تبيّن لكم أنّهم قالوا ما وصل منهم إليكم ؟

قالوا : من أخبار آلاف من الرجال الراوين عنهم بواسطة وبغير واسطة ، بحيث تعدّى عن مرتبة التواتر بأضعاف مضاعفة ، مع كون كثير منهم ممّن شهد له جماعة بالتوثيق حتّى من أهل الخلاف عليهم ، وكذا من الكتب الكثيرة جدّاً التي كُتبت في زمانهم ومن بعدهم المشتملة على ما نُقل

__________________

(١) كلمة «به» لم ترد في «س» و«ش» و«ن» .

(٢) في «ش» : «هذه» بدل «هؤلاء» .

(٣) كلمة «هو» لم ترد في «ش» .

٤٥٤

عنهم ، لا سيّما ممّا ينادي بصحّة صدور (١) ذلك وصدقه وصحّته من فصاحة عبارته ، وموافقته لكتاب اللّه‏ وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومطابقته لما نقل عنهم مخالفوهم وغير ذلك من الاشتمال على ما فيه الحِكَم العظيمة ، والإخبار بما سيأتي وبما كان في الأزمنة السابقة والكتب السماويّة ما هو مسلّم عند أهلها ، بل معلوم أنّه ممّا لم يقدر عليه غيرهم .

وبالجملة : صار مجموع ما نُقل عنهم بحيث لو قيل بكذبه وجب أن يقال بكذب ما نُقل عن غيرهم بالطريق الأولى ؛ لما بينهما من التفاوت بحسب الكثرة والقرائن مثل البحر والقطرة .

وأمّا غير الإماميّة فإذا قيل لهم : لأيّ شيء تركتم متابعة هؤلاء الجماعة الذين مع كونهم من العترة الذين كنتم مأمورين بالتمسّك بهم ، كانوا عندكم مسلّمين بالتفوّق علماً وعملاً وحسباً ونسباً وغيرها على غيرهم ، ولم يكونوا يخبروكم إلاّ من كتاب اللّه‏ وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتمسّكتم بمَنْ لم يكن بهذه المثابة من المعتمدين على الآراء والأهواء المذمومة الباعثة على الاختلاف والتفرّق المنهيّ عنه صريحاً ؟ وهلاّ تفحّصتم عمّا كان عند هؤلاء الجماعة ، كما تفحّص الإماميّة ، فرجّحتم تفحّص أحوال غيرهم والتمسّك بها على اقتفاء آثار هؤلاء المسلّم عندكم بل عند كلّ أحد حسن حالهم ، وصحّة أقوالهم مع كون غيرهم مقدوحين من جهات عند غيركم ، ولا أقلّ من كون ذلك الغير مختلفاً فيه وهؤلاء متّفقاً عليهم ؟ ومن أيّ جهة حكمتم بكذب جميع أصحاب هؤلاء ونقلة أخبارهم في كلّ ما نقلوا عن هؤلاء رأساً ولمّا تطلّعوا على مقالهم أصلاً ، فضلاً عن تفحّص أحوالهم اللازم

__________________

(١) كلمة «صدور» لم ترد في «ش» و«ن» .

٤٥٥

عليكم أيضاً ؛ إذ لا أقلّ من كونهم فرقة من الاُمّة المختلفة ، وممّا يمكن أن يكون الحقّ معهم ؟

فحينئذٍ ، لا شكّ أنّ مآل جوابهم ليس إلاّ إلى أنّا عرفنا جلالة العترة وما ورد فيهم ، لكن لمّا وجدنا أكثر الصحابة وتابعيهم والاُمراء والمشايخ على ترك متابعة العترة ، وتقديم غيرهم عليهم وإن انجرّ إلى التعبّد بالرأي والاختلاف في الدين ، فاقتدينا بهم وتبعناهم في هذا الأمر ؛ اعتماداً على كثرتهم ، ثمّ اقتفينا من بينهم في سائر العقائد والأعمال طريقة الشيخ الذي كان عليها آباؤنا أو اُستادنا أو سلطاننا أو أكثر الناس ، فإن كان باطلاً فعلى رقابهم ، فافهم واللّه‏ الهادي .

٤٥٦

الباب الخامس

في بيان ما فيه نوع امتحان أيضاً ممّا خصّ اللّه‏ به هذه الاُمّة ، وهو : أنّ اللّه‏ عزوجل لمّا فضّل حبيبه محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع النبيّين ، وأرسله رحمةً للعالمين ، وأراد أن يكون دينه ناسخاً لسائر الأديان ، وباقياً إلى يوم الدين ، رفع بفضل إحسانه عن اُمّته عذاب الاستئصال الذي كان قد يصيب الاُمم الماضين ، وأنّه لمّا كان ذلك مقتضياً لعدم تصريحه بطائفة من أوامره العظام التي كان يعلم بعلمه الكامل أنّه إن صرّح بها وحصلت المخالفة ، ولو من بعضهم استوجبوا عذاب الاستئصال الذي لم يكن يريده لهم ، جعل في بيان تلك الأوامر نوع إجمال ، وذكرها على سبيل التعريض دون التصريح ، موضّحاً لها على اُولي البصائر بالقرائن الظواهر ، وجعل سبب بقاء من خالف فيها ولو مع التعريض وجود الطائفة المحقّة التي تلقّوها بالقبول الذي به يتحقّق معنى ما ورد في هذه الاُمّة من عدم اجتماعهم على الخطأ والضلال ، كما حقّقناه عن قريب .

وفيه ذكر ما يوضّح أنّ أمر إمامة عليّ عليه‌السلام كان من هذا القبيل ، بل هو في ملاحظة هذه العلّة هو الأصل الأصيل .

اعلم أنّ كلّ من تأمّل صادقاً في أكثر ما نُقل من سيرة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أهل زمانه ، حتّى عامّة أصحابه ، وتدبّر في مضامين كثير من الآيات القرآنيّة ، تبيّن له تبياناً واضحاً أنّ مدار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على الصبر والمداراة في أكثر المواضع التي يجد فيها مخالفةً بل كراهةً من قوم بجهة من

٤٥٧

الجهات ، كما ذكرنا جُملاً من ذلك في الفصل الرابع من الباب الثالث ، ويأتي مفصّلاً في المقالة التاسعة من المقصد الثاني ، وكفى في ذلك ما مرّ من سكوته عن كتابة الكتاب الذي أراد أن يكتب في مرضه لمّا رأى معارضة بعض أصحابه ، وكذا غير ذلك ممّا سيأتي في المقالة المذكورة ، وكذا سلوكه مع المنافقين وأشباههم ، وكمال جهده في عدم بروز بواطن أحوالهم ، بحيث لم يكاشفهم ولم يتعرّض لتعيين أشخاصهم وإلزامهم بتصحيح بواطن عقائدهم المستلزم للقتل أو النفي أو نزول العذاب عليهم عند المخالفة .

حتّى أنّه كان لم يزل يصبر على أذاهم ، ويحشّمهم ويقرّبهم ويسمع كلامهم ويُجمل معهم بالكلام والمواجهة ونحو ذلك ، كما هو صريح قوله تعالى : ( وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (١) ، وقد قال أيضاً : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) (٢) وأمثال ذلك ممّا ينادي بأنّ اللّه‏ تعالى لم يكن يريد مكاشفتهم أيضاً دفعاً للتعذيب في الدنيا ، حتّى أنّه لمّا أمره اللّه‏ تعالى في الأواخر بترك مراعاتهم قال له : ( وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) (٣) ، ومنعه عن الصلاة عليهم إذا مات أحد منهم (٤) ، ونحو ذلك ممّا يدلّ على عدم إرادة المكاشفة معهم ما داموا معاشرين معه .

ألا ترى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدعُ عليهم ولا على غيرهم من الكفّار بالاستئصال ، حتّى على أهل نجران يوم المباهلة ، ورضي عنهم بالمصالحة ،

__________________

(١) سورة المنافقون ٦٣ : ٤ .

(٢) سورة محمّد ٤٧ : ٣٠ .

(٣) سورة المزّمّل ٧٣ : ١٠ .

(٤) إشارة إلى الآية : ٨٤ في سورة التوبة : (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهمْ مَاتَ أَبَداً . . .) .

٤٥٨

ولمّا طلب الفهري العذاب أمره أن يخرج من بين المسلمين ؛ ولهذا أنزل اللّه‏ تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (١) ، ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) ونحو ذلك ، وكلّفه بالستر والتأليف والعفو ، والإعراض عن الاعتراض ، كقوله تعالى : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ ) (٣) وقوله : ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (٤) . وقوله : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٥) وأمثالها من الآيات التي مضى بعضها في الفصل الذي أشرنا إليه .

ولا يخفى أنّ هذا كلّه يقتضي أن لا يصرّح بشيء يعلم من حالهم عدم قبولهم إيّاه ، وإجهارهم بالمخالفة والمعاداة والارتداد بإلزامه صريحاً عليهم ، لا سيّما في أمر الإمامة لعليّ عليه‌السلام ؛ لكمال عداوة أكثرهم له ، كما صرّح به المخالفون أيضاً ، وكفى فيه حكاية الفهري ، وقوله تعالى : ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٦) وغير ذلك .

وممّا يدلّ على ما ذكرناه صريحاً ما رواه جمع في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام على الزنديق الذي جاء إليه مستدلاًّ بآيات من القرآن متشابهة تحتاج إلى البيان ، فقالوا : إنّه كان من جملة سؤاله أنّه قال : إنّي أجد اللّه‏ يقول : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (٧) وقد أرى مخالفي الإسلام معتكفين على باطلهم ، غير مقلعين عنه ، وأرى غيرهم من أهل

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ١٠٧ .

(٢) سورة القلم ٦٨ : ٤.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٥٩ ، سورة المائدة ٥ : ١٣ .

(٤) سورة النساء ٤ : ٦٣ ، ٨١ ، سورة الأنعام ٦ : ٦٨ ، سورة السجدة ٣٢ : ٣٠ .

(٥) سورة النحل ١٦ : ١٢٥ .

(٦) سورة المائدة ٥ : ٦٧ .

(٧) سورة الأنبياء ٢١ : ١٠٧ .

٤٥٩

الفساد مختلفين في مذاهبهم ، يلعن بعضهم بعضاً ، فأيّ موضع للرحمة العامّة لهم ، المشتملة عليهم ؟ (١) .

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ اللّه‏ تبارك اسمه إنّما عنى بذلك أنّه جعله سبيلاً لإنظار أهل هذه الدار ؛ لأنّ الأنبياء قبله بُعثوا بالتصريح لا بالتعريض ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ، إذا صدع بأمر اللّه‏ وأجابه قومه سلِموا ، وإن خالفوه هلكوا بالآفة التي كان نبيّهم يتوعّدهم بها من خسف ، أو قذف، أو رجف ، أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الاُمم الخالية .

وإنّ اللّه‏ علِم من نبيّنا ومن الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق مَنْ تقدّمهم من الأنبياء الصبر على مثله ، فبعثه اللّه‏ بالتعريض لا بالتصريح ، وأثبت حجّة اللّه‏ تعريضاً لا تصريحاً بقوله في وصيّته : من كنت مولاه فهذا مولاه» و هو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ؛ إذ ليس من خليقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا من شيمته أن يقول قولاً لا معنى له ، فلزم الاُمّة أن تعلم أنّه لمّا كانت النبوّة والأُخوّة موجودتين في خلقة هارون ، ومعدومتين فيمن جعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلته ، أنّه قد استخلفه بمنزلته على اُمّته كما استخلف موسى هارون عليهما‌السلام ، حيث قال له : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (٢) ولو قال لهم رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقلّدوا الإمامة إلاّ فلاناً بعينه وإلاّ نزل بكم العذاب ، لأتاهم العذاب وزال باب الإنظار والإمهال » (٣) ، الخبر .

وحاصله : أنّ المراد بالرحمة في الآية إنّما هو الحفظ عن عذاب الاستئصال في الدنيا الذي كان في اُمم سائر الأنبياء ، حيث كان في علم اللّه‏

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦٠٢ ـ ٦٠٣ .

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٤٢ .

(٣) الاحتجاج ١ : ٥٧٧ .

٤٦٠